يعد عبد الرحمن منيف من أبرز الأدباء العرب الذين بذلوا قصارى جهودهم في إبداع الرواية العربية الحديثة وعرضوا أوضاع المجتمع العربي في مؤلفاتهم القيمة والجادة ونالوا شهرتهم العالمية في نهاية القرن العشرين. كان عبد الرحمن منيف ناشطا ومفكرا سياسيا، وخبيرا اقتصاديا، وصحفيا صادقا وأمينا، ومحبا للفن التشكيلي، وروائيا عربيا، وكاتب قصص قصيرة وسيرة ذاتية. بدأ الروائي الكبير حياته الأدبية بعد أن بلغ أربعين سنة من عمره حيث أنه أصدر روايته الأولى “الأشجار واغتيال مرزوق” عام 1973م. وكتب 17 رواية بما فيها “مدن الملح” في خمسة أجزاء و”أرض السواد” في ثلثة أجزاء.
تمت ترجمة أعماله الرائعة إلى اللغات الأجنبية العديدة وأدرجت أعماله في برامج التعليم بجامعات أوربا وأمريكا ووافقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) على ترجمة أعماله إلى أكثر من 15 لغة أجنبية.([1])
عاش عبد الرحمن منيف ثلثة عقود في نهاية القرن العشرين وهو يساهم في إبداع الرواية العربية حيث أنه استخدم التقنيات السردية الحديثة وعالج القضايا الجادة للمجتمع العربي. فهو كاتب من جمع بين الإبداع والالتزام وتضمن السيرة الفردية والسيرة الجماعية. ومهد الطريق للفن التشكيلي في الرواية العربية وجعله جزءا منها. وأدرج الحكاية في البنية الروائية وهو يمزج بين المتخيل الطليق والتوثيق التاريخي وعرض كل هذه في الأشكال الفنية وهي الرواية العربية.
حاز عبد الرحمن منيف على “جائزة تيسير سبول الدولية” التي تنتمي إلى الشاعر الأردني “تيسير سبول”(1939م-1973م) عام 1986م للرواية العربية. ونال جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الحقل الثاني للرواية مع الكاتب المسرحي ألفريد فرج(1929م-2005م) في دورتها الثانية عام 1990م-1991م. وحصل على جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي في دورته الأولى عام 1998م.
حياته:
ولد عبد الرحمن إبراهيم منيف في عمان عام 1933م من أب سعودي و أم عراقية. كان أبوه ينتقل من نجد إلى العراق وسورية والأردن بحثا عن الرزق. ومات في إحدى هذه الرحلات وهو لم يبلغ ثلثة من عمره. تمت تربيته تحت إشراف جدته. ما زال منيف ينتقل من مكتب إلى أخر حتى التحق بالمدرسة الحكومية وأنهى دراسته الثانوية منها ثم غادر إلى العراق والتحق بكلية الحقوق ببغداد لكنه طرد منه، قبل أن تنتهي دراسته، بجماعة من المواطنين الآخرين الذين شاركوا في احتجاج ضد “حلف بغداد” عام 1955م. فذهب إلى مصر وواصل دراسته حيث تخرج من جامعة القاهرة في الحقوق. ثم انتقل إلى يوغسلافيا على المنحة الدراسية لحزب البعث. وواصل دراسته منذ عام 1958م إلى 1961م. ونال درجة العالمية “الدكتوراه” في اقتصاديات النفط بجامعة بلغراد. وبدأ يعمل في مكتب حزب البعث الرئيسي في بيروت بعد عودته من يوغسلافية. وخلال هذه الأيام حوكم عليه أن لا يدخل في العراق لانتقاده حزب البعث وسحب منه جنسيته المملكة العربية السعودية عام 1963م لأفكاره السياسية ضدها. فغادر إلى سوريا والتحق بوزارة النفط وعمل فيها حتى نهاية عام 1974م.([2]) ثم مارس حياته في الصحافة وعمل في مجلة “البلاغ” الصادرة من لبنان، ومجلة “النفط والتنمية” الصادرة من العراق كرئيس التحرير. وفي عام 1981م تفرغ عبد الرحمن منيف نفسه كاملا لكتابة الرواية ووصل إلى فرنسا. ومكث هناك سنوات عديدة ثم رجع إلى دمشق وكرس حياته لكتابة الرواية حتى توفى 23 يناير 2004م بسوريا.
