+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

مقامة حديثة: الأمطار الموسمية
*محمد سليم

حدّثنا خالد بن سلام قال لمَّا وصلت أثناء تطوافي في الأمصار، وتجوالي في الأقطار، إلى بلاد الهند في أواخر أيّام الصيف،  فنزلت عند أحد أصدقائي مثل الضّيف. والشمس في تلك الأيّام كانت تزفر زفرة القيظ، وكادت تتميّز من الغيظ. ووجدت السماءَ تتلظى وتتميّز حنقاً وغضبا، وتمطر على الناس ناراً ولهبا. وأيام الحرّ الشديدة لا تزال باقية، وحرابها المسنونة لا تزال ماضية. وقد رأيت أوراق الأشجار تذبل وتشقّق، ويشحب لونها وعن الأغصان تنشقّ. ووجدت الرجال قد تعوّدوا حرّ تلك الأيّام، وإن لم يكونوا يجدون فيها تمام الراحة ولا كامل الاستجمام. وكاد صبرهم أن ينفد، وكاد نشاطهم أن يخمد. لو لا أن رأوا برهان ربّهم، وآياته في السّماء المعلّقة عليهم، والأرض التي هي منبسطة أمامهم.

رأى الناس في الأسبوع الأخير من شهر يونيو أن سَمت الريح يتغيّر في الفضاء، ويتبدّل لأجل آثار نزول الأمطار لونُ السماء. وما لبثنا أن رأينا السحبَ قد بدأت تتجمّع وتتراكم، وتتكدّس وتتزاحم. ووجدنا السماء ملتفة بأردية بيض وسود، والكل كانوا يرجون من الرحمان العطاء والجود. وإذا مدّ أحدنا بصره إلى الأفق يرى فيه السحب تتردّد بالمجيء والذهاب، وإذا رفع عينه إلى السماء يجد فيه نضدا من السحاب. ورأينا السحب تغيّر لونها بين البياض والسواد، وتتغيّر عند مغيب الشمس إلى الإحمرار، وعند شروقها إلى الإصفرار. وقد مضى أسبوع كامل بين تراكم السحب وانسحابها، وتكدّسها وانقشاعها. وسحاب يتّبع سحاباً كأنه يطلبه حثيثا، أو كأنه يريد أن يبادله حديثا.

ثمّ رأيت الرجال ركبوا جناحي النعامة فجدّوا في أعمالهم، إذ أنهم قد أيقنوا بأن الأمطار ستنزل عليهم فتُبعدهم عن أفعالهم. فجدّوا وكدّوا، وأبواب تسلّل المياه سدّوا. وجمعوا من القوت والحطب، ما ينجّيهم من الإلحاح والطلب. فما إن فرغوا من عملهم، وانتهوا من فعلهم. حتّى رأوا السحب تتعانق وتتكاثف، وتتجمع وتتكاتف. وتلتئم وتلتطم، وتجتمع وترتطم. والرّيح الشديدة ترافق السحب الكثيفة، وهي تهبّ في سرعات شديدة. والسماء تبرق وترعد، وتزأر وتتوعّد. والظلام الضبابي يلفّ الكون، والعالم قد انحال إلى السواد في اللون.

وبدأ المطر رُذاذاً فينزل خفيفا، كأنه قطرات الندى يعبث بها النسيم فنسمع له في الأوراق حفيفا. ثمّ طفق المطر يشتدّ في النزول، ويكثر في الهطول. ثم تنهمر المياه انهمارا، وتنزل مدرارا. فسحّ الماء أمامنا وسال، وعان المطر وإلى المنخفضات مال. وبدأت تتشكّل في المياه الممطرة الفُقّاعات، ما إن تتشكّل حتى تنفقئ في ثوان معدودات. والأطفال يهرولون نحوها مفعمين بالنشاط، ويتواثبون في المياه وقلوبهم مليئة بالسرور والاغتباط، وهم يقبضون الفقّاعات فيصيبون بالخيبة والإحباط. ثمّ أنشد قائلا:

أما شاهدت يوما نزول المطر.:. على الأرض في المساء أو السحر

ما أجمل طلعته و ما أروع أمره    .:.   وهو ينزل فيسيل به النهر

والسحب تلفّ الكون في ضباب   .:.   كأنه يغالبه بقوة السحر

وإن لم ينزل المطر لعام   .:.   لرأيت الناس في قلق وضجر

لكن رحمة ربنا واسعة فسيحة   .:.   ولا يريد أن يلحق بالناس الضرر.

