الحمد لله رب العالمين والصلوة والسلام على سيد الأولين والآخرين و من تبعه بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
يعدّ بيت الحكمة واحدا من أبرز المراكز والمؤسسات البحثية والثقافية على مستوى العالم العربي والإسلامي زمن الخلفاء العباسيين الذين حكموا بغداد بين 750 و1258 للميلاد،
ذُكِرَ في الموسوعة العربية أنَّ “بيت الحكمة” تعبير يُطلق على دارعلمية ظهرت في عصر هارون الرشيد (149-193 للهجرة/ 766-809 للميلاد)، وازدهرت في عصر المأمون والخليفة أبي جعفر المنصور، إذ ازدهرت الترجمة إلى العربية من خلال ترجمة الكتب اليونانية في العلم والفلسفة.
النهضة العلمية الإسلامية: أمر الخليفة هارون الرشيد بإنشاء أول جامعة في التاريخ (بيت الحكمة)، ذلك الصرح العظيم الذي ملأ الدنيا علما ونورا كان بيت الحكمة، خزانة كتب فاقت 300 ألف كتاب ومركز ترجمة وتأليف وتدريس. وفي سنوات حكمه حدثت ثورة علمية وثقافية، بما في ذلك في مجال الترجمة، بهدف تطوير التعليم الإسلامي، حيث استرفد لها الرشيد أكابر القراء واللغويين والمترجمين، وأنفق أموالا طائلة لرعاية هذا الصرح العلمي العالمي.
ثم جاء زمن الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، والذي أكمل مسيرة والده في بغداد، لكن زمنه شهد تألقا عظيما في الحضارة وصناعتها، فقد تفرد عهده بتطور مطلق في شتى العلوم، وبلغت حركة ترجمة الكتب إلى العربية أوجها، فقد كان يعطي المترجمين والمؤلفين أوزان كتبهم ذهبا، فانتعشت الترجمة إلى العربية من الحضارة اليونانية والفارسية والهندية.
يذكر الجغرافي الرحالة أبو الحسن المسعودي (283-346 للهجرة) في كتابه “مروج الذهب”، أن الخليفة أبا جعفر المنصور (95-158 للهجرة/712-775 للميلاد)، أمر بعمل ترجمات كثيرة من اللغات الأجنبية إلى العربية، ومنها الأعمال القديمة لكبار العلماء الهنود والفرس واليونان. وهو أول خليفةٍ تُرجم له من اللغات الأعجمية إلى العربية.
ويقول مشرف الدراسات السياسية والإستراتيجية في بيت الحكمة الدكتور محمود علي الداود: إن بيت الحكمة البغدادي الحالي هو سليل بيت الحكمة العباسي الذي ازدهر في عصور المنصور والرشيد والمأمون وتأسس عام 800 للميلاد، ووضع الأسس لحركة الترجمة والبحث العلمي في المنهج العقلاني والحوار الموضوعي.
أسس الخليفة هارون الرشيد مكتبة بيت الحكمة بمدينة بغداد عاصمة الدولة العباسية في القرن الثامن الميلادي، وكانت لها مكانة خاصة في العالم الإسلامي، وازدهرت واستمرت في شهرتها في ظل حكم ابنه المأمون. حيث جمع هارون الرشيد معظم الكتب والمخطوطات الخاصة بالمكتبة من والده وجده، لإعداد بيت الحكمة، وقام المأمون بتمديد المبنى الأصلي وتحويله إلى أكاديمية كبيرة، وعُرفت ببيت الحكمة، وأصبحت واحدة من أعظم مراكز الحكمة والمعرفة في العصور الوسطى، وساهمت في الحركة العلمية آنذاك.
في البداية تم إنشاء بيت الحكمة من أجل استضافة المترجمين والحفاظ على أعمالهم، وتمت إضافة أنشطة بحثية أخرى في مجالات العلوم والطب وعلم الفلك، وضمت المكتبة العديد من المترجمين والعلماء والكتبة والمؤلفين والباحثين في كافة المجالات المختلفة، وتُرجمت بها الكثير من المخطوطات والكتب من كافة الموضوعات الفلسفية والعلمية، بالعديد من اللغات مثل العربية والفارسية والآرامية والعبرية والسريانية واليونانية واللاتينية.
رغب الخليفة المأمون في جعل «بيت الحكمة» أكبر مركز للمعرفة في العالم، فقد كان عالماً بارعاً في فروع المعرفة، بما في ذلك الطب والفلسفة والنجوم، وكان يقوم بتعيين أشهر العلماء للترجمة، مثل أبي يوسف يعقوب الكندي لجعله مسؤولاً عن ترجمة أعمال أرسطو، كما شجع المترجمين والباحثين على إضافة أعمال باللغة العربية إلى المكتبة، فكان يدفع لهم ما يكافئ وزن كل كتاب بالذهب.
