ملخص:
هذه المداخلة تبحث عن العلاقة بين النحو الكوفي والنحو البصري في أصل من أهم الأصول التي تبناها النحاة قديما و من خلال الحكومات التي أجريت من لدن الدارسين المحدثين في ضوء مستجدات البحث اللساني الحديث وهو أصل النصوص الاستشهادية وهل هذه العلاقة هي علاقة تكامل بين المدرسين أم هي علاقة فيها الكثير من الاضطراب والتفاصل؟ وتحاول أن تكشف بعض المقاييس التي اعتمدت في تلك المحاكمات النقدية في أعمال بعض النماذج التي لها وزنها في مضمار البحث النحوي الحديث.
المداخلة:
ما إن يذكر مصطلح النحو الكوفي إلا ويقرن بقسيمه الذي لا ينفك عنه وهو النحو البصري، وتتمثل أمام الدارسين تلك الحكومات التي سجلت لنا الخلافات النحوية في القضايا الأصول، بله المسائل الفروع وما انعكس عن تلك المسائل من تطبيقات في ألمع كتب النحاة، الأمر الذي يجعل القارئ أو الدارس في كثير من الأحيان يتدخل بعاطفة علمية تخلف في البحث الكثير من الخلافات الحادة أحيانا، والخلافات المبطنة بالكثير من الخوف والحرج في أحايين كثيرة، ولعل السبب في ذلك هو أن مطالعاتنا سطحية تأخذ بالأحكام العامة دون تمحيص، أو غربلة علمية حصيفة. ولكن الذي ينظر في هذا التراث اللغوي العربي الأصيل بعين القارئ النزيه لا يرى سوى الفكر النحوي السامق، الذي يعلو بهمة أصحابه عن الرزايا العلمية، ويجد لا محالة صرحا علميا عجيبا، فيه من التباري العلمي العالي، لأن سمت العلماء الكبار يأبى أن يعفر بحثه في أوحال الخصومات المغرضة، والخلافات العقيمة التي أحيانا تسفر للباحث النزيه عن علو كعب أعلامنا في احترام الآخر، فيما بدر منه من زلل أو كبوات، وهذا دليل على أن العقل العالم يترفع فوق السفاسف والصغائر.
أحاول في هذا المقال العلمي أن أنظر في الأصول الفكرية والمنهجية التي أسس بها أعلامنا للنحو العربي، و أبين حظ العلمية فيها عن طريق تفحص مقولات علماء أعلام محدثين ومعاصرين أخلصوا بحوثهم للتراث النحوي العلمي بعيدا عن فكر الاستشراق، وفكر من ينسابون نحو أهوائهم لهؤلاء الذين يريدون زرع الفتنة الفكرية في تراثنا المتنوع مشربا والمنفتح مآلا وغايات .
الأصول المنهجية التي أسست لصرح النحو العربي:
إن اشتغال الدار س بالأصول المعرفية والمنهجية يجد الكثير من الأسس المتكاملة التي يشد بعضها بعضا، وهي كثيرة أحاول أن أركز على أمر هام أراه يمثل مدار البحث النحوي في أصوله وفروعه وهو النصوص. وكيف اعتمدت أخذا وردا، وللحديث عن هذه النصوص نجد أنفسنا نبحث عن المقاييس التي تبناها النحاة لتحديد النصوص التي تقبل، والنصوص التي ترد مقابلة لها وهي التي لا تقبل، أو إن قبلت كان قبولهم إياها مشروطا بشروط قاهرة.
– إن النصوص التي قبلت كثيرة كما وردت في مدونتنا وقد وصلتنا دون تحريف فيها، ولا تغيير لها، وذلك لأمانة علمائنا وهو ما يقول به البحث اللساني العلمي الجديد.
– وهناك نصوص مقبولة ولكن مع ادعاء دخول تغيير فيها.
– وهناك نصوص تقع في الدرجة الثالثة وهي المرفوضة علميا، وهي التي لم يبنوا عليها قواعدهم، ولو يجيزوا الاحتجاج بها لغيرهم.
