+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

نظرة الشيخ على الطنطاوي إلى الأدب
د. نجم الدين الندوي

الشيخ علي الطنطاوي[1] من كبار الأدباء الإسلاميين، و ساهم في إثراء اللغة العربية والأدب والفلسفة والتاريخ عن طريق آثاره القيمة و أعماله الأدبية الهامة التي تدل على عبقريته وبراعته و منهجه الفريد في الكتابة و أسلوبه الرائع الممتاز بالحيوية و دقة التصوير، و روعة الأداء، و جمال العبارة.

و في هذا المقال، سأعالج رأيه في الأدب، أعني ما هو الأدب في الحقيقة وماهي مكوناته الأساسية لديه. هناك اختلافات كثيرة بين الأدباء في تحديد الكتابات الأدبية  وكذلك في مكوناتها الأصلية والأساسية، فأدلف الآن إلى ذكر آراء الشيخ على الطنطاوي في الأدب ونظريته في تعيين الكتابات الأدبية وتحديدها وكذلك ما هي مكونات الأدب الأساسية لديه.

كان الشيخ على الطنطاوي ممن يعتقدون أن الأدب هو ضروري ضرورة الهواء والماء فالإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا معه والأدب منذ البداية يوجد مع الإنسان في العالم، كما هو يقول في كتابه “فكر و مباحث”

“إن الأدب ضروري للبشر ضرورة الهواء ودليل على ذلك أن البشرية قد عاشت قرونا طويلة من غير عالم، وما العلم إلا طفل ولد أمس، ولا يزال يحبو حبوا ولكن البشرية لم تعش ساعة واحدة من غير أدب وأظن أن أول كلمة قالها الرجل للمرأة الأولي كلمة الحب لمكان الغزيرة من نفسه ولأنها (أعني غزيرة حفظ النوع) كانت أقوى فيه والحاجة إليها أشد وبقاء النوع معلق بها”[2]

من هذه العبارة تبدو واضحا أن الشيخ على الطنطاوي كان ممن يفضلون الأدب على العلم ويعتقدون أن الأدب هو أساس الحياة، فكل منا لا يعيش إلا به في حياته اليومية، ولكن مستواه يختلف حسب استطاعة مستخدميه ومقدرتهم، ولذلك نراه كان يعتقد أن الأدب لا يمكن حصره في أشياء معدودة في بعض أصناف الأدب، مثل القصة، المسرحية، الشعر وغير ذلك من أنواع الأدب، بل هو يوجد في كل ما يكتبه الأديب، فالأدب يوجد في التاريخ وفي كتب السير، وفي التراجم وفي الوعظ والنصائح، فالأدب عند يؤثر الحياة ويتأثر بها، فكل ما يجعل القاري يتماشى مع الأديب ويؤثر في عاطفته ومشاعره فهو الأدب، ومن كان الشيخ يخالف نظرية الفن للفن مخالفة شديدة، لأن في رأيه الأدب ليس هو غاية وبالعكس هو ذريعة ووسيلة للوصول إلى الغاية وله مسئولية، والمسئوليه هي الإرشاد والهداية إلى الخير وتفضيل الخير على الشر ونشر الخير والقضاء على الشر وتقويم الأخلاق وتصحيح العادات والتفريق بين الصفا والكدر- وكان الشيخ على اعتقاد أن الأدب هو للغايات الشريفة التي ترشد الإنسان وتهديه إلى الصراط المستقيم الذي لا إعوجاج فيه وكان يتنفر من كل ما يكون خلافا للدين والعفاف والكرامة، وكان ذلك نتيجة للبيئة التي عاش فيها الشيخ وتربى عليه، فالطنطاوي تربي على الإسلام تربية حسنة ونشأ على سلامة الفطرة وحسن الإيمان وفي بيئة توافرت فيها عوامل شتى لحماية الفطرة آنذاك، وهذه العوامل ساعدته في فهم الإسلام فهما دقيقا ومكنته من تحليل الأشياء تحليلا بارعا والتحلي بالعدل والإنصاف في النقد والتحليل، فكان يرى كل شيء بمنظار الإسلام ويجعله معيارا ومقياسا للفرق بين الخير والشر والصفا والكدر، وفي الحقيقة أنه كان أديبا إسلاميا وداعيا إلى الإسلام والأخلاق الكريمة، ولذلك نرى أن جميع كتبه يحمل في طياته العنصر الدعوي سواء أكان ذلك الكتاب كتابا أدبيا خالصا وموضوعه موضوعا أدبيا، وكان من اعتقاد الشيخ أن الأدب يمزج بالحزن والفرح واليأس والأمل، وذلك لأن الأدب هو يتعلق بالحياة الإنسانية ومشاعرها وأحاسيسها، أما الحياة الإنسانية فهي مزيجة بالألم والفرح واليأس والأمل وفي الحقيقة هذه الحياة تتكون من الأضداد وبهذه الأضداد تعرف الخير والشر والحسن والقبح والليل والنهار والأسود والأبيض، ولذلك كان الشيخ مخالفا للنزعة الرومانسية المفرطة بطريقة تغذي النزعات الجنسية والالتفاف حول الذات بعيدا عن المجتمع فهو يقول في هذا الصدد:

