مقدمة:
من ديوان (أفسَّرُ قلقّ الرّيح) للشّاعر عمر هزّاع لفتت نظري قصيدة “تحوّل” لِما فيها من تعدّديّة في التّقنيّات الأسلوبيّة الّتي يعتمدها الشّاعر في ذات القصيدة، ما يضطرّني للادّعاء بأنّها العمل الفنّيّ الّذي يستحقّ أن يوصف بأنّه الشّعر الحقيقيّ، والشّعر الحقيقيّ هو الشّعر الّذي يرسخُ في ذاكرة القارئ ويستدرجه لمعاودة القراءة، لاستخلاص زبدة ما سيقوله هذا الشّعر. وقبل أن أخوض في تناول القصيدة، أرى من المناسب أن أقدم لكم نبذة عن الشاعر.
نبذة عن الشاعر:
الشّاعر العربيّ السّوريّ عمر جلال الدّين هزّاع، ولد وترعرع في مدينة دير الزّور سنة 1973، يحمل شهادة الدكتوراه في الصّيدلة، ورغم هذه الثّقافة العلميّة الواسعة، وعلى عكس جميع التّوقّعات، فقد حلّق في سماء الشّعر فأبدع فيه أيّما إبداعٍ. وهو يحمل الكثير من شهادات التّكريم من قبل الجمعيّة الدّوليّة للمترجمين واللّغويّين العرب، على النّحو التّالي:
- في 2009 شارك في النّسخة الثّالثة من مسابقة أمير الشّعراء في أبو ظبي.
- سنة 2010 اختاره تجمّع شعراء بلا حدود شاعر العام.
- سنة 2016 حصل على جائزة أفضل قصيدة في قطر.
- سنة 2016 حصل على الجائزة الأولى لمسابة شذرات الدّوليّة في الكويت.
- سنة 2016 تأهّل لنهائيّات مهرجان قابس التّونسيّ في دورته الرّابعة.
- سنة 2017 حصل على الجائزة الأولى في الشّعر الفصيح في الأردن من قبل التّجمّع العربيّ للأدب والإبداع.
- حاصل على جائزة شاعر الرّسول في نسخته الثّانية في مهرجان كتارا في قطر.
- كما له مشاركات في لجان تحكيم للشّعر الفصيح.
- وهو مسجّل في روابط وتجمّعات وهيئات ومعاجم وأعلام الفرات.
له دواوين شعريّة عديدة لعلّ أهمّها:
- ديوان (وسِراجًا منيرًا) وهو عبارة عن بحث شعريّ في السّيرة النّبويّة يتجاوز 1250 بيتًا من الشّعر على بحر واحد ورويّ واحد دون أن تكون فيه تكرار لفظة واحدة في قافيته.
- ديوان السّابعة حربًا بتوقيت دمشق 2018.ديوان على مقام التّجلّي 2018.
- ديوان الرّاسخون في الحبّ.
- ديوان بأسماءِ ضحكاتك 2019.
- ديوان المغنّي 2019.
- ديوان هسهسة 2019.
- ديوان كأنّها جان 2020.
- ديوان ترمي بشرر 2020.
كما له ما يزيد عن 1500 قصيدة حتّى 2019. أمّا اليوم فله حوالي 2000 قصيدة. وكان قد فاز بها بدروع، فيما ترجمت له قصائد إلى الإنجليزيّة والفرنسيّة، وقد أدرجت بعض قصائده في مناهج دراسيّة، وقد تناولت بعض الدّراسات الجامعيّة إنتاجه الشّعريّ لنيل درجات علميّة عليا في جامعات كثيرة إحداها في الجامعة الإسلاميّة في غزّة.
يقيم الشّاعر عمر هزّاع مع زوجته وأولاده في قطر منذ العام 2010، وهو لا يستطيع حاليّا الرّجوع إلى وطنه لأسباب على ما يبدو سياسيّة، لست أنوي خوضها، فهي مسألة شخصيّة. (بوّابة الشّعراء: عمر هزّاع، الملتقى العربيّ للأدباء: د. عمر هزّاع في سطور) فهو عمر جلال الدّين هزّاع، اسمه الثّلاثيّ جليل المعاني، وحسبه أنّه عمر، وجلال الدّين، وهزّاع؛ فالهزّاعُ هو الأسدّ يُكثِرُ من كسر عظام فرائسه، وإن صدقت مقولة أنّ لكلّ امرئٍ من اسمه نصيب، فهذا النّصيبُ يكمن في الشّعريّة الّتي حباهُ الله بها، فهو يمسِكُ بتلابيب القصيدة بِإحكامٍ لافت، وأمّا اللّسانُ فسليطٌ لاذع، وأمّا الثّقافةُ فواسعةٌ جدًّا، كيف لا؟ وهو الحائز على الكثير من الجوائز الدّوليّة، وعلى مدار ما ينيف على ثلاثة عقود قضاها في معاقرة القصيدة، فقد شغل الكثير من المحافل الأكاديميّة، فحظيَ شعره بدراسات نقديّة واسعة وضعت في بطون الكتب والمجلّات الأدبيّة المحكمة، كما ذكرت، وقد ورد على لسانه قوله:” أستخدم في ديواني أسلوبًا جديدًا تنتظم أبياته مثلَ سُبحةٍ شعريّة”. (دار الهلال، مقابلة مع عمر هزّاع في 10.4.2023).
قصيدة “تحوّل”:
بالعودة إلى القصيدة “تحوّل” ومن خلال العنوان يبدو أنّ الخلفيّة الثّقافيّة الّتي ينطلق منها الشّاعر هي خلفيّة علميّة، فهو حامل شهادة الدّكتوراه في الصّيدلة، كما أسلفت، فالتّحوّل في معاجم اللّغة معناه الانتقال من حال إلى حال، فتحوّلَ تعني انصرف من حال إلى سواه، كما يكون التّحوّل عبارة عن تبدّل أساسيّ في العقيدة أو الاتّجاه أو الهيئة والشّكل، وها هي القصيدة:
كُنْتُ طولَ الوقتِ عن أصليَ طافِرْ
أَزرَعُ الأرضَ سلاحًا وذَخائرْ
كانَ هابيلُ يَراني قاتلًا فًظًّا فاجِرْ
بعدَها أرّخْتُ جُندًا وعَساكرْ
كانَ نِمْرودُ وفِرعَوْنُ يَعودانِ إلى دفترِ إرهابي
لتطبيقِ الشّعائرْ
يَسْتعينانِ بِأُسلوبيَ في قّمْعِ الحَضائِرْ
بعدَها صِرْتُ يهوذا بالّذي صلّبْتُهُ ربًّا أُقامِرْ
ثمَّ سيّافًا إذا ما طَلعَ الصُّبْحُ
يَقُصّ الشّهرَزاداتِ ويغتالُ الضّفائرْ
وَخِلالَ الوَقْتِ سَجّانًا بِفَرْعِ الأمْنِ يَجْتَثُّ الأظافِرْ
ثُمَّ قنّاصًا يصيدُ الثّائرينَ العُزْلَ من خلف السّواتِرْ
عاقَرْتُ الأناغيمَ، أمّنْتُ القَناني، السَّجائرْ
ثُمَّ أحبَبْتُ فَشاءَ اللهُ أنْ أُصْبِحَ شاعِرْ
ففي القراءة التّحليليّة لقصيدة (قدّسْ حِمارَك) وهي أيضًا من شعر عمر هزّاع، تسوق الدّكتورة ابتهال الغزّيّ الفضليّ مقولة تدعم ما أدّعيه في هذه الجزئيّة تحديدًا، فهي تسوق مقولة أنّ الشّعر الحقيقيّ هو” الشّعر الّذي يستحقّ أن يقال عنه شعرًا، هو ما دخل اللّسان والقلب والذّهن في زمن موازٍ تمامًا مع زمن القراءة، ولا يتحقّق هذا إلّا عند عتبات النّصوص الّتي تنماز بأداء لسانيّ تتحرّك شعريّته في اللّسان والذّهن والقلب من غير حاجة إلى استبصار كبير. (الفضليّ، ابتهال. قراءة في قصيدة” قدّسْ حمارك” للشّاعر عمر هزّاع، تحت عنوان: النّسق الشّعريّ المرئيّ، جريدة الرّؤية العمانيّة، 11.10.2018). ويُقصَد بالزّمن الموازي أنّه الزّمن المستغرق من قبل القارئ في قراءة أيّ نصّ، طال أم قصر، وبهذا يكون الزّمن بعدًا على قدر كبير من التّعقيد لأنّه متعلّق ” بالوقت الحقيقيّ” باختلافه عن الزّمن المقاس في أحاسيسنا بوحدات الزّمن الّتي نعرفها ابتداءً من أجزاء الثّانية وانتهاء بأكبر وحدات الزّمن كالأيّام والسّنين وما إلى ذلك.
وبما أنّ العنوان يعتبر عتبة جوهريّة من عتبات النّصّ، فهو في الوقت ذاته، يشكّل تصوّرًا فكريّا في ذهن القارئ، بحيث قد يشدّه ويستدعيه للولوج إلى ما تحته ومباشرة عمليّة قراءته، وقد ينفّره ويصرفه عن القراءة. والعنوان ” تحوّل” في الأدب الحداثيّ يستدعي نسقًا ثقافيًّا معيّنًا ترافقه مشهديّة scenic)) أو أكثر من رؤية sight؛ والمشهديّة مصدر صناعيّ مأخوذ من كلمة مشهد (scene) ففي قاموس المعاني يعني الفعل تحوّل: انتقل من حال إلى حال، أو انصرف من شيءٍ إلى سواه، والفعل تحوّل فعل لازم يقبل من حروف الجرّ: من، وإلى، وعن، وفي كلّ الأحوال يعبّر عن حصول تغيير، وهو أيضا تبدّل أساسيّ قد يكون في العقيدة أو الاتّجاه، أو الهيئة، أو الشّكل، وهو ما يصطلح عليه في الإنجليزيّة بمفردةtransformation ) )، وهي مفردة متعدّدة المعاني تفضي عبر سياقاتها إلى مصطلح التّحوّليّة وهو مصدر صناعيّ مشتق من مفردة تحوّل. والتّحوّليّة نظريّة بيولوجيّة تذهب إلى أنّ الأحياء غير ثابتة، بل هي قابلة للتّحوّل من نوع إلى نوع آخر، وإذا ما استخدمت في سياق فكريّ، أو أيديولوجيّ ستفرض حتما تقلّبا من حال إلى حال جديد، كما أسلفت، وكما هو التّحوّل في القصيدة أعلاه. (معنى تحوّل في قاموس المعاني: التّحوّليّة في معاجم اللّغة العربيّة).
من خلال هذه المعاني نستقرئ أنّ المفهوم من مفردة (تحوّل) لا ينطرح بعيدًا عن الهويّة المهنيّة الّتي ينطلق منها الشّاعر عمر هزّاع؛ فهو في مهنته صيدلانيّ على خبرة واسعة بالموادّ وتشكّلاتها ضمن منظومة التّفاعل لكيميائيّ الّذي يحصل أثناء تحضير الأدوية ومعالجة العقاقير.
ومن هنا إذا كان العمل الأدبيّ عبارة عن تفاعل بين الذّات والكلمة، فيمكنني أن أزعم أنّ كلّ نصّ، مهما كان جنسه الأدبيّ، شعرًا أم نثرًا، إذا لم يدهش القارئ أو إن لم يحدث في نفسه تغييرًا، أو إن لم يرسخ بعضه أو كلّه لفرادته في ذهن القارئ، فلا يستحقّ أن يدعى أدبًا من الأساس.
بالنّسبة لي، فقد رأيت أنّ الدّهشة والإبهار في هذه القصيدة يمثّلان خارطة طريق أمام القارئ، كي يسبر أغوار النّصّ، فالنّصّ منذ كلمته الأولى(كنت) يبدو حكائيًّا، ورغم خلوّه من وصف المشاعر السّيكولوجيّة، إلّا أنّه يورّط الشّاعر في فعل الحكي، ليشهد على أحداث سرديّته، أو يساهم مساهمة فعّالة في الحدث، أو في مجموعة الأحداث المذكورة في النّصّ بتتابع انسيابيّ، وهذا هو ما يسمّى السّرد الذّاتيّ الّذي هو أسلوب يظهر جليًّا في العمل السّرديّ بلسان المتكلّم، معبّرا عن أناهُ، على خلاف السّرد الموضوعيّ الّذي يأتي بضمير الغائب أو المخاطب في بعض الأحيان. أمّا الفرق بين هذين النّوعين من السّرد فهو أنّه في السّرد الموضوعيّ يبدو الكاتب عارفًا مطّلعًا على كلّ شيء بما فيه الأفكار السّرديّة والأبطال، بينما في السّرد الذّاتيّ يضطرّ القارئ أن يتعقّب الحكي من خلال ما يدلي به السّارد بضمير المتكلّم؛ وكما هو مألوف فالشّاعر لا يعبّر عمّا يريد أن يقوله بشكل مباشر، إنّما يلجأ إلى استخدام وسائله المختلفة للإفصاح عمّا يدور في دواخله، وهذا أمر معروف منذ القدم؛ فالشّعراء إذا ما أرادوا توصيل رسائلهم إلى مسامع المتلقّي كانوا يستخدمون تلك الطّرق الالتفافيّة، ومنها استخدام ضمير المتكلّم وهم فيه يريدون المخاطب أو الغائب، وذلك خشية من سطوة الآخر الّذي سيدينهم بما جاء على ألسنتهم من حكي وقول، واعتراف باقتراف فعل ما، كما سنرى لاحقا.