إن هذا التصنيف فيه الكثير من الأمانة العلمية، ووضوح المنهج عند علمائنا وهنا نجد أن اتفاق العلماء على هذه النصوص وخاصة لدن النحاة يمثل موقفا واضحا ومشتركا نظريا، ولكن من الناحية التطبيقية نجد فيه الكثير من الاختلافات في الصور التطبيقية على مختلف مستويات المدونة، من قرآن كريم بمختلف قراءاته خاصة المتواترة، ومنها الحديث النبوي الشريف أيضا،وكلام العرب شعرا ونثرا وعبارات جامدة أو مسكوكة.[1]
ويقصد بالنصوص اللغوية تلك التي كانت مصدر التقنين والتقعيد، وهذه النصوص أحيطت بعناية كبيرة من طرف النحاة، لأنها تمثل مدونة حية ينطلق منها عمل النحوي لضبط اللغة في كل مستوياتها، خاصة المستوى النحوي الجامع لخيوط المستويات التي تقع دونه منزلة، والمدونة في الدراسات الحديثة يشترط فيها أن تكون حية ” بسبب تداولها لا بسبب تدوينها، ومعنى هذا أنه كان أولى بالمسموع أن يكون ممثلا للغة الحياة التي كانت عندئذ حاضرة يجري بها التعامل اليومي بين أفراد المجتمع، وان لا يكون مكتوبا أو مرويا عن أصحاب المعلقات و عن الإسلاميين و غيرهم ممن قضى نحبه وانقضت أيامه …ولعل التوقف دون قبول النص المكتوب أمر بديهي ،لأن النص المكتوب لا يشتمل على أصوات حية مكتوبة.[2]
ولما كانت النصوص المستشهد بها هي التي يرجع إليها في بناء القواعد النحوية و رصد الضوابط اللغوية عموما اعتنى العلماء بها كثيرا وربطوها بالاحتجاج الذي يرتكز أساسا على السليقة اللغوية، والسليقة اللغوية نوعان: منها ما هو غريزي طبعي، ومنها ما يتحقق بالدربة والمران، والسليقة أكثر من مستوى، أولاها تمثل مستويات الأداء التي تفي باحتياجات الحياة الاجتماعية للقبيلة، ومنها مستوى آخر فوق هذا المستوى الذي تتطلبه ظروف اجتماعية مختلفة ودوافع فنية مغايرة ويتطلب خصائص لغوية متميزة.
في هذه المسألة يظهر الخلاف واضحا بين الكوفيين والبصريين بمصطلح الدارسين، ولكني لا أعتبر ذلك خلافا بقدر ما هو منهج اصطفاه الكوفيون لدرسهم اللغوي، حيث وسعوا دائرة النصوص مقارنة بمنهج البصريين، ومنه بالنظر إلى ضوابط البصريين التي ترتكز على خصيصة الاطراد في النصوص، لضبط القواعد العامة للغة العربية.
إذن اعتماد الكوفيين على السماع الواسع المنفتح والتقليل من القياس كان هذا الأمر أقرب إلى الواقع اللغوي لأنهم لم يكترثوا بالقلة أو الكثرة، و لا يرى الكوفيون أي سبب لتفضيل لهجة على أخرى ولا قبيلة على أخرى، فكل القبائل عندهم فصيحة اللغة، فهم يحترمون كل ما جاء عن العرب”[3]
يمكننا أن نعرف المسافة بين حدود الاطراد، وفسحة القلة، وتتبع الشواذ والنادر بحيث لا ينفلت من القاعدة الكوفية الحالات الاستعمالية القليلة التي نطق بها العرب وهذا مهيع سبيله واسع، وإن كان يذهب بالقواعد إلى مسالك كثيرة، بحيث ترصد القواعد الفرعية التي قد بصعب على النحوي استجماعها في ضوابط كلية، ولكنها تمثل حالة اللغة المستعملة في أدق تفريعاتها، وهذا يعني أن ما اعتبر من الاستعمالات الشاذة عند البصريين عد عند الكوفيين قواعد ثانوية تلحق بالقواعد الأصول، ولا شك أن مدونة النصوص في المذهب الكوفي دائرتها منداحة، ولعل تلك الشواهد التي ساقها الكوفيون قد بعثت من جديد، لأن ما عد شاذا رمي به في الركن أعيد إخراجه إلى السطح، وهذا منهج يشكر للكوفيين لأن الاستعمال عندهم مأخوذ بغير الشروط التي حددها البصريون.