“من الذي حجب عن عينيك أيها الشاعر ملذات الحياة ومفارحها ولم يرك إلا آلامها وأحزانها، لماذا ترى سواد الليل ولا ترى بياض الضحى؟ لماذا تصف بكاء السماء بالمطر في الشتاء وتدع ضحك الأرض بالزهر في الربيع؟ لماذا تصور حشود المآتم وتهمل حفلات الولادة؟ الدنيا ليل ونهار وشتاء وربيع وموت وولادة، إنها كالقمر له جانب مظلم وجانب مضيئ، فمن ملأ قلبه ظلام اليأس لم ير إلا الجانب المظلم مع أنه خفي لايرى”[3].

يبدو أن طريق على الطنطاوي في الأدب كان طريقا وسطا فهو يستطيع أن يصور كيفية الحزن والألم والفرح والمسرة والنشاط تصويرا بارعا ويعبر عن دقات القلب وخلجات النفس ومشاعرها وأحاسيسها من الفرح والألم واليأس والأمل تعبيرا بارعا فالأدب عنده كمثل الحياة الدنيوية التي تتركب من اللونين الأبيض والأسود والفرح والألم، ولكن الأدب عنده ليس فقط التعبير عن النفس وأحاسيسه بل يجب عليه أن يعالج قضايا المجتمع ويحرض الناس على التحلي والتزين بالأخلاق الحسنة وبعث الطاقة في النفوس للزود عن كرامة الإنسان والوطن والاتصاف بالجرأة والشجاعة أمام الباطل وإصلاح المجتمع وتقويم المعوج، وأما الأدب الذي يكون خلافا لذلك فيلعن عليه، كما هو يقول في كتابه ” فصول في الدعوة والإصلاح”

“لعنة الله على الشعر الجميل والوصف العبقري إن كان لا يجيئ إلا بذهاب الدين والفضيلة والعفاف، وعلى كل أديب يفسد علي ديني ويذهب بعرضي ويحقر مقدساتي ليقول كلاما حلوا، وهل تعوض علي لذتي بحلاوة الكلام، الدين الذي فسد والعرض الذي ذهب والمقدسات التي مرغت بالوحل والتراب”.[4]

كان يخالف حرية الكتابة التي تذهب بالدين والأخلاق وتخرج الناس على الدين وتضيع عقائدهم وتبيح مشاعرهم وتفسد أعراض البنات وأخلاق الصبيان، فيقول:

“لست أدعو في هذه الكلمة إلى سلب الكتاب حرية الكتابة، ولكني أدعوا إلى الإبقاء على حرية الناس في التدين والتخلق بكريم الأخلاق، وإن لكل حرية حدودا لا ينبغي لها أن تعدوها، وإلا كانت حرية المجنون الذي يفعل ما يشاء وشاء له الجنون، أنت حر في دارك ولكنك لا تستطيع أن تتخذ منها أتونا للفحم ولا مأخورا للفجور، ولا تستطيع أن تحرقها وتنسفها بالبارود، وأنت حر في نفسك ولكنك لا تقدر أن تبسط سفرتك فتأكل في المحراب يوم الجمعة والناس في الصلاة، أو أن تحضر في المحاضرة بلباس الحمام أو أن تصرخ في المتشفى وتغني في المآتم”[5].