وكما أسلفت، منذ القراءة الأولى لقصيدته يعتمد الشّاعر عمر هزّاع الأسلوب الحكائيّ القصصيّ، وكأنّه يريد بذلك أن يستعرض حالات التّحوّل الّتي تعبّر عن تجربته الحياتيّة المتقلّبة وفقًا لتقلّب حالته في الرّحيل المستمرّ والهجرة القسريّة خارج الوطن، ربّما لكونه (طافرًا) مختلفا مستقلّا في تفكيره خارج القطيع، أو خارج الصّندوق الّذي دأبت الأنظمة العربيّة أن تقولب فيه مواطنيها، وتعلّبَهم كما تعلّبُ الأطعمة، بل الأصحّ أن تدجّنهم في شبه قطيع يأكل ويشرب وينام حامدًا شاكرا للزّعيم أو الرّئيس.
بينما في هذه القصيدة يشرح عمر هزّاع روايته وسرديّته مارّا بمراحل تحوّله المتعدّدة، وكأنّه يسير في طريق الآلام إلى أن يبلغ مرحلة التّبرّؤ والتّطهير (Catharsis) في البيت الأخير” فشاء الله أن أصبحَ شاعر”.
وهنا تفتح هذه الأسلوبيّة الحكائيّة الباب وتشرّعه على مصراعيه أمام المفارقة والإدهاش، فيهزّ أعماق القارئ، بينما هو يبقى جالسًا على كرسيّ الاعتراف، وكأنّي به منذ اعترافه الأوّل ” كنت طول الوقت عن أصلي طافر” ذلك الحكواتيّ الّذي يجلس على تكيّته في المقهى الشّاميّ، يسرد حكاية من الأدب الشّعبيّ، ومن سير أولئك الأبطال كعنترة والزّير سالم وغيرهما، أو يسرد سيرة طاغية لا يستطيع أن يجاهر بهويّته بصورة مباشرة، لذلك ينسب أعمال الطّغاة لنفسه، وكأنّه يسرد سيرته الذّاتيّة بسلاسة وتتابع مفصّل لحالاته المتحوّلة، متقمّصًا بل متقنّعا بأقنعة متعدّدة لأعتى الشّخصيّات في تاريخ البشريّة مثل (هابيل، ونمرود، وفرعون، وشهريار، ثمّ يعمل سيّافًا ثمّ سجّانًا ثمّ قنّاصًا) فكلّ هذه الأعمال المتعدّدة الّتي ينسبها إلى نفسه، على صورة أصوات متعدّدة، ولكنّها في الحقيقة هي من عمل الآخرين في ظلّ “الفوضى الخلّاقة ” الّتي تسود الحالة السّوريّة الّتي عنوانها الكبت والإقصاء والتّكفير والتّهجير والتّخوين، وما هذه الاعترافات إلّا من باب السّخرية والتّهكّم إزاء ما يجري في وطنه سوريّة منذ اندلاع الحرب الدّائرة فيها ضمن ما سمّي بالرّبيع العربيّ الزّائف.
وكما في عتبة النّصّ الأولى أي في العنوان “تحوّل” المأخوذ من عالم مهنته كصيدلانيّ، يطرح في البيت الأوّل مفردة ” طافر” والطّافر لغةً اسم فاعل مشتقّ من الفعل طَفَرَ يَطفَرُ ومعناه وَثَبَ أو قفز أو تجاوز، فيُقالُ: طفر فلان الحائطَ إذا قفز من فوقه إلى ما خلفه. ففي علم الأحياء وعلم الوراثة الطّافر هو كائن حيّ أو شخصيّة وراثيّة جديدة ناتجة عن حالة ظفرةmutation والطّفرات الجينيّة جزء لا يتجزّأ من عمليّة التّطوّر الطّبيعيّ، والشّاعر من خلال خلفيّته الثّقافيّة العلميّة، وهويّته المهنيّة كصيدلانيّ يدركها ويخبرها جيّدًا.
وفي رأيي، فاللّفظتان “تحوّل” و” طافر” تمنحان للقارئ مساحةً واسعة للتّأمّل والدّهشة والانبهار والتّشويق للانجرار خلف ما سيأتي به هذا التّحوّل من أحوال متقلّبة، أبقت الآفاق مفتوحةً أمام القارئ الّذي سيسعى للقبض على ملامح الحضور الشّعريّ من خلال تقنيّة السّرد الّتي اعتمدها الشّاعر على امتداد قصيدته. فالشّعراء الحداثيّون، كما أسلفت، يستخدمون عمومًا تقنيّاتٍ وآليّات وأساليب متنوّعة، للتّعبير عمّا يعتلج في دواخلهم، ويحرصون من خلال هذه الأساليب على تقديم قصائدهم في وحدة شكليّة تتناسب مع وحدة فكريّة تعبّر عن الإيقاع الشّخصيّ للشّاعر، مستخدمين الإيقاع والرّنين المناسب للفكرة الّتي يطرحونها في القصيدة. فيما يلي محاولة لاستعراض تلكم الأساليب والتّقنيّات الّتي استخدمها شاعرنا معبّرا من خلالها عن روحه المعذّبة الّتي تجسّد طابعًا للتّمرّد الإنسانيّ الوجوديّ، الّذي يُفضي حتمًا نتيجة الاغتراب إلى شيطنة الذّات، ومسخ الصّورة الآدميّة لهذه الذّات.
تقنيّة السّرد
منذ العصور الشّعريّة الأولى يلاحظ حضور السّرد في قصص كبار الشّعراء، وهذا ليس مقصورا على الشّعر العربيّ، إلّا أنّه كما كانت المعلّقات ديوان العرب، ومصدرًا يستقون منه تاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم، كذلك فعلت الملاحم الشّعريّة لدى الشّعوب الأخرى كالإلياذة والأوذيسّا اليونانيّتين، والشّاهنامة الفارسيّة.
وعلى الرّغم ممّا يدّعيه النّقّاد الحداثيّون، ومن جاؤوا بعد الحداثيّين أنّ السّرد أسلوبًا يتعلّق بالنّثر أكثر ممّا يتعلّق بالشّعر، إلّا أنّ الكثيرين من شعراء قصيدة النّثر قد اعتمدوا البناء السّرديّ في قصائدهم من جهة، ومن جهة أخرى استنفدوا كافّة العناصر البنيويّة للسّرد، ابتداءً من تعدّد الأصوات والحوار وتناسل المواقف واستخدام المفارقة الّتي هي من سمات الأدب القديم، كما تجلّت في المسرحيّات اليونانيّة القديمة، كمسرحيّة أوديبوس وأنتيجوني وغيرهما. وذلك لكون المفارقة أساسًا للسّخرية من الهموم الوجوديّة اليوميّة لدرجة أنّه يمكن اعتبار المفارقة والسّخرية وسيلتين رائجتين للكشف عن المناطق المجهولة الّتي يسعى الشّعراء إلى الوصول إليها، أو الكشف عنها، مع التّحرّر من الوزن والقافية الخاصّتين بالشعر أحيانا، وهذا ما أشارت إليه النّاقدة سوزان برنار، كما سيأتي. (هلو، الطّيّب. الحضور السّرديّ للشّاعرة نجاة الزّباير، مقال في موقع العرب الرّقميّ، 29.10.2009)
هنا تجدر الإشارة إلى أنّ السّرد لم يغب عن الشّعر العربيّ منذ العصر الجاهليّ إلى عصر النّهضة، فمن يتمعّن في جميع السّرديّات الّتي يسردها الشّعراء داخل قصائدهم، ومعلّقاتهم، لا بدّ له أن يفتتن بقدراتهم على وصف مغامراتهم، في الحلّ والتّرحال، والحروب، ورحلات الصّيد، وما إلى ذلك من الأغراض الشّعريّة الّتي تمرّسوا بها، إلّا أنّهم أبرزوا نزعاتهم الذّاتيّة الّتي حالت دون حضور أصوات أخرى في معظم الأحيان، في ذات القصيدة. وللتّمثيل لملامح السّرد في القصيدة العربيّة الكلاسيكيّة، أقتطف مقطوعة شعريّة من شعر جميل بثينة، إذ يعتبرها ثروت أباظة “قصّة مكتملة:
“ما زلتُ أبغي الحيّ أتبعُ فَلَّهُمْ حتّى دفعتُ إلى ربيبةِ هودَجِ
فدنّوْتُ مختفيًا أُلِمُّ ببيتِها حتّى ولجتُ إلى خَفيِّ المَوْلِجِ
قالت وعيشِ أبي وحُرمَةِ والدي لَأُنَبِّهَنَّ الحيَّ إنْ لمْ تخرُجِ
فخرجتُ خَوْفَ يمينِها فتبسّمتْ فعلِمتُ أنَّ يمينَها لم تُحْرِجِ
فتناولتْ رأسي لِتعرِفَ مَسَّهُ بِمُخَضَّبِ الأطرافِ غيرِ مُشَنَّجِ
فلثمتُ فاها آخِذًا بقُرونِها شُربَ النّزيفِ بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ”
(أباظة، ثروت. القصّة في الشّعر العربيّ، 1977، ص 11، مؤسّسة هنداوي الرّقميّة، 2019)
وإذ ما زلنا نعالج تقنيّة السّرد الّتي تستحوذ على فضاء القصيدة المعروضة أعلاه، فيمكنني الادّعاء أنّ عمر هزّاع من خلال سرديّته للأحوال الكثيرة ومن خلال التّقنيّات الّتي استخدمها، إنّما أراد أن يعمّق رؤيته الشّعريّة من خلال تبئير الدّلالات الموجعة السّاخرة المتهكّمة، (focalization) أوfocusing)) وقد بدا لي وكأنّه يسير في طريق الآلام، كما ذكرت، وهو ينوء تحت وطأة آثامه القاتلة، وعبثًا ينفض عن منكبيه الإثم تلو الآخر، وهي آثام الشّعب السّوريّ في حقيقة الأمر، والأصحّ آثام الطّاغية الجبّار الجالس على سدّة الحكم، هو وزبانيته، إذ أفلح في أن يورّط الأطراف في حرب عبثيّة شعواء، وها هو عمر هزّاع قد نسبَها لنفسِه إمّا تهكّمًا، أو إسقاطًا، أو مسخًا لصورة الإنسان المغلوب على أمره، على أمل أن يصل إلى وضع يتصالح فيه المتنازعون، وتنتهي الحرب الّتي أراهُ يتأبّط آثامها عبثًا، فبات يسوق الاعتراف تلو الاعتراف، بالتّماهي مع ذاته السّاردة الّتي تلتزم تقنيّة الحكي والقول والبوح، لعلّها تصل إلى برّ الأمان بعد أن تتبرّأ وتتطهّر من كلّ الأفعال الّتي اقترفتها، وكأنّها تقول” من اعترف بذنبه فلا ذنب عليه”.
وهنا، في رأيي على الأقلّ، فالسّرد في هذه القصيدة يمنح الفعل الشّعريّ حركيّة دراميّة، متتابعة متواترة، أضافت إلى النّصّ شيئًا من المشهديّة، ومسرَحَة الأحداث، عن طريق القفز بالزّمن أمامًا وخلفًا، واستحضار الأصوات المتعدّدة والتّناصّات المتعدّدة، ورغم الذّاتيّة السّرديّة الّتي يتورّط بها الشّاعر السّارد، إلّا أنّه يجاهد من أجل أن يكون خارج الحدث، فيعطي الأصوات الأخرى فرصة لتعبّر عمّا تراه فيه من إثم وخطيئة وفجور؛ لعلّه يعطي سرديّته بعدًا موضوعيّا من خلال قوله:” كان هابيلُ يراني قاتلا فظّا فاجر”، وأيضًا قوله: ” كان نمرود وفرعون يعودان إلى دفتر إرهابي لتطبيق الشّعائر”، وقوله: ” يستعينان بأسلوبي في قمع الحضائر”. (انظر القصيدة أعلاه).