وهنا يحق لنا أن نقول بأن الاستعمال ما دام صادرا عن عربي في أي مستوى من المستويين سابقي الذكر، وهما اللذان عبرا عنهما الجاحظ كما قال الحاج صالح بحالة الأنس وحالة الانقباض.[1][2]
والمقاييس الصورية اللسانية للفصاحة هي المرتكز الذي يحب الانطلاق منه، وكما نعلم بأن الفصاحة اللسانية بنوعيها كما حددها عبد الرحمان الحاج صالح الفصاحة العفوية عرفت امتدادا بالتناقص حتى اختفت بعد القرن الرابع، ولا شك أن الكوفيين استطاعوا أن يتتبعوها في ألسنة العرب، فلم يغادروا منها شاردة ولا واردة.
وهنا يمكن القول بأن الاستعمال عندهم ينطلق من المبدأ الذي وضعه البصريون وهو شرط الاطراد، ووسعوا الدائرة فطالت الحالات الاستعمالية الخاصة، وهذا المنحى يكون بقوة في النصوص الحرة والعبارات المسكوكة.
وإذا انتقلنا إلى الفصاحة المكتسبة التي تقاسم الفصاحة العفوية، وهي المكتسبة يحصل عليها العربي كملكة لسانية، وأما غير العربي لا يستطيع تحصيلها من البيئة الناطقة بالعربية مباشرة، بل تتحقق عنه عن طريق التلقين، وقد بسط هذه الفصاحة عبد الرحمان الحاج صالح بعد أن عرفها تعريفا دقيقا كما عرفها العلماء العرب، وقدم لها الكثير من الضوابط منها:
– يكون الذي ترضى لغته قد اكتسب ملكته اللغوية في بيئته بسجيته، ولم تكن له لغة أخرى نشأ عليها.
– أن لا يكون أصل منشئه معروفا بكثرة الاختلاط اللغوي.
– فإن سكن إحدى هذه القرى فألا يكون قد أطال مقامه فيها.[3]
وهذه الشروط كلها تجعل اللغة سليقية يستطيع النحوي رصد ضوابطها وفق منهج سليم، وفي هذا التوجه إبعاد للغة العربية المشوشة باللحن والخطأ.
والمستويان المذكوران أي مستوى التخاطب اليومي العفوي الذي يقتضي الخفة والاقتصاد الكبير لا يغير النظام اللغوي في جوهره، بل إن قوانين هذا النظام فإن بالغ فيه الناطق، ومس بذلك النظام في باطنه صارت اللغة لغة أخرى، أو نوعا من العامية وهذا -طبعا- لا يحصل إلا في ظروف اجتماعية وتاريخية معينة، وهنا لم ينزل الكوفيون بمنهجهم المنفتح إلى اللغات اللاحنة والعامية، بمعنى أن المساحة هي مساحة اللغة السليقية، هذه الأخيرة التي تجتمع فيها الفصاحة العفوية بالفصاحة المكتسبة، وعموما كما يقول عبد الرحمان الحاج صالح اللغة التخاطبية عند الفصحاء القدامى هي نفس اللغة الفصيحة التي كانوا ينظمون بها أشعارهم، إلا أن كيفية استعمالها تختلف كما تختلف حالة الأنس عن حالة الانقباض”.[4]
إن هذه السليقية اللغوية التي نقلتها لنا النصوص اللغوية في مدونتنا نظر إليها العلماء من زاويتين زاوية تمثل الموقف اللغوي الصرف، وهو الجانب الذي يهتم به كثيرا النحوي واللساني عموما ومدونته كثيرة وواسعة، ويتجسد في اللغة التخاطبية التي أنتجها العربي السليقي، و الزاوية الأخرى التي تكملها تتمثل في الذوق الفني الخالص، وهذا الأخير كما يقول عبد الرحمان الحاج صالح يتسبب فيه المعايشة الطويلة للتراث، بحيث لا يستسيغ ما يحدثه التغير الاجتماعي، وما يصحبه من النظر الفكري.
