+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

مقامة حديثة: التفاؤل والتشاؤم
*محمد سليم

     حدّثنا خالد ابن سلام قال مرّة رأيت رجلا يشكو حاله، و قد تبرّم بالحياة فيندب مآله. وقد تقزّز من حياته وتضجّر، وتردّد فى شئونه وتحيّر. وبدأ يحبّ الوحدة والعزلة، ويلوذ بالوحشة ولا يجد فى الأمر حيلة. وقد خاف عليه أهله وصحابه، فكانوا يترقبون مجيئه و ذهابه. ويرونه فى غدواته وروحاته، وفى وقوفه وجلساته. ثمّ رأو أمره قد استفحل خطره، وتفاقم شرّه. فنصح لأهله بعض الصّحاب المخلصين، أن يذهبوا به إلى بعض أهل التقى الصالحين. عسى أن يدلّه أحد منهم على سبيل الخير، أو يدفع عنه هذا الضرر والضّير. فذهبوا به إلى رجل صالح تقى، صاحب علم وكلام وفى، وورع ولى.

     ولما وصلوا إليه رحّب الرجل بهم، وأنزلهم منزلة تليق بهم. ثمّ سألهم عن أمرهم، واستفسرهم عن سبب سفرهم. فبدأ حديثه من القادمين من هو أصغرهم سنّا، فمنعه الرّجل من أن يتكلمّ منعا. وقال يا غلام! وصاحب الكلام! كبّر الكبير، واسكت فأنت فى السنّ صغير، وأعط القوس باريها، وأعط الفرصة لصاحبها. وليتكلّم منكم من هو أكبركم عمرا، وجمع التجارب زمنا ودهرا، وليست تجربته وقتا ضئيلا  و لا شهرا. فقام رجل كبير فى سنّه، واشتعل رأسه شيبا وبدا كاملا فى ذهنه.

     وبدأ الرجل يسرد الحادثة، و يذكر النازلة. فقال يأيها التقى الولىّ! والمؤمن القوى! أتينا إليكم فى أمر أخى هذا الذى هو مريض بالأحزان و الهموم، ونفسه مليئة بالشجون والغموم. وهو رجل ملفوف باليأس والكآبة، والقنوط والسآمة. لا يرى حوله إلا ظلاما، ولا يسمع حديثنا إلا لماما، ولا يكاد ينبس ببنت شفة أو يلفظ كلاما. والدنيا كلها تبدو فى نظره مظلمة وحالكة، وجميع الأشياء عنده فانية فى آن وهالكة. ويظنّ نصيحتنا حديثا تافها باطلا، ويرى كل واحد منّا مضيّعا للوقت وعن العمل عاطلا. ويكون صامتا وساكتا فى أكثر الأحايين، كأن دمه قد تجمّد فى الشرايين. لا يقرّ له قرار ولا يحرّك ساكنا، ولا يرى الدنيا إلا فى لون السواد داكنا. وقد ضرب الاكتئاب النفسى بأطنابه فى ذهنه، وتأصّلت جذور الكآبة فى نفسه. والهموم تنهب فرحه وتفرسه، والغموم تسلب مرحه وتخرسه. والأكدار لا تبتعد عنه ولا تفارقه، و الأقدار لا تُرضيه ولا توافقه. وقد أتيناك لتفضّ عليه بحديث عذب حلو، ممّا قد يُذهب الهمّ والكدر عن باله فينسى حزنه وإيّاه يسلو.

     وقال خالد ابن سلام ولما انتهى الرجل الكبير السنّ من حديثه، رأيت الشيخ الصالح أجلسه بجانبه فأصبح الرجل جليسه. وقال الشيخ يأيها الإخوة الكرام! ليس المرض كما تصفونه بمرض خطير، ولا هو كما يظنّها الناس ضئيل ولا حقير. ولست ممن يسهب فى الكلام وفى ميدان القول يجول، والصّدق أنشد والحقّ أقول. مرض أخيكم هو مرض التشاؤم العامّ، وليس هو كما تتوهمونه بأمر هامّ، إذا توفّرت له وسائل مداواته، وأسباب علاجه وتسهيلاته. وأخوكم هذا كما يبدو قد بلغ به اليأس منتهاه، والقنوط إلى أقصاه. فهو ينظر إلى الدنيا كما ذكرتم بعين يملأها السواد، وهو يتألم من الآلام ما ينخلع لها الفؤاد. ويعانى من الكروب ما تقطع نياط القلوب، و يصيب وجوه الرّجال بذلك الذبول والشحوب، ولقد عانى من المتاعب ما التى يمرّ بها المفجوع المنكوب، ويحتمل مثلها الرجل المكروب. وأخوكم هذا يعيش فى كوابيس الماضى، لايكاد ينفلت من عقال الفائت الذى يعتبره فى قدره الماضى، وهو يتوجّس خيفة من غده الآتى. فيظنّ غده القادم كأمسه الغابر، وهو شارد فى فكره وفى ذهنه سادر، ويتململ فى حياته كأنه ثمل أوساكر. ولماذا يعيش هو فى أمسه الماضى؟ أ هو يريد أن يكون فى قضائه القاضى؟ ولماذا هو يجترّ إخفاقاته فى الماضى؟ أيظنّ أن عمله هذا يجعله مثل الرجل المطمئن والراضى؟ وهل يستطيع أن يردّ النهر إلى مصبّه؟ والطفل إلى بطن أمّه؟ ودمع المرء إلى عينه؟ كلا لا يمكن له أن يفعل ذلك، وما كان أجدر به لو يترك ذلك.

