+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

قراءة في التقنيات الزمنية الواردة في روايات الروائي السوري حنا مينه
بقلم: نصرت منظور[1]

 

مقدمة:

 تعد تقنية الزمن في الرواية من أهم التقنيات السردية الذي لا يمكن أن يتم سرد الأحداث في الرواية بدونه، وتعطيه بعدا جماليا ومعنويا يعمق التجربة السردية ويثري الرؤية الفكرية للكاتب، حنا مينه أحد أبرز أعمدة العربية الحديثة، ولا تقتصر رواياته على تصوير الواقع الاجتماعي والسياسي في سوريا فحسب، بل تتجلى فيها أيضا تقنيات سردية متقدمة، أبرزها التقنيات الزمنية التي تستخدم لإعادة بناء الأحداث بأسلوب فني وجمالي. ويهدف هذا المقال إلى تحليل هذه التقنيات وبيان كيفية توظيفها في رواياته مع التركيز على أساليب الاسترجاع، والاستباق واقسامها، وتسريع سرد.

حياة حنا مينه:

                ولد حنا مينه في مدينة اللاذقية سنة 1924، من عائلة فقيرة جدا، وكان ولدا وحيدا لعائلته وهو أخ لثلاث بنات، والدته مريانا ميخائيل زكور، هاجرت أسرته بعد ولادته الى لواء إسكندرونة، وتقلب حنا مينه في مهن متعددة، وعمل مستخدما في بقالية، ومساعداً لصيدلي، وعاملا في المرفأ. وحين عادت الاسرة الى اللاذقية بعد ان اغتصب الاتراك لواء إسكندرونة 1939 عام، وافتتح حنا مينه دكانا للحلاقة، وكان زبائنه من الفقراء والملاح الذين كانوا يروون على مسامعه قصصهم الأسطورية، حرصت والدته على تعليمة، [2] سجلته أمه في مدرسة أرثوذكسية. وكانت المدرسة بناء من أربع غرف، وكان هذه طرف من باحة الكنيسة وتعلم فيها مبادئ القراءة والكتابة وأكمل منها تعليمه الابتدائي، ثم انتقل من المدرسة الأرثوذكسية إلى مدرسة دينية أخرى.[3]  قدمتها له المدرسة الخدمة الوحيدة انها فتحت أبواب روحه على الأدب. بدأ حنا مينه مسيرته الأدبية بكتابة مسرحية بعنوان “دونكيشوت”، غير أنها ضاعت من مكتبته، فشعر بالإحباط وتردد بعدها في الكتابة للمسرح مجددًا. ثم شرع في كتابة القصة القصيرة، وكانت أولى محاولاته المنشورة قصة “طفلة للبيع” التي أرسلها إلى الصحف الدمشقية. وفي عام 1946، انتقل إلى بيروت بحثًا عن فرصة عمل، ومنها عاد إلى دمشق عام 1947، حيث استقر وعمل في جريدة الإنشاء، وترقّى في مناصبها حتى أصبح رئيس تحريرها، قبل أن ينضم إلى وزارة الثقافة، لم تقتصر نشاطاته الأدبية على الصحافة، بل كتب أيضًا المسلسلات الإذاعية، وساهم بشكل فعال في المشهد الثقافي السوري. وقد تنقّل بين عدة دول، فسافر إلى أوروبا ثم إلى الصين، غير أن حنينه لوطنه أعاده في النهاية إلى سوريا. وفي عام 1951، شارك مع مجموعة من الكتّاب اليساريين في تأسيس رابطة الكتّاب السوريين التي أصبحت فيما بعد جزءًا من اتحاد الكتّاب العرب. كما نظّمت الرابطة عام 1954 أول مؤتمر للكتّاب العرب، بمشاركة نخبة من الأدباء الوطنيين والديمقراطيين من سوريا والبلاد العربية [4].

ومن أشهر أعماله “المصابيح الزرق” و ” الثلج يأتي من النافذة “، ” الشراع والعاصفة” و ” الربيع والخريف”، و “بقايا صور”، حمامة الزرقاء في السحب”، وغيرها كثير، فقد تجاوزت من الأربعين رواية والقصة. وتوفي الكاتب والروائي الشهير حنا مينه في سوريا يوم21 أغسطس عام 2018م عن عمر يناهز 94 عاما.