وهنا يتجاور السّرد والشّعر دون أن يتجاوز أحدهما الآخر، أو يطغى أحدهما على الآخر، أو حتّى يتعسّف الشّعر على النّثر، فها هو شاعرنا يتوفّق في أن يركب مركَبَ قصيدة النّثر، بكلّ ما أوتي من سلاسة في السّرد. (هلو، الطّيّب، مصدر سابق)
عمر هزّاع هنا يقول ما يريد بعيدا عن كلّ تعقيد لغويّ من خلال العزوف عن استخدام المفردات الفضفاضة، والغنائيّة، والرّومانسيّة، والحشو، والتّكلّف والمباشرة في الحكيّ والإسهاب المملّ، محافظًا بهذا على الخصائص الّتي تميّز القصيدة المعاصرة المتقنة السّبك، ينجح في أن يتّخذ من القصّة القصيرة تقنيّة التّكثيف، ومن الإيجاز أسلوبا يتمشّى مع نبض التّطوّر التّكنولوجيّ سريع النّبض والوتيرة، حتّى بات التّكثيف والإيجاز معًا ميزة تميّز هندسة النّصوص، إن جاز التّعبير، بما يتماشى مع الفنون المسرحيّة والدّراما الّتي تشطح بالزّمن تارة إلى الأمام، وطورًا إلى الخلف، بما يشبه الوميض، تاركة للقارئ المجال لتعقّب الرّسالة الّتي يرمي إليها النّصّ.
هذه الأسلوبيّة في السّرد تتناسب مع طروحات النّاقدة سوزان برنار، ذلك من خلال ما وضعته في كتابها الموسوم (قصيدة النّثر) إذ وضعت 3 معايير تميّزها عن غيرها، كما سيأتي:
- معيار الوحدة العضويّة كأحد الشّروط الّتي يجب أن تميّز قصيدة النّثر، لتجعلها وحدة عضويّة واحدة غير قابلة للتّجزئة، ما يضمن أن تكون عبارة عن عالم مغلق يميّزها عن القصّة القصيرة والرّواية والمقالة، رغم اعتمادها على بعض تقنيّات النّثر العامّة.
- معيار المجّانيّة ويعني أن تتمسّك قصيدة النّثر باستخدام عناصر سرديّة وصفيّة مجّانا وذلك “لأغراضها “الشّعريّة البحتة”، بشرط أن تكون هذه المجّانيّة ملازمة ومقرونة بفكرة اللّازمانيّة الّتي من دونها لا يمكن للقصيدة أن تتطوّر وتسير نحو هدف واحد، أو حاجة بعينها، ولا حتّى لعرض سلسلة من الأفكار والأفعال، وتكمن هذه المجّانيّة في استخدام أسلوبيّة السّرد المأخوذ من القصّة القصيرة، وهذا هو ما يجعل القصيدة تنساب بسلاسة، كما ينساب النّهر الجاري نحو مصبّه دونما يعترضه عائق، تماما كما رأينا في قصيدة “تحوّل” الّتي يتوحّد خلالها السّرد بالاعتراف تلو الاعتراف، وكأنّ شاعرنا يريد أن ينفض عن نفسه أدران الماضي وآثامه الّتي “نسبت” إليه من قبل السّلطات، كما قلت سابقا؛ بيد أنّه يعترف بما لم يفعله، وكأنّه يريد أن يغلق ملفًّا جنائيّا خطيرا، مهما كلّفه الأمر كي يتنقّى ويتطهّر ويتبرّأ، لعلّه يتخلّص من الاغتراب القسريّ والنّفسيّ والجغرافيّ الّذي ابتلي به من جرّاء كونه مختلفا وطافرا عمّا هو سائد.
- معيار الإيجاز وتشترط سوزان برنار من خلال هذا المعيار على القصيدة أن تتلافى” الاستطراد والوعظ الخلقيّ وسائر التّفصيلات التّفسيريّة” الّتي من شأنها أن تصبغ القصيدة بصبغة عناصر النّثر الأخرى، لذلك تصبح عندها القصيدة “شكلا متطرّفا للفوضى الحرّة” الذّي يفرضها عصر الاضطهاد والنّكبات الّتي اجتاحت أوروبا من الثّورة الفرنسيّة حتّى الحرب العالميّة الثّانية، مرورا بالحرب العالميّة الأولى، وهنا تزعم برنار أنّ القصيدة الحديثة تأثّرت بهذه الأحداث المفصليّة، فنفضت عنها مبناها الملحميّ الملتزم بالوزن والقافية والرّويّ، وظهرت بحلّتها الجديدة المتحرّرة من القيود بما يتماشى وتطوّرات الحداثة، وقد تبنّت فئة من الشّعراء العرب الرّوّاد في مجال الشّعر الحر هذا المبنى المتمرّد كالبيّاتي، ونازك الملائكة، والسّيّاب، والقبّاني، وأدونيس، وسعيد عقل، ويوسف الخال، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وغيرهم من المجدّدين. ولمّا ألقت الظّروف السّياسيّة العربيّة ظلالها على الأدب، مع مجيء ما سمّي بالرّبيع العربيّ، قد أتيح المجال أمام المبدعين من الدّور الثّاني لشعراء الحداثة كعمر هزّاع المتواجد لى السّاحة الأدبيّة منذ حوالي ثلاثة عقود فقد كفلت هذه العقود تراكما في تجربته لتظهر قصيدة بمواصفات قصيدة ” تحوّل” الحافلة بتعدّد التّقنيّات، والأساليب، والأصوات وغيرها.
ويشار هنا إلى أنّ سوزان برنار رغم محاولتها للتّقعيد لقصيدة النّثر، إلّا أنّها لا تغفل وجود علاقة وثيقة العرى وعريقة بين الشّعر والموسيقى. (برنار، سوزان. قصيدة النّثر، ص 24، ترجمة: مجيد مغامس، مراجعة: د عليّ جواد الظّاهر، نسخة رقميّة، في كتب الإسكندريّة، ط1، 1947: ط 1992)
للتّنويه لا للاستطراد، فقد دعمت سوزان برنار جميع طروحاتها في كتابها المذكور أعلاه، بالاعتماد على نماذج من شعر بودلير الّذي يعرّف الفنّ عامّة على أنّه” سحر إيحائيّ يحتوي في آن معًا على الموضوع، والفاعل، والعالم الخارجيّ بالنّسبة إلى الفنّان، والفنّان نفسه”. (المصدر السّابق، ص 63)، وإضافة إلى ذلك فسوزان برنار تسوّق بعض أفكار فيكتور هيجو الّذي يرى الشّعر في الحقيقة على أنّه” ليس في شكل الأفكار، ولكن في الأفكار نفسها” وتضيف على لسان فيكتور هيجو قوله” لا شيء غير ثقل واحد يستطيع أن يرجّح كفّة ميزان الفنّ، هو العبقريّة”. (المصدر السّابق، ص40-41).
بناءً على طرح برنار، أين تكمن عبقريّة القصيدة الّتي نحن في صدد قراءتها؟ أهي في السّرد المقرون بنزعة الاعتراف الّتي تستحوذ على القصيدة اعترافا يتلوه اعتراف، وكلّها اعترافات فظيعة دامية، وكلّها تدين الشّاعر، وتورّطه في ارتكاب أعمال يُجري من خلال سردها شبه مقارنة، أو مقاربة بينها وبين فظائع عتاة التّاريخ، وبلغت به قمّة التّهكّم والسّخرية أن جعل أعماله الفظيعة مرجعيّة يستعين بها نمرود وفرعون، وذلك للتّعبير عن الظّلم، وقبلها عبّر عن البغضاء بين الإخوة لدرجة القتل، قال: ” كان هابيل يراني قاتلا فظّا فاجر)، ثمّ بعد ذلك يشير إلى جريمة الخيانة، ويذكر قصّة يهوذا الإسخريوطيّ الّذي يسلّم سيّدنا عيسى للكهنة بقوله: ” بعدها صرت يهوذا بالّذي صلّبته ربًّا أقامر”، ثمّ لا يلبث أن يذكر قتل شهريار للنّساء بسبب تخوينه لهنّ فيقول:” صرت سيّافا يقصّ الشّهرزادات ويغتال الضّفائر”، ولا يتورّع من أن ينسب إلى نفسه قسوة السّجّان الّذي “يجتثّ الأظافر”، والقنّاص الّذي “يصيد الثّائرين العزل من خلف السّواتر”. هذه الأقنعة والتّناصّات المتعدّدة مضافة إلى تعدّد في الأصوات وهو ما يسمّي بالبوليفونيّة، كلّها من شأنها أن تشيطن السّارد أو الشّاعر الّذي بهذه التّوليفة في السّرد والاعتراف وتعدّد الأصوات، إنّما يبلغ قمّة درجات التّهكّم والسّخرية ممّا يجري على أرض وطنه سوريّة من فوضى في الاقتتال العبثيّ على خلفيّات تكاد لا تقاس “بميزان ولا بقبّان” على حدّ قول السّوريّين. وعليه، فهنا تبرز عبقريّة الشّاعر وقدرته على إسقاط ما كان من فظائع على هذا الزّمن الّذي يعيش فيه الإنسان العربيّ على امتداد البقعة العربيّة غريبا في وطنٍ يعاني فيه المواطن من القهر والظّلم والفقر والتّجويع والتّهجير والكبت والإقصاء والتّخوين وتكميم الأفواه والتّكفير وما إلى ذلك. وهنا أزعم أنّ كلّ ما سرده، واعترف به، وأسقطه على ذاته السّاردة المغتربة والحائرة في آنٍ معًا؛ ليس إلّا شيطنة لذاته المغتربة المثقلة بشتّى ألوان الاغتراب، النّفسيّ، والاجتماعيّ، والفكريّ، والجغرافيّ، وسجّل ما شئت تحت قائمة الاغتراب.
وفي كلّ هذا يفلحُ عمر هزّاع في أن ينفلت من فخّ النّمطيّة، والخطابة، والوقوع في سقط المعاني، بعيدا عن البكائيّات، وهو بذلك يستحدث لغة سهلة معاصرة مفهومة، ويطوّر بنية نصّيّة من السّهل الممتنع، وهو بذلك يراوغ ويراوح على خيوط من الإدهاش والإبهار والحداثة، وشيطنة الذّات المغتربة، بعيدا عن التّنميق والخوض في تفاصيل مملّة، وهو بذلك يعطي قارئه مساحة من احترام ثقافته وتقدير ذكائه.
وهنا تسوقني فكرة الإسقاط وشيطنة الذّات إلى الحديث عن تيّار فنّيّ وثقافيّ عرف في أوروبّا خلال الحرب العالميّة الأولى يدعى Dada أو Dadaism أي الدّادائيّة، كما عرّفه قاموس مورفيكس وقاموس مريام وبستر، بأنّه شكل من فوضى الفنّ ولّدته حالات الكراهية الاجتماعية والسّياسيّة والثّقافيّة وتهاوي قيم المجتمع، إبّان الحرب العالميّة الأولى، تأسّس في زيوريخ سنة 1916 واستمرّ حتّى 1923(قاموس مورفيكس: قاموس مريام وبستر: Dada).
كان للشّعر حصة في هذا التّيّار، بحيث عبّر بصورة عبثيّة عن معاناة الشّباب والمراهقين في ظلّ فوضى الحرب، وقد رفع الشّعار: كلّ شيء، لا شيء. وقد ارتكزت على عناصر عبثيّة من السّخرية والتّحريض والتّشويه والعشوائيّة. ورغم أنّ الجوّ كان مناسبا لظهورها، إلّا أنّ اسمها(دادا) اختاره أحد مؤسّسيها بالصّدفة اثناء وجود عدد من اللّاجئين والفنّانين والشّعراء في ملهى فولتير في مدينة زيوريخ السّويسريّة، بحيث قام أحد الشعراء الألمان وهو يتصفّح المعجم الفرنسيّ، فوضع سكّينًا بشكل عشوائيّ على إحدى الصّفحات، فوقع على كلمةDada الّتي تعني (لعبة قديمة مكوّنة من رأس حصان ملتصق بعصا طويلة يمتطيها الأطفال على أنّها حصان). فإن كان الفن يرمي إلى دغدغة الحواسّ وإرضاء النّاس، فالدّادا ترمي إلى استفزاز الحواس، وهي صرخة ثقافيّة مدوّية، معادية للمعايير الجماليّة والمثاليّة والفنّية ومناهضة للمنطق، ليس في الشّعر فحسب، إنّما في المسرح والرّسم والسّينما، وبلغ الأمر بالفنّان الفرنسيّ مارسيل دوشان ان أضاف إلى وجه الموناليزا شاربين، سخرية من الصّورة النّمطيّة للعالم البرجوازيّ. اعتبر المحلّلون والنّقّاد الدّادا متنفّسًا للشّباب من منطلق الشّعور بالإحباط، والحاجة للتّعبير عن الغضب الجماهيريّ، بالتزام مبدأ الإلغاء والنّفي وإلغاء الماضي والتّنكر لجميع قواعد الفكر الفلسفيّ والثّقافيّ. (انظر المقال: الدّادائيّة، في موقع” الباحثون السّوريّون”)
من أشهر الدّادائيّين: جاكسون فولوك، وسلفادور دالي، وبابلو بيكاسّو، وجورج براك، وماكس آرنست، ومن الأدباء: جيمز جويس، وهوغو بال، وألان جينسبيرغ، وفرانتس كافكا، وفلاديمير نابوكوف، وأندريه بيرتون. (الشّقّاف، نور. الإرهاب السّياسيّ وحركيّة الفنّ، نشأة الدّادا، مركز معارف الدّراسات والأبحاث، 5.2.2020) مهّدت الدّادائيّة للسّيرياليّة الّتي انبثقت من واقع الحياة الواعية، بخلقها جدليّة تسعى لتوضيح مبدأ معرفة الذّات عن طريق الغوص في أعماق العقل الواعي باستخدام أدوات جديدة مثل علم النّفس والتّحليل النّفسيّ والتّنويم المغناطيسيّ.
