+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

اشتغال الحجاج في القصص القرآني: قراءة في قصة إبراهيم عليه السلام في سورة مريم 
جواد عامر

يتميز المكي من سور القرآن بتناول قضايا الاعتقاد لارتباطه بالبيئة التي وسمتها الوثنية البادية في كل معلم من معالم الحياة بها ، فكان نزول مريم في مكة عدا آيتين هما  58 و71 نزلتا في المدينة ، ذلك أن مريم جاءت لتصحح العقيدة الفاسدة التي راجت في الثقافة المسيحية لإثبات وحدانية الله تعالى وألوهيته في نفي صريح بعد استعراض أحداث قصة مريم وحملها بعيسى عليه السلام ومجيئها القوم الذين اتهموها بالفاحشة لينطق الله الصبي في مهده في واحدة من اكبر معجزات التاريخ فيكون شاهدا على براءة أمه مريم عليها السلام قال تعالى في تأكيد قوي على ألوهيته { ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون }[ مريم 35] ، ليدحض  النفي الإلهي مزعم فاسدي العقيدة ويقطع دابرهم ، ولما كان السياق القرآني في مريم سياق تصحيح للاعتقاد وزرع لبذرة التوحيد في الٌقلوب جاءت خيوط ناظمة في غاية الائتلاف  قد تظهر لغير العارف باللغة نشازا ينتقل فيه الخطاب في رحلة تاريخية بين عدد من الأنبياء  منهم إبراهيم عليه السلام وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم السلام جميعا ، وقد أشار الله تعالى إلى هؤلاء الأنبياء واحدا تلوى الآخر باقتضاب شديد مثبتا نبوتهم ورسالتهم ومكانتهم ، لكنه في الجزء المخصص لإبراهيم عليه السلام عرض مقتطفا من قصته مع والده عرضا مشهديا حواريا يرتبط بنفس الناظم الذي يلملم خيوط السورة وهو تصحيح العقيدة يقول تعالى { واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيئا 41 إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا 42 يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا 43 يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا 44 يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا 45 قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا 46 قال سلام سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا 47 وأعتزلكم وما تدعون من دون الله عسى ألا أكون بدعائي ربي شقيا48  فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا 49 ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا 50} سورة مريم [41-50]

إن النظر في هذه المحاورة العقدية بين إبراهيم عليه السلام وأبيه تثبت مدى البلاغة الحجاجية التي كان إبراهيم يتمتع بها فهو النبي الذي بينت القصة القرآنية أنه ظل يمارس فلسفة التساؤل بحثا عن الإله في محاولة للجواب عن السؤال الفطري الذي يعتمل في الكينونة الإنسانية منذ فجر التاريخ فاعتقد في الكوكب  والشمس واعتقد في القمر إلى أن جاءه الهدى من ربه قال تعالى { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم  الظالمين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } سورة الأنعام[76ـ78] ، كما ظهر تجد محاجاته للملك النمرود بادية في كل مراحل تحاورهما لدرجة إفحام الملك ورد كيده إلى نحره قال تعالى { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } [سورة البقرة 258] ، وما صنعه إبراهيم عليه السلام مع قومه حين هدم الأصنام إلا كبيرا لهم حتى إذا سألوه عن فعلته أخبرهم أن يسألوا كبيرهم  ، فيقيم عليهم حجة مادية عينية لا تخالف المنطق البتة قال تعالى { قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم  قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون   فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون   ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون   قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم   أف لكم ولما تعبدون } سورة الأنبياء [62-67].

