+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

مساعي السير سيد أحمد خان في سبيل الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم
بقلم:  د. عبد الحفيظ [1]

مدخل:

لقد أنجبت الهند شخصيات فذة لعبت دورا حيويا في سبيل إصلاح المجتمع الهند علما وفكرا وصلاحا، ومن أهم هؤلاء الأفذاذ شخصية طار صيتها بـاسم “السير سيد” الذي بذل كل الغالي والنفيس من حياته لأجل النهوض بمستوى المجتمع الهندي عامة وبمستوى المجتمع الهندي المسلم بشكل خاص، وتحققت أحلامه، مما خدم القوم والوطن خدمة لا يستهان بها. ومن هذا المنطلق، يرى أن هذه الشخصية كرس حياته على الدفاع عن الإسلام والمسلمين بينما كان لديه أفكار ومواقف اعترض عليها رجال الصلاح والتقى من ناحية العقيدة الإسلامية. أما هذا المقال فإنه يتناول جانبا من جوانب مواقفه الرامي إلى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلام، وما أثارت جماعة من المستشرقين شكوكا وسلبيات ضده.

 نبذة وجيزة:

كان الاسم الكامل لهذه الشخصية الشهيرة، السيد أحمد خان تقوي بن محمد متقي، إنه ولد في عام 1817م و توفي في عام 1898م، وكان من أبناء الهند العباقرة، فامتازت شخصيه عن معاصريه، بصفته مفكرا عالميا ومصلحا غيورا وقائدا عظيما وفيلسوفا كبيرا في القرن التاسع عشر الميلادي، في بداية حياته المهنية، عمل السر سيد في شركة الهند الشرقية كموظف ابتداء من عام 1838م فصاعدا، ثم التحق بالمدارس والكليات الحديثة وانشغل بالدراسة والقراءة انشغالا جاداً فأدام النظر في الجرائد والمجلات والكتب لتعزيز مهاراته العلمية على شاكلة الغرب، وإن السير سيد أحمد خان له إنجازات هامة في مجال التعليم والتربية وتطوير المجتمع الهندي علما وفكريا وثقافة، وهذه الإنجازات والأعمال للسير سيد تعتبر مصادر هامة في مجالاتها، لقد قدم السير سيد إسهامات غالية فيما يخص النهوض بالحياة الدينية والعلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للمسلمين في الهند، وركز على تزويد الأجيال الهندية المسلمة والغير المسلمة بثروة العلم بجانب تنمية مهاراتها وقدراتها في هذا المجال، وكرس حياته على تحقيق هذا الهدف النبيل.

لقد قام السير سيد أحمد خان بتأليف كتب عديدة ذات أهمية قصوى، ومن أعماله البارزة “جام جم” أي “كأس جم” بالفارسية، قام بنشر هذا الكتاب في عام 1839م، إلى ذلك له كتب أخرى مثل “انتخاب الأخوين” و”جلاء القلوب بذكر المحبوب” و”تحفة حسن” و”آثار الصناديد” و”فوائد أفكار” و”كلمة الحق” و”راه سنت وبدعت” أي “طريق السنة والبدعة”، و”كيميائ سعادت” و”أسباب بغاوت هند” أي “أسباب الثورة الهندية” و “الخطبات الأحمدية” وغيرها من الكتب الأخرى.

ومن أهم ما سعى السير سيد إلى إنجاز أهداف تمس بحياة المجتمع الهندي بشكل عام، وهو قيامه بتأسيس مدرسة في عام 1875م، سماها بـ”مدرسة العلوم”، واستمرت هذه المدرسة في سبيلها من نشر العلم وتعليم الأجيال المسلمة وغيرها من الهنود وتربيتهم تربية بناءة إلى أن تحولت إلى جامعة في عام 1920م، واشتهرت في العالم باسم “جامعة عليكره الإسلامية”، وعندما أكملت هذه المؤسسة التعليمية مئة عام على تحولها إلى الجامعة في سنة 2020م، فاحتفلت الجامعة بالذكرى المئوية وعقدت برامج عديدة ونشرت كتبا عديدة ومقالات بهذه المناسبة ولاسيما كتبا ومقالات تلقي الضوء مباشرة، على السير سيد أحمد خان وعلى حياته وأعماله وجهوده الرامية إلى توعية المجتمع الهندي، إذ أبدى جميع الكتاب والمؤلفين والعلماء عن فضل السير سيد أحمد خان.

وكان السير سيد أحمد خان يملك قلبا واعيا يتألم بما يضر المجتمع الإنساني بأسره، وكان لديه عقل حساس يشعر بالقلق والألم لما ينظره من سوء الحالة الاقتصادية والثقافية للمجتمع الإنساني الهندي، وانطلاقا من ‎‎إيمانه واعتقاده بأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة كانت جهوده ومساعيه كلها مبذولة تجاه تطوير المجتمع الهندي علما وثقافة واقتصادا، كما كان جل اهتمامه في هذا الجانب لصالح القوم و رفاهية المجتمع بدلا عن إنجاز مقاصده الشخصية وتحقيق أهدافه الخاصة. واتفق جميع من اشترك في هذا المؤتمر المئوي على أن الحل الوحيد للمشاكل المعاصرة التي يعاني منها المجتمع الهندي إنما يكمن في اتباع تعليم ومبادئ السير سيد أحمد خان من السعي إلى حصول العلم والمشي قدما جنبا إلى جنب مع الدول الأخرى في مختلف مجالات الحياة.

وجدير بالذكر أن السير سيد أحمد خان ألف كتيبا عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، يحتوي على 64 صفحة وسماه بـ”جلاء القلوب بذكر المحبوب”، ظهر هذا الكتاب عندما كان السير سيد ابن السادسة والعشرين عاما، على كل، قامت بنشره مطبعة ليتوغرافك بدلهي، وتتوافر نسخة هذا الكتاب في مكتبة مولانا آزاد بجامعة عليكره الإسلامية.