أقسام الدراسات العلمية :
يتألف بيت الحكمة من الأقسام الآتية:-
قسم الدراسات التأريخية
قسم الدراسات الفلسفية
قسم دراسات الاديان
قسم الدراسات الإقتصادية
قسم الدراسات الإجتماعية
قسم الدراسات القانونية
قسم دراسات اللغوية و الترجمية
قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية
التشكيلات البحثية لبيت الحكمة:
1. مكتبة بيت الحكمة العالمية.
2. مركز المعلومات ودعم إتخاذ القرار العراقي.
3. شعبة إحياء التراث وتحقيق المخطوطات.
تنوعت الأقسام العلمية في بيت الحكمة، فمنها قسم الترجمة والتعريب،
وذكر ابن النديم في «الفهرست» أسماء للكثير ممن يقومون بالترجمة من اللغات الهندية، واليونانية، والفارسية، والسريانية، والنبطية، الذين قاموا بترجمة الكتب إلى العربية وسائر اللغات المنتشرة في المجتمع الإسلامي، فقد كوّن المأمون ثروة كبيرة من الكتب القديمة، فشكل لها هيئة من المترجمين المهرة والشراح والوراقين، للإشراف على ترميمها ونقلها إلى العربية، وعيَّن مسؤولاً لكل لغة يشرف على مَنْ يترجمون تراثها، وخصص لهم رواتب عظيمة.
وبذلك قدَّم العلماء المسلمون خدمة جليلة للبشرية، بنقلهم التراث المهدد بالزوال، للكثير من المصنفات اليونانية والهندية الثمينة القديمة، حيث كان يُحَرَّم الاطلاع عليها في كثير من البلدان التي جُلبت منها، ويُحرق منها ما يُعثر عليه، كما حدث بكتب العالم الشهير أرشميدس، إذ أَحرق الروم منها خمسة عشر حِملاً.
وكان مركز البحث والتأليف أهم روافد المكتبة، حيث يتم تأليف كتب خاصة لهذه المكتبة، وكان المؤلف يُثَاب بمكافأة سخية، وكان النسَّاخون يُنتقون حسب معايير خاصة.
ويعد المرصد الفلكي من أهم الأقسام العلمية ببيت الحكمة، حيث أنشأه المأمون في حي الشماسية بالقرب من بغداد ليكون تابعاً لبيت الحكمة لتعليم الفلك فيها تعليماً عملياً، ليُجرب فيها الطلاب ما يدرسونه من نظريات، وكان يعمل فيه علماء الفلك والجغرافيا والرياضيات، مثل الخوارزمي، وأولاد موسى بن شاكر، والبيروني ومن خلال هذا المرصد استطاع المأمون بفريقين من العلماء أن يحسب محيط الأرض.
ويذكر المؤرخون أن المغول دمروا مركز بيت الحكمة بالكامل في 1258 م، وحرقوا كل المخطوطات والكتب.
نشأ بيت الحكمة أولاً كمكتبة ثم أصبح مركزاً للترجمة، ثم مركزاً للبحث العلمي والتأليف، ثم أصبح داراً للعلم تقام فيه الدروس وتمنح فيه الإجازات العلمية، ثم ألحق به بعد ذلك مرصداً فلكياً هو مرصد الشماسية
انقسم تنظيم بيت الحكمة الإداري إلى عدة أقسام:
المكتبة، وهي أساس الدار وفيها تحفظ كل كتاب يترجم أو يؤلف. النقل والترجمة، وكان منوطاً به ترجمة الكتب من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، ومن أبرز مترجمي الدار يوحنا بن ماسويه وجبريل بن بختيشوع وحنين بن إسحاق وكثير منلعلماء العرب واليهود والنساطرة والفرس
. البحث والتأليف، وفيه كان المؤلفون يؤلفون كتباً خاصة للمكتبة. المرصد الفلكي، الذي أنشأه المأمون في الشماسية بالقرب من بغداد ليكون تابعاً لبيت الحكمة، وعليه اعتمد المأمون في بعثته التي أرسلها لقياس محيط الأرض. المدرسة، وفيها كان العلماء يلقون دروسهم للطلبة، وتعقد مجالس المناظرة، وتمنح الإجازات العلمية.
كان لبيت الحكمة أثر عظيم في تطور الحضارة الإسلامية، وكان المحرك الأول لبدء العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وأسهم إسهامات كبيرة في مجالات الطب والهندسة والفلك. ساهم بيت الحكمة في إنقاذ التراث العالمي من الفناء والضياع بجلبه كنوز المعرفة من أنحاء العالم وترجمتها ثم حفظها ونشرها. كما أدخل نظام جديد لتنظيم المكتبات وهو ترتيب الكتب بناءً على صنف الكتاب.
