+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

تمظهرات اللسانيات النصيَّة في المدوَّنات النقدية التراثية: بحث في معايير السبك الصَّوتي عند الجاحظ
د. فاطمة حجَّاري

الملخص :

توقَّف “روبرت دي بوجراند” وزميله “دريسلر” ،” أمام مصطلح التَّنغيم وعدَّاه وسيلة من الوسائل الصَّوتية الرئيسة التي توظَّف مع وسائل أخرى ليتحقق مفهوم السَّبك النَّصي، وباستثناء ذلك لم يتكلَّم علماء لغة النص المتخصِّصون على عناصر صوتية أخرى. في مقابل ذلك نجد النقد العربي القديم عُني عناية كبيرة بالصُّورة اللفظية التي يقدم بها الباث خطابه ودورها في تحقيق القبول لدى المتلقي، فقدموا معايير للصِّياغة الصَّوتية، و أفردوا للنَّاحية الصَّوتية قضايا بلاغية مستقلة، كما أنهم تنبَّهوا للقيم الوظيفية للعناصر الصوتية التي تحكم نسيج النَّص الشعري، وفي ذلك يقول الجاحظ :” أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغا واحدا، وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على اللِّسان كما يجري الدِّهان … .”من هنا تحاول هذه الورقة البحثية تسليط الضوء على الضَّوابط الصَّوتية التي تحقق التَّماسك النصِّي كما قدمها الجاحظ باعتبار أن ملاحظاته في هذا الباب عُدت أول ملمح تطبيقي لدراسة التوافق الصَّوتي الذي يمسُّ النَّص.

  • الكلمات المفتاحية : السَّبك الصوتي – الجاحظ – التَّماسك النصِّي – البنية الصوتية .

1-مقدمة:

-مفهوم السَّبك:

تناول علماء اللسانيات دراسة النُّصوص من وجهين، الأول : الترابط الرصفي ، وموضوعه النظام النحوي الافتراضي (نحو الجملة)، وأما الثاني فهو الترابط المفهومي، وموضوعه النحو الدلالي (نحو النص)، ونحو النص يستدرك مالايدركه نحو الجملة من القدرة على تشخيص المعنى وفهمه في الخطاب، وذلك بتوافر المعايير النصية التي حدَّدها دي بوجراند حين عرَّف النَّص بأنه حدث تواصلي يلزم لكونه نصَّا أن تتوافر له سبعة معايير للنَّصية مجتمعة، ويزول عنه هذا الوصف إذا تخلَّف واحد من هذه المعايير، وهي : السبك ، والحبك ، والقصدية ، والمقبولية ، والإعلامية ، والموقفية ، والتناص.(روبرت 1998، 170-172)

ويندرج معيار السَّبك والحبك مما اختارته لنا بعض الترجمات العربية أن تجمعه في مصطلح التماسك النصَّي وعنوا به ” وجود علاقة بين أجزاء النص أو جمل النص أو فقراته، لفظية أو معنوية، وكلاهما يؤدي دورا تفسيريا، لأن هذه العلاقة مفيدة في تفسير النص ، فالتماسك النصَّي هو علاقة معنوية بين عنصر في النص وعنصر آخر يكون ضروريا لتفسير النص”. (عفيفي 2001، 98)

وتتجسد هذه العلاقات المعينة على فهم النَّص كالآتي:

  • الاحتباس في النص: يعني أن يكون للنص بداية ونهاية، والرسالة محبوسة بينهما.
  • الاعتدال في النص: يعني أن يكون للنص معنى وهدف.
  • الارتباط في النص: يعني أن تكون فيه الأفكار والمعاني، متعلقا بعضها تعلقا منطقيا، ولذا يعد التماسك مصطلحا وظيفيا.

وعليه يقوم التماسك النصي على خاصيتين، أولهما: الاتساق cohesion ذات طبيعة سطحية شكلية تشمل الرَّوابط اللغوية المختلفة من إحالة، واستبدال وحذف…، وثانيهما : الانسجام coherence، ذات طبيعة دلالية تشمل الروابط الدلالية بين العناصر اللغوية المتعددة في سياق وتعريض، وعموم /خصوص ، وإجمال/ تفصيل … الخ.(فحال 2009، 04)

فمما يحيل عليه هذا التعريف مصطلح الاتساق وجيء به للدلالة على الربط اللفظي، وله مقابلات أخرى هي : السبك عند : سعد مصلوح ، محمد العبد ، تمام حسان . التضام : تمام حسان ، إلهام أبو غزالة ، التماسك : محمد الخطابي ، فالـح بن شيب العجمي .الربط النحوي : سعيد بحيري(الكريم 2008، 141،108) . غير أن الاختيار سيقع على مصطلح السبك ترجمة لمصطلح coherence  ذلك أن المصطلح العربي قد ورد في التراث العربي، وأشهر نصوصه قول الجاحظ في وصف أجود الشعر بأنه “متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغا وسبك سبكا واحدا.”(الجاحظ 1418ه/1998م، 1/67)

وبيَّن سعد مصلوح الدرجات الَّتي يتحقق فيها السَّبك أو ما اصطلح عليه بالاعتماد النحوي، بقوله :” ويتحقق الاعتماد في شبكة هرمية ومتداخلة الأنواع هي :

  • الاعتماد في الجملة .
  • الاعتماد فيما بين الجمل .
  • الاعتماد في الفقرة أو المقطوعة.
  • الاعتماد فيما بين الفقرات أو المقطوعات .
  • الاعتماد في جملة النص .(شاهين 1433ه/2012، 57)

وينقل سعد مصلوح عن دي بوجراند أن الاعتماد النحوي،” يأتي في مستويات صوتية وصرفية وتركيبية ومعجمية ودلالية، كما يتخذ أشكالا من التكرار الخاص، والتكرار الجزئي، وشبه التكرار، وتوازي المباني، وتوازي التعبيرين والإسقاط، والاستبدال، وعلاقات الزمن، وأدوات الربط بأنواعها المختلفة .