الزمن في الرواية:

يُعد الزمن في الرواية أهمية فنية بارزة، إذ يُمثّل عنصراً أساسياً في تشكيل البنية الروائية وتجسيد رؤيتها. فهو لا يعمل بمعزل عن بقية العناصر، بل يؤثر فيها ويتأثر بها. والزمن في حقيقته مفهومٌ مجردٌ وسائِل، لا يتجلى إلا من خلال أثره الواضح في باقي مكوّنات السرد.[5] زمن في الرواية أهمية عظيمة كونه يمثل الوجود والنسيج الداخلي الذي يسيرُ الرواية وأحداثها، فقد ساهم بشكل كبير وملاحظ في عملية الكسر والترتيب للزمن وللأحداث. وهذه العودة للماضي والقفز إلى المستقبل يتم عبر تقنيتين يندرجان تحت اسم المفارقة وهما: تقنية الاسترجاع التي تعنى بالعودة للماضي وتذكر حوادثه، أو الاستباق وهو الذي يختص بزمن المستقبل.

يمثّل الزمن في الرواية العمود الفقري الذي يشدّ أوصالها ويوحّد بنيتها، فهو كما يشكّل محور الحياة ونسيجها، يشكّل أيضًا جوهر الرواية التي تُعدّ فنّ الحياة بامتياز. فالأدب، شأنه شأن الموسيقي، هو فنّ زماني، لأن الزمن هو وسيط التعبير فيه، كما هو وسيط في الحياة نفسها. وليس من قبيل المصادفة أن تُفتَتَح معظم الحكايات بعبارة: “كان يا ما كان، في قديم الزمان”، إذ تعبّر هذه العبارة عن الموضوع الأدبي الأصيل لكل قصة يسردها الإنسان منذ الحكايات الأولى التي كانت تُروى على لسان الجدّ والجدة. يُعد الزمن من أبرز القضايا والهواجس التي شغلت الفكر الأدبي والنقدي في القرن العشرين، حيث أولى الكتّاب والنقّاد اهتماماً بالغاً بمفهوم الزمن الروائي، وقيمته، ومستوياته، وتجلياته المتنوعة. وقد بلغ هذا الاهتمام حداً جعل أحد النقّاد يصف الزمن بأنه “الشخصية الرئيسية في الرواية المعاصرة”. [6] إن الزمان في الرواية يقوم على المفارقات الزمنية المتمثلة في حركتين أساسيتين هما الاسترجاع والاستباق:

الاسترجاع:                      

هو عملية من العمليات السردية التي استخدمها ” حنا مينه ” يترك الراوي مستوي القص الأول ليعود إلى بعض الأحداث الماضية ويرويها في لحظة لاحقة لحدوثها. والماضي يتميز أيضاً بمستويات مختلفة متفاوتة من ماضٍ بعيد وقريب  [7]ويرى حسن بحراوي “أن كل عودة إلى الماضي تُعدّ في السياق السردي نوعاً من الاستذكار، يقوم به السرد لاسترجاع ماضيه الخاص، وتُحيلنا هذه العودة إلى أحداث سابقة على النقطة التي بلغتها القصة “[8] أي الاسترجاع هو استذكار لحدثٍ من أحداث الماضي ويكون هذا الاستذكار قريب المدى أو بعيد، وهذا القرب والبعد هو استرجاع خارجي والبعيد، واسترجاع داخلي وهو القريب.

الاسترجاع الخارجي (External Analepsis):

هو تذكر السارد لأحداث ماضيه وقعت قبل زمن سرد القصّة الأولى أي يخرج عن نطاق خارجه” فلا توشك في

أي لحظة أن تتداخل مع الحكاية الأولى. ويرى جيرار جنيت بأنه: “ذلك الاسترجاع الذي تظل سعته كلها خارج سعة الحكاية الأولى”. [9]أي هو استرجاع لا يتداخل مع نقطة السرد الأصلية.

وهو صيغة مضادة للاسترجاع الداخلي الذي يظل منحصرا داخل المحكي الأول، ويكثر استخدام هذا النمط من الاسترجاع في الروايات التي تعالج فترة زمنية محدودة، إذ لا بد من إضاءة هذه الفترة من خلال عقد التواصل مع فعاليات حديثة خارج الإطار العام لزمن القصة،[10]بينما يقل في الرواية الواقعية ذات التسلسل الزمني الممتد لفترة زمنية طويلة بأحداثها المتتالية من الماضي ثم الحاضر والمستقبل، “إذ كلما ضاق الزمن الروائي ، ازداد حضور الاسترجاع الخارجي واتسع مجاله “،[11] كما أن هذا النمط من الاسترجاع يمنح الكثير من الشخصيات الحكاية الماضية فرصة الحضور والاستمرارية في زمن الحاضر باعتبارها.