كان الحديث عن الدّادائيّة كمقاربة لحالة سوريّة في حربها العبثيّة ضمن صراعات الرّبيع العربيّ، وبين الخرب العالميّة الأولى الّتي ألقت بظلالها على رقعة واسعة من العالم. ورغم تحديد مؤرّخو الأدب الّذين نرهم قد حصروا الدّادائيّة بين 1916-1923 إلّا أنّ ملامح هذه الحركة ما زال يطلّ على العالم بين الحين والآخر، وقد شهد العالم لها ظهورًا في ستّينيّات القرن الماضي، بتأثير الحرب الباردة بين الاتّحاد السّوفياتي والولايات المتّحدة الأمريكيّة، وحرب فيتنام، وقد ظهر تأثير الدّادائيّة على البوب آرت كفنّ مضادّ، بحيث فسحت المجال على مصراعيه لظهور ثقافة شعبويّة ربما أرادت أن تقول إنّ الحروب الدّمويّة أفقدت الشّعر والأدب روحهما و رغم جماليّتهما، يبقيان مجرّد أصوات مفرغة من المضمون والمعنى، وهذا ما يفسّر ظهور فنّ الرابّ كفنّ أدائيّ وانعكاس لجنون العالم المنزلق في سباق التّسلّح، وحروب الإبادة بين المجموعات البشريّة. فالفنّ أصبح وسيلة معبّرة عن احتجاج ضدّ العالم الّذي يسعى لتدمير نفسه. ومن هذه الشّعبويّة ينطلق ما يسمّى الفنّ التّجريديّ والشّعر الصّوتيّ، وهذا بحدّ ذاته يجسّد أولى مراحل الفنّ الأدائيّ. (الشّقّاف، نور. مصدر سابق)
تقنيّة الإسقاط والالتفات (من وسائل الشّعراء):
في أسلوبيّة قصيدة “تحوّل” يحشد الشّاعر تقنيّات وآليّات فنّيّة لافتة؛ فعلاوة على السّرد الّذي يلازم القصيدة بصورة أنيقة، ورشيقة، وانسيابيّة، فيتنقّل بين المتكلّم (الشّاعر) فيقول: كنتُ، أزرع، أرّختُ، صرتً، أقامر، عاقرتُ، أمّنتُ، أحببتُ، أصبحً، وبين الغائب الآخر المتعدّد فيقول: يعودان، يستعينان، يقصّ، يجتثّ، يصيد، وهذا ليس إلّا من باب الالتفات الّذي درج الشّعراء منذ القدم على استخدامه عن طريق استخدام ضمير المتكلّم وهم يقصدون المخاطب أو الغائب، فمخاطبة المخاطب والإشارة إليه بإصبع الاتّهام في اقترافه أعمالا مشينة أو خاطئة، من شأنه تعريض المتكلّم إلى سوء العواقب، وهذا سبب لجوء هؤلاء الشّعراء إلى ما سمّاه البلاغيّون بالتّجريد والالتفات، وذلك في محاولتهم التّقعيد لهذه الظّاهرة اللّغويّة، وتقريبها إلى ذهنيّة المتلقّي، فيبدو الشّاعر وكأنّه ينأى بنفسه بعيدا عن المباشرة والتّصريح، تقيّةً ودفعًا للعواقب من قبل الآخر المتنفّذ، كما قلت؛ لكنّي أيضًا أرى في هذا نوعًا من الإسقاط بأن ينسب الشّاعر عمل الآخرين لنفسه، كما فعل شاعرنا عمر هزّاع، وهذا يسجّل لصالح فدرته ومهارته الأسلوبيّة كشاعر متمرّس. (الشّتويّ، إبراهيم بن محمّد. الشّعر والمباشرة، الجزيرة، منشورات الكاتب).
الشّاعر السّوريّ ياسر إسكيف يدّعي في هذا السّياق، في إحدى مقابلاته أنّ الكتابة المباشرة هي الأسوأ، وهو لا يخفي إيمانه (بالمواطنة) الّتي سعى سحابة حياته حالمًا أن يعرّف نفسه بصفة (مواطن) وهو لا يزال يؤمن بذلك في إطار من الحياة المصانة بتشريعات تضمن للمواطن ” الحرّيّة والعدالة والمساواة”. وهو في ذلك يشبه حالة الشّاعر عمر هزّاع من ناحية “الاختصاص العلميّ الّذي زوّدهما (أعني ياسر إسكيف وعمر هزّاع) بالمعرفة العميقة لكيمياء الحلقات الحيويّة الّتي تنبني الحياة من شكلها”.
لذلك في غياب الحقوق والمواطنة تتحوّل الكتابة إلى مأزق وجوديّ يحاول المبدع الخروج من خلاله من دائرته المغلقة المعتمة إلى فضاء فسيح، يصبح فيه” جوهر الكتابة أو إحدى خصائصها الجوهريّة، هو البحث والتّنقيب عن ممكن آخر”، ما يحوّل الكتابة إلى فعل إبداعيّ يعبّر عن عناء ومكابدة إبداعيّة حقيقيّة تشتغل فيها جميع الحواسّ لتصبح تجربة شعوريّة. (جبران، روز. مقابلة مع الشّاعر ياسر إسكيف، موقع العرب الرّقميّ الصّادر في لندن، 14.4.2019)
تقنيّة الاعتراف:
الاعتراف في هذه القصيدة لازم الشّاعر على امتداد نصّه، قد يكون أحد الأساليب الّتي سعى بها الشّاعر إلي لفت انتباه القارئ، وهزّ أركانه، في محاولة لإثارة الدّهشة والصّدمة والإبهار، ولعلّه أراد أن يجلد ذاته حدّ شيطنتها بتعريتها أمام جلّاديه لعل أحدًا منهم يقول: كفاه ما لاقاه من العقاب، مثله مثل ملايين السّوريّين الّذين ذاقوا آلام التّعذيب والقتل والتّشريد والتّهجير والتّخوين والنّفي والقائمة طويلة.
والاعتراف تقنيّة يقرّ من خلالها الشّخص، ويعترف باقتراف أعمال معيّنة كان قد حجبها عن الآخرين لغايةٍ ما، فقد تكون مشينة ومسيئة له ولسيرته الذّاتيّة، فبعض النّقّاد يدّعون قلّة وجود نزعة الاعتراف الّتي يقتحم من خلالها المبدع عالمه الجوّانيّ الدّاخليّ، فيلجأ إلى كشف ما يجول في خلده أمام الملأ، وهو بذلك يشير إلى تلك النّقاط السّوداء الّتي هي مجموعة من الأسرار الّتي لم يكن سابقًا يريد أن يعرفها عنه أحد، ولكن بعد أن تتثاقل عليه تلك الآثام والهموم والعيوب يبوح بها سعيًا منه إلى خلق نوع من التّوازن والتّسامي والتّطهير والتّبرّؤ، نتيجة ما يتعرّض له من أزمات، قد لا يكون له يد فيها، فيبدأ بجلد ذاته وتعريتها عن طريق الإبحار في دهاليز نفسه المعتمة، وقد يكون من باب السّخرية والتّهكّم، لكنّ الاعتراف يحتاج إلى جرأة كبيرة وشجاعة أدبيّة لافتة، ورباطة جأش لما يترتّب عليها من عواقب وخيمة، أقلّها عدم تقبّل الآخرين له ولها، والأخطر أن يعرّض الكاتب نفسه إلى المساءلة القانونيّة والمحاكمة والقتل من قبل السّلطات، كما هو الحال في أوقات الحروب الأهليّة والثّورات لقلب أنظمة الحكم، بما معناه: ” من فمِك أُدينُكَ”.
ولكنّ أسوأ أنواع الاعتراف ما كان تحت التّعذيب، بحيث يضطرّ المرء أن يعترف بما لم يفعله قطّ، وسواء أكان الاعتراف طوعًا أم قسرًا فهو من أجل التّبرّؤ والتّطهّر والخلاص من أعباء لم يعد قادرًا على أن يبقيها في عالمه الجوّانيّ، وبذلك يكون الاعتراف عبارة عن علاج نفسيّ للذّات المدجّجة بالآثام، بدلًا من كونه مجرّد فضفضة وترويح وتسرية نفسيّة.
فالاعتراف نزعة تحتاج إلى قدر كبير من الجرأة، كما أسلفت، وهي تقنيّة قديمة حديثة، لعلّ أوّل مظاهرها تاريخيّا اعترافات القدّيس أوغسطينوس، وقد كان من بين اعترافاته بين السّنوات 397-400م: ” أنّني اليوم في الثّلاثين من عمري، لا أزال أتخبّط في الحمأةِ عينها، وأميل إلى الاستمتاع بالحاضر الّذي يهرب دومًا من وجهي ويشتّتني، وأنا أقول مردّدًا:” سوف أجد مطلبي، وسوف يتّضح لي الأمر فأحتفظ به”، وفي اعتراف آخر يقول: ” بينما كنت أتكلّم بهذا كان قلبي في مهبّ رياح مضادّة، وأنا متقاعس من الرّجوع إلى الرّبّ مُرجئًا من يوم إلى آخر، حياتي بكِ لا موتي في ذاتي، أحببتُ السّعادة، لا حيث هي، ورحت أبحث عنها، كنت أظنّني شقيًّا إذا حُرمتُ من تقبيل امرأة، ما فكّرت بالعلاج الّذي قدّمتَهُ لنا أيّها الرّؤوف لمداواة ضعفي، وما خبرتُهُ قطّ في حياتي! اعتقدتُ أنّ العفّة متعلّقة بقوانا الذّاتيّة، وما شعرتُ بها فيّ، إلى هذا الحدّ أوصلني حمقي حتّى جهلتُ قول الكتاب:” لا أحد يستطيع أن يكون عفيفًا إلّا بك، […] لو أنّني قرعت أذنيكَ بإيمان قويّ وألقيت بهمّي عليك، بقلبٍ شاكٍ، لكنتَ وهبتني إيّاها”. (اعترافات القدّيس أوغسطينوس، ترجمة الخوري يوحنّا الحلو، دار المشرق، ص 113-115، نسخة رقميّةpdf).
بلزاك (1899-1850) وهو روائيّ فرنسيّ من مؤسّسي الأدب الواقعيّ، سمّيت مجموعات ما كتبه بالكوميديا الإنسانيّة، لأنّه صوّر من خلالها المجتمع الفرنسيّ في فترة الإصلاح والتّرميم بين 1818-1848 أي ما بعد انكسار نابليون المدوّي سنة 1815، وكان قد اعتمد تقنيّة الاعتراف في الأدب الغربيّ، موضّحًا دواعي اعتماده هذه النّزعة بقوله:” أنا سعيد بأنّني كاتب رواية، وذلك يجعلني أعترف بأشياء على لسان أبطالي لا أجرؤ على الاعتراف بها”.
