مقدمة:
بدأ اهتمام السلاطين العثمانيين في خدمة البقاع المقدسة من مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف في فترة مبكرة، تأسّست الدولة العثمانية عام ١٢٩٩، وكان هناك هدف واضح لدى مؤسسيها في جعلها دولة إسلامية كبرى تحمي المسلمين وتوحّدهم في جميع النطاق، وهكذا كانت العناية بالأراضي المقدسة فائقة لدى العثمانيين .كانوا يحرصون منذ تأسيس الدولة حتى انهيارها على إرسال نصيب كبير من أموال الزكاة إلى بلاد الحرمين التي كانت تحت الحكم المملوكي قبل فتحها من قبل السلطان سليم الأول كما حرص السلطان مراد الثاني والسلطان يلديريم بيازيد والسلطان محمد شلبي وغيرهم على إرسال الهدايا والأموال من ميزانيتهم الخاصّة مع القوافل المتجهة نحو الديار المقدسة، تزايد حفاظ العثمانيين على هذه المناطق بعد أن أصبحت تابعة للدولة سنة ١٥١٧، فكانت هذه المناطق مركزا دينيا وتكتيكيا للدولة العثمانية حتى عافت منطقة الحجاز من أداء الضرائب كما أعفي سكان الحجاز من التجنيد. أولت الدولة جلّ اهتمامها في الإشراف على قوافل الحج حيث اعتبروا هذا العمل واجبا يقع على عاتقهم ، هكذا سابق السلاطين العثمانيون لخدمة الأراضي المقدسة وجعلوها ضمن أولوية مهامهم.
قوافل الحج في العهد العثماني:
قام السلاطين العثمانيون بخدمات جليلة لتسهيل مناسك الحج وتيسير طرقها، فاهتمّوا بالطرق وقوافل الحج حيث تم حفر الآبار وإقامة الحصون على طول البلاد الإسلامية التي يمرّ بها الحجاج ، فكان أحد كبار العسكريين والذي كان يسمى سردار الحج يقود قوافل الحج من أنحاء الدولة. كان أهم قوافل الحج في العهد العثماني قافلة الحج الشامي وكان السلطان العثماني يشرف بنفسه على ترتيب وإعداد هذه القافلة ،كانت قافلة الحج المصري تضم حجيج مصر وشمال إفريقيا وقافلة الحج العراقي تضم حجاج العراق وفارس وقافلة الحج اليمني من حجاج اليمن والهند وماليزيا واندونيسيا، كانت الدولة تقيم الحصون والقلاع والمخافر على طول الطرق لحماية هذه القوافل ويقوم كبار الضباط من الجيش بالمهام المنوطة بها على أحسن وجه، وكان هناك تدبيرات صارمة لوقف التهديدات الخارجية أيضا.
عهد السلطان سليم الأوّل
منذ أن فتح السلطان سليم على الممالكة في مصر سنة ١٥١٧ وتسلم أمير الحجاز مفاتيح مكة إليه،أصبحت الأراضي المقدسة تحت سيطرة الدولة العثمانية رسميا، لقّبوا بخادم الحرمين الشريفين وتقبلوا بذلك بكل حفاوة، فعندما سمع السلطان مرة إمام الجامع الكبير في الشام يذكر اسم السلطان ب”حاكم الحرمين” تدخل وطلب منه أن يصحّح ذلك إلى “خادم الحرمين الشريفين”، فقد أوضحت خدمات السلاطين لهذه البقاع أنهم يستحقون هذا اللقب.
لقد سجل كتب التاريخ والآثار مناسبات عديدة تؤكد مدى استماتة السلاطين في خدمة مكة والمدينة، فقد ركزوا على خدمة الأراضي المقدسة أكثر مما قدمته الدول الإسلامية السابقة باستثناء دولة الخلفاء الراشدين الأربعة، ومن تلك الروايات أن السلطان سليم الأول عندما أحضر إليه مكنسة مستخدمة لتنظيف الكعبة، وضعها فوق رأسه مثل التاج ومن ثمّ ترى صورة مكنسة في عمائم السلاطين التالية إيحاء من هذه الواقعة.