تناول السير سيد أحمد خان في هذا الكتيب جوانب مختلفة من السيرة النبوية، تتراوح ما بين أيام طفولة النبي صلى الله عليه وسلم ورحلته إلى الشام مع عمه أبي طالب وإخبار الراهب بأن المرافق لعمه أبي طالب سيختاره الله نبياً، ويجعله رسولاً بما أنه يتحلى بالبشارات والعلامات المذكورة في الكتب السماوية السابقة، وذكر سجود الشجر والحجر له صلوات الله وسلامه عليه، وواقعة المعراج وما حدث فيه من إسراء الله بالنبي عليه الصلاة والسلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم الصعود به إلى السموات السبع ومحادثة النبي صلى الله عليه وسلم مع الله عز وجل، وفرض الله على المؤمنين الصلوات الخمس إلى أن رجع إلى مبيته الذي بدأ منه هذا الإسراء والمعراج، فذكر جميع الحوادث التي حدثت في الإسراء والمعراج مستندا إلى الأحاديث الثابتة في هذا الصدد في كتب الحديث.

كما جاء في هذا الكتيب ذكر يختص بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة إثر المشاكل والآلام والصعوبات التي عانوها وكابدوها في مكة المكرمة من قبل المشركين والكفار، وفيه ذكر للوقائع والغزوات التي وقعت بين المسلمين والمشركين والكفار واليهود والنصارى ومآل هذه الوقائع والغزوات، ثم تطرق إلى سرد شمائل المصطفى عليه أفصل الصلاة والتسليم، وكان صلى الله عليه وسلم أوتي بجوامع الكلم ويظهر بين كتفيه على ظهره ختم النبوة مكتوبا فيه “لا إله إلا الله محمد رسول الله”،

وتضمن هذا الكتاب ذكر سير الصحابة وأخبارهم وذكر لأمهات المؤمنين وأولاد المصطفى صلى الله عليه وسلم من الذكور والإناث، وهناك وصف للأسلحة الحربية، وذكر لمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ولاسيما المعجزة الكبرى وهي القرآن الكريم الذي هو كلام الله، ومعجزة شق القمر، وفيه ذكر لفتح مكة ودخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة معلنا أنه جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، وقد كسر النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام التي كانت موجودة آنذاك في الكعبة، وشمل الكتاب ذكر حجة الوداع للنبي صلى الله عليه وسلم وخطابه فيه ونزول الآية القرآنية: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” ولقاءه صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى.

قام السير سيد أحمد خان رحمه الله بإزالة الشكوك والشبهات التي أثارها المستشرقون على الرسول والإسلام والمسلمين، وبهذا قدم مثالا لا نظير له، ولم يسبق إليه أحد في هذا الاتجاه، ولقد غرس في الشباب عواطف الشجاعة لمواجهة الوضع الراهن، وفي هذه الأيام والعصور المتأخرة المليئة بالخطر إن جهود السير سيد هي منارة لنا في سبلنا وطرقنا، فالحقيقة أن حياة السير سيد أحمد خان كلها هي عبارة عن الجهود والسعي إلى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام ومبادئه كما قاله العلامة عبد الحليم شرر، ولقد أحسن العلامة ألطاف حسين حالي ووافق شررا حين قال: “إنه (أي السير سيد) ترك لنا نموذجا للحياة هو أفضل نموذج مما لا نستطيع أن نجد أفضل منه في التاريخ يناسب وضعنا الحالي”.[2]

هناك جانبان مهمان لحياة السير سيد أحمد خان، أحدهما عملي واجتماعي، تظهر مؤهلاته في هذا الجانب كالقائد المفضال في الصف الأول والذي يقود الناس إلى ما هو مفيد وصالح لهم في حياتهم ويرشدهم إلى مصالحهم الدنيوية والأخروية، والجانب الثاني المهم لحياته هو أكاديمي وفكري، نعم! هناك بعض المسائل والمعتقدات والمبادئ الدينية الإسلامية مثل واقعة المعراج وحادثة شق صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم ووجود الملائكة وركوب النبي صلى الله عليه وسلم البراق وما إلى ذلك فإن السير سيد أحمد خان وقع في الشذوذ في مثل هذه المسائل والمعتقدات والمبادئ، فيما أنه فيها جمهور الأئمة والعلماء من أهل السنة والجماعة.

ولكنه جدير بالذكر أن السير سيد أحمد خان لم يخالف جمهور الأئمة من أهل السنة والجماعة في هذا الكتيب في المسائل والمعتقدات والمبادئ المذكورة أعلاه، بل يتفق معهم، ومصدر هذه الرسالة الصغيرة هو “سرور المخزون” و”مدارج النبوة”، يقول السير سيد أحمد خان في هذا الكتيب معرباً عن إخلاصه وحبه للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “خير ما في الدنيا أن تذكر نبيك الحبيب”[3]، ويقول في وصف جمال المصطفى صلى الله عليه وسلم وعظمته وحسنه وحلاوة كلام الرسول صلى الله عليه وسلم: “كان وجهه أكثر إشراقا من القمر ليلة البدر، وكان جسده متوسطا معتدلا ليس سمينا جدا ولا نحيفا جدا، وعندما يكون صلى الله عليه وسلم ساكتا صامتا فيهابه الناس ويخافه لظهور الجلال والهيبة على وجهه، وإذا تكلم تذهب المخافة والهيبة حيث أن كلامه يكون لينا حلوا يشتاق إليه السامع، وكان يغلب عليه الوقار والحشمة والأناقة، إذا رآه أحد من بعيد يراه في كمال الحسن وغاية الجمال، كأن الحسن والجمال قد انتهيا عليه، وإذا رآه من قريب يجده لطيفا كريما شفيقا، كان كلامه حلوا، وكان واسع الجبين، متصفا بمكارم الأخلاق، لا يغضب على أحد ولا ينتقم من أحد لنفسه، كل من رآه كان يقول: “إنه لم ير مثله أحدا قط”.[4]