وفي الأمطار الهاطلة، والمياه السائلة، والريح السارية، والسيول الجارية لآيات بيّنات، لله الخالق القادر مالك الأرضين والسماوات. وفي بِشر البَشر، ونضر النضر، وسحب السحب، وتغيير الرّياح ورائحة الرياحين لأيادٍ كريمات من جانب الرحمان الذي يحيى الأرض بعد الممات. وفي اخضرار النبات، وإحياء الأرض بعد الممات، وردّ الحياة إلى أرض موات لآي حكيمات يبعثها العزيز المقتدر صانع الكون ومنزل الآيات المحكمات.

وفي نشر البركة والنعم، وبثّ الخير للإنسان و الفضل و الكرم، وإعطاء الرّزق للحيوانات منها النعج والغنم لآلاء واضحات، لله الأحد الصمد الذي لا يشبهه شيء من الكائنات. وفى نفض الطيور لأجنحتها، والحيوانات لأشعارها، و الأرانب لوثباتها، بعد أن يبلّ الكل بالأمطار لآيات كاشفات من الله القدير الذي قسّم الرزق لجميع المخلوقات. وفي نقيق الضفادع في الترع، ونهيق الحمار في الزرع، ونعيق البوم على الشجر، وتلألؤ اليراع بالضوء الذي منه يبتدر، لشواهد حسن خلق المالك القادر فوق عباده ومنزل المطر في بلاده.

وقال خالد بن سلام بينما كنت جالساً في منزل صديقي وقد ساورتني هذه الأفكار، وخالجتني هذه الخيالات في صنع الله الواحد القهّار، وعندما مضى الوقت إلى ما بعد الظهير، رأيت أسراباً من الطيور في السماء تطير. وهي تحلّق في الفضاء وتحوم، كأنها تدعو الرحمان لأن تعمّ نعمته وتدوم. وعندما وجدنا أنفسنا في وقت الأصيل، رأينا فيه هبوب النسيم العليل. وخرجنا للتنزّه في المزارع والحقول، وقد ارتوت كلها من المطر الهطول. ووجدنا أوراق النباتات وسيقانها تميل في خفّة ودلال، ممّا لرؤيته مذاق رائع وطعم عذب في الخيال. والهواء كان يخلق شيئا في مثل شكل أمواج في البحر، إذ رأيته يهبّ فوق رؤوس النباتات هبوبه في المساء والسحر، في غاية من الجمال والسحر.  ورجعنا إلى البيت عند ظهور طلائع الليل، وقد بدأ الظلام يضرب برواقه على الكون ويجرّ الضوء بالذيل.

ولما اضطجعت على السرير بعد العَشاء، بعد أن أدّيت مع الناس صلاة العِشاء. بدأت الأمطار تتساقط بغزارة من جديد، وكان صوت وقوعها على السقوف كضرب الحَدَّادِ على الحديد. وكنت أسمع طقطقة وقوع الأمطار على الشبابيك وضلفتيها، وقد فتحت السماء أبوابها بدفّتيها. وفى طول الليل كله لم يتوقف المطر لوهلة، ربّما رذاذ وطوراً انهمار ودائما ديمة. ولم ألبث طويلا حتى اكتحلت بالنوم جفوني، فانشغلت بالأحلام عن جميع شؤوني، وأصوات وقوع الأمطار أسكرتني، كأنها تهويدة أمّهات فهي أنامتني. وما استيقظت إلا وقت الفجر، فحمدت الله على نعمته بالسجدة والشكر.

*الباحث بمركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهرلال نهرو، نيو دلهي، الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of