لما اضطربت أحوال الخلافة بعد زمن المأمون، ساهمت مؤلفات وعلماء بيت الحكمة في نشأة مراكز ومدارس علمية جديدة في كل من خراسان والري وأصبهان وأذربيجان وما وراء النهر ومصر والشام والأندلس، شجع إنشاء بيت الحكمة دول العالم الإسلامي نحو تأسيس مراكز علمية على غراره، فكانت مكتبة العزيز في القاهرة، ومكتبة الزهراء في قرطبة.
بيت الحكمة هي أكاديمية للمعرفة تأسست عام 830 م في بغداد، تحتوي على مكتبة عامة فيها مجموعة كبيرة من المواد حول مجموعة واسعة من الموضوعات، واجتذبت العقول من جميع أنحاء العالم، من الفلسفة والرياضيات وعلم الفلك، وكانت الأكاديمية مركزًا رئيسًا للبحث والفكر والنقاش في الحضارة الإسلامية.
أهمية بيت الحكمة: كانت بيت الحكمة بمثابة المكتبة الملكية للخليفة العباسي المأمون في بغداد، وكانت مركزًا رئيسًا للترجمة ودراسة النصوص الفلسفية والعلمية اليونانية، فضلاً عن أنها موطن للعديد من المخطوطات العربية، وهي رمز لدمج وتوسيع التقاليد الفكرية من مختلف الثقافات والأمم، ونمت المكتبة منذ نشأتها إلى أن أصبحت زهرة العصر الذهبي الإسلامي، ولها دور بارز في النمو الفكري والاكتشاف في العالم الإسلامي.
دور الخليفة المأمون في بيت الحكمة: كان الخليفة المأمون بارعًا في فروع المعرفة التي تدرس في بيت الحكمة، مثل الطب والفلسفة وعلم التنجيم، فكان يزور العلماء هناك لمناقشة أبحاثهم، وكان علم التنجيم يحظى بأعلى درجات التقدير في المجتمع العربي، حيث كان يُنظَر إلى النجوم والكواكب على أنها تؤثر على الأحداث في الأرض.
موقع بيت الحكمة :تحدثت المراجع عن بيت الحكمة بإنصاف، لكنهم لم يذكروا الكثير عن موقعها، إلا أننا نعرف وفقًا للأعراف التي كانت سائدة أن خزانة الكتب تكون جزءًا من القصر تمامًا مثل قصر قرطبة وقصور ملوك الهند وبلاد فارس، لذا يُعتقد أن بيت الحكمة كانت جزءًا من القصر في زمن الرشيد، وقد قال بعض المؤرخين أنها كانت بمثابة دار ملحقة للقصر، وعندما زاد عدد الكتب المترجمة والمؤلفة في عهد المأمون تحوّل الملحق إلى مبنى كبير فيه عدد من القاعات ومساحة للمترجمين والمؤلفين والعلماء والقراء، ونتيجة لذلك تم نقل المكتبة إلى الرصافة التي كانت نصف بغداد على الجانب الشرقي من نهر دجلة.
تصميم وعمارة بيت الحكمة: يتكون بيت الحكمة من ساحة تحيط بها قاعات من طابقين من جهاتها الأربعة، في وسط كل جانب من جوانب الفناء الأربعة أروقة تعلوها قبة نصف أسطوانية طولها 25 ذراعًا، تؤدي القاعة الرئيسة إلى غرفة مربعة الشكل تعلوها قبة كبيرة بارتفاع 80 ذراعاً، ويوجد بالقاعة الرئيسة تمثال لفارس يحمل رمحًا يدور بالحربة، كما يحتوي الطابق الأرضي على عدد من الأقسام لخزائن الكتب وأقسام للترجمة والتأليف والنسخ والتجليد والقراءة، أما الطابق العلوي فقد خُصِصَ للمقيمين من المؤلفين، والمترجمين والموظفين.
نهاية بيت الحكمة: في عام 1258 ميلادي، توقفت إنجازات بيت الحكمة والعصر الذهبي الإسلامي؛ بسبب الغزو المغولي لبغداد تحت حكم هولين، وتم تدمير جميع المساجد والمكتبات والمستشفيات في المدينة العظيمة، وتم قتل آلاف سكان المدينة، وإلقاء مجموعة كبيرة من الكتب والمخطوطات من بيت الحكمة في نهر دجلة، وقد كانت نهاية مأساوية لواحدة من أكثر المدن تقدمًا وتنوعًا وتقدمًا، واستغرقت بغداد قرونًا للتعافي منها. وصلى الله على نبينا محمد وبارك وسلم و الحمد لله رب العالمين.
*الأستاذ المشارك بجامعة دار السلام عمرآباد
Leave a Reply