إن الرواية العربية هي أداة جميلة للمعرفة والمتعة معًا وهي تجعل الإنسان أكثر إدراكا وإحساسا بكل ما حوله. وتقدم صورة المجتمع العربي من الخارج والداخل حتى تكشف عما يدور في الرؤوس من الأحلام والأفكار من خلال نصوصها الفنية. فنصوص الرواية ولغتها تعد من العناصر الأساسية للرواية حيث يقوم عليها بناؤها الفني. ويستخدمها الروائي أو الشخصية الروائية للوصف بنفسها وبغيرها من الشخصيات الأخرى. ويستعملها لسرد الأحداث ووصف الزمان والمكان. ويقدم بها الكاتب أفكاره ويعبر أحاسيسه من خلال عرض الشخصيات والأحداث. وبهذه اللغة تمتاز الرواية عن الفنون الأدبية الأخرى.
وتلعب اللغة دورا بارزا في تكوين الرواية وتشكيلها مع عناصرها الهامة من الأحداث والشخصيات والزمان والمكان والموضوع والمغزى. ولا يمكن للروائي أوالكاتب أن يقدم أفكاره وأحلامه في صورة محسوسة إلا من خلال اللغة. “فباللغة تنطق الشخصيات، وتتكشف الأحداث، وتتضح البيئة، ويتعرف القارئ على طبيعة التجربة التي يعبر عنها الكاتب.”([1])
الفصحى البالغة:
إن اللغة العربية هي لغة الدين التي يصونها القرآن ولذا ظلت رائجة على نطاق واسع في كل أنحاء العالم. وغلبت على اللغات العالمية وأصبحت لغة التعبير ولغة الحضارة ولغة الآخرين في القرون الوسطى. ولم تتأثر إلى حد بعيد بحوادث الزمن ولم يتغير منها شيء في شكلها الأصلي.
وأما مستويات اللغة فذهب الدكتور مرتاض عبد الملك إلى أن أول من تكلم عن تغيير مستويات اللغة هو بشر بن المعتمر. واستدل بأن أبا عثمان الجاحظ (868م) ذكر في كتابه “البيان والتبيين” أن بشر بن المعتمر اقترح أن يكون مستوى اللغة وفق المخاطب ولا بد أن يراعي الكاتب أو المتكلم مستوى القارئ والسامع والمخاطب.([2]) ولكن هذا الاقتراح لم يتجاوز حدود الفصحى البالغة ونجد أن جلال الدين السيوطي (1445م-1505م) قام بكتابة عشرين مقامة بعنوان “رشف الزلال من السحر الحلال”([3]). ووزعها على عشرين شخصية مختلفة واختار لكل شخصية لغتها الوظيفية الخاصة بها حسب مهنتها وهي في اللغة الفصحى البالغة.([4]) وبعدها ظهرت “مجمع البحرين”([5]) عام 1856م لناصيف اليازجي (1800م-1871م) و”الساق على الساق فيما هو الفارياق”([6]) عام 1855م لأحمد فارس الشدياق (1804م-1887م) و”الهيام في جنان الشام” عام 1870م لسليم البستاني (1848م-1884م).([7]) ولغة هذه القصص مليئة بالسجع والوعظ والعلوم الطبية والجغرافيا إضافة إلى الغرائب والمغامرات.([8])
العامية الكاملة:
وفي القرون الوسطى بدأت اللغة العربية تتمتع بالمفردات الجديدة والمتنوعة من أجل دخول عدد كبير من الأجانب في الإسلام واهتمامهم بهذه اللغة. وصرح الدكتور عبد الرحمن منيف أن بداية اللهجة العامية أصبحت مساعدة للغة الفصحى في منتصف العصر العباسي وظلت تنمو وتتطور مع اللغة الفصحى الأصلية كلغة مساعدة لها حتى نهاية القرن التاسع عشر.([9])
وبدأت المحاولة في بداية القرن العشرين إلى تقديم الرواية بلغة عامية. ولم يهتم كتاب هذا النوع من الرواية إلى تقديم الرواية في لغة فنية ولغة سليمة. وبدأت لغة الرواية تمر على أيدي هؤلاء الروائيين من الفصحى البالغة إلى العامية الخالصة. ونجد في هذه المرحلة محاولات عديدة تبدأ من العامية وتمر من العربية الركيكة ثم أسلوب الصحافة حتى تصل إلى الأسلوب الفصيح المليئ بالمظاهر اللغوية والمحسنات البديعة. ومن أبرز هؤلاء الكتاب محمود طاهر حقي الذي استخدم اللغة العامية في رواية “عذراء دنشواي” (1909م). واختار اللغة العامية فيها وهو يدافع في مقدمة هذه الرواية أنه لا يحاول بها إضعاف لغة القرآن كما سيتهمه البعض بل يريد تقديم التعبير الصادق عما يدور في نفوس شخصيات الرواية وتكون المحادثة أصلا لسكان القرى.([10])