كتب السير ويليام ميور كتابا في أربع مجلدات باسم “”The Life of Mahomet (حياة محمد) وجعل حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم غرضا يهدف إليه في هذا الكتاب، وعندما وصل هذا الكتاب إلى الهند وعلم به السير سيد ما فيه من دسائس وهجمات ضد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلق قلقا شديدا، حيث يقول ألطاف حسين حالي: “رأينا بأم أعيننا حالة السير سيد وقلقه واضطرابه أنه كلما انتهى من مهام كان يذكر كتاب السير ويليام ويتأسف شديدا ويقول: “إن الهجمات على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين تتضاعف من قبل غير المسلمين من اليهود والنصارى والمجوس والهندوس إلا أن المسلمين يجهلون تلك الهجمات جهلا تاما”.[5]

وحاول السير ويليام ميور تشويه الحقائق الإسلامية لأجل تضليل الناس عن الإسلام وتعاليمه ومبادئه، والحقيقة أن كتاب السير ويليام ميور كان يوقع الشكوك في قلوب الطبقة المثقفة بالثقافة الإنجليزية من المسلمين مع اليهود والنصارى والصهاينة[6]، فتصدى السير سيد للرد على هذه الشكوك والشبهات والإشكالات والاعتراضات والإيرادات التي أثارها ويليام في كتابه ضد  نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقاوم الهجمات التي شنها ويليام على الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم فأحسن الرد والمقاومة وأقنع المتشككين المتأثرين بما في كتاب ويليام من المسلمين وغيرهم بدلائل قاطعة وبراهين ساطعة، موضحا أن ويليام في كتابه لم يهتد إلى الحق في إثارة الشكوك ضد الرسول وتوجيه الاتهامات والإشكالات إلى النبي والإسلام والمسلمين، وجهود السير سيد أحمد خان في هذا الصدد قد تسببت لثبات كثير من طلاب اللغة الإنجليزية على دين الإسلام واستقامتهم على الملة السمحة بعد أن كانوا قد تأثروا بما في كتاب ويليام هذا من ادعاءات باطلة وعزموا الارتداد والخروج عن الإسلام، وقد ذكر عبد الحليم شرر أنه كتب عديد من طلاب اللغة الإنجليزية إلى السير سيد أحمد خان معترفين بجهوده ومساعيه في الرد على ويليام وكتابه هذا، وأنها لو لم تكن قد وصلت إليهم هذه الجهود وأضاءت لهم السبل والطرق وبينت لهم الحقائق لتأثروا بويليام وكتابه و لارتدوا عن دين الإسلام، وقد احتفظ السير سيد بهذه الرسائل طوال حياته وأحبها حبا جما، وكان السير سيد يرى أنها شهادة له وتزكية لما بذله من جهود جادة تجاه نبيه ودينه الإسلامي، ويرى أنها ستكون له شفيعا يوم القيامة وسببا للنجاة من النار والفوز بمرضاة الله ودخول الجنة. [7]

عندما أراد السير سيد الرد على كتاب ويليام ميور، فواجه مشكلة كبيرة عظيمة وهي عدم توافر المصادر والمراجع وصعوبة الحصول عليها، وذلك لأن المكتبات الإسلامية دمرت وخربت وأتلفت الكتب الموجودة فيها وانتهبت إثر ثورة 1857م، دمرها وأتلفها ونهبها الإنجليز المستعمرون الغاصبون، فلم توجد المصادر والمراجع إلا في إنجلترا، ولم يتمكن السير سيد من السفر إلى بريطانيا إلا بعد ما سنحت الفرصة لابنه السيد محمود أن يذهب إلى إنجلترا للتعلم هناك على منحة دراسية، فسافر إليها الأب والابن كلاهما، وبعد ما وصل السير سيد إلى إنجلترا بذل قصارى جهوده في الحصول على المصادر والمراجع، وفعلا قد حصل على المصادر والمراجع المطلوبة، وبدأ يكتب الردود على الشبهات والشكوك التي أثارها ويليام ميور في كتابه حتى دفعها بدلائل عقلية ونقلية قاطعة، وأجاب على الإيرادات والإشكالات والاعتراضات إجابة مقنعة ببراهين ساطعة حتى دحضها دحضا، واشتملت هذه الردود والإجابات على اثنتي عشرة مقالة أو خطبة نشرها في لندن مترجمة إلى اللغة الإنجليزية، قام بترجمة هذه المقالات أو الخطب رجل فاضل من الإنجليز. ويقول العلامة ألطاف حسين حالي في شأن وبيان الجهود التي بذلها السير سيد في هذا الصدد: “إنه حصل على الكتب من المصادر والمراجع من مكتبة خاصة بمكتب الهند في إنجلترا وجمع موادا كثيرة من مكتبة مستودع ومتحف إنجلترا، واشترى كتب السيرة باللغة العربية التي كانت قد طبعت في مصر وفرنسا وألمانيا واشترى بعض الكتب القديمة النادرة في اللغة اللاتينية والإنجليزية من أسواق إنجلترا بسعر غال جدا، وبعد الحصول على هذه المصادر والمراجع وجمع المواد بدأ يكتب على مدار الساعة حتى كتب اثنتي عشرة مقالة أو خطبة وطلب من عالم إنجليزي أن يترجمها إلى اللغة الإنجليزية وبعد أن تمت الترجمة تم نشرها في لندن باسم “الخطب الأحمدية”.[8]

نشرت هذه المقالات في لندن في عام 1870م، باسم “A SERIES OF ESSAYS ON THE LIFE OF MOHAMMED, AND SUBJECTS SUBSIDIARY THERETO”, وهي “سلسلة من المقالات عن حياة محمد والموضوعات التابعة لها”، وفي عام 1887م طبعت هذه المقالات ونشرت في اللغة الأردية مع الإضافات، وقامت بطبعها ونشرها مطبعة معهد عليكراه باسم “الخطب الأحمدية في العرب والسيرة المحمدية” المعروف بـ “خطبات أحمديه”، وقد واجه السير سيد في إعداد هذا الكتاب، مشكلة مالية بجانب مواجهته مشاكل عديدة أخرى إلا أن الحمية الدينية الإسلامية وحبه للنبي صلى الله عليه وسلم شجّعاه على التغلب على هذه المشكلات المالية وغيرها حتى أعد هذا الكتاب في أكمل صورة وأتمها، وقد ذكر السير سيد أحمد خان هذه المشاكل للسيد المولوي مهدي علي خان في رسائل عديدة أرسلها إليه من إنجلترا. [9]

