رأيت القمر يرسل أنواره المشرقة الفضية إلى الظلمات المتراكمة المخيمة على العالم البشري، فتبدد بها الظلام الحالك واستنار ما على أديم الأرض من الأغوار والأنجاد، واستضاءت بضيائه الغابات الموحشة والمستعمرات المألولفة والجبال الشامخة والقصور العالية، كأنه أراد أن ينوب عن الشمس التي قد أفلت آنفا، ويخلفها في وظيفتها التي انتهت منها بانتهاء المدة واستيفاء الوقت.
ورأيته وهو يغالب الظلمات المتراكمة والسحب المكثفة، كأنه يقاتل الأعداء الألداء الذين يعوقونه عن العمل وبلوغ الأرب ، وفي يده سيف باتر يقتل به كل من يلقاه في الطريق، أو يتوخي وضع العراقيل في سبيله، فالسحب المدلهمة تترصد له بالمرصاد، وتتربص به الدوائر، فتغشاه أحيانا جنود من السحب حتى يخيل إلى الرائي إنه لفي هزيمة لاتقوم بعدها قائمة،ولكن سرعان ما رأيت أن انقشعت السحب وتلاشت، وظهر القمر كالوجه الوضوح للغادة الحسناء، وعاد يرسل أشعته التي أشرقت بنورها الأرض، وتنورت الأكوان.
ظللت أرى هذا الصراع الذي يجري بين القمر والسحاب ومحاولة كل منهما للانتصار على صاحبه، حتى انتهت المعركة الحامية بانتصار القمر المؤزر وهزيمة السحاب النكراء،وأعجبني أمر القمر هذا ، كيف استطاع وحيدا فريدا لاسند له ولا عضد قتالَ طائفة من الأعداء! وكيف استجمع قوته،!! وتمالك على نفسه في هذه المعركة الحمراء التي تطير بها أفئدة الأبطال فرقا وشعاعا، ولم يتسرب إلى خلده الخور وفتور العزيمة،!!!.
ألقيت على نفسي مثل هذه التساؤلات، وأفتش عن خباياها ومكامنها للوصول إلى أسبابها وأسرارها، فالتفت إلي القمر ضاحكا كأنه اكتشف سرا من الأسرار، أو قرأ تلك الصفحة التي أخفيتها في قلبي، فقال : أيها الناظر إلي بنظرة الاعجاب والاغتباط، إن هذا من السنن الكونية والنظام الإلهي الذي يمر به كل من الأغنياء والبوساء، ويواجهه أهل المدر وسكان الوبر على السواء، وإن فاطر هذا العالم قد أجرى هذه السنة في كل ما أبدعه وأخرجه إلى حيز الوجود، فما من شئي إلا وهو يقاسي مثل ما قاسيته من الصعوبات، ويلاقي مثل لاقيته من المتاعب والمشكلات، لأن القدرة الإلهية قد جعلت طريق السعاة محفوفا بالمكاره ومحاطا بالأشواك، لا يسلكه إلا من في جنباته قلب شجاع وهمة وثابة إلى الخطر، ولا يتجرأ عليه إلا من استهان بقيمة الحياة واستخف بمكابدة الأحوال والصعاب، وإنك أيضا مدفوع إليها إذا أقمت لنفسك هدفا، ولحياتك بغية، فعليك بالصبر والصمود حين داهمك الخطر، ولا تدع الجبن وفتور العزيمة يتسربان إليك، وإذا هجم عليك جنود من الشك والريب وتكاد نفسك وقواك تخذلك خلال حامية الوطيس،قل لها كما قال الشاعر قطري بن الفجاءة:
أقـــولُ لَـهـا وَقَــد طــارَت شَـعـاعًا
مِــنَ الأَبـطـالِ وَيـحَكِ لَـن تُــراعي
فـإِنَّــكِ لــو سـأَلـتِ بــقــــاءَ يــومٍ
عَلى الأَجَلِ الَّذي لكِ لــن تُطاعي
فَـصَـبراً فــي مَـجالِ الـموتِ صَـبراً
فَــمـا نَــيـلُ الـخُـلـودِ بِـمُـسـتَطاع
ِولا طولُ الــحـيـاةِ بــثـوبِ مــجـدٍ
فَـيُطوى عَـن أَخي الـخَنعِ الـيراعِ
سـبـيلُ الـمَـوتِ غـايةُ كُــلِّ حَـيٍّ
وداعِــــيَــــهِ لِأهــــــلِ الأَرضِ داع
ِوَمَـــن لا يُـعـتَـبَطْ يــسـأَمْ وَيَـهـرَم ْ
وَتُـسـلِمْهُ الـمَـنونُ إِلــى انـقـطاعِ
وَمـــا لـلـمـرءِ خـيـرٌ فـــي حـيـاةٍ
إذا ما عُـــدَّ مِــن سَـقَـطِ الـمَـتاعِ
ولكن واأسفاه أيها الرجل! أراك قد نسيت هدفك، وفقدت غايتك، وبعدت عنها كل البعد، وجهلت كما جهل الكثير من أمثالك أن الهدف هو الذي يحدد مكانتك بين الناس، تسمو إذا كان ساميا وتهبط إذا كان تافها ، وهو الذي يجلب لك السعادة والهناء وهو الذي يجر عليك الويل والشقاء، وهو الذي يفرق بين العاقل والغبي، والعالم والجاهل.