هذا هو رأيه في الأدب وبناء على هذا قام بالهجوم على الأدب الرمزي بعنف وعد الأدباء الرمزيين ممن لا يمتلكون أدوات البيان والفصاحة ويريدون في الوقت نفسه أن يحشروا أنفسهم في طائفة الأدباء فراحوا يتمايلون على ذلك ويقولون ما يشاؤون مما لا يسيغه عقل ولا تقره قوانين اللغة والبيان، ومن ذلك ما كتبه بعنوان “أنا والإذاعة” فهو يقول فيه مجملا:

“ومن عجز أن يفكر كما يفكر أبناء آدم – عليه السلام – ويتكلم كما يتكلمون، ففكر تفكيرا غير آدمي وتكلم كلاما ليس بإنساني، فهو شاعر رمزي، وإن في الرمزية متسعا لجميع الأغبياء والأدعياء إذا شكا القراء أنهم لا يفهمون هذا الأدب الرمزي فالقراء جاهلون رجعيون جامدون”[6].

ليس معنى ذلك أن الطنطاوي كان مخالفا للجدة والحداثة بل كان يرحب بها ولكن طريقه فيه كان طريقا وسطا فلا يعدو الأصول الثابتة، كان يرحب بالحداثة إذا كانت للتجديد والإحياء، أما إذا اتخذت سبيلا لما يسمى حرية وهو في الحقيقة فوضى، فهذا هو ما يقبله ، فيقول عن الشعر الحر:

“فإن رأيت الجند يمشون صفا واحدا مرتبا منظوما نظم اللآلي في العقد، فخرج واحد منهم على الصف وعلى نظامه فيمشي على غير مشيتهم وبسرعة غير سرعتهم – أليس ما هو يسمونه بشعر التفعيلة، شعر تفعيلاته صحيحة الوزن ولكن لا ارتباط بين أبياته ولا تناسق بينها”[7].

ثم يمضي ويقول إن الشعر الحقيقي هو الذي يثير الشجون ويحرك العواطف مع اتساقة في الآذان ومحافظته على الإيقاع.

ثم يجمل ما يريد قوله، “إن علينا أن نقول الحق ولو على أنفسنا والحق أن معاني الغربي- الفرنسي والإنجليزي – أوسع مدى وأكثر عمقا وأن ميزة شعرنا في النظم في الموسيقى الشعرية، تلك الميزة التي يحاول هؤلاء أن يحرمونا منها، من يقارن أوزاننا وعروضنا بأوزان الشعر الفرنسي يدرك الفرق ما عندنا مثل الفيلم الملون وما عندهم أبيض وأسود”[8].

ثم يمضي الطنطاوي في نقد أدب الحداثة التي تتصف بالفوضى، فيقول في حديثه عن الحداثة بعنوان “عندكم نابغون فتشوا عنهم بين الطلاب”

“جنبوا كتب المطالعة هذا الأدب الذي تسمونه بأدب الحداثة ويوما بالشعر المنثور ويوما بالنثر المشعور كما قال المازني رحمه الله مازحا ساخرا لما سألوه عنه يوما لقصيدة النثر، وكل ذلك من مظاهر العجز عن نظم الشعر البلييغ،

ثم يمثل حال هؤلاء،

إنهم كالثعلب لما لم يصل عنقود العنب قال: أنه حامض، ثم يمضي ويقترح الحل الأمثل لهذه المشكلة ويقول:

“واختاروا لهم مما يقوي ملكاتهم العربية لأن العربية والإسلام لا يكاد أن يفترقان، ثم يمضي ويقول “أنه حاقت بالعربية نكبات واعترضت طريقها عقبات ونزلت عليها من نوازل الدهر المعضلات، ولكن ما مر بها يوم أشد عليها وأنكى أثرا فيها من هذا “الأدب المزور” الذي أطلق عليه أدب الحداثة ويسوق أسباب رفضه لهذا اللون من الكتابة فيقول “إنه ليس انتقالا من مذهب في الشعر إلى مذهب ولا من أسلوب إلى أسلوب ولكنه لون من ألوان الكيد للإسلام بدأ به أعداءه لما عجزوا عن مس القرآن لأن الله الذي أنزله هو الذي تعهد بحفظه فداروا علينا دورة وجاؤنا من ورائنا” ويمثل الطنطاوي فعل هؤلاء بفعل الشيطان،

“يأتي الناس من بين أيديهم وعن أيمانهم ومن وراء ظهورهم، ثم يحمل غرضهم من ذلك فيقول بأنهم عمدوا إلى إضعاف الإسلام بإضعاف العربية”[9].