مؤلفاته الروائيية:
- الأشجار واغتيال مرزوق (1973م)، 2. قصة حب مجوسية (1974م)، 3. شرق المتوسط (1975م)، 4. حين تركنا الجسر (1976م)، 5. النهايات (1977م)، 6. سباق المسافات الطويلة (1979م)، 7. عالم بلا خرائط (1982م) ـ (اشترك معه في كتابتها جبرا إبراهيم جبرا)، 8. مدن الملح (خماسية): .Iالتيه (1984م)، .IIالأخدود (1985م)، .IIIتقاسيم الليل والنهار (1989م)، .IVالمنبت (1989م)، .Vبادية الظلمات (1989م)، 9.الآن … هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى (1991م)، 10. أرض السواد (ثلثة أجزاء)، (1999م)، 11. أم النذور (2005م).
مؤلفاته الأخرى:
وله مؤلفات عديدة في مجالات شتى. ففي قصة قصيرة “أسماء مستعارة” (2006م) و”الباب المفتوح” (2006م)، وفي السيرة “سيرة مدينة: عمان في الأربعينات” (سيرة ذاتية) ـ (1994م)، و”عروة الزمان الباهي” (1997م)، و”لوعة الغياب” (2001م)، و”ذاكرة للمستفبل” (2001م)، وفي الأدب والسياسة “الكاتب والمنفى: هموم وآفاق الرواية” (1991)، و”الديمقراطية أولا ـ ـ ـ الديمقراطية دائما” (1995م)، و”بين الثقافة والسياسة” (1999م)، و”رحلة ضوء” (2001م)، وفي التاريخ “العراق: هوامش من التاريخ والمقاومة (2003م)، وفي الاقتصاد “مبدأ المشاركة وتأميم البترول العربي” (1973م)، و”تأميم البترول العربي” (1976م)، وفي الفن الحديث “مروان قصاب باشي: رحلة الحياة والفن (1996م)، و”جبرا علوان: موسيقا الألوان” (2000م)، و”في أدب الصداقة” (2012م).
الملامح الصوفية في رواياته:
كان الناس في المجتمع العربي يستخدمون الحجب ويقدمون النذور ويقومون بزيارة القبور في مشاكل الحياة ويعتقدون أن هذه الممارسات تحقق لهم أمانيهم وتدفع عنهم المصائب والمشاكل. وكانت العادة في المغرب أن النساء يقمن بزيارة الأولياء لحل المشاكل الاجتماعية والفردية وإبعاد الآلام والصعوبات. وكانت هذه الممارسات ممنوعة في المملكة العربية السعودية ولكنها توجد في مصر وسوريا والعراق. وتعايشت معها في المغرب لرسوخها في حياة الناس. وتوجد أضرحة الأولياء والمزارات والزوايا والطرق الصوفية هناك.([3])
عاش عبد الرحمن منيف في هذه البلاد حيث له علاقة عائلية بالمملكة العربية السعودية ونشأ في عمان ثم في العراق وسافر إلى القاهرة للدراسة وتأثر بما شاهد وواجه في البلدان العربية وغيرها. ولذا نجد في رواياته آثار هذه البلدان. ومنها ارتباط الناس بالأولياء والاستنجاد بهم وتقديم النذور لهم واستخدام الحجب من الصالحين في حالات صعبة ليتخلص منها.