وبهذا الشأن أوضح صلاح فضل شيئا مهما، وهو أن التماسك – السَّبك- يمثل خصيصة نحوية للخطاب، تعتمد على علاقة كل جملة بالجملة الأخرى، وهو ينشأ غالبا عن طريق الأدوات الَّتي تظهر في النص مباشرة، كأدوات العطف، والوصل، والترقيم، وأسماء الإشارة، وأدوات التعريف، والأسماء الموصولة، وغيرها .(فضل 1413ه/1992م، 263،261)وقد ذكر هاليداي ورقية حسن في كتابهما: cohesion in inglish، أن جزءا من السَّبك يتحقق عبر النحو، وجزءا آخر عبر المفردات، وعليه فقد أشارا إلى أن السبك ينقسم على قسمين هما :

السبك النحوي grammatical cohesion، والسبك المعجمي lexical cohesion، وأضاف بعض الباحثين قسما ثالثا هو السبك الصَّوتي الَّذي أفاده من توقف روبرت دي بوجراند أمام مصطلح التنغيم الَّذي عدَّه من المحاور الصوتية الرئيسة لمصطلح السبك.(فرج 1421ه/2007م، 116،83)ونجد عند هاليداي ورقية حسن تفصيلا مفصَّلا لسطح النص أو الأحداث اللغوية حيث يصوران اللغة بوصفها نظاما له ثلاثة مستويات هي :

  • الدلالة (المعاني)، والنحو المعجمي (الأشكال)، والصَّوتي، والخطي في (التعبيرات). المعاني تتحقق (تشفر) في أشكال، والأشكال تتحقق (يعاد تشفيرها ) تباعا في التعبيرات، وبتعبير أخص: يصاغ المعنى وهذه الصياغة تنطق أو تكتب: المعنى  (انظام الدلالي )
  • الصياغة (النظام النحوي معجمي )  * النحو   والمفردات *    التصويب أو النطق / الكتابة      * (النظامان : الصوتي والخطي ) .

ومصطلح الصياغة يشير إلى الشكل النحوي المعجمي، أي اختيار الكلمات والبنيات النحوية، وفي هذا المستوى لا يوجد فاصل صارم بين المفردات والنحو… والسَّبك يتحقق جزء منه عبر النحو، وجزء عبر المفردات.(الحميد 1998، 77)

مفهوم السبك في المدوَّنات البلاغية العربية:

يحيل  مصطلح السَّبك في الدراسات العربية القديمة إلى صفة الاستمرارية أو الاطراد(مصلوح 2003) ، الَّتي تميِّز الشعر أو غيره – على مستوى الجملة أو البيت غالبا- (متلاحم الأجزاء) ،لذا اختاره الجاحظ واستحسنته الدراسات النصيَّة الحديثة، يقول: “وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فيعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا جيدا وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على اللسان كما يجري على الدهان” .(الجاحظ 1418ه/1998م، 1/67)

ويقول أبو هلال العسكري تعقيبا على أبيات للنمر بن تولب :” فهذه الأبيات جيدة السَّبك حسنة الرَّصف. (العسكري دت)” ويرد عند  أسامة بن المنقذ ت530ه (باب الفك والسَّبك) ، وقد عرَّف السبك، بقوله :” السَّبك هو أن تتعلق كلمات البيت بعضها ببعض من أوله إلى آخره، كقول زهير :

يطعنهم ما ارتموا، حتى إذا اطَّعنوا     ضارب، حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا.

ولهذا قال : خير الكلام المحبوك المسبوك الَّذي يأخذ بعضه برقاب بعض. (منقذ دت، 100)

فالنَّمط التكراري يتحقق مع دفع المعنى إلى النمو تدريجيا وصولا إلى تحقيق الهدف الدلالي، فالتَّرديد الوارد في البيت يسرِّع من وتيرة إيقاع التكرار، فينموا النَّص سريعا نحو اكتمال الدلالة التكرارية عندما يأخذ طابعا متميزا في قدرته على ترتيب الدلالة ونموها تدريجيا في نسق أسلوبي يعتمد على ترديد اللفظ على شكل دفقات فكرية متلازمة، حيث تتردَّد فيه كلمة من الجملة الأولى في الجملة الثانية ومن الثالثة إلى الرابعة .

وحين تحدث بن الأثير عن علة تفضيل لفظ على آخر، قال : ” ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد، وكلاهما حسن الاستعمال، وهما على وزن واحد وعدة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما في مواضع السبك ، وهذا لا يدركه إلا من دقَّ فهمه، وجلَّ نظره ، فمن ذلك قوله تعالى  ﴿ مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ (الأحزاب : 04 ) ، وقوله تعالى  ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾ (آل عمران :35)، فاستعمل “الجوف” في الأولى و”البطن” في الثانية، ولم يستعمل الجوف موضع البطن ، ولا البطن موضع الجوف، واللفظتان سواء في الدلالة ، وهما ثلاثيتان في عدد واحد وزنهما واحد أيضا، فانظر إلى سبك الألفاظ كيف تفعل. (الأثير دت، 1/164)

ويرد عند ابن أبي الأصبع المصري (باب الانسجام) ، وقد عرَّفه بقوله : ” وهو أن يأتي الكلام متحدرا كتحدر الماء المنسجم، بسهولة سبك وعذوبة ألفاظ ، وسلامة التأليف، حتى يكون لجملة من المنثور، والبيت الموزون وقع في النفوس، وتأثير في القلوب ما ليس لغيره.(الأصبع بلا تاريخ، 166)وفي تعريف الاطراد – وهو من البديع المعنوي: قال وهو أن تطَّرد للشاعر أسماء متوالية يزيد الممدوح بها تعريفا، لأنها لا تكون إلا أسماء أباءه تأتي منسوقة صحيحة التَّسلسل غير منقطعة، من غير ظهور كلفة على النظم، ولا تعسُّف في السَّبك، بحيث يشبه تحدرها باطراد الماء لسهولته وانسجامه”.

فالسَّبك عند القدماء، ووفق قراءات المحدثين، إنما هو” إحكام علاقات الأجزاء، وسيلة ذلك إحسان استعمال المناسبة المعجمية من جهة، وقرينة الربط النحوي من جهة أخرى، واستصحاب الرتب النحوية إلا حين تدعو دواعي اختيار الأسلوبي ورعاية الاختصاص والافتقار في ترتيب الجمل.”(الحميد 1998، 77) إضافة إلى مراعاة حس اختيار المفردات وتجاورها في السياق.