وكذلك فقد اعتمد دوستويفسكي هذه النّزعة، إلّا أنّه ذهب إلى ما هو أعمق وأبعد ممّا ذهب إليه بلزاك، إلى أعماقه المعتمة السّرّيّة والآثمة لكشفها على الملأ دونما خجل من مشاعره وما يدور في عالمه الجوّانيّ. (أبو نضال، نزيه. السّيرة الجوّانيّة لمؤنس الرّزّاز بين غالب هلسا ودوستويفسكي، موفع أخبار عمّون الرّقميّ: العنانيّ، زياد. الخروج من دائرة الكتابة السّرديّة باتّجاه اعترافات جديدة غير مألوفة، صحيفة الغد الرّقميّة، تحت باب ثقافة، 25.7.2011)
الحديث عن الاعتراف الأدبيّ يستدعي إلى الذّاكرة اعترافات ليو تولستوي (1828-1910) وقد ضمّها في كتاب يحمل عنوان الاعتراف confession وهو كتيّب يدور موضوعه حول ما أصاب تولستوي من الاكتئاب والسّوداويّة الّتي رافقته سحابة حياته، وقد ضمّنه أيضا اعترافاته بخصوص نظرته إلى الدّين، لا سيّما وأنّه قد تعرّض إلى التّكفير والإقصاء والحرمان من قبل الكنيسة الكاثوليكيّة ما اضطرّه إلى العزوف عن أسلوب حياته المترفة والعيش عيشة المزارعين، وهو إلى جانب كونه من عمالقة الأدب الرّوسيّ في القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر، كان داعية سلام، ومصلحًا اجتماعيًّا، ومفكّرًا أخلاقيًّا، ورائدًا من روّاد الأدب الواقعيّ، وقد اعتنق في فلسفته أفكارًا نحو المقاومة السّلميّة الّتي تنبذ العنف تجلّت في كتابه (مملكة الرّبّ داخلك) وقد ألهمت هذه الأفكار الكثيرين، فتبنّوا طرق المقاومة السّلميّة في نضالهم ضدّ الاحتلال والتّفرقة العنصريّة، أمثال: المهاتما غاندي ضدّ الاستعمار الإنجليزيّ للهند، ومارتن لوثر كينغ في أمريكا ضدّ التّمييز على أساس اللّون، ونيلسون مانديلا ضدّ نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا، ومحاولة الفلسطينيّ ساري نسيبة الّذي اقترح طريقة المقاومة السّلميّة ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ، لكنّه لم يجد آذانًا صاغية.
من أقوال تولستوي المأثورة:” يفكّر الجميع في تغيير العالم، ولكن لا أحد يفكّر في تغيير نفسه”. (ويكيبيديا)
عامر درويش، وهو كاتب سوريّ مقيم في لندن، قد عرض في مقال له اعترافات جان جاك روسو (1712-1778) حين قال:” أنا اليوم قادم على أمرٍ لم يسبقني إليه سابق)، ومن أقواله أيضًا: ” إنّ العلم المنقاد من السّلطة هو علم ساقط”، واعتراف من هذا القبيل من شأنه تعريض صاحبه إلى المحاكمة والمضايقة وربّما القتل من قبل السّلطة الحاكمة، وقد أشار عامر درويش إلى نزعة المحافظة لدى ميخائيل نعيمة من خلال كتابه(سبعون) ويقتبس منه عامر درويش قوله: “أنّ الكاتب بتسجيل حياته يجعل نفسه كبيت بني من زجاج ليراه الجميع من الخارج”. (درويش، عامر. هل هناك أدب اعتراف في الثّقافة العربيّة؟ “، مجلّة الجديد، لندن، 1.2.2019).
نزيه أبو نضال يفاضل بين اعترافات الرّوائيّ الصّحافيّ مؤنس الرّزّاز مقارنةً مع اعترافات غالب هلسا ودوستويفسكي، فيمنح هذه الاعترافات ” أبعادًا إنسانيّة صادقة وشفّافة وحزينة في ذات الوقت”، ولكنّ نزيه أبو نضال يشير إلى أنّ رواية غالب هلسا (الرّوائيّون) هي أشهر رواية عربيّة من حيث قدرتها على الكشف عن الذّات، ومن ثمّ يسوق أبو نضال نماذج من الاعترافات الجريئة كاعتراف محمّد شكري في كتابه (الخبز الحافي) في نطاق كشفه عن جانب من سيرته، هذا وإن كانت الاعترافات ليست كلّها مذكّرات، أو سيرًا ذاتيّة، بينما قد تحتوي المذكّرات على جزء من الاعترافات. (أبو نضال، نزيه. مصدر سابق)
جزئيّة الاعتراف في الأدب العربيّ تختلف بين ثقافة وثقافة، حيث نشهد في الأدب العربيّ نزعة من المحافظة الّتي تمنع الأديب أو الشّاعر من البوح والاعتراف بأمور قد اقترفها في الماضي، وهذا الامتناع لا يُنظَر إليه كضرب من الكذب، بل يعتبر نوعًا من التّجمّل؛ فالإنسان عمومًا يخشى أن تُستقبَح أفعالُهُ في نظر الآخرين، يعرّف الدّكتور إيهاب النّجديّ من الجامعة العربيّة المفتوحة في الكويت في كتابه الموسوم (أدب الاعتراف) وقد ضمّنه مقاربات ومفارقات تحليليّة تفيد بأنّها شكل سرديّ يهتمّ الكاتب من خلاله بالكشف عن الجوانب الخفيّة من حياته، بحيث تكون هذه الاعترافات مقترنة بالذّنب والسّقوط، وسرد الخبايا والخفايا والأسرار، وهذه الاعترافات كلّها على خلاف أدب السّيرة الذّاتيّة الّتي يكثر فيها الكاتب من الإشارة إلى إنجازاته ونجاحاته، لذلك أدب الاعتراف هو أمر صادم، يحتاج إلى جرأة كبيرة من قبل المبدع في مواجهة المألوف من عادات وتقاليد وأعراف سائدة، لكنّ الهدف البعيد من الاعتراف هو التّكفير عن ذنوب اقترفها المبدع في الماضي، وهو يريد أن يكفّر عن ذاته ويطهّرها، ويتبرّأ من أدرانها، أو حتّى يلمّعَ أعماله، كما ذكرت آنفًا.
يسوق الدّكتور النّجديّ جملة من الاعترافات الصّادمة لبعض رموز الأدب والفلسفة والثّقافة العربيّة: فهذا أبو حيّان التّوحيديّ يعترف في كتابه (رسالة الصّداقة والصّديق) بمعاناته من سوء الأحوال، وشظف العيش، والإقصاء من قبل السّلطة والسّلطان، كما يسوق اعترافًا لابن سينا الّذي يعترف بتعاطيه الخمر كوسيلة تعينه على تحصيل العلم، مع حرصه على أداء الصّلاة في المساجد، أمّا أبو حامد الغزاليّ في كتابه (المنقذ من الضّلال) فيصف فيه ما وقع فيه من القلق والحيرة والشّكّ والاضطراب والصّراع الفكريّ، وكيفيّة اهتدائه إلى التّصوّف مَنجاةً له من تلك التّخبّطات الّتي وقع فريستها، كما يسوق لنا النّجديّ ألوانًا من صور الاعتراف لكلّ من أسامة بن منقذ في كتابه(الاعتبار) واعترافات ابن حزم من خلال كتابه (طوق الحمامة في اللّغة والألفة) وكانت هذه الاعترافات قد تجاوزت حواجز الصّمت والكتمان والتّقيّة. (متولّي، محمّد. أدب الاعتراف في الثّقافة العربيّة، مجلّة العربيّ، الكويت، عدد 736)
بما يتعلّق بالقصيدة المشروحة أعلاه، نلاحظ أنّ الاعتراف افتتاحيّةً قد توفّق فيها شاعرنا عمر هزّاع، بما يرسّخ في الأذهان سرديّته، ونراه قد أمعن في الاعتراف حتّى وكأنّه يُشيطنُ ذاته الّتي هي ذات شاعرة لا ينبغي أن تكون في هذه الخانة الشّيطانيّة، إن صحّ التّوصيف، فالشّعراء يدانون بجريرة أقلامهم وأقوالهم لا بأفعالهم، لكنّ عمر هزّاع يمعن في الاعتراف ويتقنّع بأقنعة متعدّدة، للتّمثيل لكمّيّة الخطايا الّتي ارتكبها في حقّ البشريّة منذ عهد قابيل وهابيل (كان هابيل يراني قاتلًا فظًّا فاجر) فكيف يمكن لشاعر مرهف وحسّاس أن يرتكب هذا الكمّ من الآثام والخطايا الّتي يستحضرها من الأساطير وقصص الأنبياء والأدب والتّاريخ؟ أليس هذا جلدًا لذاته الحائرة، بل شيطنةً لها؟ فالشّيطنة في هذا الزّمن تكاد تكون مرادفًا لفعل التّكفير والإقصاء والفساد الّذي أصبح ذريعةً لكلّ متسلّط ومتنفّذ لمحاربة الآخر المختلف على أساس عقائديّ أو دينيّ أو سياسيّ، أو ثقافيّ، كما نراه في الحروب الدّائرة على أماكن كثيرة من العالم كسوريّة تحديدًا، وغيرها من الدّول، كما سبق وأشرت. وإن صحّ التّعبير، فإنّ اعتراف عمر هزّاع كان اعترافًا مقلوب الاتّجاه في محاولة لإثبات العكس والإشارة بإصبع الاتّهام إلى أولئك الطّغاة المتشبّثين بالكراسي، الّذين يحرمون الشّعوب من سبل العيش الكريم والمواطنة الشّريفة، والتّمتّع بخيرات الوطن الأمّ.
لم يكن الاعتراف تقنيّة منفصلة عن تقنيّات قصيدة “تحوّل” الّتي نحن في صدد قراءتها؛ فقد جاء الاعتراف معتمدا تقنيّة السّرد وتقنيّة القناع على حدّ سواء.
تقنيّة القناع (تعدّد الأقنعة):
فالقناع في معاجم اللّغة هو ما تتقنّع به المرأة من ثوب يغطّي محاسنها أساسًا. (قاموس المعاني: القناع)، لكنّ القناع (the mask) أو هكذا بالفرنسيّة ( masque) كان حتّى نهاية القرن الماضي مصطلحًا مسرحيًّا محضًا، بينما اتّخذ منذ مطلع الألفيّة الثّالثة منهجًا جديدًا، فأصبح أحد مظاهر الحداثة أو ما بعد الحداثة، ومن هنا صار مصطلحًا نقديًّا يمثّل في جوهره وسيلة فنّيّة يعتمدها الأدباء والشّعراء للتّعبير عن تجاربهم ومعاناتهم بصورة غير مباشرة، ممّا يشير إلى حجم المعاناة، والكبت والغبن الاجتماعيّ والسّياسيّ، الّذي يعترض طريق المبدع الّذي يبحث كغيره من بني البشر عن تأمين لقمة العيش الكريم، والسّلامة والأمان رغم مواجهته لمسائل جسيمة: كتكميم الأفواه، وفوبيا مواجهة مقصّ الرّقابة الّذي يهدّد كتاباته، كما يواجه المبدع في بعض الأحيان مقاطعة كتاباته، وتضييق سبل العيش أمامه، الأمر الّذي يدخله إلى طريق مسدود، لا يستطيع سبيلًا إلى اجتيازه والخلاص منه، إلّا بالتّرميز، أو التّقنّع بقناع يكفيه شرّ تلك المعوّقات. (معوّقات التّحوّل في الأدب، مقال، القدس العربيّ، لندن، 13.1.23).
أمّا تاريخيًّا، فقد انتقل استخدام القناع من الشّعر الغربيّ إلى الأدب العربيّ الحديث؛ بحيث اختلف النّقّاد في طروحاتهم حول الملامح الأولى لظهور تقنيّة القناع في الأدب العربيّ عامّة، وفي الشّعر خاصّة. وقد رأى البعض أنّ أدونيس هو أوّل من اختلق لنفسه قناعًا من خلال شخصيّة مهيار الدّمشقيّ، في مجموعته الشّعريّة الّتي تحمل العنوان (أغاني مهيار الدّمشقيّ) الّتي صدرت لأوّل مرّة في طبعتها الأولى عن دار مجلّة شعر في بيروت سنة 1961. إلّا أنّ آخرين سلّموا قصبة السّبق للشّاعر عبد الوهّاب البياتيّ (1926-1999) بناءً على ما جاء في كتابه النّثريّ (تجربتي الشّعريّة) والّذي ظهر سنة 1968، فهو “مبدع القناع في الشّعر الحديث” (نصيف، أحمد كاظم. ” البياتي مبدع القناع في الشّعر العربيّ الحديث”، الزّمان، صحيفة تصدر بطبعات دوليّة في أنحاء العالم،3.8.2021: وقّاد، مسعود. القناع الصّوفي في شعر عبد الوهّاب البياتيّ، مجلة الأدب، عدد1، رقم121، ص199، 21.10.2017) وبهذا يكون البياتيّ قد فرض القناع أسلوبيّةً ومصطلحًا، يشير من خلاله إلى الشّخصيّة الّتي يتحدّث من خلالها متجرّدًا من ذاتيّته، منسلخًا عنها، مبتعدًا عن الغنائيّة والمباشرة، ومن خلال القناع يمكن للقارئ والمتلقّي أن يميّز صوتين: صوت الشّاعر، وصوت الشّخصيّة الّتي يتقنّع بها.
