+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

التراث القصصي الهندي
*ذاكر علي خان ككرالوي

إن القصص والأساطير التي تروى على ألسنة الطيور والحيوانات أصبحت نمطا ذائعا لدى كل الشعوب العالمية، وهذه تشكل جنسا أدبيا، وتعد من الأجناس القديمة، وأكثرها شيوعا على اختلافها وتنوعها في تاريخ الآداب العالمية، وهي لاتنحصر على أية لغة من اللغات العالمية، ولاتحد في زمان من الزمان أو المكان، بل تكسر كل هذه الحواجز، وتنتقل بلاقيد من القيود من لغة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر على حد سواء.

وأصبحت الشعوب تتنازع بسبب ذيوع هذا النمط من الآداب العالمية على ملكية إبداعه، ولذا وقع الباحثون في حيرة، فهذا الأمر أصعب أن تحدد نقطة البدء في سيرة هذا النمط الأدبي، وخاصة على نحو في حركته الشفهية قبل التدوين، وكانت كل الشعوب تحس بالرغبة في تفسير ظواهر الطبيعة الغامضة، وكذلك بالرغبة في خلع القوانين الخلقية، التي تهيمن على مجتمع عام، ولذلك لجأت إلى القصص والأساطير لترى تجاربها التطبيقية على مجتمع مواز لها، وكان هذا مجتمع الحيوانات والطيور، وحينذ لجأت إلى القصص الخرافية والحكايات على ألسنة الحيوانات.([1])

وأول من قام بهذا العمل البديع في البلاد الهندية، كان “وشنو شرما”  (Vishnu Sharma) الذي جمع بهذه القصص والأساطير التي كانت تروى في بلادنا الهندية على ألسنة الحيوانات والطيور، وسمى كتابه “بنج تنترا” (Pancha Tantra) في اللغة السنسكريتية في القرن الثالث الميلادي، ولكن هذه الحكايات كانت تروى شفهيا في العهود القديمة، كمايؤيد هذا القول تأليف الكتب الأخرى على النمط نفسه مثل كتاب “نيتي شاشترا” و”سرت ساغر” وقصص ملحمة “المهابهاراتا”، فكل هذه المؤلفات تتضمن حكايات وقصصا خرافية كثيرة على ألسنة الحيوانات والطيور، التي تم تأ ليفها في عصور متقاربة.([2])

وهذا الأمر بديهي أنه لم تفز أية مجموعة من القصص الخرافية والحكايات الحيوانية بشهرة وإقبال ما نالتها “حكايات بنج تنترا” في البلاد الهندية وخارجها، ولم يلعب أي أثر من مآثر الآداب الهندية دورا هاما في الأدب العلماني العالي ما لعبته هذه المجموعة القصصية، وتلك عبارة عن مجموعة الروايات الهندية القديمة التي ألفت باللغة السنسكريتية، وتتمتع برواج عام في هذه البلاد بنحو أكثر من خمسة وعشرين قرنا، وإن كانت روح هذه الروايات أقدم من هذه، وقد اشتهر العمل بهذه المجموعة القصصية من التشريح والتلخيص وقصها في النثر ونظمها في الأبيات وترجمتها إلى اللغات المحلية والعالمية من القديمة والحديثة، وإعادة ترجمتها إلى اللغة السنسكريتية،

غرض تأليف الكتاب:

وكان الغرض الأساسي من تأليف حكايات “بنج تنترا” تربية أبناء الملوك، وخاصة تدريس مبادئ قضاء عيشة داهية، ولها قدر جوهري عظيم، وهي صيغت بأسلوب جذاب للغاية، حتى قد أثرت ترجمتها وتراجم تراجمها تأثيرا على آداب آسيا الغربية والأوربا الوسطي لانظير له.

وتؤكد الروايات الواردة أن هذا الكتاب كان ألف مبدئيا بغرض تعليم أبناء  بعض الملوك، لأن اللغة السنسكريتية تدل على استعمالها أن هذه اللغة كانت تعتبر في عهد تأليف هذا الكتاب من قبل لغة “البراهمة” ورجال الطبقات العليا في الديوان الملكي، ورويت هذه الحكايات بالطبع في النثر، ولكن النصائح الأخلاقية، وكذا روح القصة قد نظمت نظما، وهذا الأسلوب عمل فني وممتاز، ولأن هدفه تعقيد وتكبير الفكرة الرئيسة، وفيها يوجد التنوع بخلط القصص الحيوانية والقصص الملحمية للحياة الإنسانية، ولا ريب فيه أن هذا الكتاب لكتاب ألف لتربية الملك في الشؤون السياسية، وطرق سير الحياة العادية اليومية، وهو مؤلف ممتاز ليس هدفه إلا المصالح الإنسانية من الزمن السالف إلى زمننا هذا.