خدمات السلطان سليمان القانوني
كان خدمات السلطان سليمان القانوني التي قدّمها للأراضي المقدسة من مكة والمدينة وبيت المقدس خدمات فذة لا نظير لها، فقد تمّ إعادة البناء واصلاحات الترميم في سقوف الكعبة ومآذن المسجد النبوي حسب إرشاداته ، فكان العمّال قد أرسلوا خصّيصا من قبل السّلطان من الأراضي التركية، وزيّن أطراف القبة وجدّدت الحلي الداخلية وأقيم محراب الأحناف قرب محراب النبي صلى الله عليه وسلم لعدم الاخلال في حرمة المحراب الذي صلى به الرسول صلى الله عليه وسلم كما بنى السلطان مقابر لشهداء أحد في البقيع، وقام بترميم مسجد القبلتين ومسجد القبة، بنى المدارس العلمية للمذاهب الأربعة في أطراف مكة ، وفي عهده أيضا تم ترميم بئر زمزم كما بنى بركة لخزانة المياه، وعلاوة على ذلك فقد قام السلطان سليمان بعدة اصلاحات اخرى غير مسبوقة في هذه البقاع، ومن أهمها بناء قبة فوق الحجرة النبوية الشريفة وأرسل كسوات مزخرفة لتغطيتها.
قام السلطان بإصلاحات في المسجد الأقصى أيضا فبنى جدارا بطول ٣ ك.م حول القدس، ولا يزال قائما حتى اليوم، ركز في إصلاح القنوات لتسهيل توصيل المياه، وبالإضافة قامت السلطانة حرم زوجة السلطان سليمان ببناء مطعم لتخدم الزوّار بالطعام والمرافق الأخرى كما أقامت مستشفى في مكة المكرمة مماثلا لمستشفى حسكي في إسطنبول، ولم يعد هذا المجمع الذي بنته حرّم سلطان عام ١٥٥١ أهمّ مؤسسة في القدس.
جهود المعمار سنان
كان المعمار سنان كبار المعماريين في الدولة العثمانية وعاشر عهود خمسة سلاطين عثمانيين هم : بايزيد الثاني، سليم الأول، سليمان القانوني، سليم الثاني ومراد الثالث، أتيحت الفرصة لسنان للاطلاع على تراث الشعوب الأخرى مما ساعده في ابتكار طرز خاص في الفنون المعمارية، وأشهر أعماله جامع شهرزاده وجامع السليمانية في إسطنبول وجامع أدرنا في أدرنا وإضافة إليه أقيم في البلاد العربية خاصة في المدينتين المقدستين تحت اشرافه تخطيطات عديدة لما أصابت الحرائق وسيول المسجد الحرام سنة ١٥٧١ بأضرار بالغة، فأصدر السلطان سليمان أمرا إلى المعمار سنان بتعمير الحرم المكي تعميرا كليّا، فخلال مهمته هذه تمّ توسيع بناء الحرم وتزيين داخل القبة بخطوط ذهبية وعمرت المآذن وأقيمت درجات على الأبواب لحماية المسجد الحرام من مياه السيول، وبنى قاعة درس واسعة التي سمّي فيما بعد بمدرسة السلطان سليمان خان بمكة المكرمة ، أقام عدة حمامات ومن أهمها حمام السلطان سليمان الذي لا يزال قائما في مكة المكرمة، وأما حمام صقولو محمد باشا المعروف بحمام العمرة لأنه قريب من باب العمرة في المسجد فقد تم هدمه أثناء توسعة الملك خالد عام ١٩٧٥، كذلك قام بعدة تعميرات في المدينة المنورة أيضا ومنها بناء باب الرحمة وباب النساء وإقامة المئذنة السليمانية مكان المنارة الشمالية ومطعم حرّم سلطان الخيري وغيرها بكثير.