ويعتبر إحسان عبّاس أنّ استخدام تقنيّة القناع يمثّل التّجديد الّذي جاء به وانفرد به البياتيّ، إذ يسوق مثلًا لقناع من واقع بيئة الشّاعر، يقول:
” أنا عامل مجهول
أدعى سعيد من الجنوب
أبواي ماتا في طريقهما إلى قبر الحسين
وكان عمري آنذاك سنتين
ما أقسى الحياة!”
هذا التّقنّع بقناع عامل من الجنوب، أشبه بأقنعة الشّاعر تارة بقناع السّيّاف (ثمّ سيّافًا) وقناع السّجّان (وخلالَ الوقتِ سجّانا بفرع الامن)، وقناع القنّاص (ثمّ قنّاصًا يصيد الثّائرين العُزْل من خلف السّواتر) فالشّاعر كما يقول البياتي: ” يعمد إلى خلق وجود مستقلّ عن ذاته” ويقول: ” إنّ القصيدة في مثل هذه الحالة عالم مستقلّ عن الشاعر، وإن كان هو خالقها” (القناع وتقنيّاته في الشّعر العربيّ الحديث، مجلّة المنال الرّقميّة: أقنعة عبد الوهّاب البياتيّ، صحيفة الاتّحاد، 4.10.2009) وعليه فالقناع قد يصبح رمزًا أو وسيلة فنّيّة يعبّر المبدع من خلالها بصورة غير مباشرة عمّا يريد أن يقوله، والقناع قد يكون إمّا شخصيّة مأخوذة من الدّين، أو من التّاريخ، أو من الأساطير، أو حتّى أيّة شخصيّة يرمز الشّاعر بواسطتها، أو حتّى أي شيء جامد، كما سيأتي. فكل قناع هو رمز، ولكن ليس كلّ رمز هو قناع.
وأكثر ما يكون القناع بصيغة المتكلّم، فالشّاعر لأسباب متعدّدة كالخوف من السّلطة والإدانة والملاحقة يتقنّع بشخصيّة أخرى، أو حتّى يمكن أن يلجأ إلى تشييء نفسه لأمرٍ ما، فهذا محمود درويش يقول:
” أمّا أنا فسأدخل في شجر التّوت
حيثُ تُحوّلُني دودة القزّ خيطَ حرير
فأدخلُ في إبرة امرأة من نساء الأساطير
ثمّ أطير كشالٍ مع الرّيح”
(درويش، محمود. الأعمال الجديدة، لا تعتذر عمّا فعلت، لا كما يفعل السّائح الأجنبيّ، ص 141، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، ط1، 2004)
ومن أقنعة محمود درويش المأخوذة من قضيّته الفلسطينيّة، وليست من مصدر تاريخيّ:
” أنا أحمد العربيُّ، فليأتِ الحصار
جسدي هو الأسوار فليأتِ الحصار
وأنا حدود النّار، فليأتِ الحصار
وأنا أحاصركم، أحاصركم
وصدري باب كلّ النّاس، فليأت الحصار” (درويش، محمود. الدّيوان، الجزء الأوّل، ص 614، ط 4، دار العودة، بيروت)
ومن القرآن الكريم يتقنّع درويش بقناع سيّدنا يوسف، وفي هذا تناصّ قرآنيّ مقتطَف من سورة يوسف، فيقول:
” أنا يوسف يا أبي/ يا أبي إخوتي لا يحبّونني/ لا يريدونني بينهم يا أبي/ يعتدون عليّ ويرمونني بالحصى
والكلام/ يريدونني أن أموت كي يمدحوني[…] هل جنيت على أحد عندما قلت إنّي/ رأيت أحد عشر كوكبًا/ والشّمس والقمر، رأيتهم لي ساجدين؟ (درويش، محمود. الدّيوان، مجلّد 2، ص 359، ط 4، دار العودة، بيروت)
وتحديدًا في هذه القصيدة” أنا يوسف يا أبي” تحاول النّاقدة رابعة خضر الخطيب، أن تخرج في قراءتها لهذه القصيدة عن النّسق السّائد والّذي يُعنى بأحاديّة التّفسير، من حيث النّظر إلى قصديّة الشّاعر، والّتي يفسّرها القرّاء في سياق ما لحق الشّعب الفلسطينيّ من” عذاب وظلم وقهر وتشريد” فتذهب إلى منح هذه القصيدة محمولا نبوئيًّا، أي أنّ تفسيرها يتعلّق بشخص الشّاعر محمود درويش بالذّات؛ إذ يتوجّه بالشّكوى إلى كائن إلهي متعالٍ يرعى البشريّة جمعاء، ويناديه مناجيًا إيّاه ” يا أبي” فهذه الأنا لا تضجّ في حضرة العناية الإلهيّة، بل تمعن في شكواها وتتذلّل:
” هم سمّموا عنبي يا أبي
وهم حطّموا لعبي يا أبي
حين مرّ النّسيم ولاعب شعري، غاروا وثاروا عليّ،
وثاروا عليك، فما صنعتُ لهم يا أبي؟” (خضر، رابعة. قراءة جديدة لقصيدة محمود درويش” أنا يوسف يا أبي”، محور الأدب والفنّ، الحوار المتمدّن، عدد7413، 26.10.2022)
هذا المحمول النّبوئيّ يذكّر بالمتنبّي الّذي تشبّه بالأنبياء والبعض نسب إليه تهمة ادّعاء النّبوّة؛ لكنّ الفرق بين درويش والمتنبّي يكمن في تلك الأنا الصّاخبة المدوّية الّتي اتّسم بها المتنبّي معلنًا حضوره:
” أنا تِربُ النّدى وربُّ القوافي وسِمامُ العِدى وغَيظُ الحسودِ
أنا في أمّةٍ تداركها الله غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ
ما مُقامي بأرضِ نخلةَ إلّا كمُقامِ المسيحِ بين اليهودِ”(المتنبّي، أبو الطّيّب. الدّيوان، ص 28)
في قصائد كثيرة من شعر درويش نجد ملامح القناع، فقد رصدت له قصيدة يتقنّع فيها بقناع المتنبّي، كان ذلك بعد توقيع اتّفاقيّة كامب ديفيد، بين مصر أنور السّادات ومناحيم بيغن إسرائيل، في قصيدة رحلة المتنبّي إلى مصر:
للنّيل عاداتٌ وإنّي راحلُ/ أمشي سريعًا في بلادٍ تَسرِقُ الأسماءَ منّي/ قد جئتُ من حلبٍ وإنّي لا أعودُ إلى العراق/ سقط الشّمال فلا أُلاقي غيرَ هذا الدّرب/ يسلمُني إلى نفسي ومصر/ كم اندفعت إلى الصّهيلِ فلم أجِد فرسًا وفرسانًا/ وأسلمَني الرّحيل إلى الرّحيلِ/ […] وطني قصيدتيّ الجديدةُ/ أمشي إلى نفسي فتطردني من الفسطاط/ كم ألجُ المرايا/ كم أكسّرها فتكسرني/ أرى فيما أرى دولًا توزّعُ كالهدايا […] ” لا مصر في مصر الّتي أمشي على أسرارها/ فأرى الفراغ، وكلّما صافحتها شقّت يدَينا بابلُ/ في مصرَ كافورٌ.. وفيَّ زلازلُ” (درويش، محمود. الدّيوان، ص 105-117)
من أنماط القناع أن يكون إمّا:
1.في شخصيّة دينيّة كما في قصيدة” أنا يوسف يا أبي” لمحمود درويش، كما أشرت إليها آنفًا. ولم يكن درويش من تقنّع حصريًّا بقناع سيّدنا يوسف؛ فهذا محمّد القيسيّ في قصيدته (يوسف في الجبّ) يقول: ” صلبوني في الغربة يا حادي الرّكب/ قيّدني إخواني/ ورمَوني في الجبّ/ قتلوني يا حادي الرّكب لأنّي أحببت”
2.في شخصيّة أسطوريّة فيقول خليل حاوي في قصيدته (السّندباد في رحلته الثّامنة):
“عدتُ إليكم شاعرا في قمّة بشارة/ يقولُ ما يقول بفطرة/ تحسّس ما في رحم الفضل/ تراه قبل أن يولد في الفصول”. (المصدر السّابق)، وهنا نري تجسيد لفكرة النّبوئيّة لدى بعض الشّعراء.
3.في شخصيّة صوفيّة واشتهر بها صلاح عبد الصّبور، وقد يكون الحلّاج أكثر ما يتقنّع به الشّعراء.
4.في قناع الطّبيعة الصّامتة والأشياء، يقول علي الشّرقاويّ في قصيدته (أنا وهي):” أنا حجرُ الزّاوية/ وأنا جحيمٌ لذيذٌ على القلب/ والنّارُ كيف تُسمّى إن لم تكن حامية؟” (انظر المقال: القناع وتجلّياته في الشّعر العربيّ الحديث، مجلّة المنال الرّقميّة)
- القناع الذّهنيّ، وهو القناع الّذي يدركه القارئ/ المتلقّي من خلال السّياق، فمن خلال العنوان والتّحوّلات الّتي
سردها الشّاعر أو الكاتب، يستطيع القارئ أن يستشفّ هذا النّمط من الأقنعة كقوله:” كنت طول الوقت عن أصلي طافر/ أزرع الأرض سلاحا وذخائر”؛ للقارئ هنا أن يشطح بعد أن يقدح زناد عقله فيتخيّل ويتمثّل صور التّحوّل الّتي قدّم لها الشّاعر من خلال كونه حالة (طفرة) أدّت إلى حالة طفرة لديه في الجانب الاجتماعيّ، أو السّياسيّ، كمغترب قسريًّا لكونه مختلفًا فكريّا وسياسيّا واجتماعيّا، لكنّه رغم كلّ شيء يصبحُ شاعرًا في نهاية المطاف، فقد سلخ عن نفسه كلّ الأقنعة الّتي استخدمها بدخول الحبّ كقيمة كبيرة واسعة الدّلالات؛ يمكنها أن تشفع له، لينال العفو المنشود ليس له هو فقط؛ إنّما لجميع المبعدين فكريّا وسياسيّا من قبل السّلطة الحاكمة في وطنه الأمّ سوريّة.
بين القناع والرّمز في الأدب خيط رفيع يشكّل فرقًا يميّزه استخدام ضمير المتكلّم في القناع؛ ولولا هذا الفارق لأمكن الادّعاء أنّ جبران خليل جبران هو أوّل من استخدم القناع أسلوبًا من خلال كتابيه: النّبيّ (1923)، ويسوع ابن الإنسان (1928) وذلك منذ الرّبع الأوّل من القرن العشرين، حيث كتب جبران هذين الكتابين بالإنجليزيّة أوّلا، ثمّ قام الكثيرون بترجمة مؤلّفاته إلى العربيّة منهم الأرشمندريت أنطونيوس بشير؛ فهل يكون جبران هو الّذي تقنّع بقناع النّبيّ الّذي أسماه المصطفى في كتاب النّبيّ؟ أم أنّه تقنّع بقناع يسوع ابن الإنسان؟ أم هو من تقنّع بقناع المجنون؟ هذه الأسئلة كلّها تحتاج إلى بحث وفحص عميقين، من أجل استنباط ملامح القناع والرّمز في أدب جبران خليل جبران. (الكاتبة)
تقنيّة التّناصّ/ تعدّد التّناصّات:
كما نلاحظ في هذه القصيدة جملةً من التّناصّات الّتي تشير إلى المخزون الثّقافيّ الّذي يختزنه الشّاعر عمر هزّاع، حيث أنّ التناصّ intertextuality)) هو مصطلح حديث أوّل من أطلقته في مجال النّقد كانت جوليا كريستيفا (Julia kresteva الّتي تحمل الجنسيّة الفرنسيّة رغم كونها بلغاريّة المنشأ. ولدت سنة 1941، درست اللّغة الفرنسيّة على يد والدتها في البيت، ثمّ استقرّت في باريس لمواصلة دراستها العليا في جامعاتها، فأصبحت كاتبة، وعالمة اجتماع، وناقدة وأديبة، ومحاضرة في مجال التّحليل النّفسيّ، ونسويّة، وعالمة لسانيّات/ لغويّات.
تأثّرت بالنّقّاد أمثال: ميخائيل باختين ورولان بارت وجاك دريدا، تعتبر من الشّخصيّات المؤثّرة بشكل بارز في مجال الفكر النّقديّ المعاصر، وقد طوّرت نظريّتها حول التّناصّ بواسطة التّوليف بين مجالات فكريّة مختلفة كالفلسفة، والتّحليل النّفسيّ، وعلم اللّسانيّات، ونظريّة الأدب textologia))، والسّيميائيّات، وهي تصبو إلى التّأسيس لصور حداثيّة للخطاب النّقديّ، وذلك من أجل التّفكير المختلف حول المنطق والواقع من خلال رؤيا متعدّدة المجالات ((multidisciplinary أو(multidomain).