     وقال خالد ابن سلام ثمّ رأيت الشيخ الناصح مضى فى حديثه يبيّن الأمر ويوضّح الخبر، ويتكلم عن القدر ويتحدّث عمن غبر. فقال يأيّها الإخوان! اعتبروا بمن مضى قبلكم من الأمم، هل نفعها يأسها وبرمها بالحياة من القضاء المحتّم؟ وهل أفادها ضجرها بالحياة وترك كل ما فيها من النعم؟ وليكن شأنكم شأن المؤمن الذى إذا أصابته سرّاء شكر، وإذا أصابته ضرّاء صبر. ولتكثروا من ذكر الرحمان الذى هو علاّم الغيوب، واعلموا بأن بذكر الله وحده تطمئنّ القلوب. ولتواظبوا على إقامة الصلوات فإنها تنهى عن الفحشاء والمُنكر، وليمتنع كل منكم عن اقتراف الذنوب وعليه أن يترك الخطايا وإيّاها يستنكر. وليتزوّد كل منكم زادا للآخرة، ولتكن نفوسكم بذكر الخير وأهله فاخرة. وإنّ خير الزاد التّقى، ويسلك سبيلها أولو العقل والنّهى، وليستضئ بضياء الإسلام كل من هو فى الظلمات والدّجى. وأخوكم هذا أحرى بأن تُمسح دموعه، ويُرجى إلى الخير رجوعه. وهو أحوج مايكون إلى صحبة الأخيار، والبعد عن اصطحاب الأشرار. فما عليكم إلا أن تتواصوا بالحقّ والبرّ، وتتواصوا بالصبر والذكر.

     وصاحبكم هذا الذى أعياه التعب والكلال، وأجهده اليأس والملال. ماأجدر به أن يكون عند حسن الظنّ بربّه، فهو الذى يقدّر قضاءه ويأتى بالتدبير فى أمره. وليتفاءل بالحياة، تفاؤل الوشيك بالغرق بالنجاة. أو تفاؤل المريض بعودة الصحة، بعد ما ابتلى بالمحنة والمشقّة. أو تفاؤل الطيور الجائعات، وهى تبحث عن رزق الله فى الكائنات. أو تفاءل أصحاب الأراضى المجدبة، بالرياح التى تقلّ السحاب الثقال الممطرة. أو تفاؤل الصيّاد فى البحر المتلاطم أمواجه، يبتغى من فضل الله وعند اشتداد هبوب الريح يرجع أدراجه. أو تفاؤل الفلاح والأكّار،ينتظر من السماء ماء مدرارا. أوتفاؤل الأمهات الثكال، يصبرن على قضاء الله فينجيهن الرحمان من الشرّ والوبال. أوتفاؤل عظام الرجال، عند اشتداد الفواجع والأهوال. أو تفاؤل الصالح التقى، برحمة الرحمان الذى هو وحده العلى الغنىّ. وليرسخ فى أذهانكم أن كل حزن فى الدنيا إلى زوال، وكل همّ لا يبقى فى حال. فهناك نور وراء كل نفق مظلم، فليتفاءل المرء بالحياة ويكن فى مثل حال المكرّم. فإنّ مع العسر يسرا، وإنّ مع العسر يسرا.ثمّ أنشد قائلا:

كلّ شئ فى الدنيا إلى زوال

فهل يبقى لنا فى مصير الهم سؤال؟

وهل التشاؤم إلا من العوارض

فهو مع الأيام إلى الفناء سينحال

ولا خير فى إيلام الضمير تجهما

ولا خير فى حياة نحياها فى نضال

     وقال خالد ابن سلام لما فرغ الشيخ من كلامه، وقد ألقى علينا بسلامه. رأيت نهوض الرجل المتشائم، فبدأ بحمد الله على الكون وهو قائم. ثمّ رأيته قد تغيّرت سحنته، و تبدّلت إلى الدنيا رؤيته. وبدأ يستحسن الكلام، ويستطيب المقام. ويجد فى الدنيا خيرا ونعمة، ويحسّ فى العيش لذّة. ويرى حوله الكون مضيئا لامعا، ونورَ ربّه واضحا ساطعا. وبدأ يرفق بالإنسان، ويرحم على الحيوان، ويقدّر قدر ما أودعه الله من قدرة للبشر فى الأذهان، ومن قوة وبسطة فى الأجسام والأبدان. ورأيت الرجل يكسو وجهه السرور والبشر، والبهجة والنضر، وبدأ يستقبل الحياة من جديد ولا يعير إلتفاتا إلى ما مضى وغبر. وقد كانت حياة الماضية الكئيبة لونا من الحياة قد مضت آثاره، وكانت هى جذوة متّقدة للشؤم قد خمد أواره، وانطمست بقاياه، واندرست ظواهره وخفاياه. وبدا الرجل مطمئنا مسرورا، وعاهد على أنه لن يكون أبدا مختالا فخورا، فإن الله لا يحبّ كل فخورمختال، ويمقت الخادع المغتال.

     وقال خالد ابن سلام لما انتهى الرجل من حديثه ووعده، وقد أخذ ما أخذ على نفسه من ميثاقه وعهده. بدأنا ندعو الله الرب الغفور الذى هو وحده الشافى، وهو وحده الباقى. وكل شئ فى الدنيا هالك إلا وجه ربّنا ذى الجلال والإكرام، وهو وحده يستحق العبادة فقد أعطانا الخير ونعمة الإسلام.

*الباحث بمركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهرلال نهرو، نيو دلهي، الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of