وظف الروائي الاسترجاع الخارجي ليكشف لنا عن أحداث ماضية تفسر لحظة الحاضر من حياة البطل (الطروسي)، وليكشف جانبا من ملامح شخصيته قبل أن يتحطم مركبه (المنصورة) جراء العاصفة، هذا الحدث الذي قلب موازين حياته وجعله يعيش في نكد وسخط من القدر: ” كان في الخامسة والأربعين من عمره حين حدث ذلك وهو يذكر التاريخ ولا ينساه، إنه تاريخ غرق منصورته التي ترقد الآن بسلام في قاع البحر، كان كلّ همه أن يحطّم أرقام الساعات، وأن يصل قبل الجميع ،وكانت المغامرة، بعد شيئا من دمه …… لقد جاهد في أول عمره جهاداً شاقاً ….. اشتري فلوكة واشترى شختورة، واستقر أخيرا في المنصورة ….. على أن المنصورة غرقت عام 1936، هبت في تلك السنة عاصفة رهيبة على المتوسط، وكان هو بين اللاذقية ومرسين، فنجا مع بحارته في قارب صغير، وتحطمت المنصورة وابتلعها البحر.. ضاعت الى الابد”.[12]لم يكن الدافع من توظيف هذا الاسترجاع إضاءة ماضي البطل وحسب، بقدر ما كان الغرض منه تقديم تفسير عن السخط الذي يملأ حاضره بسبب افتقاده للمغامرات والتحديات التي تعد جزء من حياة البحر، ولقد شغل هذا الاسترجاع مساحة نصية طويلة تقدر بتسع صفحات تناولت أحداثا وقعت منذ عشر سنوات مضت تسبق المحكي الأول.

وتعتبر رواية ” المصابيح الزرق” من الروايات التي مزجت الحاضر بالماضي عبر الاسترجاع وخاصة الخارجية ومن أمثلة ما ورد في الرواية من الاسترجاع الخارجي نذكر ما دار في الحوار بين ” الصفتلى ” و ” فارس” حيث يقول الصفتلي في ذاك: ” كان لي في زمن الشباب صديق اسمه ” عبد الله” كان شاباً قوياً جريئاً كثير المرح، دائم الحركة، لكنه قليل الحظ …… كنا نذهب الى البحر معا، فأصطاد أنا ويصطاد الآخرون ، و يأتي المساء و صنارة صاحبنا فارغة ، و إذ ذلك يتملكنا الإشفاق فنعرض عليه سمكة و سمكتين فيبتسم و يرفضُ .[13] وقد ساهم هذا الاسترجاع على تعريفنا بشخصية جديدة” عبد الله” وصفاته من خلال وصف ” الصفتلى”، كما أنه عمل على اضاءة الجانب الحكيم والرزين من صفات الصفتلى الذي يرى بأن الصبر هو من أهم صفات الصياد الناجح، فالكاتب و من خلال هذا الاسترجاع الخارجي و هما أنه عرفنا بالصفتلي أكثر و بنباهته و حكمته ، و كذلك عرفنا على عبد الله القوي و الجريء، كما حمل في داخله مغزى حقيقي القارئ و هو ان الصبر أخره طريقه مليء  المفاجآت.

استرجاع لقصة تمت في زمن ما متباين عند الزمن الحاضر، [14]في رواية ” بقايا صور” تميل إلى الاحتفال بالماضي استدعائه بنائيا عن طريق الاستذكاران التي أتت لتلبية بواعث جمالية وفنية خالصة في النص الروائي.[15]

ومن بين التذكارات نجد أسباب كراهية الأم لابنة عمها الأرملة التي هرب معها الزوج تاركا أسرته: ” تلك المرأة تظل ذكرى سيئة عند الأم، كانت قريبتها، ابنة عمها. أرملة تواطأت مع الأب وأخذته. هو يزعم أنها أخفت ثيابه في المركب، واضطرته إلى متابعة السفر معها حتى الإسكندرية والأم تشك … كان سلوك الزوج يدعو إلى الشكّ، وابنة العم أرملة، ومهما يكن فقد ذهب، عاد مخفقا، منكسرا، ففرحت بعودته، وغفرت فعلته”.[16] إذ تظل صورة الأب المستهتر، الذي يتخلى كثيرا عن مسؤولياته اتجاه أسرته، ساعيا وراء شهواته، راسخة في ذاكرة الطفل تلاحقه بين حين وآخر، حتى تعد جزءا من بقايا صور القابضة في ذاكرته.