يحكى أنه كانت هناك مدينة تسمى “ما هيلا روبيا” (Mahila RooPiya) (بهجة العذراء) في الإقليم الجنوبي من هذه البلاد، وكان يعيش فيها في الزمن الماضي ملك يسم “بـــ أمر شكتي” (السلطان الخالد)، وكان ذلك الملك كريما فيما آتاه الله من المال والملك والسعة، وكان عاقلا و بصيرا بمسالك الحياة الرشيدة، وحكيما في أعماله السياسية، وبارعا، نابغا من العلوم والفنون، ومتضلعا في علم تدبير الملك، وكانت تخطف قدماه الأبصار بأنوار الجواهر التي ترصع تيجان الملوك الذين يركعون أمام جلالته، وكانت العلوم والفنون جميعها ترين حياته وتزخرفها، وكان لذلكالملك العظيم ثلثة أبناء، وهم “وشوشكتي” (السلطان الغني) و”أجرشكتي” (السلطان العنيف) و”أننتاشكتي” (السلطان الأبدي)، وكان كلهم في منتهي البلادة والغباوة، الذين لايفهمون شيأ من أمور الحكمة وشؤون السياسية.

ولما أدرك الملك أنهم ينفرون من العلم والمعرفة، وقد عجز كثير من المعلمين والمربيين عن تعليمهم وتثقيفهم، أسف الملك على هذه الحالة المسيئة أشد التأسف،ودعا يوما جميع مشيريه من وزرائه وأعيان مملكة وفلاسفة عصره، وأصحاب ارائي والمعرفة فيهم للاجتماع في قصره، لكي يبحث معهم عن الأمور والوسائل التي تساعد على تجيب أبناءه في الإقدام على تحصيل العلوم والفنون ونيل الحكم والشؤون السياسية، ولما تم انعقاد اجتماع الفلاسفة والحكماء وأعيان مملكة، خطب فيهم الملك الحاذق قائلا لهم:

“أيها السادة! لايخفى عليكم أن أبنائي هؤلاء ينفرون من العلم ويبغضونه، ويبتعدون عن الحكم السياسية، ويبدو أنهم محرومون من الفطانة والحصافة، وإني كلما أنظر إليهم، ينغص على ملكي، وأشمئز من مجدي، الذي تسجد له الجباه المتوجة، لأن المثل المعروف يقول: “الحرمان من الأولاد و موتهم محزن”، ولكن الأبناء المغفلين لايتحمل وجودهم، وأن الولد العاصي والغبي، مثل البقرة العاقر التي لاتلد ولا تجود باللبن، فلا فائدة من وجودهما، فأرجومنكم العثور على وسيلة، تؤدي إلى إيقاظ ذكائهم، وترغيبهم في العلوم والفنون، وتجعلهم رجالا نافعين”.([3])

فقام واحد منهم قائلا: أيها العاهل العظيم، هذا من المعروف أنه لاسبيل إلى إيقاظ الذكاء إلا أن يدرس المرء العلوم النحوية واللغوية نحو مدة اثنتي عشرة سنة، ليكون عونا على حصول العلوم الأخرى، فإذا أتقنها، فلا بدله بعد ذلك من الدراسة المنهجية للعلوم الدينية والدنيوية وعلم تدبير الملك والشؤون السياسية، وبعد ذلك تنفتح أما مه أبواب المعرفة والشؤون السياسية على مصاريعها، ومن ثم، فإن هذه مهمة تشق على الأذكياء، فكيف بالأغبياء.

