+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

دميتي الخزفية [1]
د. بثينة شموس [2]

 

تقول أمي أنه سيرجع، ولكني أعلم أنه لن يرجع. لو كان سيرجع ما كانت أمي لتبكي، أكانت لتبكي؟ ليتكِ رأيتِ؛ لا، بل ليتني لم أرَ بنفسي. افرضي أنكِ أمي الآن، مع أنك لا تشبهينها كثيراً؛ ماذا أفعل إن كان شعرك أشقر؟ انظري، كانت أمي تجلس هكذا؛ اجمعي قدميكِ وضعي يديك فوق جبينك. أنتِ لا يمكنك القيام بذلك. كان كتفاها يتحركان أيضاً؛ هكذا، وكانت الجريدة أمامها على الأرض، أنا لا أستطيع أن أبكي مثل أمي، ولكن أبي يستطيع بكل تأكيد، وعمي ناصر يستطيع إن أراد أيضاً، ربما لهذه الأشياء هم كبار، فهم يستطيعون أن يقولوا دائماً: “لا تبكي يا مريم!” أو أن يقولوا مثلاً.. لا أدري.. مثلاً: “لماذا أخذتِ علبة الثقاب يا فتاة؟” حسناً، أخذتُها، أين المشكلة في ذلك؟ أنا لا أريد أن أشعل حريقاً بكل تأكيد، أليس كذلك؟

أبي طيب؛ لم ينهَني إطلاقاً عن فعل شيء، ولكن لماذا قال إذن: “لا أريد أن أراكِ تبكين”؟ أنا أود ذلك، ولكن هل الأمر بيدي؟! أعني لو أنني أستطيع البكاء مثل أمي لفعلت من أجل أبي، ولكني لا أستطيع، هل تستطيع الألعاب أيضاً أن تبكي؟ أعلم أنكِ لا تستطيعين البكاء كأمي، أو كجدتي أو كعمي ناصر، لو كنتِ تستطيعين فلمَ لم تبكي حين كسرتْ “مهري” الشقية لعبتي؟ أعني لعبتي الخزفية؛ لقد جلستِ واكتفيتِ بالنظر إليها كما تفعلين الآن، ولكن أرأيتِ كم بكيتُ حينها؟ قالت لي جدتي: “لا تبكي يا مريم، سأعطيها لمن يصلحها ويلصقها”. فقلت لها: “وماذا سيحدث حينها؟” قالت: “ستعود كما كانت”.

فقلت: لا أريد، لا أريد، ستصبح مثل ذلك الإبريق الخزفي الكبير.

قال أبي: “إن توقفت صغيرتي عن البكاء فسأشتري لها لعبة أخرى؛ لعبة أكبر من هذه”.

ولكنه لم يشترِ لي. أبي إنسان طيب. إن رجع فلن أقول له اشترِها لي، ولن أبكي أيضاً. أتذكرين كم بكت جدتي؟ لقد أخبرتُكِ. ترامت على قبر جدي بملابسها السوداء وبكت، وأنا بكيتُ أيضاً، لكن أبي لم يبكِ، ربما كان يبكي، من يدري؟ قد يكون بكاؤه كبكاء الألعاب؛ مثلك؛ لا يمكن رؤية دموعك ولا سماع صوتك، ولكن أنا لا أستطيع، فبكائي شديد لا يتخيله عقل. صحيح أنني عرفت عند ذاك أن جدي لن يمدّ عصاه باتجاهي أبداً بعد ذلك اليوم، ولن يقول: “أتستطيعين أن تتوقعي كم شبراً طول عصاي؟”

فأقول: سبعة يا جدي.

فيقول: بل خمسة.

فأقول: بل سبعة.

فيقول بل شبران ونصف وإصبع صغير أيضاً.

فأقول: بل سبعة.

فيقول: قيسيها بنفسك بالأشبار، هيا قيسيها.

وكنت أفعل. كان يظن أني لا أعلم أنه ما إن تصل يدي إلى طرف العصا حتى يمسك بمعصمي ويرفعني ويُجلسني على ركبتيه؛ كنت أعلم، ولكن كنت أرغب بذلك، فقد كنت أدخل يدي في جيب سلطته[3] وأخرج ساعته، فيرفع جدي عنها غطاءها ويضعها قرب أذني، وکنت أقول: “كم تبدو يداك مسنتان يا جدي!” فيقول: نعم إنها الشيخوخة. كانت يداه، أعني ظاهر يديه، عجيباً، كوجهه، كان يقول لي: “الذنب ذنب هذه”، ويشير إلى العقارب، خاصة العقرب الأحمر الذي كان يدور أسرع من البقية، والآن أين ساعته؟ هل دفنوها مع جدي؟ لا بد من أنك لا تعرفين.