عرض عبد الرحمن منيف هذه الأوضاع في عدة رواياته ومنها مدن الملح، وأرض السواد، وأم النذور، والآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى، وأم النذور وغيرها. فسرد قصة عبد الله خادم السلطان في روايته الرئيسية “مدن الملح” أنه أخبر السلطان أن رجلا جاء إليه وقال له أن شيخه متصل بالأولياء وتزوره وفود من الهند والسند. وهو يعرف القتيل والقاتل من سفر أربعين يوما. ويلقى المسروقات ولو كانت مدفونة ببطن القاع.([4])
وكتب منيف في روايته “أم النذور” عن الحاج درويش الذي لا يستطيع أن ينام قبل أن يبكي. وحينما يطول بكاؤه ينام ليوم أم يومين متواصلا. وذات مرة نام هذا الشيخ لمدة أربعين يوما متواصلا ثم دل على القاتل الذي ارتكب جريمة قبل أكثر من سنة.([5])
كانت هذه العقائد والشعائر الدينة توجد في السجن أيضا. ففي السجن المركزي كان الناس يتفاخرون على أنهم أحفاد الرفاعي والبدوي وعبد القادر الكيلاني حيث أنهم كانوا ينتمون إلى أسرتهم دما أو انتسابا. وكانوا يقيمون الحفلات الدينية في الليالي المباركة. وكانوا يبشرون أن هذه الدنيا متاع للآخرة.([6])
هذه الملامح والخصائص الصوفية كانت توجد على المستوى العام أيضا. ونجد في رواية “عالم بلا خرائط” أن عمة علاء الدين كانت تخبر عن الأحداث التي ستقع فيما بعد. وهي تقول أن أرواح السوالمة الأوائل تخبرها عن كل ما يجري في المستقبل والماضي والحال. وكان علاء الدين نجيب السلوم يرفض أن يصدق ما تقوله العمة ويحاول أن يهرب منها حينما تطلب منه أن يفعل شيأ غامضا ما لا يفهمه وهو يخاف من أن يقع في شرك الخرافات والتصوف. ومع ذلك يتحير من هذه الوقائع التي تحدث حسبما تخبره العمة.([7])
ومن هذه الأحداث أن العمة طلبت منه أن يذبح خروفا حينما يغادر البيت إلى عين فجار. فأراد طالع أن يهرب من طلبات العمة لكنها أصرت عليها. ولما وصل إلى الدار القديمة وجد أن الحية السوداء أكثر حجما وقبحا تقترب منه. فأخرج بندقيته وأطلق النيران عليها ونجا منها.([8])
وذات مرة قالت أن حمدي السويلم أخبرتها أن المرأة التي ستأتي كانت تركض وهي حافية ويسيل منها الدم. ولما جاءت نجوى العامري استفسر علاء الدين عنها فقالت إنها دست على شظية زجاج في المطبخ وسال الدم من قدميها.([9])
زيارة المقامات المقدسة:
أما زيارة المقامات المقدسة والاستعانة من الأولياء فهي كانت رائجة في البلدان العربية. يكتب عبد الرحمن منيف في روايته “أم النذور” أن أشجار الدلب وأم النذور كانت لها خصائص كثيرة في إحدى القرى بعمان عاصمة الأردن. فيحملون الناس المرضى إلى جانب هذه الأشجار للشفاء. والنساء يذبحن هناك ديوكا بعد أن يضعن أحمالهن. والعجائز يسفحن أنواعا من المياه الممزوجة بالحشائش المغلية والمساحيق وهن يطلبن حماية الأبناء ومودتهم.([10]) وكذا كانت ثمار هذه الشجرة ذات بركة ورحمة حيث تشفي من الأمراض وتعيد المسافرين وتكشف عن المسروقات. أما القصص والحكايات التي تكرر بين النساء عن الأماني المستجابة من أجل هذه الشجرة وثمارها وببركة الشيخ “مجيب” فهي كثيرة لا حصر لها. ومنها أن “أم حسن” ولدت ولدين بعد سبع بنات عندما أخلصت نيتها للشيخ وقدمت النذور، وفاطمة الخرساء أصبحت تنطق ببعض الكلمات وتفهم ما يقال لها بعد أن أكلت لحم الهدهد الذي أعطته لها الحاجة نعيمة وبعد أن باتت ليلة كاملة عند أم النذور.([11])
ذكر عبد الرحمن منيف في “أرض السواد” قصة مرض إبنة داود باشا. إنها مرضت وضعفت رجليها حيث أنها لا تقدر على المشيء. وطال مرضها فطلب داود باشا من الأطباء والمنجمين والعرافين وأصحاب التجربة أن يقوموا بمعالجتها. وبعد أن عجزوا هؤلاء كلهم بدأت نائلة خاتون تمر على مقامات الأولياء وسافرت إلى مقام بعيدة إلى سيدي محمد وإلى سامراء وقضت أياما عديدة في كربلاء والنجف وهي تحمل الصغيرة.([12]) وتبادلت ثيابها بثياب الفقراء لتشفي البنت ببركتها ولكن البنت عادت إلى بغداد بأرجل أكثر ضعفا.