الاسترجاع الداخلي:

هو عكس الاسترجاع الخارجي فهو ينتمي إلى زمن السرد الأول وتابع له وتعرفه ” سيزا قاسم ” بأنه: العودة إلى ماضي لاحق لبداية الرواية تأخر تقديمه في النص، [17]فهو ينتمي إلى الرواية أي هو المدى القريب للاسترجاع. ويمثله الكاتب ” حنا مينه” في روايته في العديد من المواضع، ومنها ما مثله ” فارس” وهو على فراشه: “على الرغم من استيقاظه ظل مستلقيا يفكر ويحلم، كان ذهنه يعمل بكثير من الصفاء ويستعرض بلمحات خاطفة  كل ما مر معه منذ أن غادر البيت في ذلك الصباح الذي انتهى به الى السجن، فكر في تلك الحياة التي عاشها، وتذكر السجناء وقسوة الحياة وراء القضبان وفي الزنزانات وقال: ليس لعبا أن يظل المرء اثنتي عشرة ساعة متوالية ضمن أربعة جدران”.[18] يسترجع فارس شريط ذكرياته عبر استرجاع قريب المدى داخل الرواية وضمن احداثها، فأيام السجن التي قضاها فارس هي من أمر الأيام التي مرت على قلب فارس وعمره، فقد كبر بسنوات في ساعات قليلة.

 يتجسد هذا النوع من الاسترجاع في الرواية ” الشراع والعاصفة “أيضا لما حدث للبحارة وهم في مواجهة العاصفة آملين النجاة: ” عشر ساعات مضت، إنها ليست ساعات زمنية، وليس الوقت الذي مر وقتا عاديا. لقد أحس به طويلا كدهر قصيرا كأنه تجمع …….. لقد انتفي الادراك المكاني والزماني، امتصتهما غيبوبة اليقظة لحواس متعبة معطلة عن تمييز الأشياء، نظر إليهم الرحموني وفكر، كانوا في حالة ذعر واعياء، والشختورة توشك ان تغرق، والعاصفة تزداد، والبحر يهتاج، فترددوا، ثم ذهبوا بعد لأي …نزلوا في الفلوكة، وأخذوا يحذفون ويغنون، وكان ريسهم يسمع من على ظهر الشختورة غناء البائس …. وابتلعهم الليل، وبقي وحيداً في البحر”.[19]

الاستباق:

ترد الاستباقات في الرواية على شكل إشارات سريعة يقدم من خلالها الروائي تنبؤات و توقعات عما سيجري في المستقبل من أحداث ، و هي إما استباق خارجية تمهد لحدث سيأتي لاحقا أو استباق داخلية تعلن صراحة عن “سلسلة  من الأحداث التي سيشهدها السرد في وقت لاحق”.[20]فالاستباق في الغالب يأتي ملتحما بالقص بأحلام الشخصية وعواطفها ونواياها المتعلقة بالزمن القادم، إن الحكاية لا تلجأ إلى الاستشراف (الاستباق) بقدر ما تعتمد على الاسترجاع، ويمكن تفسير ذلك بأن الماضي أكثر وضوحاً من الحاضر والمستقبل، فالماضي والحاضر مرتبطان بوقائع حدثت بالفعل أو تجري حالياً، أما المستقبل فلا يوجد ما يضمن أن يأتي كما نريده أو نتوقعه.[21] ويقسم جيرار جنيت الاستباق حسب وظائفه في الرواية إلى نوعين:

الاستباق الداخلي:

وهي الاستباق الداخلي نوع المشاكل نفسها الذي يطرحه الاسترجاع الذي من النمط نفسه، ألا وهو مشكل التداخل مع العلم أنه تتميز عنها في كونها تؤدي دور الإعلان في مقابل دور التذكير الذي تلعبه الآخر، وتحدد بشكل مسبق مصير البطل، مما يؤدي غالبا لخلق نوع من التشويق يتخذ طابع ترقب أو انتظار في ذهن القارئ قد يطول أو يقصر تبعا لحجم المسافة الفاصلة بين زمن الإعلان عنه وزمن حله.[22] بعد مغادرة نديم مظهر أكد الطروسي موقفه من النزاع، و صرح بأن أيامه مرهونة بساعة الإبحار: ” لن أسير في هذا الطريق، و لن أكون طرفا في نزاع أنا هنا بانتظار ساعة الإبحار إنني بجوار البحر، و من اجله فقط يمكن ان اقاتل ، أما إذا تركت و شأني فلن أكون مع هذا ضد ، أنا الطروسي و لست صالح برو”[23] نلاحظ جاعت الاستباق على لسان البطل إما على شكل حوار أو مونولوج ،  ليتضح أن البطل لا يهتم بالحاضر و ما يجري من حوله فأمنيته العودة إلى البحر في المستقبل كما في الماضي.

وفي رواية “بقايا صور” نجد أن الاستباق يتجلى من خلال قول الطفل ” وما كنا نحن الصغار، نعرف ما معنى طول الزمن، صدقنا أن أختنا ستعود غدا، ولكن غداً كان بعيداً، مثل عودة والدنا ورؤيته أهلنا ورحيلنا عن البلدة الملعونة والحقل المقفر”.[24] نجد هذه العبارة قد لخصت وعبرت عما يخالج قلب الطفل من أحلام وأمنيات كعودة الوالد الغائب وتخلصهم من الفقر والمعاناة.

نلاحظ مثال الاستباق في قول الحلبي: “فاحتد الحلبي: إذا كان الأمر كذلك فأليك الجواب: اللحم لن يباع غدا أنا لن أفتح ولن أفتح السوق كله، اضراب، كل الناس سيضربون وسنرتدي البيجامات تحت الثياب”.[25]أعلن الحلبي وعبر كلامه في الحوار الآتي كما سيحدث من أحداثٍ مستقبلية بسبب الأوضاع المزرية التي يمر بها الشعب بسبب الجوع والجشع الذي ساد السوق، فالمظاهرات انطلقت فعلا في كل مكان من اللاذقية مكان وقوع الأحداث وثار الشعب الجريح مطالبًا في حقه بالعيش والأكل الذي حرموا منه.

الاستباق الخارجي:

وقد أشار جيرار جنيت إلى أن وظيفة الاستباق غالباً ما تكون وظيفة ختامية، إذ تستخدم لدفع خط سردي ما نحو نهايته المنطقية، [26]وهو الاستباق مستقبلية خارج الحد الزمني للمحكي الأول على مقربة من زمن السرد أو الكتابة دون أن يلتقيا طبعا، وهو أقل استعمالا بالمقارنة للنصف الثاني. ومما ورد من الاستباق الخارجية في الرواية نذكر الاستباق الذي مهد فيه البطل لما سيواجه في المستقبل على لسان الروائي: ” وتوقع منذ الآن يكون في عداء، دائم ما بقي في المقهى، لكنه كان ذا طبع عنيد، لا يتراجع عند التحدي وما داموا قد تحدوه فسيثبت حتى النهاية “.[27] فالروائي هنا قدم ملخص في سعة لأحداث سيتناولها السرد فيما بعد بالتفصيل متعلقة بمعركة مع صالح برو، وما ستجره من عداوة ومضايقات من قبل أبو رشيد.

حوار آخر بين نجوم وفارس تجسد فيه الاستباق الخارجي في الرواية المصابيح الزرق:” نجوم مكملا حديثه: بعد أيام سأتطوع، وأطلب الالتحاق بالجيوش المحاربة في ليبيا، هناك الطعام موفور ة المعاش مضاعف والكساء والموت. بعد سهل، مرة واحدة”.[28]جاء هذا الاستباق ليسد ثغرة في الحكي ويمهد لنا لحدث كبير يتمثل في انضمام فارس للجيش الفرنسي بعد أقنعته النجوم وبررت له ذلك.

تسريع السرد:

تسريع السرد في أبسط معانيه هو ضمور في زمن القصة مقابل الزمن السردي الآخر المحدث، بحيث يختصر الزمن الحقيقي في عبارة أو جملة أو إشارة توحي بأن زمنا ما قد أنجز وتم تجاوزه لسبب أو لآخر”.[29]يضطر الروائي إلى تخطي بعض الفترات الزمنية التي تتناول أحداثا غير مهمة معتمدا في ذلك على تقنيتين هما الحذف والخلاصة بغرض تسريع السرد.