فيا أخي! لابد من أن تحدد هدفك ، وتركز عليه جهدك، ولاتهمله في أي ساعة من ساعات حياتك، ولا تخنع للدهر أذا ألفيته يعارضك، ولا تخضع للحدثان إذا وجدتها تحول دون غايتك، فإن الدهر لايعطي عنانه إلا لمن اتنصر عليه، وليس من شأن البطل أن يشكو بأن الدهر لا يوافقه، والظروف لا تساعده، قم من مضجعك، وانهض من منامك ، وانتبه من سباتك، تجد الدهر يسايرك، والظروف تواكبك، والطرق تقبل قدميك، ويبتسم لك وجه الحياة، واترك على جبين الكون بصمات عملك خالدة متلألئة، يستضيئ بها من بعدك، فليس للإنسان إلا ما خلف وراءه من الآثار:
إنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى
فبينما نحن في الحديث إذا خيط من أشعة الشمس لاح له من أفق المشرق، وأشار إليه بالغروب، فاضطررت إلى الرجوع وكان آخر ما وقع في أذني:” إلى لقاء الغد” .
ظللت طوال ذلك اليوم تعاودني ذكريات الليل الحلوة، وتداعبني أحاديثه العذبة التي تمتلئ بالعظات، وتفيض بالحب والإخلاص، وطفقت أنتظر أفول الشمس بفارغ الصبر، لم يكن لي قرار ولايهدأ لي بال، وكنت كما قال ابوالطيب:
ويوم كليل العاشقين كمنته أراقب فيه الشمس أيان ترقب
وظننت كأن النهار قد طال أمده، أو توقف سيره لمشكلة عرضت له، أو لعرقلة وضعها أحد في مسيره، وكنت لا أشعر آنذاك بفارق بين نهاري هذا وليلة الملك الضليل إلا أن أولهما لصاحبه هم وألم، وآخرهما لصاحبه متعة ولذة حتى اصفر بعد انتظار طويل قرص الشمس ومال إلى الغروب، فجعلت استعد وأتهيأ للقائه والاستماع لحديثه، والاستمتاع برؤيته، وما إن فرغت من صلاة المغرب حتي صعدت إحدى السقف لأراه وأ بحث في أديم السماء الواسع عن ذلك المحيا المشرق الذي غاب عني أمس في تضاعيفها، ولو استطعت أن أرقى السماء أو وجدت سلما إليها لبحثت عنه في سحبها المكثفة، وكنت كذلك إذ لمح لي شئي مستدير من النور، ولم يلبث أن اتسع وازداد ضياءا فعرفته…. أنه هو ..هو…..
فلما رآني ورأى ذلك السرور الذي يملأ قلبي، والبشر الذي يهلل وجهي، والابتسامة التي ترتسم على شفتي، ألقى علي تحية، تحيةَ الأليف لأليفه، وتحية الخليل لخليله الذي تقادم عهده، وحيل بينه وبينه مسافات الديار والأعصار، وعاد يعجبني بأحاديث الممتعة التي تضمن لكل من يتبناها ويختارها النجاح والسعادة، وتلك بغية ليس أغلى ما يتوخاه البشر في الوجود، فقال: استمع أخي إلى كل كلامي وضعه من سويداء القلب ومكامن التفكير حيث لا تصل إليه يد النسيان وهمزات الشيطان، إن العمل الدؤوب والسعي المستمر الدائم يسوق إلى صاحبه البراعة والإتقان في العمل، ويسهل عليه المهمة المنوطة به، ولأجل هذه الحكمة اللطيفة دعا النبي الأكرم معلم الإنسانية الأكبر بقوله” خير العمل مادام عليه صاحبه وإن قل” وبه يتمكن كل شخص كمثلي من استعاده الغابر وعظمته التي سلبته طوارق الحدثان ونوائبه، إذ أن سر رجوعي إليك ثانية ليس إلا العمل الدؤوب وشوق التغلب على ما يخالفني ، ويمنعني من البزوغ على أفق السماء، فكن أنت مثلي في السعي الحثيث والجهد المستمر الدائم الذي لا يتخلله الفتور ولايبعثك على خذلان الأصدقاء وشماتة الأعداء، ولا تزلزل أقدامك العواصف إلا أنت تثبت أمامها ثبات الجبال، وتصمد صمود الأبطال الذين ليسوا ممن صنعهم التاريخ بل هم الذين صنعوا التاريخ، ولعل من الخطل أن آخذ في بسط الكلام وشرحه لمثلك، لأن الحكماء قديما قالوا:” إن العصا قرعت لذي الحلم.
إبداعات | الخواطر | السنة الثانية، العدد الثاني، أبريل-يونيو 2017
Leave a Reply