في الحقيقة إن هذا الكتاب الذي ألفه السير سيد أحمد خان، يعد من أهم الكتب في أدب السيرة، وهو أول كتاب تم تأليفه في اللغة الأردية حول السيرة النبوية، وهو رد عنيف وجواب مقنع للهمجية الاشتراكية والصهيونية واليهودية والنصرانية وأعمالهم الشنيعة الرامية لتشويه صورة الإسلام والمسلمين وتشويه وجه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وقد أشاد البروفيسور آرنلد صاحب كتاب “Preaching of Islam” أي “الدعوة إلى الإسلام”، بمساعي السير سيد أحمد خان وجهوده تجاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه وعن الإسلام والمسلمين نظرا إلى كتابه هذا، إذ يقول البروفيسور: “توجد هناك أمثلة كثيرة أن مسلما كتب كتابا في الدفاع عن الإسلام و عن رسوله وأهله، وردّ على معارضيه من النصارى واليهود والصهاينة والمستشرقين والمجوس وغيرهم بلغته وفي بلدته ثم نقل ذلك الكتاب إلى إحدى اللغات الأوربية وتمت ترجمته إليها إلا أنني لم أجد مثالا و لا نظيرا أن أحدا من المسلمين سافر إلى أوربا وكتب كتابا في إحدى اللغات الأوربية في هذا الموضوع ونشره هناك”.[10]

ذكر الأستاذ السير سيد أحمد خان في كتابه هذا، ما رآه من الخيانة العلمية التي ارتكبها السير ويليام ميور في كتابه ضد رسول الإسلام والمسلمين وبين أنه حاد عن الحق والصواب، ثم رد عليه في خيانته العلمية وحياده عن الحق والصواب واتهاماته التي نسبها وطعنها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإشكالاته بطريقة علمية صائبة وتحقيقية عادلة، واستشهد بأقوال وآراء العديد من المؤرخين النصرانيين المسيحيين لدعم ردوده وإجاباته. وفي هذا الكتاب أثبت السير سيد أحمد خان بالحجج والبراهين أن الإسلام لا يجبر أحدا على اعتناقه واعتناق مبادئه معتقداته، وقد أدى طبع هذا الكتاب ونشره إلى إزالة الكثير من اللبس والخفاء وإبعاد الكثير من الشكوك والشبهات حول شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين عن قلوب أهل أوربا ولاسيما عن قلوب أهالي بريطانيا العظمى وساعد الأوربيين على فهم حقيقة الإسلام فهما صحيحا، كما تسبب نشر هذا الكتاب لإحداث موجة من البهجة والسرور بين المسلمين ولاسيما المسلمين الذين لهم صلة بالعلوم العصرية بجانب المنتسبين المرتبطين بالحكومة الإنجليزية في الهند آنذاك.

وطبعا، إن هذا الكتاب إنما هو أفضل مثال للتحقيق الدقيق والرصانة العلمية، وقد كشف السير سيد أحمد خان أيضا في هذا الكتاب، الغطاء والستار عن المعتقدات الضالة لليهود والنصارى بجانب إجاباته عن إشكالات المستشرقين وشكوكهم واتهاماتهم مستندا إلى كتب القوم أنفسهم ومستدلا بآراء علماء القوم، وهذا النوع من الإجابة والرد يسمى دليلا إلزاميا.

إن هذا الكتاب إنما هو عبارة عن اثنتي عشرة مقالة أو خطبة، وهاكم بعض التفاصيل لهذه المقالات أو الخطب الاثنتي عشرة.

المقالة الأولى: في هذه المقالة تناول السير سيد قسطا وافرا عن تاريخ شبه الجزيرة العربية ومحل وقوعها وتاريخ قطانها من العرب، لقد أنكر ويليام ميور في كتابه، بعض الأمور الحقيقية الثابتة للإسلام فجاء السير سيد أحمد خان وأثبت مستدلا بما في التوراة من بشارة محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة ومستندا إلى أقوال الباحثين من علماء النصارى واليهود أنفسهم هذه الأمور الحقيقية الثابتة التي أنكرها ويليام ميور في كتابه، فعلى سبيل المثال: هناك ذكر لـ “جبل فاران” في آية من آيات التوراة والتي قد يستدل بها المسلمون على بشارة النبي صلى الله عليه وسلم فهو في شبه الجزيرة العربية ولاسيما في مكة المكرمة حسبما يعتقده المسلمون والمؤرخون والجغرافيون بينما يدعي السير ويليام ميور بوقوعه في الشام أى سوريا، ويرى المسلمون أن أولاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام توطنوا شبه الجزيرة العربية وأقاموا فيها ولاسيما في الحجاز منها، ويرى ويليام أنهم لم يسكنوا فيها وإنما سكنوا في مكان غيرها، وكذلك يرى المسلمون أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل إلا أن ويليام ينكر هذه الحقيقة ويرى بعدم ثبوت أنه من ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام.

المقالة الثانية: هذه المقالة تتحدث عن عادات العرب وتقاليدهم ومعتقداتهم وأفكارهم قبل مجيء الإسلام والتي قد ذكرها الشعراء في قصائدهم وأشعارهم ووصفوها وصفا دقيقا، ومن خلال دراسة هذه العادات والتقاليد والمعتقدات والأفكار للعرب تظهر لنا جليا أنها كانت في أسوأ حالاتها إلا في جوانب منها، فلما جاء الإسلام قام بإصلاح هذه العادات والتقاليد والمعتقدات والأفكار السيئة وأرسى قواعد العادات والتقاليد والمعتقدات والأفكار الصحيحة السالمة عن الزيغ والانحراف والضلال، وتأثرا بالإسلام قد تغيرت عاداتهم وتقاليدهم الدينية كما تغيرت أحوالهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

المقالة الثالثة: هذه المقالة تناقش الأديان المختلفة السائدة عند العرب في شبه الجزيرة العربية قبل مجيء الإسلام إلا أن الإسلام لما جاء قام بإصلاح الأشياء الرديئة الموجودة في هذه الأديان وعرف الناس بدين جديد صحيح مشرق، كما ذكر السير سيد في كتابه هذا، الأديان التي يضاهيها الإسلام ويشابهها، وذكر أوجه التميز والأفضلية للإسلام على غيره من الأديان، وبين أن الإسلام هو الدين الحق وهو الدين الصحيح الذي ينبغي أن يتبع.