وعموما فقد عدَّ أغلب الباحثين السَّبك متَّصلا بالبنية السطحية الشكلية للنَّص لاشتماله “على الإجراءات المستعملة في توفير الترابط بين عناصر ظاهر النص، كبناء العبارات والجمل واستعمال الضمائر وغيرها من الأشكال البديلة.(خليل 1413/199م، 11)الَّتي تترتب على “صورة وقائع يؤدي السَّابق منها إلى اللاحق بحيث يتحقق لها الترابط الرصفي.”(روبرت 1998، 103) بواسطة عدة قرائن وعلاقات بين العناصر خاصة الكلمات فيما بينها من تضام، وربط … ، (حسان 2004، 213)أي أنه يختص بالعلاقات النحوية أو المعجمية المختلفة في النص، وهذه العلاقة تكون بين جمل مختلفة أو أجزاء مختلفة من الجملة. ويؤكد سعد مصلوح “بأنه يختص بالوسائل التي تحقق بواسطتها الاستمرارية في ظاهر النص”.(حسان 2004، 91)

فالسبك” يعني العلاقات أو الأدوات الشكلية والدلالية التي تسهم في الربط بين عناصر النص الداخلية، وبين النص والبيئة المحيطة من ناحية أخرى.” (مفتاح 1996، 125)وعليه فالسبك يهتم بالعلاقات بين أجزاء الجملة، وأيضا بين العلاقات بين جمل النص وبين فقراته، بل بين النصوص المكونة للكتاب، ومن ثم يحيط (السبك) التماسك بالنص كاملا داخليا وخارجيا. (الفقي 2000، 96)

و يوجد السبك حينما توجد علاقة قضوية بين الجمل، يعني أن السبك علاقة صريحة بين القضايا تعبر عنها الجمل، وتتجلى هاته العلاقة من خلال المرور على مستويين، وهما المستوى النحوي والمستوى المعجمي اللذان يؤكدان فعالية السبك (الاتساق) وابراز حدوده.(الخطابي 2006، 237)والملاحظ على التعريفات والتصنيفات التي حدَّدت معنى السَّبك أنَّها ركَّزت على المستوى النحوي والمعجمي، في حين أنها أغفلت المستوى الصَّوتي.  ماعدا إفادة فان ديك وهو أحد علماء النَّص من دراسة ياكبسون عن التوازي، حيث حاول أن يضع قواعد النص الأدبي، من أجل وصف البنيات الأدبية، مثل الوزن، والاستعارة، والحبكة السردية، وفي إطار هذا تناول فان ديك المكونات الصَّوتية الخاصَّة بالنَّص الشعري، وتشمل عنده : الصوت، والخط، والصرف، والتركيب، وفيما يتعلق بالمكون الصَّوتي فرَّق فان ديك –أولا – بين البنيات الوزنية والبنيات غير الوزنية ، رغم وجود خاصية أساسية مشتركة بينهما، وهي خاصية التكرار الصوتي، بيد أن البنيات الوزنية تقوم على تكرار أوزان بعدد معين وثابت، وهو ما يعرف بالنظام العروضي، وأما البنيات غير الوزنية، فهي اطرادات معينة من التكرار، ولكن هذه الاطرادات ليست ذات عدد ثابت ، كما هي الحال في النظام العروضي.(الحميد 1998، 122)

وتشمل هذه البنيات غير الوزنية : جناس البداية، والسجع، وتجانس الصوائت، وتقوم هذه الأنماط الثلاثة على مبدأ التكرار الفونيمي، حيث يستخدم في كلمة فونيم أو أكثر سبق استخدام في كلمة أخرى، ومن ثم رأى فان ديك أن مثل هذه الأنماط يجب دراستها بوصفها علاقات تربط بين العناصر المتكرر فيها الفونيم.(الحميد 1998، 123،122)

إن مثل هذه القضايا تتواجد بوفرة وبمنهجية مكتملة في اللغة العربية ذلك أن العربية تضمُّ الكثير من المكونات الصوتية، والقضايا الدلالية ذات المنحى الصَّوتي التي تساهم في تحقيق الاتساق والتماسك والسبك في بناء النص، ومنها ما يلي:

2-أشكال السَّبك الصَّوتي في العربية :

يعدُّ الرَّبط الصَّوتي إذن أحد الوسائل الشكلية التي تزيد في تماسك النَّص، حيث يلعب دورا كبيرا في إنتاجه وسهولة تلقيه واستيعابه وحفظه وروايته، كما يعد أحد الاستراتيجيات التعليمية الّتَي ارتبطت بإنتاج الخطاب سواء على مستوى الألفاظ الغريبة أو الأساليب البلاغية .

ذلك أن المتكلم حين يقدم رسالة لغوية يعمد إلى وسيلتين : النطق والكتابة، وكلتاهما متساويتان بالنسبة لطبيعة العمل الإبداعي ، ولكن يبدو أن النقد العربي القديم كانت له عناية خاصة بالوسيلة الأولى، وهذا بدوره أدى إلى أن يكون في الاعتبار دائما وعي المبدع بمستويات الصِّياغة صوتيا، لأنها أكثر صلة بالموقف والمقام، وبالسلوك الفردي، بل أكثر صلة بعملية التلقي وما يتبعها من ردود فعل، قد لا تتحقق في المستوى المكتوب.(المطلب 1995، 96)

“وقد اهتم النقاد القدامى بأساسين صوتيين أحدهما يتَّصل بالمخرج، والآخر بكمية المنطوق ، وبمعنى آخر بالكيف والكم المنطوق، وكان لذلك اعتباره في الحكم على النصِّ الأدبي بالحسن أو بالقبح . وربما كان ذلك وليد نوع من المهارة و المران في التمييز بين الفروق الدقيقة في الصَّوت ، فتستريح الأذن إلى كلام معين لحسن وقعه أو إيقاعه ، وترفض غيره لما فيه من نبو أو تنافر. (المطلب 1995، 96)

كما تقدم البلاغة العربية ممثلة في علم البديع مجموعة من الرَّوابط الصَّوتية للنُّصوص العربي ، من سجع وجناس ، وسجع ، وترديد ولزم مالا يلزم وغيرها ، إضافة إلى خصائص صوتية تميِّز الشِّعر من وزن وقافية ، وكلها عناصر تمثِّل نماذج للرَّبط الصوتي في العربية.  وما الطباق أو الجناس إلا لونان من ألوان البديع يحدثان في الكلام ضربا من الموسيقى والإيقاع تطرب له الأذن، وتهش له النَّفس، ويخلب به العقل.