في الحقيقة أنه ما كان يخالف الحداثة والجدة بأسرها بل كان يخالف كل ما يسبب الضعف في اللغة ويدعوا الناس إلى الانحراف من الأصول والقواعد الثابتة وترك جيد التراث، أما التطور في الأساليب والتجديد فيها فكان يرحب به ولكن مع الالتزام بقواعد العربية فهو يظهر إعجابه بميخائيل نعيمه وأسلوبه الجديد، ولكنه لا يرتضى تجاوزه عن قواعد اللغة، فيقول في هذا الصدد:

“وتمنيت لو أن مثله يجئ صحيحا بنفس عربي، فيكون نادرة الأساليب ومفخرة الأدب”[10].

هذا هو كان رأيه في الأدب أما نظريته في الأدب الإسلامي فيقول في “ذكرياته”،

ولا يزال في الناس من يختلط عليه أمر تعريف الأدب الإسلامي ويدخل فيه كتابات إسلامية ليست أدبا وكتابات أدبية ليست موافقة للإسلام، والذي أفهمه أنا بذهني القليل أن الأدب الإسلامي هو ما كان أدبا مستكملا شرائطه وجامعا عناصره وسواء أكان ذلك قصيدة، أم كان قصة، أم كان مسرحية أم كان رواية، فالشرط فيها أن تكون بالميزان الأدبي راجحة لا مرجوحة وأن يكون الأثر الذي تركه في نفس القاري إذا انتهى منها مرغبا له في الإسلام دافعا له إلى الاقتراب منه، لا أن تكون بحثا فقهيا ولا تاريخيا ولا شرح حديث ولا تفسير آية، فهذا كله ليس أدبا وإن كان شيأ أغلى وأثمن من الأدب”[11].

يتضح لنا من العبارات المذكورة أعلاه أن الأدب ليس محصورا في بعض أصناف الأدب، مثل القصة، المسرحية، الرواية والشعر فقط كما يدعي بعض الأدباء، بل دائرته تحيط بجميع ما يكتبه الأديب ويجعل القاري يتماشى معه في عاطفته ومشاعره، فكل ما يوجد فيه هذه الأوصاف هو الأدب، فالأدب يوجد في التاريخ وفي كتب السير، وفي التراجم وفي الوعظ والنصائح، فالأدب عنده يؤثر الحياة ويتأثر بها.

***

الهوامش والمراجع

[1]  وُلِد الشيخ علي بن مصطفى الطنطاوي في دمشق، سوريا، سنة ١٣٢٧هـ/١٩٠٩م لأسرة ذات علم ودين أصلها من مدينة طنطا في مصر. وكان جدّه الشيخ محمد بن مصطفى عالماً أزهرياً وخبيراً في الفلك والرياضيات. وقد انتقل بعلمه من مصر إلى ديار الشام في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. أما أبوه الشيخ مصطفى فكان أميناً للفتوى، ثم رئيساً لمحكمة النقض في دمشق.

[2]الشيخ علي الطنطاوي، فكر و مباحث، ص 20

[3]الشيخ علي الطنطاوي، ذكريات، المجلد الثاني، ص 290-291

[4]الشيخ على الطنطاوي، فصول في الدعوة والإصلاح، ص 192

[5]الشيخ على الطنطاوي، فصول في الثقافة والأدب، ص 234-235

[6]الشيخ على الطنطاوي، صور و خواطر، ص 166

[7]الشيخ على الطنطاوي، ذكريات المجلد الثالث، ص 315

[8]الشيخ على الطنطاوي، ذكريات المجلد الثالث، ص 315

[9]الشيخ على الطنطاوي، ذكريات المجلد الثامن، ص 335

[10]مجلة الأدب الإسلامي، العدد الرابع الثلاثون، ص83

[11]الشيخ على الطنطاوي، ذكريات المجلد الثامن، ص 115

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of