إن هذا الاستعراض السريع لمناحي الحجاج القرآني على لسان إبراهيم عليه السلام يدل على أنه كان يمتلك قدرة هائلة على الحجاج ومغالبة الآخر فكان لجوؤه للمنطق العقلي أقوى السبل عبر ميكانيزمات الاستدلال والقياس والاستنتاج والاستقراء والاستنباط وهي تقنيات عقلية محضة يلجأ إليها المحاج في مواقف تواصلية تحتمها سياقات الكلام فينتقي منها الأصلح للمحاجة ، فآيات ” مريم ” تبرز عبر المحاورة مدى حضور المنطق العقلي لمنح الخطاب درجات إقناعية عليا يبتدؤها النبي عليه السلام بتقديم حجة مادية ملموسة تقوم على البيان والتفسير المجزئ للشيء فالأصنام كائن حجري لا سمع له ولا بصر، ولا يستطيع أن يفيد بشيء ولا قدرة له على إلحاق الضرر بالإنسان مادام أنه مصنوع من يد نحات كآزر نفسه الذي يدرك هذه الحقيقة العينية التي لا سبيل إلى إنكارها ، فنجد إبراهيم عليه السلام مستحضرا صفات الكائن البشري العاقل من سمع وبصر باعتبارهما آيتين من آيات الله في خلقه وهما من صفات الله تعالى ( السميع والبصير) فينفي عن الأصنام هذه الصفات التي لا تؤهلها لأن تكون معبودا من دون الله المستحق للعبادة ثم يقيم على والده حجة ثانية بتواضع وأدب الأنبياء فيقول { يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا } [مريم  ]43 ،فلا يدعي المعرفة من تلقاء نفسه وإنما يقر بأنه نبي يوحى إليه من الله ببعض العلم ، الذي يفترض أن يكون طريق هداية للأب في مجاهل الطرقات ، كما لو أن رجلا أراد أن يسلك مجاهل صحراء وهو لا يعرف الطريق،  فحري به أن يتخذ له دليلا يرشده فيقيه أنياب السباع ومخالب الوحش، فينجو بهذا الاتباع وهي حجة منطقية واقعية لا ينكرها الصغير والكبير ، ثم تأتي الحجة الثالثة عبر آلية الاستدلال في قوله تعالى { يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا }[ مريم 44] وهي حجة تاريخية فقصة الشيطان وآدم معروفة ومتداولة في المدونة التاريخية البشرية ، ولابد أن عبادة الأصنام هي عبادة للشيطان وما دام الشيطان عصي للرحمن فإن آزر سيكون عصيا لله تعالى ، إنه منطق استدلالي برهاني شبيه تماما بذلك المنطق الفلسفي السقراطي الذي يقول فيه سقراط : سقراط إنسان / الإنسان فان / إذن سقراط فان ، ولابد أن هذه المحاولات المتتالية لم تحظ عند آزر بقبول مما جعل إبراهيم عليه السلام يغير منبع الحجاج من العقل إلى العاطفة عل البنوة تحرك في قلب آزر شيئا من الفطرة السليمة وتقيم اعوجاجها فيقول الله تعالى { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا } [مريم  45 ]، فيحضر معجم لغوي ينبثق من الباطن ( أخاف ـ يمسك ـ رحمن ) معجم منتقى بعناية يستجدي ململة العواطف الأبوية ظهرت منذ الوهلة الأولى عبر صيغة النداء ( يا أبت ) التي ترددت لأربع مرات دون جدوى فيكون الرد من آزر شديد الغلظة ، حاد النبرة ، مدويا يكاد يخترق صماخ الأذن ، يشحنه التهديد والأمر بالهجر قبل تنفيذ العقاب وتكنفه الأصوات المجهورة والمؤكدات القوية ( أنت ـ اللام في أرجمنك  ونون التوكيد الشديدة  واللام في لَئِنْ ،  ليعقبه رد رقيق شديد الليونة بأصوات مهموسة ( السين التي تكررت ثلاث مرات ـ الفاء ـ الحاء ) وتظهر في الكلمات ( سلام ، سأستغفر، حفيا ).

إن حجاج إبراهيم عليه السلام مع قومه وغيره يتخذ في غالب المقامات الكلامية صبغة عقلية محضة إذ لا مجال حينها لاستخدام عاطفة مع قوم جفت منابع الرقة والليونة في قلوبهم لما جعلوا أصنامهم المنحوتة بأيديهم آلهة وهمية لهم ، غير أنه وبدافع البنوة والنبوة معا يزاوج بين الحجاجين العقلي والعاطفي في محاولاته إقناع أبيه الذي كان أكثر تعنتا وتشبثا بعبادة أصنامه، دون أن يغلظ له القول أو يخل بأدب البنوة ليقدم إبراهيم عليه السلام درسا رائعا في طريقة تعامل الأبناء مع آبائهم ولو كانوا على غير الهدى مستحضرين قول الله تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون } [لقمان 15]

 *الكاتب عضو منتدى مجمع الشبكة العالمية للغة العربية بمكة المكرمة

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of