ومن أوجه البلاغة ذات وقع الصوتي، ظاهرة التكرار اللفظي، ومن أشكاله (التعطف)، والمقصود به” أن يأتي الشاعر في المصراع الأول من البيت بلفظة ويعيدها بعينها، أو بما يتصرف منها في المصراع الثاني، فشبه مصراعا البيت في انعطاف أحدهما على الأخر بالعطفين في كون كل عطف منهما يميل إلى الجانب الَّذي يميل إليه الآخر .

ومثاله: قول أبي الطيب:

فساق إليَّ العرف غير مكدَّر    وسقت إليه الشكر غير مذمَّم.

فهذا البيت “انعطفت فيه ثلاث كلمات من صدره على ثلاث كلمات من عجزه، فيه بهذا الاعتبار ثلاث تعطفات ، وذلك قوله: (فساق) ، فإنها انعطفت على قوله في العجز (وسقت)، وقوله (إلي) فإنها انعطفت على قوله في العجز (إليه) ، وقوله غير ، فإنها انعطفت على قوله في العجز (غير).

 ويلتفت ابن أبي الأصبع إلى وجه آخر من وجوه التناسب في هذا البيت – أيضا- وهو التوازي الصَّوتي ، حيث قال : ” ثم في البيت من المناسبة مالم يتفق في بيت غيره ، فإن كل لفظة في صدره على الترتيب وزن كل لفظة في عجزه وكل جملة، كقوله (فساق) (وسقت) و(إلى) و(إليه) و(العرف) و(الشكر) و(غير) و(غير) و(مكدر) و(مذمم) .فهذه مفردات الألفاظ، وأما الجمل المركبة منها، فانظر إلى قوله (فساق إلي) (وسقت إليه) و(العرف) و(الشكر) و(غير مكدر) و(غير مذمم) والتوازي الصوتي – أيضا- أداة سبك نحوي، مما يعني ارتفاع درجة السبك في هذا البيت (معجميا ونحويا ).(الحميد 1998، 96)وقد أورد ابن سنان فنون السجع والازدواج، ولزوم مالا يلزم، والتصريع، والترصيع، والجناس، أوردها على أنها تحقق (التناسب عن طريق الصيغة)، كما جاء عند حازم في إطار مبحث (التلاؤم) ما عرف بجناس الاشتقاق والسجع والازدواج ، يقول حازم :” والتلاؤم يقع في الكلام على أنحاء منها … ومنها أن تناسب بعض صفاتها ، مثل أن يكون إحداهما مشتقة من الأخرى مع تغيير المعنى من جهة أو جهات، أو تتماثل أوزان الكلم أو تتوازن مقاطعها ، ومنها أن تكون كل كلمة قوية الطلب لما يليها من الكلم ، أليق بها من كل ما يمكن أن يوضع موضعها .”(الحميد 1998، 131)

كما أن في الوزن الشعري وضوابطه باعتبارهما مظهرين صوتيين يخصَّان الشعر، دورا في تحقيق تلاحم وانسجام البيت الشعري والقصيدة ككل، “فالقافية ليست مجرَّد محسِّن صوتي يكسب القصيدة سمة عروضية خاصة تستهدف التطريب وتحقيق الاستجابة الآنية القائمة على تماس العواطف، إنما تجاوز ذلك إلى إنجاز وظيفة دلالية، إنها إيذان بنهاية البيت الشعري ، وهي تمثل نوعا من التكرار الصوتي ما إن نسمعه في نهاية البيت، حتى نتأهب لاختزانه في الذاكرة وننتظر سماعه من جديد، وهذه النقرة الصوتية المتكررة تسهم في تحقيق السَّبك النصِّي. “(كوهين 1987، 209)  ،”فالشاعر يرتكز على القافية في إنهاء المعنى الجزئي في كل بيت من أبيات قصيدته، في حين أن المتلقي يتلقى البيت وينتظر ورود القافية ورويها، ويتوقع ترددها، ليستجمع هذه الفكرة الجزئية ثم يربط بينها وبين الأفكار التالية. وهذا الإيقاع المتتالي للقافية يحدث تماسكا من نوع خاص في الشعر العمودي لأنه يجمع شتات النص، ويسهم في جعله وحدة صوتية متتابعة”. (عطية 2018/ 1439، 72)

فالقافية متماهية مع حركة المعنى ومحددة لها في بعض الأحيان، أي تدخل في صلب طبيعة التشكيل النسيجي لنظم البناء في النص، يقول قدامى بن جعفر: “أن تكون القافية متعلقة بما تقدم من معنى البيت تعلق نظم له وملاءمة لما مر فيه”. (جعفر دت ، 167)فهذه مجرد إشارات لبعض الرَّوابط الصوتية التي تسهم في إحداث النصيَّة، وبالتالي تحقيق الاطراد والاستمرارية المنشودة في مختلف النصوص، على أن الجاحظ طرق روابط ومعايير تعد مرتكزات الدرس الصوتي أصالة ، قبل أن تتشارك المعطيات الصوتية البلاغة والعروض، إنه يتحدث عن مجموعة من الروابط الصوتية التي تساعد في تحقيق الفهم والإفهام ، وتجسيد رؤيته للبيان باعتباره غاية المتكلم ، ومراد السامع .