والآن ماذا عنك يا عقلة الإصبع؟ لنفرض أنكِ ذاك الرجل قصير القامة؛ هيا استمري في التجول ذهاباً وإياباً مثله، حسناً! اذهبي إلى هنا وعودي إلى هنا، ولكن لا تثيري دواري. كان أبي في الطرف الآخر، ولكني لم أعرفه، قفي هنا يا عقلة الإصبع، ولنفرض أنك تتجولين ذهاباً وإياباً. كانت أمي تمسك بيدي، قالت لي: “ماذا تريدين أن تفعلي بعلبة الثقاب يا مريم؟” فقلت: “لا أدري”. ولكني الآن أدري؛ سأضع أعواد الثقاب إلى جوار بعضها؛ واحد اثنان… هكذا. سنكون أنا وأمي في هذا الطرف من علبة الثقاب، وأبي في الطرف الآخر؛ نعم أولئك في الطرف الآخر، وأنتِ تعالي إلى الوسط يا عقلة الإصبع. والآن على من هم في هذا الطرف أن يصرخوا باستمرار، وعلى أولئك الذين في الطرف الآخر من علبة الثقاب أن يصرخوا أيضاً. صرخ أبي: “كيف حال مريمي الصغيرة؟ أرسلي لي قبلة لأرى!”

والآن تقدمي قليلاً يا عقلة الإصبع، هيا إلى هنا؛ حيث لا يستطيع أبي أن يراني وأنا أرسل له قبلة. قال أبي:… لا أذكر ماذا قال، ولكن أمي كانت تمسك بيدي، هكذا؛ قال أبي: “لا أرينّ ابنتي تبكي، أفهمتم؟ البابا بصحة جيدة”.

لكن أبي لم يكن يشبه أبي إطلاقاً، مثلك أنتِ يا عقلة الإصبع؛ إذ لا تشبهين أبي إطلاقاً. لو أن “مهري” الشقية لم تكسر لعبتي الخزفية لكنتُ أجلستُها هناك في الطرف الآخر؛ مكان أبي، إلى جانب أولئك الذين على الطرف الآخر كلهم في جهة أبي. قالت أمي: “إياكِ أن تسألي أباكِ أين لعبتك، أفهمتِ؟”

فقلتُ: أمي، ولكن أين أبي؟

فقالت: هناك يا عزيزتي، خلف ذلك الرجل. إنه يتقدم باتجاهنا. لا تنسي، حسناً؟

لم يكن أبي؛ كان غريباً جداً، ولكني عرفته من ابتسامته، عرفت أنه أبي. قال لي: “أرسلي لي قبلة يا مريمي الصغيرة”؛ أخبرتكِ بذلك، ولم يوجه إليّ الكلام بعدها، بل أخذ يكلم أمي. الآن يجب أن تقول لعبتي الخزفية: “عصمت، إياكِ أن أراك تتذللين لهؤلاء!”

على لعبتي الخزفية أن تصرخ وتشير إلى الرجل قصير القامة هناك. وأنتِ قولي بدورك: “ولكن ماذا عنكَ؟ ماذا سيحدث بكَ؟”

فقال أبي: “عمّ تتساءلين؟ الأمر واضح؛ نهايتي واضحة، ولكن مهما حدث فإياكِ أن تجعلي ابنتي تحزن”.

كان يعنيني بذلك، ولكن لم أفهم ما قالته أمي بعد ذلك، فقد كانت تصرخ؛ كان الجميع يصرخون، فيُحدثون جلبة عجيبة، تشبه ما كان يحدثه حسن الشقي عندما كان ينفخ في مزماره، ولم يكن أحد يفهم ما كانت تقوله جدتي وهي تصرخ، قال مرة أخرى: “عصمت، امسحي دموعك، لا أريد أن يرى هؤلاء دموعك”، وعاد إلى الإشارة إلى الرجل قصير القامة. لم أرَ أمي تبكي حينها، ولكني قلت لها: “أمي، احمليني بين أحضانك” فقالت أمي:… لا أدري؛ لا أذكر ما قالته. لم أكن قد تعبت حينها، ولكني كنت أريد أن أرى إن كانت أمي تبكي حتى أبكي أنا الأخرى. مسحتْ أمي عينيها، هكذا. والآن قفي يا عقلة الإصبع في الطرف الآخر مقابلنا؛ مقابلي ومقابل أمي، وكل من هم في جهتنا، وافتحي يديك هكذا، والآن قولي بصوت مرتفع: “أيتها السيدات، انتهى الوقت من فضلكن، الرجاء المغادرة”.