خدمات السلطان عبد المجيد
خلال ثورة الوهابيين في عهد السلطان سليم الثالث في نجد، استولوا على الحجاز وقاموا بمذابح في مكة والمدينة وهدموا الضرائح والمساجد وأماكن الزيارة، فبعد أن تمت السيطرة على الوضع توجّه السلطان محمود الثاني إلى إحياء هذه الآثار من جديد لكن لم يتمكن من إتمام هذه المهمة بسبب انشغاله بالقضاء على التمرد في مصر وانقلاب الإنكشارية والحرب مع روسيا وغيرها، ثم قام السلطان عبد المجيد ببذل جهود كبيرة لإعادة بناء الآثار المهدّمة في مكة ومدينة ولذلك يعتبر من أكثر الحكام المسلمين خدمة للحرمين الشريفين، قام بترميمات كبيرة في الكعبة والمسجد الحرام وقام بإعادة بناء المسجد النبوي في قالبها السابق، وأضاف بابا جديدا إلى المسجد ويعرف باسم الباب المجيدي حتى الآن، وقد تكلفت أعمال التجديد والترميم في الحرمين الشريفين في تلك الفترة التي كانت الدولة تعاني فيها صعوبات كثيرة حوالي ٧٠٠٠٠٠ قطعة ذهبية، كان يحترم أهل مكة ومدينة بشكل كبير ويتضح هذا من واقعة قبل موت السلطان بيوم واحد، فعندما كان يسمع رسائل من أهل المدينة طلب من الحاضرين أن يساعدوه على الجلوس قائلا “إنهم جيران النبي صلى الله عليه وسلم وأخجل أن أستمع الى طلباتهم وأنا مستلق ، افعلوا كلّ ما يطلبونه على الفور ولكن فلتقرأوا لي الرسالة حتى تنال أذني البركة”.
مشروعات السلطان عبد الحميد الثاني في الأراضي الإسلامية
تولى السلطان عبد الحميد الثاني عرش السلطنة العثمانية وهي في أشد حالات وهنها وضعفها ويعرف بكونه آخر خليفة وحاكم فعلي للدولة العثمانية، وقد قدّم خدمات جليلة للأراضي المقدسة ومن أهمها أنه تطلع الى ربط الحجاز وغيرها من الولايات العربية بإسطنبول بواسطة سكة حديدية تربط بجميع أطراف الدولة، فأصدر أوامره عام ١٩٠٨ بإنشاء خط سكة حديد من دمشق إلى المدينة المنورة مرورا بالعديد من المدن العربية على أن يمتد الخط إلى مكة، كان من أبرز الآثار الإيجابية لهذا المشروع أنها سهّلت بشكل كبير نقل الحجاج إلى الأراضي المقدسة، يذكر الدكتور متين هولاكو في كتاب “الخط الحديدي الحجازي المشروع العملاق للسلطان عبد الحميد” أن عدد الحجاج قبل إنشاء خط حديد الحجاز كان لا يتجاوز ٨٠٠٠٠ حاج فازداد إلى ٣٠٠٠٠٠ زائر ، واختصر المسافة التي كانت تقطع في ٤٠ يوما إلى ثلاثة أيام فقط، ومن الخدمات التي قدّمها هذا الخط حمل الصرّة السلطانية المعتادة إلى الأراضي المقدسة عن طريق القطار بعد أن كانت تحمل عن طريق البر ثم البحر ، إضافة إلى الخط قام السلطان بعدد من الترميمات والمصاريف على مختلف الاحتياجات في مكة والمدينة، كان مشهورا بحبه العميق مع الرسول صلى الله عليه وسلم مثل السلاطين السابقة حتى كان يصنع بيديه المكنسة لتنظيف الروضة الشريفة.
موكب الصرة الهمايونية
هي عبارة عن الأموال والهدايا التي كانت ترسلها الدولة العثمانية كمخصّصات سنوية إلى البلاد الإسلامية. بدأ السلطان محمد جلبي تقليد إرسال موكب الصرة الهمايونية إلى الحجاز، فكانت ترسل المساعدات إلى الحرمين الشريفين مع كل موسم حج كانت تذهب بشكل منتظم من المدن الكبرى، كان ينطلق الموكب كل سنة من إسطنبول بصحبة موظفين رسميين إلى الأراضي المباركة حاملا الهدايا والأموال، كان أفراد الشعب أيضا يرسلون الهدايا والصدقات إلى الحجاج مع موكب الصرة كما كان الحجاج من هذه المناطق يلتحقون بالمواكب في الطريق ، وكان يترأس الموكب وكيل السلطان ويطلق عليه “أمين الصرة” ، فقد استمرّ هذا التقليد حتى عام ١٩١٦.