3-معايير السَّبك الصَّوتي من منظور الجاحظ :

  1. السلامة الصوتية :

 تنطلق أولى مراحل تحقيق البيان أو الإفهام من منظور الجاحظ من مرحلة مراعاة سلامة ما اصطلح عليه آلة البيان، وقصد بها جهاز النطق في حدود الفم وأعضائه ، وقد أفرد لذلك شرحا مطولا وأمثلة كثيرة وتفصيلات لسقوط بعض الأسنان وأثره في تحقيق الإفهام، يقول: قال سهل بن هارون: لو عرف الزنجي فرط حاجته إلى ثناياه في إقامة الحروف وتكميل آلة البيان لما نزع ثناياه .(الجاحظ 1418ه/1998م، 1/59)

قال وزعم يحي بن نجيم بن معاوية بن زمعة، أحد رواة أهل البصرة أن يونس بن حبيب الضَّبي قال في تأويل قول الأحنف بن قيس : أنا ابن الزافرية أرضعتني    بثدي لا أجدَّ ولا وخيم .

أتمتني فلم تنقص عظامي     ولا صوتي إذا جدَّ الخصوم.

قال إنما عنى بقوله “عظامي ” أسنانه التي في فيه، وهي الَّتي إذا تمَّت، تمَّت الحروف وإذا نقصت، نقصت الحروف. (الجاحظ 1418ه/1998م، 1/59)

ويزيد الجاحظ في بيان دور تمام آلة النطق من جميع العيوب، ومدى مراعاة الخطباء وأهل المنابر لهذه القضية، حين ينقل هذا الخبر عن معاوية:” ولم يتكلم معاوية منذ أن سقطت ثناياه. قال أبو الحسن وغيره : لمَّا شقَّ على معاوية سقوط مقادم فيه، قال يزيد بن معن السلمي: “والله ما بلغ أحد سنَّك ألاَّ أبغض بعضا بعضا، فوك أهون علينا من سمعك وبصرك، فطابت نفسه.”(الجاحظ 1418ه/1998م، 1/60). قال: لولا المنابر والنِّساء، ما باليت متى سقطت.

وهو بذلك يشير إلى الأهمية القصوى للأسنان خاصة لدى الخطيب ، ويؤكد الجاحظ أن من سقطت أسنانه جميعها أبين ممن ذهب شطرها أو ثلثها، يقول: قال محمد بن الرومي، مولى أمير المؤمنين : قد صحَّت التجربة وقد قامت العبرة على أن سقوط جميع الأسنان أصلح في الإبانة عن الحروف منه إذا سقط أكثرها، وخالف أحد شطريها الآخر. (الجاحظ 1418ه/1998م، 1/61).ويقول: وقد رأينا تصديق ذلك في أفواه قوم شاهدهم النَّاس بعد أن سقط جميع أسنانهم، وبعد أن بقي منها الثلث أو الربع ، فمن سقطت جميع أسنانه كان معنى كلامه مفهوما … وكان سفيان بن الأبرد الكلبي كثيرا ما يجمع بين الحار والقار فتساقطت أسنانه جميعها ، وكان في ذلك كله خطيبا بيَّنا .

ومن الملاحظات القيمة الَّتي ذكرها الجاحظ عن علاقة الأسنان وتواجدها بالنطق ما ذكره عن الأهتم ، إذ يقول:” وليس شيء من الحروف أدخل في باب النَّقص والعجز من فم الأهتم من الفاء والسين إذا كانا في وسط الكلمة .”(الجاحظ 1418ه/1998م، 1/61)

و جاء في لسان العرب: هتم فاه يهتمه هتما : ألقي مقدَّم أسنانه  والهُّتم : انكسار الثنايا من أصولها خاصة ، وقيل من أطرافها .هتم هتما وهو أهتم بيِّن الهتم ، وأهتمته إهتاما إذا كسرت أسنانه، وتهتَّم الشَّيء تكسَّر ، وذلك لأن مخرج هذه الحروف ما بين طرف اللسان وفويق الثنايا لذلك صعبت على الأهتم الَّذي فقد أسنانه .

فنقص اكتمال جهاز النطق على مستوى الفم، مدعاة إلى حدوث نقص في الإبانة والإيضاح، وتبليغ الكلام بأحسن صورة من الفظ

كما يذكر الجاحظ نصَّا مطوَّلا عن الخطيب المعتزلي واصل بن عطاء ، والَّذي كان في فمه لثغة حرص على تجنُّب ظهورها لا لشيء إلا أنها مدعاة للنَّقص في بيانه وفي تبليغ مراده، يقول الجاحظ :” ولمَّا علم واصل بن عطاء أنه ألثع فاحش اللَّثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع ، وأنه إذا كان داعية مقالة، ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لا بد له من مقارعة الأبطال، ومن الخطب الطِّوال، وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق ،وتكميل الحروف وإقامة الوزن، وأن حاجة المنطق إلى الحلاوة، كحاجته إلى الجزالة والفخامة، وأن ذلك من أكثر ما تستمال به القلوب، وتثنى به الأعناق، وتزيَّن به المعاني.”(الجاحظ 1418ه/1998م، 1/14). ويقول ” ومن أجل الحاجة إلى حسن البيان، و إعطاء الحروف حقوقها من الفصاحة – را م أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه ، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتَّى لستره والراحة من هجنته، حتى انتظم له ماحاول، واتَّسق لم ما أمَّل. (الجاحظ 1418ه/1998م، 1/15)

فهذا الحديث المفصَّل جزء من تفصيل طويل يبين فيه الجاحظ دور الأسنان في إقامة النطق السليم ، وحديثه عن العيوب التي تلحق الكلام بسب خلل في الأسنان وهو العضو الظاهر ، إنما سببه عدُّ هذا الخلل انتقاص في درجة فصاحة المتكلم ، غير أنه لا يقف عند هذا الحد، بل يجعل العيوب الصوتية للكلام مانعة من حدوث الإفهام ، فيذكر أن الذي يعتري الِّلسان ممَّا يمنع البيان أمور : منها اللُّثغة التي تعتري الصبيان إلى أن ينشأوا. ” (الجاحظ 1418ه/1998م، 1/71).

