مدخل:
يعد يحي حقي كاتبا مبدعا وغزير الإنتاج بما ألف عددا لا بأس به من الروايات والمجموعات القصصية، وترجم العديد من الأدبيات، وتتميز كافة كتاباته بالإبداع والرؤى والأفكار الإبداعية، ومن أهم مؤلفاته وتراجمه: قنديل أم هاشم، أم العواجز، خطوات في النقد، فكرة فابتسامة، عطر الأحباب، دماء وطين، صح النوم، يا ليل يا عين، حقيبة في يد مسافر وغير ذلك، ونقل عدد من أعماله الأدبية إلى أفلام ومسرحيات ومسلسلات، أما قنديل أم هاشم فهو من أبرز الأعمال التي صدرت من قلم يحيى حقي الرصين، إذ نقل إلى الشاشة الفضية في فيلم سينمائي.
فيما يخص القصص القصيرة التى عالجها “يحيي حقي ” في سنّ مبكرة إذ بلغ السادس عشر من عمره، فنجده يقول:” لقد عالجت معظم فنون القول من قصة قصيرة ورواية ونقد ودراسة أدبية و سيرة أدبية ومقال أدبى، وترجمت عددًا من القصص والمسرحيات ولكن تظل القصة القصيرة هى هواي الأول، لأن الحديث فيها عندي يقوم على تجارب ذاتية، أو مشاهدة مباشرة، وعنصر الخيال فيها قليل جدَا، دوره يكاد يكون قاصرًا على ربط الأحداث ولا يتسرب إلى اللب أبدًا”. [2]
ومن اللافت للنظر أن نجيب محفوظ حينما فاز بجائزة نوبل في الأدب عام 1988م، قد تذكر يحيى حقي بقوة، معربا عن شعوره بالخجل على نيل الجائزة في حياة يحيى حقي الذي كان الأجدر بها، وهذه الشهادة تعكس بصدق، مكانة حقي الأدبية الرفيعة بين معاصريه، أما الحديث عن إسهاماته طويل، لا مراء في أن الأديب يحيى حقي من الشخصيات النادرة قلما شهدها عالم الأدب والنقد مثله.
وتتناول هذه الورقة سيرة “خليها على الله” للأديب الذي يعدّ رائد القصة القصيرة العربية وعلامة بارزة في تاريخ الأدب العربي، ألا وهو يحي حقي اشتهر ككاتب وروائي من أرض مصر. إنه ولد في مدينة القاهرة وينحدر أصله إلى جذور تركية. وتلقى يحيي حقي تعليمه الأولي بالكتاب، ثم في مدرسة أم عباس بالسيدة زينب حتى التحق بمدرسة الحقوق السلطانية العليا في جامعة فؤاد الأول، وحصل على شهادة ليسانس الحقوق. وعمل بنيابة الخليفة، ثم مارس المحاماة في البحيرة والإسكندرية، كما أنه اشتغل كمساعد في الإدارة بمركز منفلوط في مديرية أسيوط. ثم التحق يحيى بمختلف المراكز، وشغل مناصب عديدة من وزارة التجارة الى مستشار لدار الكتب المصرية، ثم عُيّنَ رئيساً لتحرير”المجلة” المصرية. وكل هذه المحطات والتجارب كانت بمثابة مصدر إلهام لأديبنا الغالي الذي أثرى المكتبة العربية بإبداعاته الرائعة.
خليها على الله: أمّا سيرة يحيى حقي الذاتية التي نحن في صددها ضمن هذه الورقة، فهي مجموعة من الذكريات المتفرقة التي لا يربط بينها سوى الراوي لكنها تطرح جوانب كثيرة من الحياة الأدبية والاجتماعية للأديب في فترة خاصة من حياته.