في هذه الخطبة الثالثة، رد السير سيد أحمد خان على الإيراد والإشكال الذي أثاره اليهود والنصارى وكل من يعارض الإسلام ويهجم عليه بأن الإسلام إنما هو عبارة عن جمع وتدوين وترتيب المعتقدات والمبادئ والأفكار للأديان السابقة له، فلم يأت الإسلام بجديد سوى الجمع والتدوين والترتيب، فقال السير سيد إن هذا التشابه والمضاهاة بين معتقدات الأديان السابقة للإسلام بمعتقدات الإسلام إنما هو دليل على أن الإسلام والأديان السماوية الأخرى مبدأها ومنشأها واحد، وهذا يدل على أن الإسلام هو الدين الصحيح والحق الذي ينبغي أن يتبع. [11]

الخطبة الرابعة: هذه الخطبة تنقسم إلى أربعة أجزاء، ففي الجزء الأول بيان وذكر للفوائد التي أحرزها المجتمع الإنساني بفضل الإسلام وتعاليمه، ولإثبات هذه الدعوى استدل السير سيد أحمد خان بأقوال الكتاب المسيحيين المشهورين البارزين واستشهد من خلال أقوالهم على أن الإسلام رحمة للبشرية جمعاء، وقد استفادت منه الديانتان اليهودية والنصرانية كثيرا، وفي الجزء الثاني من هذه الخطبة هناك رد على من زعم من النصارى أن الإسلام أضر بالمجتمع الإنساني وأنه لا خير فيه البتة للمجتمع الإنساني، وقد دحض السير سيد دعواهم هذه دحضاً، وأثبت أن الإسلام نافع للبشرية جمعاء، وأنه يدعو إلى حسن العشرة، وإنه استشهد بأقوال كثير من الكتّاب المحققين البارزين النابهين من اليهود والنصارى وغيرهم، وفي الجزء الثالث من هذه الخطبة، هناك شرح وتوضيح للفوائد التي حصلت عليها اليهودية والنصرانية على حد سواء من الإسلام ومبادئه، مثلا كان اليهود والنصارى يتهمون كثيرا بالأنبياء مثل لوط و داؤود وإبراهيم وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم، وأبناءهم وزوجاتهم بالزنا والفواحش وسيء الأخلاق في كتبهم مثل الكتاب المقدس والعهد العتيق، وأن الأنبياء كانوا يأتون بأفعال قبيحة شنيعة، فجاء الإسلام ودفع هذه الاتهامات عن الأنبياء وذب عنهم ودحض أقوال القائلين بهذه الاتهامات وبين أنهم – عليهم الصلاة والسلام – كانوا منزهين عن هذه الاتهامات والفواحش والآثام الموجهة إليهم[12].

وفي الجزء الرابع من هذه الخطبة هناك ذكر للفوائد التي أحرزتها المسيحية بسبب الإسلام من قيامها ضد اليهودية ومقاومتها إياها مقاومة شديدة قائمة على الأدلة والبراهين حتى تمكنت من الإعلان بأن يحيى كان نبيا صادقا من الله وأن عيسى عليه الصلاة والسلام عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، وقد دعا الإسلام الإنسانية بما فيها النصارى إلى ما دعا إليه المسيح عليه الصلاة والسلام من توحيد الله عزوجل وترك التثليث والشرك بالله كما قال الله عز وجل: ” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ”[13]، وقد استمع عدد غير قليل من النصارى إلى هذه الدعوة الإلهية القرآنية واعتنقوا بالإسلام الذي إنما هو تمديد للدعوة التي دعا إليها المسيح عليه الصلاة والسلام، وإن الإله واحد لا شريك له وهو الله عزوجل، فخرجوا من ضيق التثليث إلى سعة التوحيد، ومن ضلال الشرك إلى نور الوحدانية لله عز وجل، وقد نجاهم الإسلام من كثير من نيران البابا وأغلالهم ومعتقداتهم الضالة المنحرفة وسلطاتهم الجائرة من أن البابا يمتلكون الحقوق لفتح أبواب الجنة وأنهم يمتلكون الحقوق لغفران الذنوب والتحليل والتحريم، وهذا إحسان عظيم للإسلام على النصارى. [14]

الخطبة الخامسة: في هذه الخطبة، هناك بيان تفصيلي للأهداف القصوى التي لأجلها ألف المسلمون كتبهم الدينية مثل كتب الحديث والسيرة والتفسير والفقه وما إلى ذلك، كما ثمة شرح للمناهج والأصول التي اتبعها المؤلفون لمثل هذه الكتب في كتبهم حتى يتسنى للمحققين المنتسبين إلى أديان أخرى غير الإسلام وكذلك للمتشككين والمعترضين المخالفين للإسلام أن يعرفوا تلك الأصول والمناهج التي اتبعها المؤلفون المسلمون في كتبهم. [15]

الخطبة السادسة: تتناول هذه الخطبة، رواية الأحاديث وأصولها وطرقها، مؤكدا أن الإسلام مبناه على الأحاديث الصحيحة، وأنه لابد من العلم والإدراك والمعرفة لأسباب اختلاف الروايات والأحاديث ومعرفة الأصول والمصطلحات للوصول إلى الأحاديث الصحيحة أو الموضوعة والتمييز بينها، وكذلك لابد من معرفة الفن الخاص بأسماء الرجال الذي هو الطريق الموصلة إلى معرفة الأحاديث الصحيحة والسقيمة والتمييز بينها، كما ورد فيه رد مقنع مدعم بالدلائل والحجج والبراهين العقلية والنقلية على السير ويليام الاتهامات التي أتى بها في هذا المجال لسد سهامه وطعنه على الإسلام والمسلمين و نبيهم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. [16]