والجدير بالذكر أن الآغا حينما يدخل في بغداد كان يقوم بزيارة مقام الإمام أبي حنيفة وكان يصلي هناك ركعتين تحية للمسجد ثم ركعتين لروح الإمام الأعظم.([13])
وكان الناس في المجتمع العربي يشعرون ذنوبهم حينما أصابتهم المصيبة فيستغفرون الله من كل خطاياهم وذنوبهم. ويبادر بعضهم إلى الأماكن المقدسة ليتطهروا أنفسهم من الروح والجسد معا. فنرى أن “أم حسنى” كانت تغرق في الصلوة والعبادة والدعاء لتنسى كل المعاناة. وتعتقد أن زيارة قبر الرسول من أفضل العبادات وأفضل من كل الأمور حتى العمل والتجارة للمعيشة فتقول: “زيارة قبر الرسول، يا ابني، اكبر تجارة لبني آدم في الدنيا والآخرة، ولا تخف.”([14])
استخدام الحجب:
كانت العادة أن العرب يلبسون حجبا ويحملونها ويضعون في أحقابهم للتخلص من الشر والمصيبة والسحر وما إلى ذلك. فنجد في رواية “مدن الملح” أن السلطان كان يحمل معه صندوق وإسمه “الأمانة”. ويضع فيه سبعة حجب لمختلف الأغراض والفوائد. كان ثلاثة حجب مصنوعة من أنياب الذئاب المسنة التي أخذت من الجهة اليسرى للذئاب. وكان يحمل معه كمية من الأحجار الكريمة ذات فوائد مختلفة.([15])
كانت الحجب والأحجار ذات بركة وكرامة مقبولة في المجتمع العربي. كان الناس يحملونها ويحتفظونها وينتقلونها إلى ورثاءهم. وكانوا يمارسون ممارسة خاصة قبل أن يلبسوا أو يمتلكوا كي لا تنقطع بركتها وكرامتها. ذكر عبد الرحمن منيف قصة السلطان فنر في هذا الباب. وهي أن جدته قامت بإعطاء الخاتم الفضي لفنر الذي ترك جده له وأوصاها أن تبلغ فنر وطلب جده منه أن ينتقل إلى أجياله القادمة. فقامت الجدة بوضعه في بنصره الأيسر بعد أن بخرت هذا الخاتم وقرأت عليه آية الكرسي تسعا وتسعين مرة. وكانت قد دفنته في تراب طاهر لمدة سبعة أيام، وفي اليوم الثامن توضأت وصلت ركعتين وقرأت سورة “تبارك” ثم استخرجته من التراب وذبحت ديكا أسود ثم وضعته في بنصر فنر.([16])
ونجد أن “بدري” تعلق بنجمة الرقاصة قلبيا وأصبح عاشقا لها. وظهرت عليه آثار الحزن والكآبة فظن الناس أنه تغير بسبب ما. وأما أمه فقالت إن السحر أصابه من خلال الطعام أو المرور على الشيئ المسحور أو بطريقة آخرى. وبذلت جهودا كثيرا لإبطال السحر وكتبت له حجابا وقرأت عليه آيات القرآن والأوراد الكثيرة.([17])
وأما الذين لا يقدرون على كتابة الحجب أو إزالة السحر فهم يبادرون إلى رجال الدين والمنجمين ويطلبون منهم أن يكتبوا لهم حجبا ويعاونوهم في إنقاذهم من البلية والمصيبة ويقدمون نقدا ماليا أو أشياء أخرى بدلا عن جهودهم. أشار إليه عبد الرحمن منيف أن “أمي زهوة” طلبت من المنجم العجمي أن يكتب للسلطان خريبط الحجاب بعد أن طال غيابه. وأعطته خمس ليرات رشادية حسبما طلب منها. فلما رجع السلطان قال لها إن سيارته كادت أن تنقلب في وادي الرخم لكن الله حفظه ومنح المنجم ثلاثين ليرة رشادية.([18])