والآن استديري ووجّهي الكلام لأبي ولمن في جهته؛ تكلمي، هيا؛ قولي شيئاً ما حتى يغادروا جميعاً، ويغادر أبي أيضاً. صار أبي نحيلاً جداً، ولكنه كان يضحك، مثلما كان يفعل وهو يحتضنني، أو وهو يدغدغني، هكذا، كما أفعل الآن، ولكني الآن لا أستطيع أن أضحك.

أمسك عمي ناصر أذن “مهري” الشقية وشدّها وقال: “ما شأنك بألعاب مريم يا بُنيّة؟” لقد أحسنَ فعلاً، فلو كانت لعبتي الخزفية موجودة، لو لم تكن قد كسرتْها “مهري” لكانت قد استدارت الآن ولوّحت بيديها، وعليّ أنا أيضاً أن ألوّح، هكذا، ومن ثم أبكي. كان أبي يريد أن يأتي إلينا، ولكنه لم يكن يستطيع. اذهبي يا عقلة الإصبع وقفي هناك، وامنعيه من المجيء إلينا. قالت أمي: “ألم يقل أبوك ألا تبكي؟” تمنيتُ لو أستطيع، فقد كنتُ دائماً ما أطيع ما يريده أبي. لو رجع؛ لو رجع حتى ولو أمسك بأذني وشدها كما فعل عمي ناصر فلن أبكي، ولن أضرب أبي أبداً. كان دائماً ما يقول لي: “اضربي”، وكنت أصفعه، فيضحك ويقول: “اضربي بقوة أكبر”، وكنت أضرب، وأصفعه على خديه من هنا وهناك؛ هكذا. ما بكِ سقطتِ يا عقلة الإصبع؟ أبي لم يكن يسقط حين كنت أصفعه. هيا انهضي، سأصفع بهدوء هذه المرة؛ بإصبع واحدة. لو رجع أبي فسأصفعه هكذا أيضاً، فربما كان يتألم. كانت جدتي تقول: “يا إلهي، ماذا سيحلّ بابني إن كان ما يقولونه صحيحاً؟” فسألتها: “ما الذي يقولونه؟” فقالت أمي: “أمام مريم يا زوجة عمي؟” أمي سيئة، ليس دائماً، هي سيئة فقط عندما لا تسمح لجدتي بأن تخبرني بأشياء عن أبي، إنها سيئة عندما تقول بصوت مرتفع: “يا زوجة عمي!”

كانت جدتي ستقول أشياء عندما تبدأ بالبكاء، وعندما بدأت بالبكاء فجأة؛ عندما بدأت بالبكاء أمامي جاء عمي ناصر.. الآن يا عقلة الإصبع ستصيرين بنفسك عمي ناصراً. تعالي إلى هنا. يجب أن تقفي هنا عندما تدخلين. خذي هذه الورقة في يدك، ولنفرض أنها جريدة، قالت أمي: “والآن بما أنك تريد ذلك، فافتح الباب وأخبرها بنفسك”.

والآن يا عقلة الإصبع، ما إن تري أمي قد ألقت برأسها بين ذراعيها للأسفل هكذا، عليكِ أن تضربي أنتِ أيضاً؛ اضربي بقوة. أنتِ لا تستطيعين طبعاً، لكن عليك أن تضربي رأسكِ بيديك وتجلسي في مكانك، مثلي؛ لا، بل مثل أمي؛ اجلسي وقولي: “يا للمصيبة التي حلّت بنا يا ناصر!” أعطني الجريدة يا عقلة الإصبع.

الآن ستقوم أمي بتقليب الجريدة رأساً على عقب، بيديها المرتجفتين، ثم تقول: “أين هو إذن؟”

عندها ركض عمي ناصر إلى غرفة جدتي، والآن اقرئي؛ لست أدري ماذا، ولكن اقرئي.. قولي شيئاً ما باللهجة التي يقرؤون بها في المذياع، أو في التلفاز، عندما يجلس عمي ناصر والبقية ويتحدثون باستمرار. كانت أمي تقول بأنهم يقرؤون أشياء مكتوبة أمامهم، لا غيباً، ألا ترين كيف يحرفون أبصارهم إلى الأسفل؟ ذلك ليس واضحاً كثيراً، ولكن ربما كانوا يفعلون ذلك حقاً، فأمي لا تكذب؛ بل تكذب؛ ألم تقل: “ذهب أبوك إلى آبادان ليشتري لك لعبة؛ أنت تعرفين أنه لا يوجد مثل هذه الألعاب هنا”؟

قال عمي ناصر: سأشتري لها بنفسي.