وفي عام 1914م ظهرت أول رواية فنية “زينب” لمحمد حسين هيكل في مصر وهي تشتمل على اللغة العامية أيضًا مع الفصحى.([11]) وبعد ذلك جاء عدد كبير من الروائيين العرب الذين اهتموا باللغة العامية وبدأوا يستخدمونها من دون أي تحفظ وحس لغوي لطيف. وشرعوا يدعمون اللغة العامية باسم التعبير عن الواقع. وقد أظهر الناقد المغربي مرتاض عبد الملك استعجابه في استخدام اللغة العامية في الرواية العربية وهويتعجب على الأدباء والكتاب العرب البارزين الذين يأذنون لأنفسهم للسقوط من مستوى الفصحى البسيطة التي يفهمها جميع القراء في كل أنحاء العالم إلى العامية التي لا يفهمها إلا الشعب الخاص. ومع ذلك يقول “والحق أن مسألة المستويات اللغوية داخل العمل السردي تعنى في المذهب النقدي المتسامح، أن الكاتب الروائي عليه أن يستعمل جملة من المستويات اللغوية التي تناسب أوضاع الشخصيات الثقافية والاجتماعية والفكرية.”([12])
اللغة الوسطى بين الفصحى البالغة والعامية الركيكة:
كما أن الكاتب والروائي يكشف عن العوالم الداخلية والخارجية لشخصية الرواية ويستخدم لها لغة مناسبة حسب مستوياتها من الاجتماعية والمهنية والثقافية والفكرية. ثم هذه اللغة تتغير وتتفاوت حسب البيئة والزمان والمكان حتى أن الروائي الواحد يستخدم لغات عديدة في رواية واحدة حسب مقتضى المستوى. فاختلف النقاد عن لغة الرواية، فذهب بعضهم إلى أن النصوص الروائية سواء كانت لغة السرد أم لغة الحوار لا بد أن تكون في اللغة العربية الفصحى ومن أبرزهم الدكتور طه حسين. فهم يعتبرون أن اللغة العربية “صيغة لمجمتع له صفة الثبات والقداسة والاستمرار ويجب أن يبقى كذلك.” وخالفهم البعض الآخر واختاروا اللغة العامية لسرد الرواية. وظهرت هذه الحركة في مصر ولبنان. ومن أبرزهم الروائي المصري “لويس عوض” الذي بذل قصارى جهوده في دعم أفكاره وكتب روايته الأولى “مذكرات طالب بعثة” (1949م) باللهجة العامية بشكل كامل ولا يوجد فيها شيء من اللغة الفصحى.([13]) أما الفئة الثالثة ومنهم توفيق الحكيم وعبد الرحمن منيف. وحاولت هذه الفئة التوفيق بين الاتجاهين السابقين ودعت إلى اللغة الوسطى وهي استخدام الفصحى في المفردات والعامية في التراكيب.([14]) وصرح بها الدكتور عبد الرحمن منيف قائلا: “إن اللغة الوسطى هي لغة لها علاقة أساسية بالفصحى ولها صلة أيضًا بالعامية من خلال الكلمات والظلال التي لها إيحاءات وتستطيع أن توصل مقدارا أوفر وأكبر من المعاني. ولغة الوسطى هي تقريبا لغة المتعلمين، لغة الصحافة، لغة قطاع واسع من الناس وهي في تزايد مستمر”.([15])
فهذه اللغة الوسطى بين الفصحى البالغة والعامية الكاملة تسمح للروائي أن يستخدم مفردات اللغة العامية أقرب إلى الفصحى كي يتمتع بها القارئ دون أن يتعب من فهمها. ولا بد أن تكون اللغة فصحى وسهلة ما يفهمها القارئ ولا يتعب من غرائب الألفاظ وتعقيدات المعانى. وأشار إليه نجيب محفوظ قائلا: “أتوخى عادة السهولة واليسر، لأنه لا معنى إطلاقا لأن نحمل القارئ مسؤولية إضافية في فهم غرائب اللغة”.([16]) ولا يعنى ذلك أنها تخلو من المظاهر البلاغية والمحسنات البديعة.