والجدير بالذكر أن العرب لا يعتمدون على الحجب اعتمادا كاملا في المرض. ولا يلتفتون إليها في أوضاع عادية. ولذا يستخدمون معها الدواء والعقاقير أيضا. ولذا نجد في رواية “عالم بلا خرائط” أن البطل علاء الدين كان يعاني من أمراض غامضة. فتأخذ أمه الحجاب له وتلبسه وتعتقد أنه وسيلة للشفاء لو استخدم مع الأدوية.([19])
تقديم النذور:
وكانت العادة في المجتمع العربي أن الناس كانوا يقومون بأداء الصلوة والصوم وتشريب الماء وزيارة المقامات المقدسة وممارسات بعض العمليات الغريبة من أجل تقديم النذور ولحصول البركة وتحقيق الأماني. وتظهر هذه العادة في حالة الفرح والحزن سواء. نجد أن زوجة السلطان خريبط لما حملت حملها الخامس بعد أن انجبت أربع بنات وظلت تحاول عن طريق الأدوية والمنجمين والحجب أن يكون لها ولدا، نذر السلطان بأنه سوف يسمي الجنين “فنرا” لو كان ذكرا. ([20]) وكانت عواشة تحب حمد الشاكر حبا جنونيا وتريد أن تزوجه. ولذلك نذرت، لو تزوجته ستحبو على الأربع على يديها وركبتيها طيلة الطريق من دار نجيب سلوم إلى جامع السلطان علي. والمسافة بينهما ليست بقصيرة. وفعلت ذلك بعد أن زوجته.([21]) ومثل ذلك نذرت زكية بأنها لو تزوجت بدري الذي تحبه فهي تزور الشيخ عبد القادر وأبي حنيفة والكاظم ماشية وتعلق لكل شباك شموع.([22]) ونجد زوجة سيفو تقول بعد أن قعد سيفو عن العمل: “جمعة نروح على سلمان باك، وجمعة بعدها على الكاظم أو الشيخ عبد القادر وجمعة ثانية نسير على سامرا…” وهي تعتقد أن سيفو سيرجع ببركة هذه الزيارة إلى وضعه السابق ويشتغل في العمل.([23])
حفلة الأربعين:
قدم لنا عبد الرحمن منيف في رواياته أن الناس كانوا يقومون بتلقين الميت بعد التدفين. ويضعون الشاهدة على القبر ويكتبون عليها إسم المتوفي. ويحتفلون حفلة خاصة بمناسبة أربعينه ويقرأون المولود ويذكرونه بكلمات حسنة. كانوا يعتقدون أن روح المتوفي يصعد هذا اليوم إلى السماء. ولذا يهتمون يوم الأربعين ويذبحون عدة غنائم. ذكر عبد الرحمن منيف هذه الممارسات في رواية “مدن الملح” أن إبن النفاع حاول أن يدرك إسم الكامل للمتوفي آكوب وإسم أمه لكنه لم ينجح فقال: “يا يعقوب ابن فاطمة اذا جاءك الملكان الصالحان وسألاك من ربك قل الله ربي والاسلام ديني والكعبة قبلتي والمسلمون اخوتي واشهد ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله.” وبعد بضعة أيام كتب فواز بن متعب الهذال على الشاهدة بمسمار كبير “الفاتحة هنا يرقد المرحوم يعقوب الحراني!”([24])