ولكن فيلسوفا واحدا منهم، كان يسمى “الحاذق” خالفهم و وقف قائلا: أيها الملك المعظم! إن الحياة لقصيرة، وهي أيام معدوات، فلاينبغي لنا أن نجعلها أقصر، وأن العلوم النحوية واللغوية من آلات المعرفة والفنون، التي تتطب زمنا طويلا لإتقانها والتمكن فيها، وضرب المثل المشهور لدى العلماء: إن العلوم اللغوية بحرعميق لانهاية له. وإن الحياة قصيرة تواجه عدة عوائق في طريق امتدادها، فليكتف المرء بالحقائق الأساسية ويتفقهها، كما تستخلص الإوزة اللبن المخلوط بالماء، فكذلك ليقترح بضرورة اختيار الأهم من العلوم والفنون واتباع أقرب الطرق، وأسهل الوسائل لنيل الحقائق ومعرفة العلوم الأساسية، وإذا كان الأمر كذلك، فهناك في مملكتكم، يوجد برهمي فيلسوف يسمى “وشنوشرما” يحيط بكل صغيرة وكبيرة من علم تدبير الملك، واشتهر بتضلعه في هذه العلوم والفنون، وقد طبقت شهرته الآفاق على يد تلاميذه الكثيرين، فإذا طلبه الملك العظيم، وترك له هذا الأمر المهم، وسلم الأمراء أبناءه إليه، فلاشك أنه يشحذ أذهانهم ويزكي نفوسهم ويجعلهم رجالا عقلاء.

فسبب تأليف الكتاب، هو تعليم أبناء الملك المحترم، طرق الحياة و تبصيرهم مسالك الرشاد، كما يحكى أنه حظيت هذه الفكرة بالقبول، والملك قبل اقتراح الفيلسوف، وأمر لإحضار البرهمي الفقيه “وشنوثرما” إلى الحضرة الملكية، ولما حضر المعلم، حيا الملك بالسلام المأثور وأخذ مجلسه وقال له بعد أن اطمئن في مجلسه: “أيها البرهمي الناسك الجليل! هل تصنع لي معروفا بتلقين هؤ لاء الأمراء الجهلاء علم تدبير الملك؟ لكن يصبحوا نابغين وحاذقين في العلوم الدينية والفنون الدنيوية، ويكونوا أذكياء في الحياة العملية، وسوف أجزل لك العطاء، ثم أمر الملك بفتح خزائن القصر للفيلسوف البرهمي، لكي يتصرف فيها كما يشاء، ورفع درجاته، وعظم شأنه.([4])

ولكن الحكيم البرهمي الهندي رفض قبول الجزاء، ورد على الملك قائلا: يا سيدي الملك! اسمع ما أقول، وإني لا أقول إلا الحق الصريح، ولست بذلك الرجل الذي يطمع في المال، ويبيع الحكمة والعلم بالمتاع الدنيوي الفاني، ولقد بلغت من العمر ثمانين عاما، وإن المال لا ينفعني شيئا، ولقد بلغت من العمر عتيا، وأصبحت الشهوات لا تراود قلبي، فما ذا أفعل بالمال؟ وتبلدت حواسي، وفاتت الأوان التي يستمتع فيها الإنسان بالثروة، و الآن اعتزازي هذا من التزهد في المال، وإن العلماء يجودون بالعلم ولا يريدون عليه مالا ولاشكورا، ولكني سوف أضطلع بهذه المهمة لتكون بمثابة الامتحان لبراعة التفكير، وأقدم لك يد المساعدة، وأحاول لتثقيف أبناء ك، ولكي ينجحوا في حياتهم العملية، وإني أعلن لك إعلانا، بأن الأمراء أبناء الملك، إن لم ينبغوا في الحياة الذكية، ولم أتمكن في خلال ستة أشهر من أن أجعل أبناءك متضلعين في علم تدبير الملك، فإني أتنازل عن اسمي وأغيره باسم آخر، ولك يا مولاي أن تلقي بي من الباب.

وحينما سمع الملك ووزرائه هذا الكلام والعهد من الفيلسو ف البرهمي، تملكه شعور من الفرح والدهشة معا، وسلم الملك أبناءه إلى المعلم “وشنوشرما” بكل رعاية، وشرع المعلم يلقنهم علم تدبير الملك والسؤون السياسية، واستطاع الفيلسوف الكريم بوفاء بما وعد، وعلم هؤلاء الأبناء الثلاثة علم تدبير الملك والأمور السياسية في ستة أشهر عن طريق الحكايات والقصص على ألسنة الحيوانات و الطيور، لأن الفيلسوف رأى بأن الحيوانات والطيور محببة جدا لدى الأبناء، فلذلك علمهم عن طريق القصص المملوءة بالنصح والموعظة، والتي أسمعها لهؤلاء على ألسنة الحيوانات والسطيور، والف من أجلها هذا الكتاب المعروف بــــ “بنج تنترا”.([5])