الحذف:

هي تقنية زمنية تُستخدم لتسريع حركة السرد، تقوم على تجاوز فترة زمنية طويلة أو قصيرة من زمن القصة، دون التطرق إلى ما جرى فيها من وقائع وأحداث. ويتم ذلك عندما يُخبرنا الراوي بأن سنوات أو أشهرًا قد مرّت، من غير أن يسرد ما وقع خلالها من أمور. فالحذف هنا يعني ذكر المدّة الزمنية بشكل ضمني، دون الإشارة إلى الأحداث التي جرت خلالها. وينقسم الحذف بدوره إلى نوعين: حذف محدد، وحذف غير محدد.

حذف محدّد:

هو ذلك الذي تتحدّد فيه المدّة المحذوفة من زمن السرد، ومما ورد منه في الرواية:” بعد أسبوع واحد كان الطروسي يحمل ضماداته على الكتف والفخذ “.[30] الروائي في المقطع أسقط أسبوع من زمن الأحداث باعتبار أحداثا غير مهمة، وقد تخطاها الروائي من أجل إبراز الحدث الأهم وإسقاط الطروسي حقه من صالح برؤ.

ومثاله من رواية المصابيح الزرق الآتي: ” وبعد أسبوع شاع في الحي بأكمله أن فارس بن ابى فارس الذي ضرب حسن حلاوة الفران هرب وتطوع، وقد تلقت أمه النبأ بالبكاء، ووضعت ثيابه وصورته أمامها وجعلت تندب “.[31]جاء الحذف الحدد في هذا المقطع في قول الراوي (بعد أسبوع) لكنه لم يحدد لنا ما الذي حدث في هذا الأسبوع في حين أنه صرح بالمدة التي مرت، فقد حذف الكاتب الأحداث وأسقطها من هذه المدة لينتقل إلى أحداث أهم وهي حالة أمه وعائلته بعد هذا الحدث.

الحذف غير محدد:

تعرفه ” آمنه يوسف” بأنه: “الحذف الذي لا يعلن فيه الراوي صراحةً عن حجم الفقرة الزمنية المحذوفة، بل إننا نفهمه ضمناً ونستنتجه استنتاجا يقوم على الدقة والتركيز والربط بين المواقف السابقة واللاحقة”.[32] ومثاله ما جاء على لسان زوجة الصفتلى وهي تعاتب زوجها بعنف حول حالتها التي وصلت للأسوأ بسبب المنزل الذي دفنها فيه على قيد الحياة حيث تقول: “أنا لا أكفر ولكني أموت …. سمعت؟ أنا أموت، أصبحت نصف مشلولة في هذه المغارة … زيرك أخرجوه بعد سبعة أيام، وأنا هنا منذ سنوات … فمتي تخرجني”.[33]هناك حذف محدد حددت فيه المدة وهذا ظاهر في قول زوجة الصفتلي أنا هنا منذ سنوات فهي لم تحدد المدة بالضبط بل تركت التوقع مفتوحا أمام القارئ قد تكون ثلاث أربعة خمس سنوات أو عشر.

والذي لا يتم الإشارة إلى الفترة الزمنية المحذوفة بدقة، ومن نماذج هذا النوع من الحذف نذكر:” انقضى وقت قصير، وأوشك الظهر أن يحين “.[34] كما يبرز هذا النوع من حذف غير المحدد في المثال التالي: ” عاد إليه الدوار فأحس بقواه تخور كان الليل قد انتصف، وساعات طويلة قد مضت منذ عصفت الريح وتغير اتجاهها”.[35] لم يصرح الروائي هنا عن عدد الساعات التي قضاها الرحموني وهو يجابه العاصفة، واكتفي بقوله أن” ساعات قد مضت” مستغنيا عن ذكر تفاصيل الحادثة ليعود بعد ذلك لسرد الأحداث التي توقف العاصفة.