” وهو في هذا لا يفوته ذكر قصة سيدنا موسى عليه السلام ، واللُّثغة التي كانت تعتريه ، ودعاءه الّذَي كان في سبيل تحصيله الفصاحة ، وحسن مخاطبة الناس ليفهموا عنه، ويؤثر فيهم بصفته حامل رسالة سماوية من شأنها أن تقع في القلوب موقعا حسنا أو بالأحرى تهزُّ النفوس ، وتخلخل مبادئها وتقوِّضها لتغرس فيها مبادئ جديدة. ” (بشرى 2011، 84)

“ففي تقديم سيِّدنا موسى عليه السلام لأخيه هارون كونه أفصح منه وبالتالي قدرته على التبليغ ودعاءه الَّذي كانت الغاية منه نفسها (التبليغ) إشارة إلى تلازم المصطلحين ، والأجدر أن يقال تلازما إن لم يكن تداخلا ، لأن البيان أشمل من الفصاحة ، فكل مبين فصيح ، وليس كل فصيح مبينا ، لوقوع البيان بغير الكلام “.(بشرى 2011، 84)

لقد عرض الجاحظ من وجهة نظر الجابري للعملية البيانية – وهي المقصود من جميع أبواب البيان والتبين – بوصفها مقولات تأسيسية لإنتاج الخطاب البياني ، أو بما هي شروط لإنتاج الخطاب البياني منطلقا من شروط الإرسال الجيد إلى متطلبات الحصول على الاستجابة المبتغاة. وقد حدَّد الباحث هذه البيداغوجية البيانية المرتبطة بشروط إنتاج الخطاب البياني في نقاط أولها :

  • البيان وطلاقة السان: إذ حاول الجابري أن يعلل استهلال الجاحظ كتابه بـ”ذمِّ السَّلاطة والهذر والعيِّ والحصر والحبسة ” بالمثل المشهور بضدِّها تتميز الأشياء،” أي إن الجاحظ في تقدير الباحث عرَّف البيان بالسلب بما ليس هو إياه ” وكأنَّ البيان بالتسطيح النَّثري هو الَّذي تجرَّد من هذه الصفات، فالجاحظ في هذه المرحلة – كما تبينه مقاربة الجابري – انطلق في ذكر الآفات الَّتي تفسد البيان والَّتي ترجع إلى خلل في الجهاز الصَّوتي مثل اللجلجة والتَّمتمة واللثغة والفأفأة . . .، فالجاحظ إذن حسب الجابري يربط “بين البيان وطلاقة اللسان ،ويعزز هذا الرَّبط وعلى الطريقة البيانية بعدة شهادات وعلى رأسها القرآن الكريم. (بشرى 2011، 187).

لقد أدرك الجاحظ بأن الإفهام كما يحتاج إلى شروط وسائل معينة ، يحتاج إلى غياب مجموعة من النواقص والآفات منها ما قد يتولد في آلة النطق ابتداءا، مما يستوجب مراعاة هذا الجانب الأولي في أداء الكلام وإرساله .

  1. نسيج الكلمة ( بنية اللَّفظة ) :

تنطلق رؤية الفصاحة من وجهة نظر صاحب البيان التبين من قاعدة صوتية، تقوم على انسجام الحروف المركبة للكلمة وتآلفها، وقد بلور هذا المقياس الهام في مصطلح يبدو ثابتا واضح المعالم في أصول نظريته الأدبية، وهو الاقتران، وقد أورده في معرض تفسيره ” التشابه والموافقة” – وإن كان هذا التفسير غير دقيق في دلالته على أوجه التشابه والموافقة بين الحروف لخلوه من كل تحليل موضوعي لكيفية تعامل الأصوات، فإن الأمثلة الَّتي أوردها للاستدلال على كبر هذا الباب – على ما يقول – دليل على أن المقصود ، تجنب الجمع بين الحروف المتنافرة من جهة المخرج أو الصفات . (صمود 1981، 227،226)فقد ذكر أن الجيم لا تقارن ( ظ، ق ،ط ، غ) بتقديم ولا بتأخير ، والزاي لا تقارن (ظ، ش، ض، ذ) بتقديم ولا بتأخير.(صمود 1981، 227).

وفي البيان والتبيين نصٌّ يحوصل فيه صاحبه صفات اللفظ من جهة تآلف الحروف وبنيته الصوتية العامة ، وقد سلك في ذلك مسلك إبراز الصَّفة ونقيضها انطلاقا من موازنة عقدها بين خصائص أجزاء البيت من الشعر وخصائص ما سمَّاه (بحروف الكلام)، يقول الجاحظ ” فحروف الكلمة وأجزاء البيت من الشعر تراها متفقة وملسا ولينة المعاطف سهلة، وتراها مختلفة متباينة متنافرة مستكرهة تشق على اللسان وتكده، والأخرى تراها سهلة لينة، ورطبة مواتية، سلسة النظام، خفيفة على اللِّسان، حتى كأن البيت بأسره كلمة واحدة ، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد .”(الجاحظ 1418ه/1998م، 1/67)

ثم هو يتجاوز حدود المفردة الواحدة إلى علاقتها الصوتية بمجاورتها، مبديا ملاحظاته فيما يعرف بتنافر الألفاظ، حيث قال : ” ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر، وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض الاستكراه فمن ذلك قول الشاعر :

وقبر حرب بمكان قفر   وليس قرب قب حرب قبر .

قال الجاحظ ولمَّار رأى من لا علم له أن أحدا لا يستطيع أن ينشد هذا البيت ثلاث مرات في نسق واحد فلا يتتعتع ولا يتلجلج ، وقيل لهم إن ذلك إنما اعتراه إذا كان من أشعار الجن فصدقوا بذلك. قال وأنشدني أبو العاصي ، قال أنشدني خلف الأحمر في هذا المعنى :

وبعض قريض القوم أولاد علة   يكدُّ لسان النَّاطق المتحفِّظ.(الجاحظ 1418ه/1998م، 1/67)

قال وأنشدني في ذلك أبو البيداء الرياحي :

وشعر كبعر الكبش فرَّق بينه   لسان دعيٍّ في القريض دخيل .

أما قول خلف ” وبعض قريض القوم أولاد علة .