وذكر عبد الرحمن منيف قصة طويلة عن الأربعين للحاج مصطفى. وكتب أن السجين اشتروا ثلثة رؤوس من الغنم ليذبحوا بمناسبة أربعين الحاج مصطفى. لكن الاختلاف والخصومات وقعت بين السجين وإدارة السجن في ذبح الغنائم. فقالت الإدارة لا يمكن الذبح يوم الأربعين من أسباب الصحة في السجن. فخالفها السجناء وأصروا على أن تكون الحفلة نفس اليوم. وحينما قالت الإدارة إن النية إذا تكون خالصة تصل الضحية إلى روح المرحوم. فقال حمدي ابو جلدة من قبل السجناء: “اربعين الميت هي اربعين الميت، وانت تعرف، ان روحه، في هذا اليوم، تصعد الى السماء, ولازم ترفعها، تساعدها.([25])
بدأت حفلة أربعين الحاج مصطفى بقراءة بعض سور القرآن الصغيرة والتهاليل. بعد ذلك بدأ الحديث عن المرحوم. وحينما رويت القصص الحسنة للمتوفي قال بعضهم إنكم تذكرون هذا الإنسان كما أنه ليس منا وذكروا كلماته وشتائمه ثم بدؤوا الغناء. وقام اثنان منهم بعرض الدور التمثيلي للحاج مصطفى. تمت الحفلة وقت الظهر على الغداء.([26])
الثورة ضد هذه المعتقدات والممارسات:
ونجد في هذه الروايات الثورة ضد هذه المعتقدات والممارسات الدينية التي كانت رائجة في المجتمع العربي. وطرح عبد الرحمن منيف هذه الثورة على لسان الشباب الذين لا يعتقدون بها ويطرحون أسئلة كثيرة حولها. ونجد في رواية “عالم بلا خرائط” أن البطل علاء الدين نجيب يهرب من ممارسة هذه العمليات حينما تطلب منه عمته ويعتقدها من عمليات الخرافة.([27]) وفي رواية “أم النذور” نجد أن الشباب لا يعتقدون بها يسئلون عنها ويحاولون أن يعرفوا حقيقتها.([28]) وفي رواية “أرض السواد” نجد أن الباشا يغضب على إبن القرملي الذي لا يزال ينتقل من جامع إلى الجامع الثاني وهو يقول يا أولياء خلصونا، بدل أن يقف على السداد ويعاون الناس في مواجهة الفيضان. ويطلب منه أن يواجه الفيضان بدلا من أن يذهب هنا وهنا.([29])
لا يحب عبد الرحمن منيف هذه الممارسات والمعتقدات الدينية ولذا يختم روايته الأخيرة نشرا “أم النذور” بهذه العبارة: “عندما وصلنا المدرسة شددت خطواتي، ضغطت بقسوة على الحجاب، أريد أن أنتزعه من مكانه لأهزم آخر الأعداء الذين كنت أراهم!”([30]) وهذا النص تدل على الثورة ضد هذه المعتقدات والممارسات الدينية بشكل كامل وواضح.
مراجع البحث:
[1] ـ الدكتور القشمعي، عبد الرزاق محمد، ترحال الطائر النبيل، ص 45، دار الكنوز الأدبية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 2003م.