الخطبة السابعة: تركز هذه الخطبة على موضوع نزول القرآن وأسبابه، وترتيب السور والآيات من حيث التأخير والتقديم، والقراءات المختلفة والناسخ والمنسوخ، كما أن هناك بحثا عن طرق تدوين القرآن الكريم، ليثبت أن القرآن كلام الله ووحي من الله وأنه موجود الآن في أكمل صورته من غير زيادة فيه أو نقصان منه، وفي هذه المباحث هناك رد مقنع على علماء النصارى واليهود وغيرهم من المعارضين للإسلام والمعترضين عليه، القائلين بوقوع التحريف في القرآن والحذف والزيادة من الصحابة رضي الله عنهم. [17]

الخطبة الثامنة: في هذه الخطبة، كتب السير سيد أحمد خان عن الكعبة وبنائها ومحل وقوعها وحقيقتها التاريخية والجغرافية، وأثبت بأعمال المحققين النصارى والجغرافيين الآخرين بأن إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام وأولادهما كانوا ساكنين بجوار الكعبة، وأثبت بشواهد من التوراة أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأولاده كانت لهم علاقة وطيدة خاصة بالكعبة، وأثبت وجود الحجر الأسود فيها وأن النحر عبادة وأن الكعبة بيت الله، إذ أن السير ويليام أنكر في كتابه وجود الحجر الأسود فيها، وكذلك أنكر أن إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام وأولادهما كانوا يقبلون الحجر الأسود ويطوفون بالكعبة، وأنكر أنهم كان لهم علاقة خاصة بالكعبة وبهذه المناسك في أشهر معلومات وكذلك مناسك الحج من الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والإفاضة منها لرمي الجمرات والنحر بمنى والطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة وغيرها من مناسك الحج، ولم يفعل ويليام ذلك إلا ليثير الشبهات على نسب النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن ثم عدم ثبوت نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد عد ويليام النحر بمنى من أعمال الشرك، فكتب السير سيد أحمد خان رداً على هذه الاعتراضات والشبهات ردا مقنعا مدعما بالشواهد والبراهين والدلائل ودحضها دحضا. [18]

الخطبة التاسعة: هذه الخطبة مشتملة على إثبات وتحقيق نسب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إن السير ويليام بذل كل ما في وسعه من العلم والحيلة والمكر والدسيسة، وحاول قدر مستطاعه أن ينكر أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل، فجاء السير سيد أحمد خان ورد على سعي ويليام الشنيع ومحاولته الفاسدة هذه وأثبت بدلائل قاطعة وبراهين ساطعة أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ولن ينكر هذه الحقيقة إلا من هو المعاند الأصم المكابر الجاهل والغبي الأحمق الذي ختم على قلبه وسمعه وعلى بصره غشاوة، زد على ذلك أن السير سيد أتى بشواهد القوم أنفسهم حيث ذكر أقوال غير واحد من علماء النصارى واليهود والصهاينة المعتدلين الذين يثبتون بدلائل عقلية ونقلية أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم كان من أولاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام، كما ذكر قول السير غبن وروند فاستر وغيرهما، وهلموا بنا ننظر إلى ما كتبه السير سيد في هذا الصدد:

يقول السير سيد موضحا أن علم الأنساب ومعرفته كان ذات أهميه قصوى لدى العرب في مجتمعهم، وكانوا يبذلون قصارى جهودهم في حفظها ونقلها إلى الأجيال القادمة، وكانوا يطعنون رجلا لا يعرف نسبه فيسبونه في هذا الصدد، ويشتمونه ويعد الجهل بالنسب لرجل عارا عليه، ولم يكن يعرف العرب في الجاهلية الفنون إلا شيئين فيهم كانا موجودين، لا نظير لهما في العالم، أولهما القصائد والأشعار، وثانيهما علم الأنساب، وكانوا يثقون على حفظهم إذ أنهم كانوا أميين لا يعرفون الكتابة وكانوا يبذلون قصارى جهودهم في حفظ القصائد والأشعار ولاسيما قصائد شعراء قبيلتهم، كما كانوا يبذلون كل ما في وسعهم في حفظ أنسابهم، وكانوا يفتخرون بأنسابهم ويطعنون القبائل المخالفة لهم في أنسابها ولاسيما من لا يعرف نسبه، فعدم العلم بالأنساب كان سببا للطعن والسب والعيب في المجتمع العربي الجاهلي، وإن لم يحفظوا جميع الأسماء في النسب فإنهم كانوا يعرفون أسماء الأشخاص الكبار في القبيلة وذلك بسبب ذكر محاسنهم في القصائد والأشعار في الحروب وغيرها، وبذلك كان العرب يعرفون الرجال بأعينهم أن فلانا من قبيلة فلانية وأن فلانا من قبيلة فلانية، ولم يستطع أحد أن ينكر نسبه وقبيلته الحقيقية وينتسب إلى غير قبيلته، وهذا الأمر كان سائدا في المجتمع العربي أن الرجل كان ينسب إلى جده أو جد جده أو إلى جد أعلى لشخوص اسمه في القبيلة، وله نظير في إنجيل متى أيضا إذ نسب عيسى عليه الصلاة والسلام إلى داؤود، ونسب داؤود إلى إبراهيم، ففي إنجيل متى نجد مكتوبا: “عيسى ابن داؤود ابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام”، ومن المعلوم أن عيسى عليه الصلاة والسلام ليس ابنا حقيقيا لداؤود عليه الصلاة والسلام وكذلك داؤود عليه الصلاة والسلام ليس ابنا حقيقيا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا أنهما نسبا إلى جدودهما. حيث أن نسب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان معلوما ومعروفا لدى العرب جميعا أنه من قبيلة قريش، وقبيلة قريش من ولد معد بن عدنان، وعدنان كان من ولد قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم، وحيث أن نسب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان معروفا ومعلوما واضحا لدى العرب أكثر عرفانا ووضوحا من الشمس في رابعة النهار، لذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم نسبه ولم يسع إلى إثباته،[19]