علما بأن الكاتب حقي يسرد فيها أيام حياته في أربعة أبواب، فتحدث في بابها الأول عن أمه وأسرته، ومدرسته وأساتذته، ومضاعفات مدرسة الحقوق، ثم استهل الباب الثاني من خبطه خبط عشواء حين لم يحصل على عمل يلتحق به و يرتزق منه، كما أنه كتب عن الإسكندرية التي ذهب إليها وتجول في مينائها، و أما الباب الثالث فإنه تحدث فيه، عن عدد من القصص والحكايات التي حدث معه في المدن المختلفة، وذكر عن المنفلوط وصوّر المجتمع المنفلوطي ثم قدم ذكرياته المختلفة من خلال الإقامة بالصعيد، وأيضا تحدث عن أشخاص لقيهم في هذه السنوات واهتم بالتعبير عن النفس و تناول المشاعر والخلجات التى التقطها من التجارب البسيطة في الحياة، إلى ذلك تحدث الكاتب حقي عن مناصب شغلها خلال تلك الفترة، وكيف كان لكلٍ منها أثر كبير وهام على تكوينه الشخصي، وكيف كانت هذه المناصب مؤثرة على وعيه وخياله الأدبي، ولم تبق هذه السيرة كاشفة عن تكوين شخصية يحي حقي فحسب بل عن حياة المصريين في ذلك الوقت وعلاقتهم بالتعليم والثقافة والأدب بشكلٍ عام، مما ينقلنا من الخاص إلى العام، وهو أحد الجوانب الهامة والمشرقة في السير الذاتية بشكل عام.
ويتناول هذا الكتاب كثيرا من التطورات والأحداث الخاصة بحياة حقي، حيث يظهر من دراسته أن قصد حقي لم يكن ليكتب السيرة الذاتية في شكل هذا الكتاب مباشرة لأن الذات لم تبدُ في سطورها كهدف وحيد بل هناك مسافة بين ذاته وموضوعه. وما كان قصده إلا أن يقدم صورة المجتمع الذي عاش فيه وأن يرسم لوحة وصفية لأبعاده و تأثيره في تكوينه انساناً وأديبا وناقداً. كما يوضح الأديب درويش عندما يكتب عن تاريخ كتابة هذه السيرة ومكان نشرها مضيفا:” لم يكن قصده أن يقدم سيرته (هو) الذاتية بالدرجة الأولى، كان هدفه أن يقدم من خلال معرفته الشخصية، ومن خلال تجربته الشخصية، صورة للمجتمع في مدينة منفلوط في أواخر العشرينات من هذا القرن.”[3]
فنجد أن الكاتب حقي قد وضع عنوان لهذا الكتاب “خليها على الله” ولم يلبث إلا أن يسارع إلى القول في مقدمته أنه “مذكرات عابر سبيل أرويها عفو الخاطر…[4]” أي لم يكن هدفه أن يقدم سيرته الذاتية الكاملة فيه، بل كان هدفه أن يقدم نبذة من مسيرته الشخصية والأدبية مع تقديم الصورة الكبيرة لمجتمعه وعصره.
ومن المعلوم أن يحيى حقي قضى كثيراً من أيامه في الأرياف والقرى، فنراه يصوّر البيئة الريفية المصرية ولاسيما حياة الفلاحين لمناطق من صعيد مصر. وتطرق إلى سرد الحياة الخشنة الصارمة المجردة من الزينة للمناطق الريفية كما أنه ذكر السذاجة للفلاحين وبساطتهم بقدر من التفصيل. ثمّ قدّم صورة منفلوط بلدا خفيف الدم معتدل المناخ بإيجاز، وأيضا قارن بين الحياة الريفية والحياة المدنية، مشيرا إلى الفروق الأساسية بينهما. وفي بعض الأحيان وجد المؤلف نفسه بين الحياتين مختلفا عما كان في الماضي. إذ يكتب في موضع: “ليس لي في زحمة العمل، وقت استطيع أن أتريث فيه وأسأل نفسي: ما الذي حدث؟ ما الذي جرى لك؟ إنني لا أرقبها، و مع ذلك أحس بأن مألوف طبعي يذوب شيئا فشيئا، تحل محله عادات جديدة مفترسة تتناولني بأنيابها ومخالبها… وجدتني لأول مرة في حياتي يعلو صوتي – مع الأسف- بأقبح ألفاظ السب الوقح الفاحش المقذع الداعر.”[5]