وكما أسلفت، فالتّناصّ مصطلح أطلقته كريستيفا على تقنيّة توظيف عنصر نصّيّ قد يكون عبارة، أو جملة، أو لفظة من نصّ قديم أو سابق، قد يكون دينيًّا، أو تاريخيًّا، أو أدبيًّا، أو أسطوريًّا داخل، أو ضمن نصّ حديث، وذلك لخلق صورة جديدة متعالقة بالنّصّ القديم لتعزيز المعنى المراد وتوضيحه.
وعلى الرّغم من أنّ النّقّاد نسبوا هذه التّقنيّة لجوليا كريستيفا إلّا أنّ العرب عرفوه منذ القدم تحت العنوان (التّضمين) أي جعل الشّيء داخل الشّيء أو ضمنه، ومن هنا جاءت التّسمية من الجذر (ض. م. ن) إلّا أنّ التّضمين في الأدب العربيّ يختلف في شكله ومعناه سواء في اللّغة أو علم العروض، ولست هنا في مجال الخوض في توضيح هذا الفرق لأنّ الأمر يحتاج إلى دراسات لا يتّسع لها المقام الآن.
رغم التّعريف الآنف الذّكر لمصطلح التّناصّ المأخوذ من الجذر (ن.ص.ص) إلّا أنّ هذا التّعريف يتطوّر باستمرار، لكنّه عمليّة ولدت مع الأدب منذ القدم. وقد يكون أفضل تعريف للتّناصّ هو اتّكاء نصّ جديد على نصّ سابق له تستحضره سعة ثقافة المؤلّف من مرجعيّات وأدبيّات سابقة في التّراث الإنسانيّ.
ويعتبر بعض النّقّاد أنّ التّناصّ إمّا أن يكون مباشرًا، ومنه السّرقة، والاقتباس، والأخذ، والاستعانة، والمعارضة، والحلّ، والاستشهاد، والتّغاير، أو غير مباشر، ومنه المجاز والتّلميح والتّوليد، والإيحاء، والتّلويح، والكناية، والرّمز، والإيماء.
وللتّمثيل لهذه التّقنيّة قول الرّصافيّ:
سكنّا ولم يسكن حِراكُ التّبدّدِ مواطِنَ منها اليومُ أيْمَنُ من غدِ
عفا رسمُ معنى العزّ منها كما عفَت لخولةَ أطلالٌ ببُرقةِ ثَهمَدِ
(علاء الدّين، رمضان السّيّد. ظاهرة التّناصّ بين عبد القاهر الجرجانيّ وجوليا كريستيفا، 2014، بحوث المؤتمر العلميّ الدّوليّ الأوّل، كلّيّة اللّغة العربيّة، جامعة أسيوط، مصر).
بعد هذه اللّمحة الّتي حاولت من خلالها إلقاء الضّوء على مصطلح التّناصّ، لا بدّ من تحديد مواقعه ضمن القصيدة أعلاه، فالشّاعر هنا يفلح في توظيف هذه التّقنيّة وبصورة متعدّدة من التّناصّات الّتي لا تدلّ على غزارة ثقافة الشّاعر فحسب، إنّما يحاول الشّاعر من خلال تناصّاته المتعدّدة أن يخلق حالة من المقابلة والمقارنة والتّمثيل والمقاربة بين استخداماته النّصّيّة الحاليّة وربطها مع نصوص سابقة، ليسبغ عليها هالة من الحياديّة الموضوعيّة وقوّة التّأثير على القارئ الّذي يستحضر له عمر هزّاع من مخزون ذاكرته ومن ثقافته الواسعة تلك القصص المروّعة الّتي لا بدّ وأنّ القارئ قد انكشف عليها بصورة ما في السّابق، وها هي الآن وهنا تمثُلُ بقوّة في هذه البقعة الملتهبة من سوريّة الوطن، لأنّ التّاريخ إن لم يتكرّر إلّا أنّ أحداثه تتشابه، وإليك هذه التّناصّات:
- ” كان هابيل يراني قاتلًا فظًّا فاجر”
في هذا التّناصّ يستحضر الشّاعر قصّة قابيل الّذي قتل أخاه هابيل حسب القصص الدّينيّ سواء التّوراة أو القرآن؛ فقد قال تعالى: “واتلُ عليهِم نباَ ابنَي آدمَ بالحقِّ إذ قرّبا قربانًا فَتُقُبِّلَ مِن أحدِهِما ولم يُتقبَّل من الآخرِ قالّ لَأقتُلّنَّكَ قالّ إنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ من المتّقينَ* لَئِن بَسَطتَ إليَّ يَدَكَ لتقتُلَني ما أنا بِباسطٍ يدي إلَيكَ لِأقتُلَكَ إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالَمينَ* إنّي أُريدُ أن تبوءَ بِإِثمي وَإثمِكَ فتكونَ من أصحابِ النّار وذلكَ جزاءُ الظّالِمين* فطَوّعَت لهُ نفسُهُ قتلَ أخيهِ فَقَتَلَهُ فَأصبَحَ من الخاسِرين* فبعثّ الله غرابًا يبحَثُ في الأرضِ لِيُرِيَهُ كيفَ يُواري سَوءَةَ أخيهِ قالَ يا ويلَتا أعَجِزتُ أن أكونَ مثلَ هذا الغرابِ أُواريَ سوءةَ أخي فأَصبَحَ من النّادمين. (المائدة: 27-31).
قصّة قتل الأخ لأخيه قصّة موغلة في القدم، وهي أوّل جريمة في تاريخ البشريّة؛ فهنا من خلال هذا التّناصّ يحاول الشّاعر الإشارة إلى فكرة الحرب الأهليّة وكأنّها حرب بين الإخوة؛ فيما يمكنني ان أزعم هنا أنَّ التّناصّ والقناع قد اتّحدا في حين اعتمد الشّاعر أسلوب الالتفات فضمير الغائب في (يراني، مستتر تقديره هو في محلّ رفع فاعل) أمّا ياء المتكلّم في جملة (يراني) فهي في محلّ نصب مفعول به؛ ومن هنا ينأى الشّاعر عن الذّاتيّة وينقل للقارئ ما يراه هابيل فيه (قاتلا فظًّا)، هذه التّوليفة تمنح السّرد مسحة موضوعيّة تكاد تقول: أنا ضحيّة كما كان هابيل ضحيّة، فهل تصدّقون أن أكون قاتلا فظًّا؟ هل يمكن لهابيل الّذي تقبّل الله منه القربان لتقواه أن يتّهمَ الضّحيّة زورا وبهتانا؟ إنّ هذه الجزئيّة من التّناص المقنّع، إن صحّ القول، تستدعي الحديث عن فكرة المعادل الموضوعيّ، بمعنى أنّ مسألة البغضاء بين الإخوة لدرجة الاقتتال (في قصّة قابيل وهابيل) هي المعادل الموضوعيّ للحرب الأهليّة في الوطن الواحد نتيجة للظّلم والتّخوين والتّكفير والإقصاء والتّهميش والتّهجير إلى ما هنالك ممّا جاء به الرّبيع العربيّ المزعوم. فالمعادل الموضوعيّ ((objective correlative هو مصطلح نقديّ جاء به الشّاعر النّاقد ت. س. إليوت كجزء من آرائه النّقديّة وسرعان ما أصبح أداةً تتّخذ من الشّعر معيارًا، في حين أنّ جوهر المصطلح يشير إلى” أنّ الطّريق الوحيدة للتّعبير عن الانفعال في صورة فنّيّة هي العثور على معادل موضوعيّ، هذا المعادل الموضوعيّ يتمثّل بالعثور على” مجموعة أشياء، على موقف، على سلسلة من الأحداث تكون هي الصّيغة الفنّيّة الّتي توضع فيها تلك العاطفة” وبناء على ما تقدّم يمكن الادّعاء أنّ الصّيغة الفنّيّة الّتي جاءت فيها القصيدة المشروحة أعلاه، كمنتج أدبيّ مثّلت عمليّة خلق ناتجة عن تحويل انفعال الشّاعر إلى معادلة تركّز عددا من التّجارب لتنتج شيئًا جديدا بحيث تكون المشاعر هي المنهل الأساسيّ الّذي يستقي منه الشّاعر أفكاره وتصوّراته، ويخزّنها إلى أن تتّحد معًا لتكوين مركّب شعريّ جديد، يعبّر من خلاله الشّاعر وكذلك الفنّان والمبدع بصورة غير مباشرة. (د. زوباري، فوزيّة. المعادل الموضوعيّ في مدائح أبي تمّام، مجلّة مجمع اللّغة العربيّة بدمشق، المجلّد 87، جزء 2، ص478-510).
وفي هذه الحالة تصبح عمليّة خلق قصيدة أو خلق عمل أدبيّ، أشبه بعمليّة كيميائيّة قادرة على” تحويل الموادّ الأصليّة إلى شيء جديد، وهذا لن يكون أبدًا شخصيّة الشّاعر الّذي لا ينصرف إلى الفكر بقدر ما ينصرف نحو إيجاد المعادل العاطفيّ لهذا الفكر أيّ أنّ الصّورة الشّعريّة هي محصّلة تفاعل الذّات والموضوع، بحيث أن الذّات منبع الفكر والعاطفة، أمّا الموضوع فمنابعه الأحداث والأشياء. من الجدير بالذّكر أنّ إليوت يؤمن ويرى أنّ الشّعر الخالد ما هو إلّا” تصوير للفكر والشّعور بتقرير الأحداث في العمل الإنسانيّ أو الأشياء في العالم الخارجيّ” وهنا تلعب الذّاكرة دور آلة التصوير الّتي تلتقط حوادث ومشاعر قديمة وتجعلها جديدة في الأذهان، فتبدو وكأنّها جزء من الحاضر. (المصدر السّابق).
هنا في هذه القصيدة يبدو شاعرنا من خلال أبياته القليلة وكأنّه يحمل آلة تصوير ليسجّل من خلالها أحوالا متعدّدة، يكثّفها بإيجاز مبهر، فيتطابق مع طرح إليوت الّذي ادّعى أنّ الإيجاز لدى الشّاعر يتجلّى بوضوح في استخدامه تركيبا لغويّا في غاية البساطة، وكأنّه يريد أن يؤكّد ما ذهب إليه المحدثون بأنّ” نقل الشّعر لمشاعر سياق الحياة الواقعيّ، والتّعبير عن مساق وحجم التّنبيه الإدراكيّ القائم في لحظة من الوعي، يتطلّب أشدّ أنواع التّركيز والتّكثيف الصّارم” (المصدر السّابق).
بعد أن تحدّثت عن فكرة البغضاء المجّانيّة بين الإخوة، استدلالًا بقصّة قتل قابيل لأخيه هابيل، وهي أوّل جريمة في التّاريخ، كما أشرت، ورغم هذا فقد حثّت جميع الدّيانات السّماويّة على المحبّة الأخويّة بين البشر، حتّى وإن لم تكن أخوّة بيولوجيّة، وقد ورد في الحديث” إنّما المؤمنون إخوةٌ” (حديث نبويّ شريف) وكذلك” لا يؤمن أحدُكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه” (حديث نبويّ شريف)، أمّا في العهد الجديد فقد أوصى الرّسول بولس: ” أمّا المحبّة الأخويّة فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها لأنّكم أنفسكم متعلّمون من الله أن يحبّ بعضكم بعضًا، فإنّكم تفعلون ذلك أيضًا لجميع الإخوة الّذين في مقدونيا كلّها. (تسالونيكي.4: 9-10).
أمّا في العهد القديم فقد جاء:” هو ذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معًا! مثل الدّهن (السّمن) الطّيّب على الرّأس، النّازل على اللّحية، لحية هارون، النّازل إلى طرف ثيابه”. (مزمور133: 9-10)
- “كان نمرود وفرعون يعودان إلى دفتر إرهابي لتطبيق الشّعائر/ يستعينان بأسلوبي في قمع الحضائر”
هذا البيت يتناصّ مع قصّص المستكبرَيْن: نمرود وفرعون وقد ذُكِرَ كلاهُما في القرآن الكريم؛ وأمّا النّمرود فهو النّمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، وقد ذُكِر في سفر التّكوين، ويُذكرُ في القرآن في سياق الاستكبار والظّلم، أمّا في الأدب فلا يُذكَر في سياق الظّلم وخوف النّاس من المثول أمامه فحسب؛ إنّما يذكر لتبيان وجود مناظرة ومحاججة بين طرفين ضدّين أو ندّين.