محل الاختلاف في تأليف الكتاب ومؤ لفه

ولكن هناك محل الاختلاف بين الباحثين في سبب تأليف هذا الكتاب، ولايخفى أن السبب المذكور لوضع هذا الكتاب لايوافق الحقيقة الواقعية إلى حد كبير، إذ لايعقل أن مجرد سرد الحكايات، وبيان القصص الأسطورية في ستة أشهر، يوقد أذهان هؤلاء الأمراء السفهاء، ويفتح عقولهم إلى حد كونهم نابغين في الأمور السياسية وفقهين في العلوم والفنون! ويظهر أن مؤلف هذا الكتاب أراد خلق سبب، يسوغ به هذه الحكايات والقصص الخرافية ذات العبر والحكم العديدة، فاخترع قصته للملك وأولاده الثلاثة، وكان أسهل له أن يخلق هذا السبب المذكور لتعليم أبناء الملك المغفلين، لأن الهند وقتئذ كانت تحت نفوذ الملوك، وكانوا يسودون عليها، وإن معظم أبناء الملوك كانوا ينغمسون في الشرف والملزات الدنيوية، بحيث كانوا لايعدون أكفاء لتولي الأمور والشؤون السياسية في البلاد الهندية في الزمن القديم بكياسة وفطانة، فكان الانتساب إليهم أوفق وأسهل.([6])

وأما الرأي الأخر الذي يقول بتأليف هذا الكتاب: إن “بيدبا” رأس الفلاسفة في عصر الملك الهندي العظيم “دبشليم” مؤلف هذا الكتاب، وهكذا بدأ البعض ينسبون هذا المؤلف إليه، ويأتون بأدله حسب ما جاء في آخركتاب “كليلة ودمنة”، وهو مايأتي: “فلما انتهى المنطق بالفيلسوف إلى هذا المكان، سكت الملك، فقال الفيلسوف: أيها الملك عشت ألف سنة، وملكت الأقاليم السبعة، وأعطيت من كل شيئ سببا، مع وفور سرورك وقرة عين رعيتك بك… وقد جمعت لك في هذا الكتاب شمل بيان الأمور، وشرحت لك جواب ما سألتني عنه منها، فأبلغتك في ذلك غاية نصحي، واجتهدت فيه برأي ونظري ومبلغ فطنتي، التماسا لقضاء حقك وحسن النية منك بإعمال الفكرة والعقل، فجاء كما وصفت لك من النصيحة والموعظة مع أنه، ليس الأمر بالخير بأسعد من المطيع له فيه، ولا الناصح بأولى بالنصحية من المنصوح، ولا المعلم للخير بأسعد من متعلمه منه، فافهم ذلك أيها الملك، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم… فأمر الملك العظيم عند ذلك بفتح أبواب خزائنه للفيلسوف، وأن يحكم فيها المعلم، فيأخذ ما احتكم من الأموال، ومن صنوف الدرو الجواهر و الذهب والفضة، ورفع درجته ومرتبته إلى الغاية التي لايسموا إليها أحد من نظرا ئه.([7])

إن هذه الفقرات تخالف ما ذكر في الكتاب السنسكريتي “بنج تنترا” وكذلك هذه العبارة تخالف الطبع الهندي القديم، وتقاليد العلماء الهنود، وهو لايليق بفيلسوف ومعلم حقيقي، وإن العلم لم يكن يباع ويشترى في البلاد الهندية، بل العلماء كانوا يجودون به، ولايريدون عليه مالا ولا شكورا.([8])

وإذا كان الأمر كذلك، فالباحث عن هذه الأمور لايستطيع أن يقر بأن الفيلسوف العظيم “وشنوشرما” هو مؤلف كتاب “بنج تنترا” أو “بيدبا” هو صاحب هذا الكتاب المشهور، لأن الكتاب الأصلي السنسكريتي مفقود، ويمكن لنا أن نقول، “وشنوشرما” هونفسه “بيدبا” ومعناه “وشنوشرما” هو الاسم الأصلي، و”بيدبا” هو اللقب، ولا خلاف أن مؤلف هذا الكتاب الشهير ينتمي إلى طبقة البراهمة، أعلى الطبقات الهندوسية، وقام بهذا العمل بأمر ملك عظيم وقتئذ لتخليد ذكراه، ويتضح من هذا أن المؤلف كان ينتمي إلى المنطقة الجنوبية من الهند كما يؤيد ذلك ما ورد من ذكر بعض الأقاليم و البلاد الهندية الجنوبية، أثناء جمعه هذه القصص الخرافية والحكايات الحيوانية، ومدينة “ما هيلاروبيا” تقع الآن في جنوب الهند من ولاية كيرالا.([9])