واستدل السير سيد أحمد خان بقول المؤرخ الكبير السيد غبن: “إن من يتهم النبي محمدا بعدم ثبوت نسبه وأنه كان من قبيلة دنيئة خسيسة لا عبرة بها في المجتمع العربي فإن هذا افتراء، ولا يتجرأ على مثل هذا القول إلا الأحمق الجاهل الأعمى والأصم والأبكم الذي ختم على قلبه وسمعه، وعلى بصره غشاوة، فإنه يزعم بقوله هذا إنه يحاول أن يحط من درجة محمد وصفاته إلا أنه يزيد من درجته وصفاته، فكونه من أولاد إسماعيل أمر ثابت عقلا ونقلا ورواية لا مجال للشك فيه، فإننا وإن لم نعرف آبائه وأجداده الأولين فإننا نعرف علم اليقين أنه من قريش ومن بني هاشم، وهذه القبيلة كانت من أشرف القبائل وأفضلهم في العرب، وأنهم كانت لهم السيادة والريادة والسلطة، وأنهم كانوا محافظين للكعبة، ورثوا هذه الميزات كلها عن آبائهم وأجدادهم، وأورد السير سيد أحمد خان أيضا في هذا الصدد، أقوال المؤرخين الآخرين الذين هم ليسوا بمسلمين، وأثبت إثباتا حقيقيا بأن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم كان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، وكان له شرف وفضل من حيث القبيلة والنسب أيضا.[20]

الخطبة العاشرة: هذه الخطبة عبارة عن ذكر البشرى الواردة في التوراة والإنجيل لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة وقد ذكر السير سيد أحمد خان في هذه الخطبة تلك الآية من القران الكريم التي تخبر عن وجود الأخبار والبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته في الكتب السماوية السابقة، وهذه الآية هي: “وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعد اسمه أحمد فلمّا جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين”[21]، ثم ذكر السير سيد رحمه الله، الأسباب التي لأجلها لم يعتبر العلماء المسلمون القدامى بكتب الأنبياء الأولين، ومن ثم لم يعتنوا بالبحث والتحقيق عن البشارات لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة الواردة الموجودة في التوراة والإنجيل والزبور، ومن أهم هذه الأسباب هو التحريف في الكتب السماوية السابقة من التوراة والإنجيل والزبور وغيرها، ثم ذكر أولئك العلماء المحققين الذين بذلوا قصارى جهودهم في البحث والتحقيق عن هذه البشارات لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة الواردة في الكتب السماوية وعثورهم عليها في أماكنها المختلفة من هذه الكتب السماوية من التوراة والزبور والإنجيل. [22]

الخطبة الحادية عشرة: هذه الخطبة تتحدث عن الإسراء والمعراج وواقعة شق صدر التي تختص بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر السير سيد رحمه الله هاتين المسألتين المهمتين أي مسألة الإسراء والمعراج ومسألة شق الصدر في تفسيره بنوع من التفصيل إلا أنه خالف الجمهور في هاتين المسألتين وقام بالتأويل والتعطيل فيهما، وقال إن الإسراء والمعراج وكذلك شق الصدر لم يقع في الحقيقة وإنما كان وقوعهما مناما. [23]

الخطبة الثانية عشرة: في هذه الخطبة كتب السير سيد أحمد خان أحوال النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم من الولادة إلى أن صار الرسول ابن اثني عشر (12) عاما مستدلا بالأحاديث الصحيحة المعتبرة عند أهلها من المحدثين، واضطر السير سيد إلى الكتابة في هذا الجانب ليرد على السير ويليام، إذ أنه تكلم في كتابه عن أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم من الولادة إلى أن بلغ اثني عشر (12) عاما من عمره، ونسب كثيرا من التهم الكاذبة والأفعال الشنيعة القبيحة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ارتكبها في هذه المدة من عمره مثل انشغاله صلى الله عليه وسلم باللعب مع البنات الصغار، وزجره الطيور الجالسة على سقوف المنازل والبيوت وعضه على ظهر أخته من الرضاعة وبكاءه على قبر أمه عند ذهابه من المدينة إلى الحديبية وغيرها من الأفعال مثل هذه، يقول الأستاذ السير سيد أحمد خان إن هذه الأفعال والتهم المنسوبة إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من قبل السير ويليام وغيره من المعارضين للرسول صلى الله عليه وسلم لم تثبت وإنما هي ادعاءات محضة باطلة من قبل هؤلاء الأعداء ولا تسندإليها الدلائل ولا تعضدها الشواهد، ولو فرضنا جدلا وسلمنا لهم أقوالهم هذه الأفعال المنسوبة إليه صلى الله عليه وسلم بأنه فعلها فليست هذه الأفعال بغريبة أن يرتكبها الإنسان أيام طفولته، لأن هذه الأفعال موافقة للفطرة الإنسانية، فإن الإنسان في أيام طفولته يفعل مثل هذه الأفعال ويعمل مثل هذه الأشياء والأعمال، وقيامه صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الأفعال التي نسبها السير ويليام إليه صلى الله عليه وسلم ليس عيبا وجرحا وشينا لا للرسول صلى الله عليه وسلم ذاته ولا لنبوته ورسالته، فإنه لم يكن إلها، ولا ابن إله، ولا ملكا من الملائكة، بل إنه كان بشرا ولم يدع لنفسه إلا من البشرية، حيث أعلن الله عز وجل على لسانه في القران الكريم: “قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد”، وهذه الأفعال إنما هي من مقتضيات الفطرة الإنسانية ولاسيما إذا كان الإنسان صبيا فإنه يفعل مثل هذه الافعال[24]، وقد اتهم السير ويليام بأن محمدا (صلى الله عليه وسلم) كان قد تأثر بصوت الجرس الذي يصل إلى أذنيه من الصوامع والمعابد النصرانية واليهودية، وكذلك كان متأثرا بالصليب والأصنام والتماثيل التي كانت رمزا للدين والمذهب، ويظهر أثر هذه الرموز الدينية في دعوته ونبوته ورسالته، فرد عليه السير سيد ردا مقنعا مفعما بالدلائل قائلا: إن الرجل الذي كان قد تأثر بهذه الرموز الدينية قام بنفسه ضدها وقاومها مقاومة شديدة ونهى الناس عن عبادة هذه الرموز الدينية من الأصنام والتماثيل وغيرها، كما أنه أبطل عقيدة التثليث، ودعا إلى توحيد الله عز وجل في الدعاء والعبادة والربوبية والأسماء والصفات وكل ما يخص الله عز وجل، ونهى عن الشرك بالله، إذا لا عبرة بما قاله السير ويليام في هذا الصدد، ولا اعتبار لدعواه واتهامه أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان متأثرا بهذه الرموز الدينية[25].