ونجد الروائيين العرب المعاصرين بأنهم يهتمون باللغة الوسطى حيث أنهم يبدأون الرواية باللغة اللغة العربية الفصيحة السهلة والبسيطة وهي اللغة الوسطى ويسردون تفاصيل كثيرة ثم يغرقون في العامية أقرب إلى الفصحى ليتفننوا باللهجة العامية في إجراء الحوار وكشف الأسرار عن البيئة المحلية وطريقة تصرفاتهم ومحادثاتهم وإظهار أفراحهم وأحزانهم وعن تعبير عواطفهم وتسجيل تاريخهم. بذلك يوفرون للقراء المتعة الإضافية مع المحاسن الفنية الروائية.
*****
الهوامش:
[1]ـ عبد الفتاح، عثمان، الدكتور، بناء الرواية دراسة في الرواية المصرية، ص 199، مكتبة الشباب القاهرة، عام 1982م.
[2]ـ الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، البيان والتبيين، الجزء الأول، ص 135-137، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة السابعة، عام 1998م.
[3]ـ السيوطي ،جلال الدين، رشف الزلال من السحر الحلال، ص 74، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، عام 1997م،
[4]ـ مرتاض، عبد الملك، الدكتور، في نظرية الرواية، ص 104، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عام 1998م.
[5]ـ اليازجي، ناصيف، مجمع البحرين، ص 438، المطبعة الأدبية، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، عام 1885م.
[6]ـالشدياق، أحمد فارس، الساق على الساق في ما هو الفارياق، ص 761، مؤسسةLibrairie G. P. Maisonneuve, Paris,، باريس، فرنسا، عام 1985م.
[7]ـ يوسف، نوفل، الدكتور، الفن القصصي بين جيلى طه حسين ونجيب محفوظ، ص 38، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، عام 1988م.
[8]ـ منيف، عبد الرحمن، الدكتور، الكاتب والمنفى، ص 38، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، عام 2007م.
[9]ـ المصدر السابق، ص 100-102
[10]ـ بدر، عبد المحسن طه، الدكتور، تطور الرواية العربية الحديثة، ص 171، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الخامسة، عام 1992م.
[11]ـ هيكل، محمد حسين، زينب، ص 16، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الخامسة، عام 1992م.
[12]ـ مرتاض، عبد الملك، في نظرية الرواية، ص 104-105، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عام 1998م.
[13]ـ منيف، عبد الرحمن، الكاتب والمنفى، ص 104، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، عام 2007م.
[14]ـ تاورته، محمد العيد، الدكتور، تقنيات اللغة في مجال الرواية الأدبية، ص 60، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة منتوري، قسطنطنية، الجزائر، عدد 21، جوان، عام 2004م.
[15]ـ المصدر السابق، ص 106
[16]ـ إبراهيم الشيخ، الدكتور، مواقف اجتماعية وسياسية في أدب نجيب محفوظ، ص 224-225، مكتبة الشروق، القاهرة، الطبعة الثالثة، عام 1987م.
*الباحث في الدكتوراه، قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دهلي
إيميل:(rahmatjmi87@gmail.com)
[…] اللغة في الرواية العربية المعاصرة – Aqlam Alhind […]