ماخذ كتاب ” بنج تنترا” وتغيير عنوانه

وإن القصة ابتدأت مند بدأ الإنسان التكلم والكلام، ولكن التاريخ لم يدون لنا،والآراء تتفق عليه، بأن الكتاب “بنج تنترا” هو أقدم الكتاب القصصية الخرافية في العالم الأدبي، وكان هذا الكتاب في أول الأمر يدعى باسم “نيتي شاسترا” (كتاب السياسة. وأقدم الكتب الويدية الهندوسية مليئة بالحكايات والقصص، وقام المؤلف بجمع بعض القصص، التي كانت رائجة في عصره، وكذا استفاد من كتاب “ملحمة المهابهاراتا”، ولكن بعض القصص المؤلفة في هذا الكتاب أقدم من القصص الملحمية في المهابهاراتا، وكذلك اقتبس المؤلف من بعض المصادروالكتب،التي ذكر أسماء ها في هذا الكتاب، وأهمهما “راماينا” و”مانوسمرتي” و”مانو” و”شانخياشاسترا”، ولاريب فيه، أن هذا كله يثبت أن الفيلسوف الهندي “وشنوشرما” ولدبعد الإمبراطور “تشاندارا غبتاموريه”، وكذلك ورد في هذا الكتاب ذكر الرهبان البوذبين، والدين البوذي، الذي كان وقتئذ دين هذه البلاد الهندية.([10])

وهذا الكتاب يشتمل على خمس حكايات رئيسية، تتضمن حكايات وقصصا فرعية كثيرة، وكل من هذه الحكايات، أو الأسفار الخمسة تحتوي على الأقل على قصة واحدة أو على أكثر من قصة واحدة، وتتخلل في بعض الأحيان قصة في قصة رئيسية أخرى، وما عدا هذا فإن الكتاب ينفتح بافتتاحية، قصيرة يشار فيها إلى جميع هذه الأبواب الخمسة.([11])

وهذا الأمر يبدو بوضوع أن الكتاب “بنج تنترا” غير عنوانه، أي الحكايات أو الأسفار الخمسة، لأنها تجاوزت العدد، وقد تصرف المترجمون لهذا الكتاب في ترجمته كل حسب مزاجه، أومزاج لغته، أو اللغة التي ترجم هذا الكتاب إليها، فعلى سبيل المثال حين ترجم هذا الكتاب إلى اللغة البهلوية (اللغة الفارسية القديمة) أضيفت إليه ثلاثة أبواب، وهي: مقدمة برزويه، وبعثة برزويه، وباب ملك الجرذان، وكذاحين ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية، أضاف عبدالله بن المقفع ستة أبواب، وكذلك تصرف المترجمون حين ترجموا لهذا الكتاب إلى اللغة الأردية بما يوافق الذوق الأدبي الأردي والبيئة الهندية، وأيضاً قدم وأخر في ترتيب أبواب هذا الكتاب.([12])

ولكن معظم المراجع الأخرى متفقة على أن حل محل كتاب “بنج تنترا” اسما الثعلبين الذين يتجاذ بان الرأي، ويمثلان محورين متعارضين للخير والشرفي الحكاية الأولى، وهي: “الأسد والثور”، وهذان الثعلبان هما “دمنكة وكرتكة”، واللذان تحولا إلى “كليلة ودمنة”، وكان ذلك للمرحلة الأولى المترجمة للكتاب.([13])

فلسفة الكتاب “بنج تنترا”

إن هذا الكتاب كتاب سنسكريتي قديم جدا، ألف في هذه البلاد الهندية، وهو من أشهر وأهم كتب القصص والحكايات الرمزية في الآداب العاليمة، وأهم ما يميزه أن هذا الكتاب مشتمل على معان أخلاقية و اجتماعية وسياسية، فهذا كتاب يصلح الأخلاق ويهذب النفوس وإنه كتاب حافل بخرافات حيوانية، وذلك عالم أسطوري ساحر، مليئ بالحوادث العجيبة والقصص الممتعة والحكايات الجميلة، وهو إنجاز أدبي ضخم، قدره الغربيون، فلذا ترجموا هذا الكتاب الأدبي إلى لغاتهم، وأمعنوا فيه إمعانا تحليلا ودراسة منا قشة.([14])