فإنه يقول : إذا كان الشعر مستكرها، وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها ماثلا لبعض كان بينها من التنافر ما بين أولاد العلات، وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضيا موافقا كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة … وأما قوله “كبعر الكبش ” فإنما ذهب إلى أن بعر الكبش يقع متفرِّقا غير مؤتلف ولا متجاور. وكذلك حروف الكلام وأجزاء البيت من الشعر، تراها متفقة ملسا، ولينة المعاطف سهلة، وتراها مختلفة متباينة، ومتنافرة مستكره تشق على اللسان وتكده ، والأخرى تراها سهلة لينة ورطبة مواتية سلسة النظام ، خفيفة على اللسان ، حتى مأن البيت بأسره كلمة واحدة ، وحتى كأن الكلمة بأسرها حر واحد .”(الجاحظ 1418ه/1998م، 1/67)

وهكذا نجد الجاحظ قد ربط بين البيان وعدم التنافر بين مجموع الألفاظ التي تؤلف الجملة بل ويعد الجاحظ سبَّاقا في الجمع بين تنافر الحروف وتنافر الألفاظ حيث اكتفى من سبقه من العلماء في الحديث عن تنافر الحروف فقط.

لقد أظهر الجاحظ وعيا كبيرا  بضرورة مراعاة التجانس بين الحروف في الكلمة الواحدة ، وبين الألفاظ في “الوحدة الكلامية ” كالجملة من النثر أو البيت من الشعر ، وكأن البيان عند الجاحظ كما يتوقف على سلامة الجهاز الصوتي ، فإنه يتوقف “على خلو الكلام من العيوب الراجعة إلى الجمع بين الحروف غير المتجانسة”. وما كل من شأنه أن يعيب البناء الصوتي لنسيج الكلمة العربية مفردة، وفي علاقتها بما يجاورها.

  1. حسن اختيار الألفاظ :

 وكما يتوقف البيان على سلامة النطق وطلاقة اللسان يتوقف كذلك على جزالة اللفظ وحسن اختياره حتى يكون مناسبا للمقام، وتبعا لهذا التصور ، فقد وقف الجابري أمام قول الجاحظ ” ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام ، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث … (الجاحظ 1418ه/1998م، 1/18-19).مقدرا أن نص الجاحظ يجسِّد مقولة مناسبة اللفظ للمقام ، كما وقف الباحث أيضا على نصوص جاحظية أخرى تبرز اهتمامه بمبدإ ‘”لكل مقام مقال” الَّذي يقضي باختيار اللفظ المناسب للمعنى ، المتناغم مع السياق.”(الجابري 2009، 26)

يقول الجاحظ : ” ولا يحسب المتكلم/ الكاتب أن اختيار الألفاظ يكون فقط على الألفاظ الجزلة الفخمة دون سواها، فإنه إن كان هذا منهجه ، فقد جانب الصواب في كثير من المقامات، لأن اللفظ بحسب المعنى ، فالفخم من الألفاظ يناسب الفخم من المعاني ولا يناسب الرقيق منها،”وأن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني وقد يحتاج السخيف في بعض المواضع ، وربَّما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ ، والشريف الكريم من المعاني”. (الجاحظ 1418ه/1998م، 3/140)

وكما هو واضح في هذا القول ، طبيعة المقام وحيثياته هي التي تفرض الألفاظ ، وكذا المعاني ، ولا يخشى أن يكون بذلك اختيار السخيف من الألفاظ مدعاة للسخرية والاستهزاء والحطِّ من قيمة المتكلم فهو المبين في ذلك الموضع ، وما حاجتنا إلى كلام سوى أن نفهم معناه ويؤثر فينا ، لتتحقق وظيفته الاجتماعية.(بشرى 2011، 121)

  1. تلاحم الأجزاء :

         أطلق الجاحظ حكما مشهورا لتمييز جيَّد الشعر من رديئه، فقال” وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء ، سهل المخارج ، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغا واحدا ، وسبك سبكا واحدا، فهو يجري على الَّلسان كما يجري على الدِّهان. “(الجاحظ 1418ه/1998م، 1/67)

فالجاحظ يوجه النظر إلى السامع بوصفه قاعدة الإفهام والفهم ، لذا يجب على المتكلم تحرِّي التَّلاؤم في كلامه، وكذا الشعر في شعره، بانتقاء الألفاظ الفصيحة الَّتي لا يستثقلها الِّلسان، وفي الوقت ذاته لا يقع بينها وبين ما يجاورها تنافر، فيظهر –بذلك- الشِّعر كأنه كل موحَّد أو كلمة واحدة .

يقول “فكأن البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد.”(بشرى 2011، 124) فالتحام الألفاظ بموجب هذا الشرط ضروري، يراعيه الشاعر حتى يتَّسق شعره فلا ينبو عن الأسماع، ولا يثقل على الألسنة .

وقد أضحى الالتئام معيارا أساسيا من معايير النصيَّة، فالمتمعن في القول السابق، يراه جامعا لمقاييس كثيرة، فهو يتحدث عن اللفظ وضرورة اجتناب الاستكراه فيه، ثم سهولته وفصاحته، لينتهي إلى التئامه مع باقي الألفاظ، وكذا التئام البيت بأكمله. وهو يمثل لكلامه بأمثلة كثيرة من نحو تعليقه على البيت :

لم يضرها والحمد له شيئوأنثنت نحو عرْف نفسي زهول. (الجاحظ 1418ه/1998م، 1/66)

حيث يقول :” فتفقَّد النِّصف الأخير من هذا البيت ، فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض.” (الجاحظ 1418ه/1998م، 1/66)

فيظهر هذا التبرؤ من جهة فصاحة الألفاظ، لأنها متقاربة المخارج، فاصلا لتحديد جيِّد الشعر من رديئه، فأن يتبرأ اللَّفظ من مجاوره ، يعني فك أوصال البيت، وتقطُّعه، وحاجته إلى وقت غير يسير ليتضح معناه في قلب سامعه ، وهذا ما يتنافى وما يدعو إليه الجاحظ .

يقول الجاحظ في بلاغة ثمامة بن الأشرس :” وما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي ، كان يبلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف، ما كان بلغه ، وكان لفظه في وزن إشارته ، ومعناه في طبقة لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك “.(الجاحظ 1418ه/1998م، 1/111)

فالإيجاز في موضعه ، والبعد عن التكلف والغموض يسمح بإمكانية الفهم، وهذا ما بوَّأ صاحبه “ثمامة بن الأشرس” مكانة عالية ، كما لا تخفى إصابته في اختيار ألفاظه للمعاني التي يتطرق إليها ، فيأتي اللفظ بقدر المعنى ، لا يكون فاضلا عليه ، ولا مقصِّرا عنه ، فتتحقق علة التواصل بين المتخاطبين ، وتعطي شرعية وصف المتكلِّم بالبليغ .