فقلت: لا أريد.

ولكني أريد دون شك، أريد إن اشتراها لي أبي؛ إن رجع أبي، ولكنه لن يرجع. وإلا فلماذا كانت أمي تبكي؟ كانت تقرأ وتبكي. أولئك الذين يقرؤون الجرائد على التلفاز يبتسمون ابتسامات خفيفة في بعض الأحيان وهم يقرؤون؛ هكذا.. لكني الآن لا أستطيع أن أبتسم مثلهم، وأمي لا تستطيع أيضاً. جلس عمي ناصر في جواري ومسّد على رأسي، أعني على شعري. أنت يا عقلة الإصبع، لا، لا أريدك أن تمسدي على شعري. كان عمي ناصر يمسد بطريقة غريبة، لم أكن أريده أن يفعل ذلك؛ ليس لأنه سيشعّث شعري كما فعلتْ تلك المرأة، ولكن هكذا؛ لا أدري لماذا. المهم، لا تخاصميني الآن يا عقلة الإصبع، سأفرض أنك نفسك ذلك الرجل. دخلنا أنا وأمي وجدتي، ولكن عمي ناصراً بقي خارجاً. قال لنا: “اذهبن وسأنتظركن هنا عند بائع المثلجات”، فقلت: “سأذهب مع عمي ناصر”. لم أكن أريد مثلجات، بل لأن أبي قال لي: “لا تطلبي -رؤيتي- من أحد، لا تطلبي من أحد إطلاقاً”. قالت أمي: “بل عليكِ أن تأتي معنا، أفهمتِ؟ ولا تنسي أن تقولي لذاك الرجل: أريد أبي”. قال لي عمي ناصر: “نعم يا حبيبتي، وعندما تعودين سأشتري لكِ قطعتي مثلجات”، فقلت: “ولكني أريد الآن”، فقالت أمي: “مريم!”