وهذا الكتاب يستمتع به عوام الناس وخواصهم، لأن قصص هذا المؤلف الأدبي تدور على ألسنة البهائم والطيور، فيستفيد منه ويتمتع به الخاصة، أي المثقفون والسياسيون والملوك والحكام، لأن في هذا المؤلف إرشادا إلى معرفة طرق التعامل مع الناس سياسيا واجتماعيا، وترجع مواضيع النصح في هذه المجموعة القصصية إلى ما يحتاج إليه الناس في عيشة معمورة، كوجوب الابتعاد عن سماع كلام الساعي والنمام، ووخامة خاتمة الأشرار، وآفة التعجيل، وعدم جواز الأمن من كيد العدو، ومضار الإهمال والغفلة، وعدم الاعتماد على أرباب الحقد، ومنافع الأصحاب، وفائدة الغرم وما إلى ذلك مما يهذب النفوس ويرقي العواطب.

والكتاب يقرر الحقائق بألسنة الحيوانات والطيور، فأولا يقرر أن العلم هوأحسن شيئ في الدنيا وأثمنه وأشرفه، ولايمكن أن ينهبه ناهب، أو يسرقه سارق، وهو لاينفد بكثرة الإنفاق، ولا يضعف بالاستخدام، بل يزداد، ويتقوى ويتمكن بالبذل، وهو يرفع قدر الوضيع، وصاحبه يعلوبه إلى الحضرة المكية، وهو مثل النهر الذي يجري دائما بدون انقطاع، ويحمل الغرين، ويصل بها إلى البحر العظيم، وما أحسن قوله بأن العلم يؤدي إلى الحلم، والحلم يؤدي إلى التعقل والتوازن،  وهذان يؤديان إلى الثروة والنجاح في الحياة العملية، وهذه الوسائل توصل إلى سعادتي الدارين.

وهذا الكتاب يوضح بأن العلم ينقسم إلى قسمين(1) شستراودّيا (الفنون الحربية)، (2) شاسترا وديا، (الفنون الأدبية)، وبعد ذلك يشرح الكتاب هذين القسمين شارحا بأن القسم الثاني أشرف من القسم الأول، لأن القسم الأول من العلم يجعل صاحبه عرضة للسخرية، حين يعجز عن حمل السلاح لكبره أوعجزه، وأما القسم الثاني، فلايزال صاحبه معززا ومكرما طول حياته، والعلم الثاني كالعين النفاذة، التي تبصر الحقائق الكامنة، وتزيل الشكوك المتراكمة في غشاوة العين المادية الظاهرية، وهي تنفذ إلى ما تدركه الحواس المادية، ومن لم تكن له هذه العين النافذة فلاريب أنه الأعمى حقا، ويوضح الكتاب بأن الإنسان لابد له أن يسير في الأرض، ويرى هذا العالم بعينيه ويجرب الأمور كلها بنفسه حتى يبلغ رشده ويكمل علمه.([15])

والكتاب يفسر قائلا: إن العلم الصارم والجامد، لالين فيه، ولايماشي الظروف الزمنية، فهو مضر ولايكون نافعا، ولا يحبذ الكتاب علما، يسد طرق التقدم على المرء، ويجمدبه في مكانه، ويجعل صاحبه متعصبا عنودا، ويقول الكتاب، إن درس العلوم المدونة يتطلب زمنا طويلا، وعمر الفرد أقصر، فلايمكن أن ينبغ واحد في سائر العلوم، فينبغي له اقتباس الحقائق الثابتة، وليكتفي باللب ويترك القشر، والظاهر أن العلم لايوجد كله في الكتب، فلا بدله أن يسيح في هذه المعمورة، ويرى الأمور ويجربها بنفسه، لكي يكتمل علمه، ويبلغ العلى بكماله،

ويبين الكتاب، أن الرجل الذي لايسبق أقرانه، ويرفرض كالعلم الشامخ في قبيلته، فقد ضيعت أمه شبابها بولادته، وإن الرجل القوي، الذي لايظهر قوته، وفمثله كالنار الكامنة داخل الحطب، يلعب بها من يشاء.

وقد أثر هذا الكتاب في خلق الشعب الهندي أثرا واسعا، وأصبح كثير من حكمه وأقواله مضرب الأمثال في اللغات الهندية كلها، وتتناقلها الألسنة حكايات هذا الكتاب، ومعظمها يطرق أسماع الصبيان الهنود وغيرهم، تحكيها عجائز الأسرة لهم إلى آيامنا هذه.([16])

ترجمة الكتاب إلى اللغة البهلوية (اللغة الفارسية القديمة).