وما يمكننا الخلوص إليه أن المقاييس الموضوعية التي اعتمدها العلماء وخاصة في معيار النصوص أو الاستشهاد -وعلى كثرتها – فإنها قد أضاعت العديد من اللغات، وأنهم قد خلطوا بين اللغة المشتركة ولهجات الخطاب، ولكن الأمر المقطوع به هو أن كل التأديات التي تظهر في الاستعمال اليومي هي أمر لا يخص اللغة في بنيتها ونظامها في زمان الفصاحة وفي زماننا، بل الأمر يتعلق بطريقة استعمالها وبكيفية النطق بها، ربما هذا الأمر يحدث إرباكا في التحليل الصوتي، كما قال تمام حسان ولكن على المستويات العليا، وخاصة المستوى النحوي فلا يحدث الإشكال في نظامها الداخلي البنوي.
ولنا في هذا المعيار بعض الاستثناءات في القراءات القرآنية بين البصريين والكوفيين من الناحية المنهجية التطبيقية كما يقول تمام حسان” فقد وصف بعض النحاة بعض القراءات التي قبلها القراء بأنها شاذة، كقراءة ابن السميفع وأبي السموأل وأبي حنيفة، أي أن النحاة صرفوا انتباههم إلى الشرط الثاني وهو موافقة العربية ولو بوجه، وأما غيرهم من الفقهاء والأصوليين فقد صرفوا انتباههم على العنصر الثاني من الشرط الأول وهو التواتر[5] أي صحة السند.
بالنظر إلى التوترين المتناقضين بين رؤية النحاة اللغوية في علم الدراية اللسانية والرؤية الأصولية الفقهية التي تنظر إلى السند، والملتقى بينهما واحد، وهو أن صحة السند تقتضي موافقة العربيةـ وموافقة العربية قد لا تقتضي صحة السند وإن لم تنافيها اقتضاء.
وكان للسيوطي في هذا الموضوع نظرة توفيقية” وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذة لا أعلم فيه خلافا بين النحاة” بمعنى أن القراءة إذا وافقت قياسا احتج بها على القاعدة في عمومها، وإذا خالفت القياس احتج بها في مثل هذا الحرف فقط.هذا هو موفق البصريين وكأنهم يفصلون بين القاعدة المطردة والقاعدة الشاذة الاستثنائية.
وقد خالف البصريين في ذلك معظم الكوفيين. ومعنى هذا كما يقول تمام حسان أن طعن النحاة في قراءة ما لا ينبغي أن يعد طعنا في القرآن نفسه، لأن النحوي الذي يطعن في إحدى القراءات يقبل القراءات الأخرى، ولا يطعن فيها، وإنما يعد ذلك نقدا لرواية ما في ضوء معيار نحوي، ولقد أنحى جماعة من المتأخرين باللوم على النحاة لسلوكهم هذا المسلك، ومنهم ابن حزم الأندلسي الذي كان يروي أن النحاة فضلوا كلام الأعراب على كلام الله تعالى”[6]
إذا اعتبرنا معيار النصوص وثيقة الصلة بالاستشهاد، وذلك ضمن ثنائية المسموع المطرد والشاذ في الاستعمال، الأول أخذ به البصريون في ضبط قواعدهم، وقللوا من أهمية الشاذ. فإن الكوفيين اتخذوا من الشاذ والقليل معينا في ضبط قواعدهم. وهذا المهيع استطاع علماء كثر أن يستفيدوا منه، خاصة الشاهد الشاذ، ولعل أبرزهم ابن جني الذي أبدع في كتابه المحتسب في توجيه القراءات الشاذة، لأن الشاذ مثله مثل المتواتر قبل أن ينقطع سنده في مرحلة النبوة، وفي المرحلة التي كانت لصيقة لها في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع الرعيل الأول.