الخلاصة (Summary):

هي تقنية زمنية تختص بتسريع السرد ومعناها: أن يسرد الكتب الروائي أحداث ووقائع يُفترض أنها جرت في سنوات أشهر أو ساعات واختزالها في صفحات أو أسطر أو كلمات قليلة دون التعرض للتفاصيل.[36] وهو النمط الثاني من أنماط تسريع السرد، حيث هذه التقنية للسارد أن يختصر مسافات زمنية شاسعة في بضعة أسطر تُلخّص مضمون تلك السنوات، ومن خلالها يتحقق ما يُعرف بالملخص. لخص لنا الروائي مرحلة من حياة الطروسي دون أن يسهب في نقل ما جرى فيها، وعمد إلى إبراز الذي جعل من الطروسي وحيدا، فبالرغم من وفاة والديه وهجرة أقاربه للتجارة، إلا أنه صمم على البقاء في مدينته اللاذقية ليمارس مهنة الإبحار. ونجد الخلاصة أيضا في قول الروائي: ” كانت الانتخابات النيابية قد جرت منذ عامين، وتسلمت الكتلة الحكم، وقام في البلاد أول برلمان بعد الاستقلال وأول رئيس للجمهورية، وأصبح في يد الحكومة الوطنية الدرك والشرطة، وظل الجيش وبعض المؤسسات في يد السلطات الفرنسية…… وان كانت ظاهريا في يد الحكومة الوطنية، وخاصة من الناحية الإدارية، وظل جلا القوات الفرنسية والإنجليزية وهنا بانتهاء الحرب”.[37] يلخص الروائي عبر هذا المقطع أحداثا جرت منذ عامين تتضمن ما شهدته البلاد من تغيرات سياسية في تلك الفترة قدمها لنا الروائي في أسطر قليلة.

ومن الأمثلة التي جاءت فيها تقنية الخلاصة، نذكر ما جاء على لسان الراوي وهو يسرد الأحداث التي حدثت لفارس وهو موقوف في السجن: “نُقل فارس والمعتقلون الجدد من اللاذقية إلى حلب، وعرف فارس خلال الأيام الأولى للتوقيف تجارب كثيرة مريرة لم يكن يتوقعها أبداً”.[38]نلاحظ من خلال المقطع الثاني أن الروائي لخص العديد من الأحداث التي مرت على فارس في الأيام الأولى في السجن ولم يتعرض لها بالتفصيل والسرد، بل أشار إليها ولخصها بقوله (تجارب مريرة كثيرة). ساهمت هذه الاسترجاعات في بناء دلالة النص وإزاحة الغموض عن أحداث اللحظة الحاضرة.

نتائج:

يمكن من خلال هذه الدراسة الاطلاع أن الزمن يمثل عنصرا لازما ومركزيا في بنية روايات حنا مينه، حيث يستخدم تقنيات الزمنية مثل الاسترجاع والاستباق وتسريع السرد والخلاصة لإثراء النص الروائي وإضافة العمق النفسي والاجتماعي للشخصيات والأحداث. إن استثمار مينه للزمن ليس مجرد ترتيب للأحداث بل وسيلة فنية لربط الماضي بالحاضر والمستقبل، وكشف الدوافع الخفية والتحولات الداخلية للأبطال، مما يجعل الزمن بمثابة العمود الفقري للرواية، وكيفية توظيف هذه التقنيات عند   كتابة الإبداعات الأدبية.

المصادر والمراجع:

  1. حنا مينه: المصابيح الزرق، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2002م.
  2. حنا مينه: بقايا صور، دار الآداب بيروت، الطبعة الأولى، 1975.
  3. حنا مينه: الشراع والعاصفة، دار الآداب بيروت، الطبعة الرابعة 1982م.
  4. حنا مينه: المستنقع، دار الآداب بيروت، الطبعة السابعة 2003.
  5. محمد دكروب: حنا مينه حوارات وأحاديث في الحياة والكتابة الرواية، دار الفكر الجديد، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1992.
  6. سيف الدين القنطار: الأدب العربي السوري بعد الإستقلال، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1997.
  7. حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي (الفضاء- الزمن – الشخصية)، الناشر المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الألى 1990.
  8. سيزا قاسم: بناء الرواية (دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978.
  9. القصراوي، د. مها حسن: الزمن في الرواية العربية، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر المركز الرئيسي بيروت، ط 1/ 2004.
  10. جيرار جنيت: خطاب الحكاية (بحث في المنهج)، الهيئة العامة للمطابع الأميرية، الطبعة الثانية 1997.
  11. نضال الشمالي، الرواية والتاريخ، عالم الكتب الحديث إربد الأردن، الطبعة الأولى،2006.
  12. ميساء سليمان الإبراهيم: البنية السردية في كتاب الإمتاع والمؤانسة، وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2011م.
  13. مهدي عبيدي، جماليات المكان في ثلاثية حنا مينه (حكاية البحار، الدقل، المرفأ البعيد)، وزارة الثقافة دمشق،2011م.
  14. أحمد النعيمي حمد: إيقاع الزمن في الرواية العربية المعاصرة، الطبعة الأولى، 2004.
  15. عبد العالي بوطيب: إشكالية الزمن في النص السردي، مجلة فصول (دراسة الرواية)،1993.
  16. آمنه يوسف، تقنيات السرد في النظرية والتطبيق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، الطبعة الثانية 2015.
  17. حميد، لحمداني، بنية النص السردي (من منظور النقد الأدبي)، الناشر المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى1991.
  18. سعيد يقطين: تحليل الحطاب الروائي (الزمن – السرد – التبئير)، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثلاثة 1997.
  19. د. زيتوني، لطيف: معجم مصطلحات نقد الرواية، طبع لبنان، الطبعة الأولى 2002.
  20. صلاح فضل: أساليب السرد في الرواية العربية، الناشر المدى دمشق (سوريا)، الطبعة الأولى2003.