ويحكى أن ملك بلاد فارس (خسرو أنو شروان) كان محبا للعلوم والآداب وراعيا للعلماء، و مولعا لترجمات الكتب حيث عرف بوجودها، وكانت البلاد الهندية تمتاز بالعلوم والحكمة في ذلك الوقت القديم، فلما اطلع الملك على ذلك الكتاب العجيب ومرتبته عند الفلاسفة الهنود، اشتاق إليه، وحرص على تحقيقه، وكلف طبيبه الخاص الفيلسوف “برزويه” للقيام بهذا العمل العظيم، لمعرفته الواسعة للغة السنسكريتية، وحثه على أن يترجم هذا الكتاب وغيره من الكنوز الهندية المحفوظة في الخزانة الملكية الهندية التي كانت تمتاز هذه البلاد بها وقتئذ وخاصة علم الطب.

وعثر الطبيب على ذلك الكتاب في مكتبة خاصة بالملك، وتمكن من كسب ود وصداقة العاملين في هذه المكتبة، حتى نجح في نقل الكتاب إلى اللغة البهلوية بحيلة ودهاء، وليس هذا فقط، بل ترجم ماتيسر له من كتب الأخلاق والحكم، التي كانت تعتبر أثمن الكنوز في البلاد الهندية، وكان الفيلسوف الطبيب “برزوية” ترجم هذا الكتاب في عام 539/ الميلادي، وهو أول ترجمة لذلك الكتاب الذي عرف أمرها في التاريخ العالمي، وهي ترجمة من اللغة السنسكريتية إلى اللغة البهلوية.([17])

وقد ترجم هذا الكتاب من اللغة البهلوية إلى اللغة السريانية قبل الترجمة العربية، ولكنها بقيت مجهولة، ثم ترجم الكتاب من اللغة البهلوية إلى اللغة العربية، ومن اللغة العربية، ترجم إلى أكثر من ستين لغة عالمية حتى إلى اللغة السنسكريتية مرة ثانية، لأن نسخته الأصلية بهذه اللغة كانت مفقودة، فكان الأدب الإيراني القديم صلة بين الأدب الهندي والأدب العربي، وكذلك كان الأدب العربي صلة بين الأدب الهندي والأدب العالمي، وخاصة الأدب القصصي العالمي.([18])

ترجمه الكتاب “بنج تنترا” إلى اللغة العربية.

والآن تبدأ الرحلة الثانية لهذا الكتاب عن ترجمته العربية، وبعد هذه الرحلة ظهر الكتاب في العصور المختلفة، وفي البلاد المختلفة، وترجم إلى لغات مختلفة محلية ودولية، وتمت له الترجمات المتعددة في العصور المتعددة، وقد أضاف فيه كل مترجم من جانب نفسه إضافات ومحاكات متعددة.([19])

وقام بترجمة هذا الكتاب من اللغة البهلوية إلى اللغة العربية، نحو بعد قرنين عام 750/ الميلادي، الأديب البارع في اللغتين لغته الأم الفارسية، واللغة التي نشأ فيها وكسب منها، وأحبها أي اللغة العربية، وإمام النثر الفني، بعدالله بن المقفع، الذي يعد من أهم الأدباء الذين يمثلون الثقافة الفارسية في الأدب العربي، وهذه أم الترجمات، التي تمت من بعد في اللغات العالمية المختلفة، ولها أهمية كبري، لأن الكتاب لم يعرف بأصله السنسكريتي، أو ترجمته غير الترجمة العربية، بل عرف الأصل أيضاً لهذه الترجمة العربية، وهذه الترجمة التي منحت لهذا الكتاب رواجا وقبولا في الأوساط الأدبية العالمية، ورفعته إلى الأدب العالمي.([20])

وهذه الترجمة ترجمة أدبية تفوق الوصف، سواء من ناحية اللغة والأسلوب الرائع، أو من الناحية الفنية للسرد القصصي، وهي الترجمة اكتسبت من الشهرة، وأحدثت من التأثير، مالم يحظ به هذا الكتاب في الأصول الأولى ولا في رحلته الأولى وجعلته الترجمة هذه محط أنظار الناس في العالم الأدبي، وعرفت الأدب العربي خاصة، والأداب العالمية عامة بوجود نمط جديد في الآداب والثقافة، وهو القص على ألسنة الحيوانات والطيور، وتعليم الحكمة والمعرفة والشؤون السياسية في أسلوب اللهو والتسلية، ولذلك قداهتم به العلماء والأباء بعده في كل عصر من العصور.