كما تظهر صورة لذات المؤلف عندما يذكر عن تسكعه في الصبح، ويصور كل ما أحس به، في لون أدبي: “إنني لا أريد أن أجلس على القهوة لسببين: الأول أنني استسمج أن أزوغ من المركز علنا، والثاني أن الذهاب للقهوة نوع من الوظيفة ألفتها رجلاي وسمعي وبصري، لو أصبت بداء المشي في حالة النوم لما قادتني قدماي إلا إليها، على حين أن لذة التسكع هي في الخروج عن المألوف.”[6]
أما صورة الآخر فإنها تظهر من خلال تصويره لمختلف الفئات من الأساتذة والزملاء والفلاحين والموظفين والدجالين في الصعيد والمجرمين والمحاماة وما إلى ذلك. وإنه تناول هذه الشخصيات بعيون ناقدة وفي أسلوب واقعي، كما كتب مصطفى إبراهيم: “ويحيى حقي قد عاش مع الفلاحين في القرية المصرية بقلب الانسان الذي يدرك بعمق جوانب مأساتهم، وليس بعقل الموظف الحكومي الذي يلزم حدود الوظيفة.”[7]
ولم يغفل الكاتب حقي عن حديث المرأة المصرية وقدتناول قضاياها ومشكلاتها وقد عرض معاناتها الاجتماعية وظروفها الصعبة في مختلف البيئات التي تحدث عنها في سيرته من الريف والمدينة. على سبيل المثال كما يكتب عن المرأة من ريف الصعيد: “نساؤه حبيسات في دورهن، فيهن من تفتخر بأنها لم ترتد الماس إلا مرة واحدة، يوم أن خرجت زفتها من بيت أبيها إلى بيت زوجها. وكأنما ودت لو كفنت به لتلبسه مرة أخرى وهو قشيب.”[8]
أسلوب الكاتب: أما العنوان الرئيسي لهذه السيرة الذاتية والعناوين المكتوبة في داخلها فلا تقتصر دلالتها على الإشارة إلى أزمنة محددة في حياة الكاتب فحسب بل إنما هي مفاتيح إلى أسلوبه وبساطة تعبيره، فكل عنوان يحمل في طياته دلالة زمنية ومعنوية تُعبّر عن تجربة شخصية أو موقف إنساني.
أما البناء الفنيّ لهذه السيرة فهو كسرده القصصي، الذي يقع بين الرواية والأقصوصة، فالتركيز على حادثة أو مكان أو شخصية، هو الطابع الغالب في هذه السيرة كلها، ولا نجد الاستطراد أو الإطالــة في الوصـــف بل نجد وحدة الحديـــث أساسيا تحت كل عنوانٍ، وجميع العناصر خاضعة لتصوير الحدث وحده حتى يبلغ غايته.
ولم تخل السيرة عن فكاهة وسخرية تميزت بها أسلوب يحيى حقي، كما نحن نلمس في الفقرة التالية التي كتبها تحت عنوان خطبة وفاء النيل:” وأخذ الخطيب يقرؤها علينا [9]. وهي إشادة بالنيل ووفائه ومجيئه لأرض مصر بالخير والخصب والبركات… يصل إلى أسماعنا صراخ النسوة في القرية باكيات محاصيلهن التالفة وجاموسهن الغارق ونكبتهم الكبرى بفيضان النيل ذلك العام.”[10]
ويمكننا أن نتخذ نموذجا آخر من النص، عندما يروي تحت عنوان قتيلة في حارة السكر والليمون:”هذه قضية فريدة في تاريخ الأجرام – فقد أقدم إنسان على قتل إنسان لا يعرفه، لا بدافع الانتقام أو الرغبة في السرقة بل تطوعا محضا لوجه الله – لمساعدة صديق واقع في ورطة…” [11]
فإن تتابع النصوص في هذه السيرة ينطق بأنّ في أسلوب يحيى حقي قدراً من السخرية، و تكاد تظهر سمة بارزة من سمات أخرى في كتبه بوجه عام.
أما ميزات أسلوب الأديب يحيى حقي فهي البساطة والسهولة في التعبير، وكان بعيدا عن التعقيد والغموض، بيد أنه كان مائلا إلى التشبيه البليغ والدقة في الوصف حتى يصور الأحداث والأماكن بإبداع. كان يميل دوماً، الى الواقعية فيكتب ويصور كما كان وقع في حياته، لذلك تميز أسلوبه بفيض من المشاعر والعواطف من خلال تجاربه البسيطة في الحياة، حيث حدد حقي تأملاته وأذواقه، ومنحها أبعادا متنوعة حسب الدلالات الاجتماعية والفنية.