[2]– Munif a bio-history: An Arabian Master, By: sabry Hafez, pp 2-3, New Left Review 37, January-February 2006. It is available on www.newleftreview.org/II/37/sabry-hafez-an-arabian-master 08/05/2015
[3] ـ المجتمع في القرن العشرين: بحث في تغير الأحوال والعلاقات، الدكتور حليم بركات، ص 449-450، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى يوليو 2000م.
[4] ـ منيف، عبد الرحمن، مدن الملح: بادية الظلمات، ص 125، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر و التوزيع، بيروت، الطبعة الحادية عشرة، 2005م.
[5] ـ منيف، عبد الرحمن، أم النذور، ص 16-17، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 2005م.
[6] ـ منيف، عبد الرحمن، الآن…هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى، ص 316، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1991م.
[7] ـ منيف، عبد الرحمن ، وجبرا، ابرهيم جبرا، عالم بلا خرائط، ص 109، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1992م.
[8] ـ نفس المرجع، ص 105-107.
[9] ـ نفس المرجع، ص 100-101.
[10] ـ منيف، عبد الرحمن، أم النذور، ص 7، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 2005م.
[11] ـ نفس المرجع، ص 13.
[12] ـ منيف، عبد الرحمن، أرض السواد، الجزء الأول، ص 244-245، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر و التوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، عام 2000م.
[13] ـ منيف، عبد الرحمن، أرض السواد، الجزء الثاني، ص 525، المؤسسة العربية للدراسات و النشر و المركز الثقافي العربي للنشر و التوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 1999م.
[14] ـ منيف، عبد الرحمن، مدن الملح: الأخدود، ص 327، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1986م.
[15] ـ منيف، عبد الرحمن، مدن الملح: بادية الظلمات، ص 84، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر و التوزيع، بيروت، الطبعة الحادية عشرة، 2005م.
[16] ـ نفس المرجع، ص 181.
[17] ـ منيف، عبد الرحمن، أرض السواد، الجزء الأول، ص 525، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر و التوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، عام 2000م.
[18] ـ منيف، عبد الرحمن، مدن الملح: بادية الظلمات، ص 55، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر و التوزيع، بيروت، الطبعة الحادية عشرة، 2005م.
[19] ـ منيف، عبد الرحمن ، وجبرا، ابرهيم جبرا، عالم بلا خرائط، ص 36، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1992م.
[20] ـ منيف، عبد الرحمن، مدن الملح: بادية الظلمات، ص 340، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر و التوزيع، بيروت، الطبعة الحادية عشرة، 2005م.
[21] ـ منيف، عبد الرحمن ، وجبرا، ابرهيم جبرا، عالم بلا خرائط، ص 96، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1992م.
[22] ـ منيف، عبد الرحمن، أرض السواد، الجزء الثاني، ص 116، المؤسسة العربية للدراسات و النشر و المركز الثقافي العربي للنشر و التوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 1999م.
[23] ـ نفس المرجع، ص 16.
[24] ـ منيف، عبد الرحمن، مدن الملح: التيه، ص 468-470، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الحادية عشرة، 2005م.
[25] ـ منيف، عبد الرحمن، الآن…هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى، ص 486-489، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1991م.
[26] ـ نفس المرجع، ص 491-496.
[27] ـ منيف، عبد الرحمن ، وجبرا، ابرهيم جبرا، عالم بلا خرائط، ص 109، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1992م.
[28] ـ منيف، عبد الرحمن، أم النذور، ص 18، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 2005م.
[29] ـ منيف، عبد الرحمن، أرض السواد، الجزء الثاني، ص 121، المؤسسة العربية للدراسات و النشر و المركز الثقافي العربي للنشر و التوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 1999م.
[30] ـ منيف، عبد الرحمن، أم النذور، ص 222، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 2005م.
*الباحث في قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الملية الإسلامية، نيودلهي، الهند
Leave a Reply