 

[1]. باحثة في قسم اللغة العربية، جامعة على كره الإسلامية، يوبي، الهند

[2] . القنطار، سيف الدين، الأدب العربي السوري بعد الاستقلال، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1997، ص 278.

1حنا مينه: المستنقع، دار الآداب، بيروت، الطبعة السابعة 2003م، ص 31.

[4] محمد دكروب: حنا مينه حوارات وأحاديث في الحياة والكتابة الرواية، دار الفكر الجديد، بيروت لبنان، الطبعة الأولى1992، ص 350.

[5] د، سيزا قاسم: بناء الرواية (دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1978، ص 38.

[6] الدكتورة القصراوي مها حسن: الزمن في الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، الطبعة الأولى، 2004، ص 36.

[7] سيزا قاسم: بناء الرواية (دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ)، ص58.

[8] حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي (الفضاء – الزمن – الشخصية)، الطبعة الأولى 1990، الناشر المركز الثقافي العربي، بيروت، ص 121.

[9] جيرار جنيت: خطاب الحكاية (بحث في المنهج)، الطبعة الثانية 1997، ص 61_60.

[10] نضال الشمالي: الرواية والتاريخ، ص 164.

[11] سيزا قاسم: بناء الرواية (دراسة مقارنة في ثلاثة نجيب محفوظ)، ص 59.

[12] حنا مينه: الشراع والعاصفة، دار الآداب، بيروت، الطبعة الرابعة، 1982، ص 46،51.

[13] حنا مينه: المصابيح الزرق، ص 59.

[14] ميساء سليمان الإبراهيم: البنية السردية في كتاب الإمتاع والمؤانسة، وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2011م، ص 227،228.

[15] مهدي عبيدي: المرجع السابق، ص 82.

[16] حنا مينه: بقايا صور، دار الآداب بيروت، الطبعة الأولى، ص 82.

[17] سيزا قاسم: بناء الرواية (دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ)، ص 58.

[18] حنا مينه: المصابيح الزرق، ص 180.

[19] حنا مينه: الشراع والعاصفة، ص 222، 226.

[20] حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، ص 137.

[21] أحمد النعيمي حمد: إيقاع الزمن في الرواية العربية المعاصرة، الطبعة الأولى، 2004، ص 39.

[22] عبد العالي بوطيب: إشكالية الزمن في السردي، ص 135.

[23] الشراع والعاصفة، ص، 45.

[24] حنا مينه: بقايا صور، ص 144.

[25] حنا مينه: المصابيح الزرق، ص 44.

[26] خطاب الحكاية: ص، 77.

[27] الشراع والعاصفة: ص، 24.

[28] حنا مينه: المصابيح الزرق، ص251.

[29] نضال الشمالي: الرواية والتاريخ، ص 170.

[30] الشراع والعاصفة، ص، 30.

[31] حنا مينه: المصابيح الزرق، ص 282.

[32] آمنه يوسف: تقنيات السرد في النظرية والتطبيق، الطبعة الثانية 2015، ص 128.

[33] حنا مينه: المصابيح الزرق، ص 230.

[34] المصدر السابق، ص، 90.

[35] المصدر السابق، ص، 224.

[36] حميد لحمداني: بنية النص السردي، ص، 76.

[37] المصدر السابق: ص، 137.

[38] حنا مينه: المصابيح الزرق، ص 149.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of