ومن الأهمية بمكان أن الأديب يحيى حقي كان ماهرا في اختيار الكلمات والعبارات حسب السياق كما كان بديعا في حسن استخدام التشبيه والرمز بمناسبة تصوير الحوادث والأمكنة والأشخاص، ليستعين ببعض مفردات ومصطلحات اللهجة الدارجة، سعيا إلى التصوير والتجسيد بالكامل، وخاصة عندما ذكر مكالمة بين الناس، واستخدم اللهجة العامية الدارجة بينهم. فمثلا وضع عنوانا “ما حدش زيك”[12] في اللهجة المصرية الخاصة، وكذلك ذكر مكالمات في هذه اللهجة. وثمة سبب آخر لاستخدام العامية المصرية مما يمثل اهتمام حقي واعتزازه بهويته المصرية.
وطبعا، ويمتاز الأديب يحيى حقي بأسلوبه الخاص باستخدام الجمل الاعتراضية أكثر فأكثر، إنه تبنى ذلك بين الروايات والقصص والأقصوصة. ونجد الجمل الاعتراضية الكثيرة في هذه السيرة أيضا. أما الباب الثالث المعنون بـ”وجدت سعادتي مع الحمير”، كتب حقي فيه عن أيامه في الصعيد بين الفلاحين و الحمير ووضّح أقسام الحمير ودرجاته في لون أدبي بالتفصيل، ويكتب عن حمير القاهرة: “وكما لحقت أواخر سلالة الحمير الاستقراطية في الصعيد لحقت أيضا – وأنا صبي صغير- أواخر عهد الحمير في القاهرة بين شعبية وأرستقراطية. حكيمة القسم في حيّنا – حيّ الخليفة – سيدة عجفاء لم أر وجهها فهي مقنعة – كعصابة ” كلوكلوكس كلان- تلبس (لا أدري لماذا) حبرة بيضاء كأنما فصلتها من ملاية سرير، تخترق الدروب والحواري ممتطية حمارا، وبجانبها رجل يسندها بوضع ذراعه وراءها.” [13]
هذا، وأسلوب يحيى حقي الذي يميزه عن الآخرين، ولا يخلو أيّ من كتاباته من هذه الظاهرة الأسلوبية. ويسرف في استخدام الجمل الاعتراضية ليضيف معان جديدة إلى بعض السياق بدون انقطاع التسلسل للأحداث.
خاتمة البحث:
يتضح من دراسة هذه السيرة أنها خلاصة أعوام عاشها يحيى حقي، ولا تتضمن سيرة ذاته كلها، ولم تكن شخصية الكاتب محورا أساسيا تدور حولها السيرة بل المحور في الكتاب هو المجتمع الذي قضى فيه سنوات من حياته. فهي مذكرات الكاتب التي تنتهي بانتهاء مدة عمله بصعيد مصر، والتي تكشف لنا عن جوانب مختلفة من مجتمع مصر الريفي والمدني وعن ثقته البالغة بمصريته، مما يعرض صورة رائعة لشخصية الكاتب أديبا وناقدا وإنسانا، لذا يعدّ كتاب خليها على الله من أنجح أعمال يحيى حقي، بوصفها مذكرات عابر سبيل التي تسجل مشاهدات دقيقة وتأملات صادقة من حياته ومجتمعه.
***
المراجع والمصادر:
- حسن، مصطفى ابراهيم، يحيى حقي مبدعا وناقدا، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، مصر 1970.
- حقي، يحيى، خليها على الله، مطبع الجنة المصرية، 1987.
- فاروق، عبد المعطي، يحيى حقي الأديب صاحب القنديل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994.
- لويس، عوض، دراسات فى أدبنا الحديث (المسرح، الشعر، القصة)، دار المعرفة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1961.
————————————————————————-
[1]. أستاذة مساعدة، مركز الدراسات العربية والأفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيودلهي، الهند.
[2]. لويس عوض، دراسات في أدبنا الحديث ( المسرح، الشعر، القصة)، دار المعرفة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1961، ص178.
[3]. عبد المعطي، فاروق، يحيى حقي الأديب صاحب القنديل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994، ص: 65
[4]. يحيى حقي، خليها على الله، مطبع الجنة المصرية، 1987، ص5.
[5]. نفس المرجع، ص: 142
[6]. نفس المرجع، ص: 206
[7]. حسن، مصطفى ابراهيم، يحيى حقي مبدعا و ناقدا، القاهرة 1970، ص: 44
[8] يحيى حقي، خليها على الله، ص: 128- 129
[9] أي الخطبة
[10] نفس المرجع: ص 21
[11] نفس المرجع: ص24-25.
[12]. نفس المرجع: ص 197
[13]. نفس المرجع: 114
Leave a Reply