شبهات المستشرقين حول حج السلاطين
طرح بعض المستشرقين في بداية أمورهم سؤالا لتشويش عقول الجماهير حول الدولة العثمانية، فادّعوا بأن السلاطين العثمانيين لم يؤدّوا مناسك الحج قط وأضافوا بأن ذلك استهانة بالحج وعدم تقديس هذه الفريضة. لكن المراجع التاريخية ترد عليهم وتثبت أن بعض سلاطين الدولة قام بالحج أو همّ به أو حجّ سرا أو اعتمر ولم يتمكن من الحج، كان السلطان بايزيد الثاني ممن حج من السلاطين العثمانيين ، وممن همّ بالحج السلطان عثمان الثاني لكن تراجع منه منعا لحدوث الفتن وبسبب خطورة الاغتيال أثناء السفر ، وقد حج السلطان عبد الحميد الثاني متنكرا كما أن بعض السلاطين حال بينهم وبين الحج حجرة عثرة المرض أو خوف الفتن والثورة، وكان بعض علماء الفقه الحنفي يفتون للسلاطين بعدم الحج تفاديا للأخطار التي تترتب على غياب السلطان ، وفي الحقيقة لم ينفرد السلاطين العثمانيون بذلك فمعظم ملوك وسلاطين الدول الإسلامية في الحقب المختلفة لم يحجوا للأسباب ذاتها ، ومنهم السلطان صلاح الدين الأيوبي حيث أشغله قتال الصليبيين المستمر وكان قد همّ بالحج بعد معركة حطين إلا أن وافته المنية قبله، أدرك علماء الأمة الإسلامية حقيقة الافتراءات الكاذبة للمستشرقين ولم يتمكن الأيادي الطاغية من العدوان على الحقائق الناصعة.
هكذا تواصل العثمانيون خدمة الأراضي المقدسة بكل احترام وشغف، فكان كل السلاطين يسابقون في تقديم الخدمات لبلاد الحرمين، تولوا مهمة تيسير وتأمين مناسك الحج كونهم خلافة الأمة الإسلامية ومنارة أملهم لعدة قرون ، وقد استمر ذلك حتى اندلاع حرب العالمية الأولى حين انتهى الحكم العثماني في الجزيرة العربية والحجاز في عام ١٩١٦، ثم أمر السلطان العثماني الأخير “وحد الدين’ بإحضار كافة مقتنيات النبي صلى الله عليه وسلم من مكة الى إسطنبول عام ١٩١٧ كي يحميها من الاستيلاء والنهب ، فلم يتوانوا في الخدمة لهذه البقاع المشرفة حتى ظهور بوادر خسارتها إبان حرب العالمية الأولى.
المصادر:
- عبد العزيز ، عماد عبد العزيز يوسف ،الحجاز في العهد العثماني ، شركة الوراق للنشر، ط2011
- متين، أ.د متين هولاكو، الخط الحديدي الحجازيٍ: المشروع العملاق للسلطان عبد الحميد الثاني، دار النيل،ط2011
- الشناوي، د.عبد العزيز محمد الشناوي، الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها، مطبعة جامعة القاهرة، ط198.
- أكرم بوغرا إكنجي، العثمانيون وقرون من الخدمات الجليلة للبقاع المقدسة، مقالة في موقع ترك برس، https://www.turkpress.co/node/41743
- Willaim Ochsenwald, Ottoman arabia and Holy Hijaz 1516 – 1918 , Article in Journal of Global Initiatives: Policy, Pedagogy, Perspective, volume 10, article 3
*باحث في قسم اللغة العربية وآدابها\ جامعة دار الهدى الإسلامية
Leave a Reply