الآن قولي بنفسك: “مريم!” بصوت مرتفع، وأمسكي بمعصم يدي واسحبيني، ثم اطرقي الباب؛ الباب الكبير، والآن تعالي إلى هنا يا عقلة الإصبع، وانظري من الحلقة التي أحدثتُها في يدي إلى أمي، وانظري إليّ منها أيضاً. والآن عليكِ أن تقولي أشياء معينة تجعلني أفهم أننا أتينا –أنا وأمي وجدتي- لرؤية أبي، هيا تكلمي، قولي ذلك. عندما فُتح الباب دخلنا، فقال لنا ذلك الرجل:.. لا أدري ماذا قال؛ كان رجلاً طويلاً، أطول من أمي، وكان سميناً جداً أيضاً. قالت جدتي: “جُعلتُ فداءً لابني”، لكنها قالت ذلك بهدوء وهمس. والآن أنتِ يا عقلة الإصبع ذلك الرجل الطويل ذو الهيكل الضخم والشاربين. ابتسمي وقولي: “انتظرن في تلك الغرفة”، ثم أتت سيدة جميلة، كلعبتي الخزفية؛ لا، لعبتي الخزفية هي أبي، ستكون هي أبي لأنه لم يعد موجوداً، أما تلك السيدة فما تزال موجودة دون شك، كانت تشبه السيدات اللاتي يتكلمن في التلفاز؛ لا، بل اللاتي يقرأن عن الجريدة ويبتسمن بين الحين والآخر. كانت أمي تبكي في ذلك اليوم الذي… أعني ذلك اليوم الذي أتحدث عنه، أخبرتكِ عنه. تقدمتْ إلينا تلك السيدة وقالت: “سيداتي، اعذرنني!” ثم قالت أشياء أخرى، ومدت يدها إلى صدر جدتي، فقالت جدتي: “ولكن يا سيدتي أنا…” فقالت أمي: “زوجة عمي!” قالتها بهدوء، ولكن ملامحها كانت تبدو وكأنها ترفع صوتها وهي تقولها، كانت تبدو كما تبدو عادة عندما تريد أن توبخني، ولكنها لم تعد توبخني، ليتها تفعل؛ لو أمسكتْ بي وضربتني على ظاهر يدي ضربتين فلن أبكي. حتى إنها لم تشاجرني أو تصرخ في وجهي عندما أخذتُ أحد كتب أبي، بل اكتفتْ بأن أخذتْه مني وأعادتْه إلى مكانه، والآن قولي لي: “يا بُنيّتي، يا مريم، يجب ألا تمسّي أغراض أبيك”. أردت أن أجيبها: “ولكن يا أمي، أبي لن يرجع”، ولكني لم أقل، فقد قلت في نفسي: إن لم أقل ذلك فسيرجع حتماً؛ لو لمستُ كتبه؛ لو أني فقط أمزق أحدها فسيظهر لي حتماً، وسيمسك بأذنيّ الاثنتين، ولكنه لن يشدّهما بقوة، بل بلطف، وسيقول: “لا بد من أن البابا سيقطع أذني ابنته يوماً ما ويلقيهما بين يديها”، وعندما كنت أتصرف بفظاظة، أو ألح على أن أخرج معه كان يقول: “حان الآن الوقت لآتي وأضع نظري بنظرك وأنا أشد أذنيك”، وقد فعلها مرة، فجاء إلي، وأراد أن ينظر في عيني بقساوة، ولكنه لم يستطع، أما عمي ناصر فكان يستطيع، طبعاً ليس الآن؛ الآن لم يعد يستطيع، ولكنه أمسك بأذن “مهري” وشدّها. أبي لم يكن يستطيع أن يشدّ أذني حينها؛ عند ذاك نظرنا إلى بعضنا وضحكنا، انفجرنا ضاحكين؛ ذلك لأنني أمسكتُ بنفسي بأذني أبي أيضاً وشددتهما؛ كانت أذناه صغيرتين، عندما كان يجلس كنت أستطيع أن أمسك بأذنيه وأنظر في عينيه. جلستْ تلك السيدة أمامي هكذا، وقالت: “أتسمحين يا صغيرتي؟” فقالت جدتي: “حتى هذه؟ لماذا؟” فقالت أمي مرة أخرى: “زوجة عمي، ألم تسمعي ما قالته السيدة؟” عندها أدخلت السيدة يدها في شعري. كانت أمي قد ضفرت شعري وجمعت الضفيرة فوق رأسي. ليتكِ رأيت كم كنتُ جميلة حينذاك! لهذا قبلتني السيدة، ثم أدخلتْ يدها في… اسمعي، لنفرض أنني تلك السيدة ذاتها؛ لو أدخلتُ يدي تحت ثوبك فهل كنتِ سترضينَ بذلك؟ وقد فعلت ذلك مع أمي، ومع جدتي أيضاً، فقالت جدتي: “أبعد الله الشر!”، لكن أمي لم تقل: “زوجة عمي!” مع أنها كان يجب أن تقولها، قالت لي تلك السيدة: أنتِ جميلة جداً يا صغيرتي، هل تذهبين إلى المدرسة؟ فردت أمي: “لا، ستذهب العام القادم”؛ أصلاً ما شأنها إن كنتُ أذهب؟ عندما أذهب سأعقد شريطة حمراء كتلك التي تضعها “مهري” بنة عمي ناصر؛ سأعقدها فوق رأسي كالوردة، أمي ستعقدها لي. أستطيع أن أعدّ حتى الخمسين؛ أبي علمني ذلك؛ واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة… ولكني الآن لا أستطيع. كان أبي يقول: “ستصبح ابنتي رسامة؛ ستجلس ابنتي الآن هناك، خلف منضدتها، وسترسم حتى ينجز أبوها عمله”، وكان عند ذاك يجلس خلف منضدته ويقرأ، ومهما كنت أناديه: “بابا” لم يكن يسمع، لذا كنت أصرخ في النهاية: “بابا! بابا” فكان يرفع نظارته عن عينيه ويقول: “ماذا يا عزيزتي؟” فأقول: “انظر يا أبي ماذا رسمتُ؟” فيقول: “أعطني لأرى!” كانت جدتي تقول: “إن رسمتِني فسأحرق أباك”؛ أكانت تظن أنها تستطيع أن تفعل ذلك؟ كان أبي يضحك؛ كان ينظر إلى رسمتي ويضحك، ثم يُريها لعمي ناصر. الأمر ليس صعباً؛ انظري: هكذا وهكذا؛ هذا بطن جدتي، ثم؛ ها.. هذا رأسها، وهاتان عيناها. يجب أن يكون فمها كبيراً جداً، لأنني رسمتُها وهي توبخني وتتشاجر معي. كان أبي يقول: “ولكن أين أنفها؟” فأقول: “لا يظهر لكبر فمها” كهذه الرسمة التي ليس لديها أنف فيها، والآن يا عقلة الإصبع! لنفرض أنك تجلسين خلف منضدتك، وهذه أمي. انتظري حتى أسحب جدتي من يدها؛ يدي ويدك الآن في يديّ جدتي؛ والآن انهضي يا عقلة الإصبع من خلف منضدة مكتبك، وتقدمي إلينا وابتسمي، وألقي التحية على جدتي وأمي، واقرصيني في خدّي، هكذا، لم يؤلمني ذلك، ولكن، حتى الآن لا أحب أن يقرصني أحد. والآن يا عقلة الإصبع قولي لي: “أخبريني ما اسمك يا صغيرتي”، فتجيب جدتي بفمها الكبير ذاك: “مريم، طفلتكم المطيعة” والآن سيحضر لنا ذلك الرجل شاياً، ولكنه لن يحضر لي. في الأحوال كلها لم أكن أريد. والآن لتقل جدتي أشياءً لا أفهمها؛ هيا قولي، ولكن لتكن أشياء عن أبي؛ قولي: “يا سيدتي، مهما حدث فهؤلاء شبّان، وقد علموهم أن يقرؤوا أشياء و…” كانت تتكلم عن أبي، وكان وجه أمي قد تغير؛ ليس عليكِ أن تري ذلك يا عقلة الإصبع، قفي مقابل جدتي تماماً؛ يجب أن يكون كأس الشاي في يدك وأنت تقولين: “هذا الأمر في أيديهم؛ إن جاؤوا في أي وقت وقالوا…” لا أدري، كانت تتكلم كما لو أنها تقرأ من جريدة. أعتقد أنها كانت تريد من أبي أن يجلس هكذا وينظر إلى الجريدة من طرف عينيه، هكذا، ويتكلم، والآن تكلمي، تكلمي كأمي الآن، وقولي أشياء عن أبي، قولي أشياء لا تفهمها حتى جدتي، والآن لتقل تلك المرأة: “حسناً، تعالوا غداً وأحضروا معكم الطفلة، فلربما وافقكم”. والآن لتقل المرأة: “ستذهبين لرؤيته يا عزيزتي، ولكن فلتذكري أن تقولي له: بابا، متى ستأتي إلى المنزل؟” قالت أمي: “ماذا لو لم يوافق؟” والآن عليكِ يا عقلة الإصبع أن تتظاهري بأنك لم تفهمي أن مَن كانت تعنيه أمي هو أبي، والآن قولي: “عليكم أن تجعلوه يوافق، كرروا أمامه عدة مرات حتى يقتنع” لم تقل أمي شيئاً بعد ذلك، ولكن جدتي سألت: “أتقصد ابني؟” فردت المرأة:… لا، بل عليها أولاً أن تعقد يديها خلف ظهرها وتذهب باتجاه مكتبها، ثم تقول: “حسناً، حسناً، لا أدري ماذا بعد”. والآن يا عقلة الإصبع لنفرض أننا نهمّ بالمغادرة، أنا وأمي وجدتي. الآن تقدّمي إليّ، واجلسي القرفصاء أمامي، وقولي بهدوء: “لم تخبريني ما اسمك يا صغيرتي الجميلة؟” ثم قولي: “تعالي غداً بكل تأكيد لتري والدك”. لكن أبي لم يكن موجوداً، لم يأتِ، والآن عليّ أن أقول: “أمي، لمَ لم يأتِ أبي؟” فتجيب: “لا أدري، لا بد من أن أباك مستاء من أمك”.