جاء في سورة البقرة: ” ألَمْ تَرَ إلى الّذي حاجَّ إبراهيمَ في ربّه أنْ أتاهُ اللهُ المُلك إذ قال إبراهيمُ ربّي الّذي يُحيي ويميتُ قال أنا أحيي وأُميتُ قال إبراهيمُ فإنّ اللهَ يأتي بالشّمسِ من المشرِقِ فَأْتِ بِها من المغرِبِ فَبُهِتَ الّذي كفرَ واللهُ لا يَهدي القومَ الظّالمين. (البقرة: 285)
- أمّا فرعون فقد ذُكِر في سياق الظّلم والاستكبار والكذب والكفر وتعذيب بني إسرائيل، وقتل الأبناء واستحياء النّساء منهم، وقد ذكر في القرآن 74 مرّة في سور متفرّقة، وهنا لا يتّسع المقام لذكرها جميعا وأكتفي بالآيتيْن: ” اذهبْ لفرعَونَ إنّهُ طغى” (طه: 24) و”اذهبا إلى فرعون إنّهُ طغى”. (طه، 43)
- “بعدَها صِرتُ يهوذا بالّذي صلّبتُهُ ربًّا أقامرْ”
هذا البيت يتناصّ مع قصّة يهوذا الإسخريوطيّ وهو أحد تلاميذ المسيح الّذي تذكره المصادر في سياق الخيانة
العظمى للمسيح، ذلك لأنّه اتّهم بتسليمه للرّومان وكهنة اليهود مقابل ثلاثين قطعة من الفضّة”(متّى.26:12). كانت الخيانة على خلفيّة خوف الكهنة اليهود من تزايد عدد المؤمنين من اليهود بالمسيح” فلمّا سمعوا فرحوا ووعدوهُ أن يُعطوهُ فضّة”. (مرقس.14:11)، فيهوذا الإسخريوطيّ، أو القريوتيّ كان من القريتين الواقعتين جنوبيّ اليهوذيّة (يهوذا)، حيث تقع هناك خربة القريتين، ومن هنا جاءت التّسمية. (يوحنا. 6: 71، 13، 2، 26). وكان يهوذا من الّذين قبلوا دعوة المسيح عند بحر طبريّة. (متّى.4: 18-22)، ومن خلال الأدبيّات المتعلّقة بيهوذا يمكن القول إنّه كان منذ البداية متورّطًا بالانغماس، إذ انغمس في جموع المسيح وتلاميذه لغايةٍ في نفسه، وقد عرف المسيح أنّه مُراءٍ ومخادع وطمّاع، لكنّه أعطاه فرصةً لعلّه يثوب عمّا يخفيه من سوء النّوايا، بعد أن حذّره من عاقبة الطمع والرّياء، ورغم أنّه قد عيّنه أمينًا للصّندوق لعلّه يتوب، فقد تجاهل تحذيرات المسيح (متّى.6: 20: لوقا. 12: 1-3)، وقد حصل تراجع يهوذا عن الولاء للمسيح بعد مجمع كفر ناحوم على خلاف باقي التّلاميذ الّذين أكّدوا ولاءَهم للمسيح (يوحنّا. 6: 71). قال المسيح:” أليسَ أنّي أنا الّذي اخترتكم الاثني عشر وواحدٌ منكم شيطان؟” ورغم أنّ المسيح قال:” أعرف أنّ واحدا سيسلّمني”(متّى.26: 21)، بقي يهوذا يتظاهر بالولاء للمسيح إلى أن قال الأخير ثانية مشيرًا إلى يهوذا:” هو ذاك الّذي أغمس أنا اللّقمة وأعطيه”. (يوحنّا. 13: 26)، وعندها فقط خرج يهوذا قاصدا رؤساء الكهنة وسلّمه لهم.
هذا التّناصّ يأتي بالصّيرورة، أي أنّ السّارد قد صار يهوذا الإسخريوطي، تارة اعترافًا، وتارةً إسقاطًا، والأصحّ شيطنةً لذات الشّاعر الّتي بدت مغتربةً من جميع نواحي الاغتراب الجغرافيّ، والسّياسيّ، والنّفسيّ، والقسريّ؛ وذلك بعد أن لم يتبقّ له ما يخسره بحيث أنّ السّارد بدلًا من أن يتّهم الفئة المناهضة له بالخيانة؛ ينسبها إلى نفسه من باب التّهكّم والسّخرية من وضعيّة حرب الكلّ ضدّ الكلّ، بحيث سادت حالة من الفوضى لدرجة أنّ المرء لم يعد يميّز عدوّه من صديقه؛ ولا من أين تأتيه الضّربة القاصمة.
- ” ثمّ سيّافًا إذا ما طلع الصّبحُ يقصّ الشّهرزادات ويغتالُ الضّفائرْ”
هذا التّناصّ مأخوذ من ألف ليلة وليلة، الكتاب الّذي ألهم الكثيرين من الأدباء والشّعراء ليس من العرب فحسب؛ إنّما ألهم الأدباء والشّعراء والمسرحيّين في الغرب أيضًا، لما فيه من خيال وإبداع ومعانٍ عابرة لحدود الزّمان والمكان؛ فقد ادّعى بعض النّقّاد أنّ أمّهات الكتب العالميّة ثلاثة: الكتاب المقدّس، وأشعار هوميروس، وكتاب ألف ليلة وليلة” (المهدي، نفوس. نظيرة الكنز- التّناصّيّة وألف ليلة وليلة، 9.7.2017، موقع أنطولوجيا الرّقميّ) وبغضّ النّظر عن محدوديّة هذا الادّعاء حول حصر أمّهات الكتب في ثلاثيّة واحدة فحسب؛ فقد تحوّلت شهرزاد إلى مُلهِمة أسطوريّة اثارت مخيّلة المبدعين في مواجهتها قهر السّلطان المتمثّل بشهريار بسلاح الكلمة الرّقيق النّاعم الّذي أدّى إلى تأجيل قرار إعدامِها خلال عمليّة السّرد المشوّق للقصص على مدار ألف ليلة وليلة، وإلى لجم رغبة شهريار بالقتل ثأرا لتعرّضه للخيانة، واستبدالها برغبته في الحياة بعد أن تحوّل إلى مستمع متشوّق لمعرفة المزيد. وكأنّي بالشّاعر من خلال عبارة” إذا ما طلع الصّبح” يستحضر إلى الأسماع تلك الجملة الرّنّانة” وأدرك شهرزاد الصّباح، فسكتت عن الكلام المباح”. وهنا تجدر الإشارة إلى مدى قدرة الشّاعر على التّفاعل مع نصوص أخرى، إضافةً إلى حيازته على ثقافة واسعة متراكمة قد أفرزت إنتاج نصّ جديد تناسل من نصّ قديم وسابق، وخلف هذا الاستحضار ” تكمن الغاية الجوهرية في القبض على الجوهر ومحاورته وترهينه وتقديمه في لبوس جديد” (المصدر السابق) لم يكن استحضار قصّة شهرزاد صدفةً، فهنا أراد عمر هزّاع أن يلفت انتباه القارئ إلى قضيّة جوهريّة تتعلّق بمقدار الأذى والذّلّ وامتهان قيمة المرأة خلال الحرب الدّائرة على سوريّة، من خلال قتل النّساء، واستحيائهنّ، واستغلالهنّ، من قبل بعض الفئات الّتي لها ضلع في هذا الاقتتال في سوريّة.
في المجمل، وبعد هذا التّطواف في فضاء القصيدة، رغم قلّة أبياتها، يمكن أن نصفها بأنّها نصّ تراجيديّ بامتياز، فالنّصّ التّراجيديّ حسب نظريّة أرسطو، هو النّصّ الّذي يُحدثُ التّحوّل؛ والتّحوّل يكمن في انقلاب الفعل إلى ضدّه؛ كأن تنقلب السّعادة إلى شقاء، والعكس صحيح. ويرى أرسطو أنّ التّحوّل في الحدث التّراجيديّ هو مسألة جوهريّة، ولا يمكن أن تكون ثمّة تراجيديا حقيقيّة بدون حصول فعل معيّن، هذا الفعل هو ما يحقّق الأثر التّراجيديّ الصّحيح؛ ولتحقيق الأثر التّراجيديّ يجب أن يتوفّر شرطان لا ثالث لهما: الأوّل أن يحدث التّحوّل بصورة مفاجئة وغير متوقّعة، والثّاني أن يحدث الدّهشة. والتّحوّل والدّهشة قد حصلا بأنّ الرّاوي، وهنا الشّاعر، عمر هزّاع، قد تحوّل من طاغية مارق إلى شاعر.
المراجع
- الفضليّ، ابتهال.11.10.2018، النّسق الشّعريّ المرئيّ_ قراءة في قصيدة “قدّس حمارك” لعمر هزّاع.
- هلو، الطّيّب. الحضور السّرديّ للشّاعرة نجاة الزّباير، مقال في موقع العرب الرّقميّ،29.10.2009
- أباظة، ثروت. القصّة في الشّعر العربيّ، 1977، ص11، مؤسّسة هنداويّ الرّقميّة.
- برنار، سوزان. قصيدة النّثر، ترجمة: مجيد مغامس، مراجعة د. عليّ جواد الظّاهر، نسخة رقميّة، ص 24، في موقع كتب الإسكندريّة، ط1، 1947: ط1992.
- المصدر السّابق، ص 40-41
- هلو، الطّيّب. مصدر سابق.
- الشّقّاف، نور. الإرهاب السّياسيّ وحركيّة الفنّن نشأة الدّادا، مركز معارف الدّراسات والأبحاث، 5.2.2020.
- اعترافات القدّيس أوغسطينوس، ترجمة الخوري يوحنّا الحلو دار المشرق، ص 113-115، نسخة رقميّة.
- أبو نضال، نزيه. السّيرة الجوّانيّة لمؤنس الرّزّاز بين غالب هلسا ودوستويفسكي، موقع أخبار عمّون الرّقميّ.
- العنانيّ، زياد. الخروج من دائرة الكتابة السّرديّة باتّجاه اعترافات جديدة غير مألوفة، صحيفة الغد الرّقميّة، باب ثقافة، 25.7.2011
- درويش، عامر. هل هناك أدب اعتراف في الثّقافة العربيّة؟ مجلّة الجديد، لندن، 1.2.2019
- متولّي، محمّد. أدب الاعتراف في الثّقافة العربيّة، مجلّة العربيّ، الكويت، عدد 736.
- معوّقات التّحوّل في الأدب، القدس العربيّ، لندن، 13.1.2023
- نصيف، أحمد كاظم “البياتي مبدع القناع في الشّعر العربيّ الحديث”، صحيفة الزّمان، دوريّة تصدر في أنحاء كثيرة من العالم، 3.8.21
- وقّاد، مسعود. القناع الصّوفيّ في شعر عبد الوهّاب البياتيّ، مجلّة الأدب، عدد 1، رقم 121، ص199، 21.10.17
16.خضر، رابعة. قراءة جديدة لقصيدة محمود درويش أنا يوسف يا أبي، الحوار المتمدّن، عدد7413، 26.10.22
- علاء الدّين، رمضان السّيّد. ظاهرة التّناصّ بين عبد القاهر الجرجانيّ وجوليا كريستيفا، المؤتمر الدّوليّ الأوّل، كلّيّة اللّغة العربيّة، جامعة أسيوط، 2014
- د. زوباري، فوزيّة. المعادل الموضوعيّ في مدائح أبي تمّام، مجلّة مجمع اللّغة العربيّة بدمشق، مجلّد87، جزء2، ص 478-510
- الكنز، نظيرة. التّناصّيّة وألف ليلة وليلة، موقع الأنطولوجيا الرّقميّ، 9.7.2017
- جبران، روز. مقابلة مع ياسر إسكيف، موقع العرب الرّقميّ الصّادر في لندن 14.4.2017
- موقع (الباحثون السّوريّون): الدّادائيّة
- القناع وتقنيّاته في الشّعر العربيّ الحديث، مجلّة المنال الرّقميّة.
- أقنعة عبد الوهّاب البياتيّ، صحيفة الاتّحاد، البحرين، 4.10.2009
- قاموس المعاني: التّحوّليّة في معاجم اللّغة العربيّة
- قاموس مورفيكس: قاموس مريم وبستر: دادا، الدّادائيّة.
- درويش، محمود. الأعمال الجديدة، لا تعتذر عمّا فعلت، لا كما السّائحُ الأجنبيّ، ص 141، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، ط1، 2004
- درويش، محمود. الدّيوان، الجزء 1، ص 614، ط 4، دار العودة بيروت
- درويش، محمود. الدّيوان، مجلّد 2، ص 359، ط 4، دار العودة، بيروت
- درويش، محمود. الدّيوان، ص 105-117
- المتنبّي، أبو الطّيّب. الدّيوان، ص 28
- القرآن الكريم، المائدة: 27-31
- القرآن الكريم، طه:43
- القرآن الكريم، البقرة: 285
- تسالونيكي4:9-10
- مزمور133: 9-10
- متّى. 12: 26
- مرقس.11:14
- يوحنّا. 6: 71، 13، 2، 26
- متّى. 6: 20:
- لوقا.12: 1-3
Leave a Reply