وهناك فكرة أخرى يجب أن نلفت الأنظار إليها، وهي أن الفيصل بين اللغات اطرادا وشذوذا، لا يعني شيئا ضمن مقياس جامع لفرط المبدأين السالفين وهو ما عقد له ابن جني فصلا بعنوان” باب اختلاف اللغات وكلها حجة” فقال:” اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك ولا تحظره عليهم. ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال ” ما” يقبلها القياس، ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك. لأن لكل واحد من القومين ضربا من القياس يأخذ به ويخلد إلى مثله. وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها، لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها.لكن غاية ما لك في ذلك أن تتخير إحداهما، فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها، وأشد أنسا بها، أما رد إحداهما بالأخرى فلا”[7]
لعله يظهر لنا أن الكوفيين يتكافؤون مع البصريين في هذا المقياس، فلم يردوا قياسا بقياس. لأن مثلا في القراءات قال النبي” نزل القرآن بسبع لغات كلها كاف شاف.” ما دامت العلة الجامعة بينهما واحدة. غير أن البصريين احتاطوا للقياس والاطراد فقالوا كما ذكر ابن جني في تتمة النص السابق ” …فأما أن تقل إحداهما جدا وتكثر الأخرى جدا فإنك تأخذ بأوسعهما رواية، وأقواهما قياسا.
إذن الضابط الذي يرجح اعتماد الأوسع جيدا عن القليل جيدا هو هذه المسافة الكبيرة بينهما. ولعل هذا هو الذي لم يلتفت إليه. يعلق عبد الرحمان الحاج صالح على هذا القول بكلام جميل هو:” أن هذا النص صريح في أن النحاة العرب لم يصدر منهم أي احتقار للعناصر اللهجية، ولأي طريقة من الكلام سمعت من فصحاء العرب، ويمثل هذا الكلام الموقف الحقيقي الذي وقفه أكثر العلماء إزاء اللغات. والعجيب أن كل الذين اتهموا العلماء العرب بهذه التهمة قد سكتوا عن هذا النص الذي لا يحتمل أي تأويل”.[8]
و هنا كأني بالعالم المحقق عبد الرحمان الحاج صالح يجيب عن استفساراتنا، ويرد على الذين تزمتوا لآرائهم في نبذ بعض الل[9]غات والوجوه حينما قال:” فإذا كان الأمر في اللغة المعول عليها هكذا وعلى هذا يجب أن يقل استعمالها وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع. إلا أن إنسانا لو استعملها، لم يكن مخطئا لكلام العرب، لكنه كان يكون مخطئا لأجود اللغتين.” وهو يأخذ بالقول الوسط. فالأولى كما يقول البصريون بالاطراد، ولكن لا ينفي هذا الأخذ بالقلة بل بالشاذ، ما دام داخلا في لغات العرب، ولهذا يجب على الدارسين التمييز بين الخطأ الذي يخرجه من كلام العرب، والخطأ الذي يكون مبعدا صاحبه عن أجود اللغتين. فإذا عزت الجودة الثانية، وجب الأخذ بقول العربي ما دام فصيحا جيدا قال به العرب السليقيون.
الخلاصة:
ما أردت التنبيه إليه هو أننا في حاجة إلى إعادة قراءة التراث قراءة فاحصة بعيدا عن الأحكام العامة، والأفكار الناقدة التي صارت من الكلام العام العادي. والبحث عن الفكر النحوي النقدي الجاد الذي يعيد للتراث بريقه، ونحاول أن نعيد قراءة الخلافات النحوية، والحكومات التي فصلت بين الفريقين قراءة إيجابية لا تقصي شيئا، ما دامت شروط الفصاحة ومعيار النصوص متوفرا لدى القارئ أو المحلل اللساني.