وقد أضاف عبدالله بن المقفع من عنده ستة أبواب في ترجمته، ولم تكن في  الترجمة البهلوته، وكان المجتمع العربي يحتاج إليها، فالحكم والأمثال الواردة في هذه الحكايات والقصص كلها تفهم عن بيئة عربية إسلامية فارسية، ومعظم شخصيات حكايات “كليلة ودمنة” عبارة عن الحيوانات، فالأسد هو ملك، وخادمه ثور اسمه شتربه، و”كليلة ودمنة” هما اثنان من حيوان ابن اوي، وكذا شخصيات أخرى عديدة، وهكذا تدور الحكايات بكاملها ضمن الغابة على ألسنة الحيوانات، وقد قدم المترجم هذه الترجمة ككتاب أصل، وليس فيه أي شبه ما يدل على أنه مترجم، بل أصبح هذا الكتاب نموذجا رائعا يقتدى به في النثر الفني، وذكر الأديب عبدالله بن المقفع هدفه من هذه الترجمة قائلا: “إنه ليس المراد من هذه الترجمة هو الإخبار عن حيلة بهيمتين، أو محاورة سبع لثور، بل المترجم قصد به جذب قلوب الملوك والأمراء، وأهل الجدو الهزل من الشعب إلى قراء ته والا ستفادة منه، وإدامة النظر فيه، والتماس معانيها الجوهرية، وليكثر انتساخه، ويرجى أن لايبطل علىى مرور الأزمان.([21])

المصادر والمراجع

[1] – أحمد درويش، الدكتور/ نظرية الأدب المقارن وتجلياتها في الأدب العربي، ص: 77، دار النصر، القاهرة، 2007م.

[2] – شيوا كمارا / قصص بنج تنترا (اللغة الهندية) تشاندرابك ترست، نيودهلي، 1996م.

[3] – ابندر ناث (مرتب) كتاب بنج تنترا، وديابهوشن، كولكاتا، 1910م.

[4] – شيوا كمار/ بنج تنترا (اللغة الهندية) تشاندرابك ترست، نيودهلي، 101996

[5] – يونس، عبدالحميد الدكتور/ الأسفار الخمسة (بنج تنترا) (ترجمة عربية) ص: 26,28 الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980م.

[6] – أحمد درويش الدكتور، نظرية الأدب المقارن وتجلياتها في الأدب العربي، دار النصر، القاهرة، 2007م.

[7] – عبدالله بن المقفع، كلية ودمنة، دار المسيرة، بيروت، لبنان، 1980م.

[8] – شيواكمارا، بنج تنترا (اللغة الهندية) تشاندرابك ترست، نيودلهي، 1996م.

[9] – نفس المصدر.

[10] – ربندرناث (مرتب) كتاب بنج تنترا، ودّيا بهوشن، كولكاتا، 1919م.

[11] – سينغ أنندي بنج تنترا كي أمركتهائين، نيو شاهادارا، دلهي، 1998م.

[12] – يونس عبد الحميد، الدكتور الأسفار الخمسة (بنج تنترا) ترجمة عربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980م.

[13] – حامد، عبد القادر، القصص الحيواني وكليلة ودمنة في الآداب الشرقية والغربية، لجنة البياني العربي.

[14] – عابد علي، السيد، مقدمة خرد أفروز (ترجمة كليلة ودمنة إلى اللغة الأردية مع إضافات)، مجلس ترقي أدب، لاهور، 1963م.

[15] – شيوا كمارا، بنج تنترا، (اللغة الهندية)، تشاندرا بك ترست، نيو دهلي، 1996م.

[16] – سينغ آنندي، بنج تنترا كي أمركتهائين، نيوشاهادارا، دلهي، 1998م.

[17] – أمين عبد الحميد، القصة في الأدب الفارسي، دار المعارف، القاهرة، مصر.

[18]  –  أمين، عبد الحميد، القصة في الأدب الفارسي، دار المعارف، القاهرة، مصر

[19] – ليلى حسن، سعد الدين، الدكتورة/ كليلة ودمنة في الأدب العربي (دراسة مقارنة) دار البشير، عمان الأردن.

[20] – همزة، عبداللطيف / ابن المقفع، دار الفكر، القاهرة، مصر.

[21] – عبد الله بن المقفع / كليلة ودمنة، دارالمسيرة، بيروة، لبنان، 1980م.

*الباحث بقسم اللغة العربية، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دهلي، الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of