  • لماذا يا أمي؟

والآن قولي يا عقلة الإصبع: “لا تقلقي يا بنيّتي، أبوك جيد”.

  • لا، بل هو سيئ لأنه مستاء من أمي.

هذا ما قلتُه لأمي، ولكنها لم تتكلم بعد ذلك، بل اكتفتْ بمسح عينيها. لم تكن جدتي ترافقنا حينها؛ فلم تكن تستطيع، لأنها كانت طريحة الفراش تئنّ طيلة الوقت، كانت قدماها تؤلمانها. جاء عمي ناصر وجلس بالقرب منها وتحدث إليها، ولم يُحضر “مهري” الشقية معه، وعندما ذهبتُ وجلستُ إلى جانب جدتي توقفا عن الكلام، والآن عليكِ أن تقولي يا عقلة الإصبع:… لا، لا تقولي شيئاً؛ سأقول بنفسي بدلاً من عمي ناصر: “غداً يا أمي”.

أجابت جدتي: “ليتني أستطيع أن أراه، أخشى أن أموت ولا أرى ولدي ثانيةً.

قالت أمي: لا تقولي ذلك يا زوجة عمي.

فقالت: أعرف أني لن أراه ثانية.

عندما نظرتْ إليّ أمي توقفتْ عن البكاء. لم تكن تبكي من أجل جدتي، بل من أجل أبي.

قال عمي ناصر: لا يسمحون لأحد بالزيارات، ولكن حسناً، سأجد طريقة ما لزيارته، سنذهب أنا وزوجة أخي غداً.

قالت أمي: سيد ناصر!

لم ترفع صوتها، ولكن عمي ناصراً قال: “أيتها الشقية! أكنتِ هنا منذ البداية؟”

قلتُ: أنا أيضاً سآتي.

والآن ستقول لي أمي: مريم!

لو لم تقل أمي ذلك لأخذوني برفقتهم، ولكنهم لم يأخذوني، قال لي عمي ناصر: “إن كنتِ فتاةً مطيعة فسأشتري لكِ لعبة كبيرة”. لم يكن أبي يقول: “إن كنتِ فتاة مطيعة”، بل كان يقول: “كيف تريدينها أن تكون؟”

فأجيب: “مثل تلك، بل أريد تلك ذاتها” فيقول: “لو أصلحوها فستصبح قبيحة”.

قالت جدتي: “أرأيتموه؟” فقال عمي ناصر: “لدقيقة فقط، كان بصحة جيدة” فقلتُ: “أما يزال شعرُ رأسِه؟” فقال: “نعم يا صغيرتي، ما يزال، حتى إنه قال لي: <يجب أن يقطع ناصر أذني مريم ويلقيهما بين يديها>” قلتُ: “لا، لم يقل ذلك، أبي الآن لم يعد يقول ذلك”.

عندما كان أبي يقول ذلك كنت أغطي أذنيّ بيديّ وألوذ بالفرار، فيتعقبني وهو يضحك. قالت جدتي: “لماذا لم يسمحوا لكم بالدخول؟” فقال عمي ناصر: “كان محجوباً عن الزيارات؛ لم يسمحوا لأحد بالدخول” فقلتُ: “ماذا تعني محجوب؟” لكن عمي ناصر لم يجب؛ فليفعل ما يحلو له. ولكني كنت أعلم أن عشرين، لا، بل خمسين شخصاً مثل ذاك الرجل قصير القامة موجودون في الداخل. الآن قفي هنا يا عقلة الإصبع، وليقف شخص آخر هنا، والكثيرون غيركم كانوا هناك، وعلى لعبتي الخزفية أن تقف في المنتصف لو كانت موجودة، لقد ألقتها “مهري” على الأرض لعنادها، أعلم انها فعلت ذلك لعنادها، قال عمي ناصر: “سيكتبون ذلك في الجرائد غداً بكل تأكيد”. فقالت أمي: “لا أعتقد ذلك”. قالت جدتي: “لو أن قدميّ سالمتان! لو أني أستطيع!”

لم تعد جدتي تستطيع الوقوف، ليتها تستطيع، كان عمي ناصر وأمي يساعدانها بإمساكها تحت إبطيها، كلعبتي الخزفية التي كُسرت قدماها، وكُسر رأسها أيضاً، تحطم إلى ثلاث قطع. قال لي أبي حينها: “ألقيها في حاوية المهملات”. فقلت: “ألم تمت يا أبي؟” فقال: “الألعاب لا تموت يا صغيرتي، بل تُكسر”.

قلت: لا، بل تموت، الألعاب تموت أيضاً، كجدّي.

دفنتها بنفسي في فناء منزلنا؛ حفرتُ لها حفرة صغيرة، ولففتُها في منديل أبيض، ثم دفنتُها، وذروت الماء عليها، ثم قطفت بضع وردات ونتفتُ أوراقها ونثرتُها على قبرها. لو كان جدي حياً لما سمح لي بقطف الورد. كان ذلك الرجل يجلس بالقرب من قبر جدي ويقرأ أشياء من كتاب مفتوح أمامه، ولكني لم أفهم منها شيئاً؛ كان يقرأ بسرعة كبيرة، ويهز رأسه. ليس لدينا ورد أحمر، ولكن عندما كان جدي حياً كان لدينا. قالت لي جدتي حينها أن أخته جمعت عظامه وغسلتها بماء الورد ودفنتها تحت الوردة الجورية الحمراء في الفناء، فطار جدي حينها كالبلبل، وقد طار ذلك البلبل ثم حطّ على… ليس لدي مزاج الآن لأقصّ عليكِ، حتى جدتي لا مزاج لديها أيضاً.