فالكوفيون أزاحوا المسافة بين المطرد والشاذ، ما دام هذا الأخير يمتاز بشرط صدوره عن العربي السليقي. فالعلماء العرب كانوا ينشدون الحقيقة العلمية، وأما تلك النصوص التي صورت لنا الخصومات النحوية بين رؤؤس علماء المدارس النحوية فحري بنا أن نتلافاها. وأن نبحث عن المساحة التي جمعت الفريقين وما أكثرها، و لا نضخم من تلك الروايات القليلة التي تقزم من شأن علمائنا الذين حباهم الله بعلم وافر، وعقل سابغ، ولله در ابن جني وعبد الرحمان الحاج صالح اللذين يعملان على التمكين لهذا المنهج الصارم.
وإذا نظرنا لهذا المنهج نظرة ديداكتيكية أمكننا إعادة وصف للعربية فتنضبط قواعدها انضباطا فيه من الشمول الكثير، فيكون الطرح الكوفي أكثر حظا لدى المتعلمين في الأطوار التعليمية المتقدمة، لأنه لا يغيب من العربية حالات الاستعمال اليومي المكثفة، بحيث تخرج الحالات الشاذة من ركن الاحتفاظ إلى عالم الاستعمال والتداول، فتكون لغة “أكلوني البراغيث” لغة طيعة في الألسنة، وخاصة وأنها تحمل طاقات دلالية عجيبة من توسيع وتأكيد وبيان، كما يكون عطف المظهر على المضمر بابا مشرعا على الفهم الصحيح للغة في سياقات استعمالها اليومي بكل ملابساته. وغير ذلك من المسائل الصرفية والنحوية التي أثبتها الدرس النحوي الكوفي بشقيه القديم والحديث، بل والتوجهات الجديدة التي أفادت من حقل الكوفيين كل ما يتساوق والدرس اللساني التداولي والتواصلي الحديثين.
وهذا المنحى يعطي اللغة المستعملة إمكانات تعبيرية، وطاقات توصيلية واسعة ومكثفة فتغدو البنيات التركيبية أكثر مرونة وطواعية لكل ما يدور في خلده من أفكار وأحاسيس، بله من عقل ومنطق في عالم لا يسمح بتداول لغة محدودة الألفاظ، والكلمات ضيقة التراكيب، منمطة الأساليب.
فنحن في خاتمة هذه الخاتمة لا نجد تفاصلا بين البصريين والكوفيين بقدر ما نجد بينهما تكاملا عجيبا، فكم كان للكوفيين من آراء جديدة استدركت على آراء البصريين الكثير من المسائل، فصار القول بالرأي الشاذ والاستثنائي يكمل ما خرج عن إطار المطرد والغالب، وبالجمع بينهما نحصل على منهج يحيط بلغتنا تحليلا وفهما بل وإبداعا.
قائمة المراجع:
– الأصول دراسة ابيستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب نحو فقه اللغة بلاغة لتمام حسان دار الهيئة المصرية للكتاب طبعة 1982.
– أصول التفكير النحوي لعلي أبي المكارم دار غريب القاهرة طبعة سنة 2006.
– السماع اللغوي االعلمي ومفهوم الفصاحة لعبد الرحمان الحاج صالح مطبعة موفم للنشر الجزائر 2007.،
– المجلة العلمية لجامعة الإمام المهدي، العدد:2 ديسمبر 2013
– أصول التفكير النحوي، علي أبو المكارم،دار غريب القاهرة 2006 ص:288.[1]
-الاصول دراسة اييستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب نحو و فقه لغة و بلاغة لتمام حسان، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1982 ص 95[2]
– اختيارات نحاة الأندلس بين مدرستي الكوفة والبصرة النحويتين وأثر ذلك على تطور الدرس النحوي، فاروق أحمد الهادي، المجلة العلمية لجامعة الإمام المهدي، العدد:2 ديسمبر 2013 ص:178.[3]
– أصول التفكير النحوي لأبي المكارم،دار غريب القاهرة 2006 ص:288، [1]
2- السماع اللغوي العلمي ومفهوم الفصاحة لعبد الرحمان الحاج صالح، صك 178.[2]
– الأصول: لتمام حسان، ص: 99. [5]
– الخصائص لابن جني، تح: محمد علي النجار ج2 ص: 10.[7]
Leave a Reply