إن المخالفين المضادين للإسلام من اليهود والنصارى والصهاينة والمستشرقين قد هجموا على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كثيرا في باب كثرة أزواجه، وقالوا: إنه تزوج بكثير وعديد من النساء لإشباع غزيرته الجنسية، ولكن السير سيد أحمد خان أجاب على هذه التهمة إجابة مقنعة ودحضها بالدلائل النقلية والعقلية بأن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم لم يتزوج من هؤلاء النساء إشباعا لغزيرته الجنسية، بل كان زواجه بعديد من النسوة من مقتضيات الدين والمجتمع والوقت، وإلا لم يعلن بهذه الآية في القرآن الكريم: ” لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا”[26]، بل كان بإمكانه كتمان هذه الآية عندما أنزلها الله عز وجل عليه هذه الآية، وهذا دليل قاطع على أنه لم يتزوج لإشباع غزيرته الجنسية، بل كان زواجه من مقتضيات الوقت والدين والمجتمع. [27]

خاتمة البحث:

هذا الكتاب الذي ألفه السير سيد أحمد خان باللغة الأردية تناول عددا كبيرا من الجوانب الخاصة بحياة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وذلك بمثابة رد مقنع على الاتهامات والشكوك التي أثارها المستشرقون وأعداء الإسلام والمسلمين ضد نبيه وتعاليمه، فإن هذا الكتاب يدل على مؤهلات السير سيد العلمية وجهده المتواصل وحبه للإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم حبا كثيرا. وذلك إن دل على شيء فإنه يدل على المساعي الجادة والجهود المخلصة التي قام بها السير سيد أحمد خان في سبيل الدفاع عن شخصية نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم. نسأل الله العلي القدير أن يتقبل هذا المجهود المبارك وأن يوفقنا لخدمة الإسلام والمسلمين ولخدمة البشرية كلها حسب تعاليم نبينا الكريم الذي بعث رحمة للعالمين.

***

المراجع والمصادر:

  1. خان، سر سيد أحمد، خطبات سيرة النبي المعروفة بالخطبات الأحمدية، دوست أيسوسي أينس، لاهور.
  2. خان، سر سید سید احمد، آخری مضامین، مرتب محمد امام الدین، مطبوعہ رفاہ عام پریس لاہور،
  3. مکتوبات سرسید: شیخ محمد اسماعیل پانی پتی، مجلس ترقی ادب لاہور،
  4. سرسید کی دینی برکتیں، دلگداز پریس لکھنؤ.
  5. جلاء القلوب بذکر المحبوب صلی اللہ علیہ وسلم: سید احمد خان بہادر عارف جنگ، لیتھو گرافك پریس دلی.
  6. حیات جاوید: مولانا الطاف حسین حالی،ترقی اردو بورڈ نئی دہلی۱۹۷۹.

 ————————————————————————–

[1]. أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، جامعة خواجة معين الدين الجشتي للغات، لكناؤ، الهند.

[2] حیات جاوید: مولانا الطاف حسین حالی،ترقی اردو بورڈ نئی دہلی۱۹۷۹ء، ص ۱۷

[3] جلاء القلوب بذکر المحبوب صلی اللہ علیہ وسلم: سید احمد خان بہادر عارف جنگ، لیتھو گرافك پریس دلی، 1259ھ،ص3

[4]  ينظر: جلاء القلوب بذکر المحبوب صلی اللہ علیہ وسلم، ص21-23

[5] الخطبات الاحمدیہ فی العرب والسیرۃ المحمدیہ المعروف بہ خطبات الاحمدیہ: سرسید احمد خان، دوست ایسوسی ایٹس، لاہور، ۱۹۹۶، ص۱۱

[6] حیات جاوید: مولانا الطاف حسین حالی،ترقی اردو بورڈ نئی دہلی۱۹۷۹ء، ص۱۵۸

[7] سرسید کی دینی برکتیں، دلگداز پریس لکھنؤ،سن ١٩١٣ء، ص ۹

[8] الخطبات الاحمدیہ فی العرب والسیرۃ المحمدیہ المعروف بہ خطبات الاحمدیہ: سرسید احمد خان، دوست ایسوسی ایٹس لاہور، ۱۹۹۶، ص۱۱

[9] الخطبات الاحمدیہ ،ص۱۲، مکتوبات سرسید: شیخ محمد اسماعیل پانی پتی، مجلس ترقی ادب لاہور، ص 431

[10] راجع: حیات جاوید: الطاف حسین حالی،ص۲۱-۴۲۰

[11] ينظر: خطبات الاحمدیہ، ص۱۵۳

[12] ينطر: خطبات الاحمدیہ، ص189-190

[13] آل عمران: 64

[14] ينظر: خطبات الاحمدیہ ، ص190-192

[15] ينظر: خطبات الاحمدیہ ، ص193-202

[16] ينظر: خطبات الاحمدیہ ، ص203-239

[17] ينظر: خطبات الاحمدیہ ، ص240-275

[18] ينظر: خطبات الاحمدیہ، ص276-304

[19] ينظر: خطبات الاحمدیہ ، ص305-306

[20] ينظر: خطبات الاحمدیہ ، ص312

[21] الصف: 6

[22] ينظر: خطبات الاحمدیہ ، ص315-349

[23] ينظر: خطبات الاحمدیہ ، ص350-375

[24] خطبات الاحمدیہ ، ص 378

[25] خطبات الاحمدیہ، ص37- 38

[26] سورۃ الأحزاب:52

[27] سر سید سید احمد خان، آخری مضامین، مرتب محمد امام الدین، مطبوعہ رفاہ عام پریس لاہور، صفحہ نمبر 149

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of