قال عمي ناصر: لا تبكي يا أمي، سيمكث هناك بضعة أعوام ويرجع إلينا”.

فقالت أمي: “بضعة أعوام!”

والآن قولي بنفسك: “بضعة أعوام!” ثم اخرجي من الغرفة راكضة بسرعة. كنت أريد أن أبكي أيضاً، ولكنني لم أبكِ، ألم يقل لي أبي: “لا تبكي!” قال لي أيضاً: “لا أرينَّ مريم تطلبني! إياكِ أن تطلبيني من هؤلاء!” قال لي ذلك في اليوم الذي قلت لكِ بأنه لم يكن يشبه نفسه، كان غريباً، كان كلعبتي الخزفية، أعني حين كسرتْها “مهري” الشقية، كانت ملامحه تحمل طابعاً غريباً. كانت أمي ممددة على الفراش. قال لها عمي ناصر شيئاً ما حتى قالت:.. قولي بنفسك ما قالته؛ لا، بل لا تقولي، فما قالته أمي سيئ. أمي سيئة جداً؛ ليس دائماً، بل أحياناً سيئة؛ فقط عندما تقول شيئاً لمعاندة عمي ناصر لها، شيئاً عن أبي. كان أبي كبيراً جداً، كان يرفعني ويضعني على عنقه، ويقول: “فلتأتِ مريمي ولتقف على يد أبيها”، هكذا، ثم يقول: “فلتغمض مريمي عينيها”.

كنت أغمض عينيّ، ثم أرتفع وأرتفع إلى أن يقول: “والآن لتفتح عينيها”. كنت أجد نفسي هناك في الأعلى، بمحاذاة المصباح. قالت أمي:.. قلتُ لكِ، ولكن عمي ناصراً رآني، لو لم يرني لما كان قد قال: “ماذا تفعلين هنا يا صغيرتي؟” ثم توقفا عن الكلام، لو أنهما تكلما، لو تكلما أمامي عن أبي لرجع حتماً، ولكنك يا عقلة الإصبع لم تسمحي له، منعتِه بيديك هاتين، أليس كذلك؟ صار أبي كلعبتي الخزفية، محطماً. أنتِ سيئة يا عقلة الإصبع، سأنزع قدميكِ؛ سأخلعُ يديكِ، وسأنزعُ رأسك أيضاً، ولن أدفنك كما فعلتُ بلعبتي الخزفية تحت الوردة الحمراء، بل سألقيكِ في حاوية المهملات، ولن أبكي من أجلك أبداً، ولكن أنا لا أستطيع أن أمتنع عن البكاء.

***

————————————————————————-

[1] عروسکِ چینیِ من: “دميتي الخزفية”؛ قصة من مجموعة “نماز خانه کوچکِ من: مصلّايَ الصغير”؛ تُسرد هذه القصة عن طريق النجوى الذاتية لطفلة -اسمها مريم- في الخامسة أو السادسة من عمرها، عن اعتقال أبيها وقتله، إذ تأخذ الفتاة بحديث أحادي الجانب دور الأم والأب والجدة والعم والغرباء، ويكون ترسيم الأحداث عن طريق نقل الحوار افتراضياً بينها وبين لعبتها القصيرة التي أطلقت عليها اسماً يتناسب مع قصر قامتها، إذ تقصّ عليها الأحداث، وتشكو لها ما أحزنها، وتطلب منها أن تلعب بعض الأدوار، ويتضح لنا أن أباها اعتُقِل لاتهام سياسي وأعدِم على خلفيته، وسط محاولات الأم والجدة لإخفاء ذلك عن الصغيرة، ولكن يبدو أنها كانت تفهم كل ما يدور حولها. صُورت الأحداث على لسان الطفلة من لقاءاتهم بأبيها في السجن واضطرابهم المستمر، وذلك بالتزامن مع ذكر الأحداث التي تتعلق بكسر لعبتها الخزفية على يد ابنة عمها، وما أصابها من حزن لذلك، فتصف أحداث القصتين – سجن الأب وكسر اللعبة – بشكل متداخل من خلال بيان مشاعرها تجاه تلك الأحداث.

[2]. عضو هيئة تدريسية في جامعة طرطوس، سورية.

[3] سترة دون أكمام.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of