لقد كان اهتمام الجاحظ – في تقدير الجابري – منصبًّا حول قوانين إنتاج الخطاب ، وذلك بخلاف الجهود التي حاولت التركيز على شروط تفسير القرآن . والجاحظ /المتكلم في فحص الجابري لم يكن معنيا بقضية الفهم في كلام العرب وحسب ، بل لقد كان مهتما أيضا ، ولربما في الدرجة الأولى بــ”قضية الإفهام” ، إفهام السامع وإقناعه وقمع المجادل وإفحامه . فالجاحظ يدخل السامع كعنصر محدد وأساسي في العملية البيانية ، بل بوصفه الهدف منها ، الشيء الذي كان غائبا في أطروحة الإمام الشافعي – باعتباره واضع لقوانين تفسير الخطاب البياني وبالتَّالي المشرِّع الأكبر لعقل العربي –  حيث انصب اهتمام الشافعي على قصد المتكلم بالدرجة الأولى.(مسالتي 2016، 186)

وهو في تركيزه على المستمع إنما يحرص على بلوغ هذا الأخير درجة الفهم والاستيعاب، يقول الجاحظ :” قال بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني: المعاني قائمة في صدور العباد المتصورة في أذهانهم والمختلجة في نفوسهم مستورة خفية وبعيدة وحشية ومحجوبة مكنونة وموجودة في معنى معدومة لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه وحاجة أخيه وخليطه ولا معنى شريكه والمعاون له على أموره وعلى مايبلغه من حاجات نفسه، وإنما تحيا تلكم المعاني في ذكرهم لها وإخبارهم عنها واستعمالهم إياها … وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح كانت الإشارة أبين وأنور ،كان أنفع وأنجع.” (الجاحظ 1418ه/1998م، 1/90)ولهذا هو يبدي حرصه على تخيُّر اللفظ المناسب المستوفي لشروط البناء الصوتي السليم ، والمناسب للمقام والمعبر عن الحال أحسن تعبير.

لقد أدرك الجاحظ أن المعنى واللفظ وجهان لعملة واحدة ، لا قيمة لأي منهما بعزله عن الأخر ، وعلى حسب درجة تطابقهما يكون الحكم على الكلام بالإبانة من عدمها ، والالتحام بين اللفظ والمعنى وانسجامهما يحققان التواصل والفهم بأسرع طريقة، ولكل معنى لفظ يناسبه، وما على المتكلم إلا أن يحسن الاختيار، ويدقق النَّظر : “إن لكل معنى شريف أو وضيع ، هزل أو جد وحزم أو إضاعة ، ضربا من اللفظ هو حقه وحظه ونصيبه الَّذي لا ينبغي أن يجاوزه أو يقصر دونه”.

ويقول في موضع آخر يصف فيه ولع العرب بتخيُّر ألفاظهم :” ورأيت عامتهم – فقد طالت مشاهدتي لهم – لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيَّرة ، والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السَّهلة، والدِّيباجة الكريمة، وعلى الطَّبع المتمكِّن وعلى السَّبك الجيِّد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني الَّتي إذا صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت لسان باب البلاغة، ودلَّت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني، ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعمَّ وعلى ألسنة حذَّاق الشعراء أظهر “.(الجاحظ 1418ه/1998م، 4/24)

  • النتائج المتوصَّل إليها:
  • إن القراءات المتعددة للإنجاز اللساني التراثي عموما، ولإنجاز الجاحظ خصوصا، تكشف عن مقولات جاحظية تحاكي حدَّ التطابق مقولات الدَّرس اللساني الحديث، وهو ما دفع قارئي التراث إلى إقامة المقارنات واستنتاج المماثلات والتقاربات، والجاحظ قدَّم في كل فرع من فروع المعرفة اللسانية، نقاط ومبادئ كبرى تمس بجوهر القضايا السانية الكبرى منها ما مسَّ علم اللغة الاجتماعي، ومنه ما مسَّ علم أمراض الكلام ، وله تقعيده الدقيق لمفاهيم في لسانيات النص ، منها تركيزه على وصول الرسالة إلى السامع في أحسن صورة من اللفظ ، ما يعد تأصيلا لمحور السبك الصوتي كمحور من محاول التحليل النصي .
  • ينبغي إعادة قراءة التراث اللغوي والفكري للُّغة العربية بما استجد من البحث اللساني واللغوي والتداولي الحديث ، حتى نستزيد من معرفة خصائص اللغة ، وإمكاناتها التعبيرية .

مكتبة البحث

الأثير, ابن. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. Édité par قدمه وحققه وعلق عليه : أحمد الحوثي وبدوي طبانة. مصر : مكتبة نهضة مصر , دت.

الأصبع, ابن أبي. بديع القرآن. s.d.

الجابري, محمد عابد. بنية العقل العربي (دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية ). Vol. ط9. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية, 2009.

الجاحظ, عثمان بن بحر. البيان والتبيين. Édité par تح : عبد السلام هارون. القاهرة: مكتبة الخانجي, 1418ه/1998م.

الحميد, جميل عبد. البديع بين البلاغة العربية واللِّسانيَّات النصيَّة .مصر : الهيئة المصرية العامة للكتاب , 1998.

الخطابي, محمد. لسانيات النص –مدخل إلى انسجام الخطاب-. Vol. ط2. المغرب/بيروت: المركز الثقافي العربي, 2006.

العسكري, أبو هلال. الصناعتين .القاهرة : مكتبة صبيح , دت.

الفقي, صبحي ابراهيم. علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق دراسة تطبيقية على السور المكية .القاهرة : دار قباء , 2000.

الكريم, أشرف عبد البديع عبد. الدرس النَّحوي في كتب إعجاز القرآن .القاهرة : مكتبة الآداب , 2008.

المطلب, محمد عبد. جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم .الشركة المصرية العلمية للنشر , 1995.

بشرى, بشلاغم. ملامح نظرية النص عند الجاحظ من خلال البيان والتبيين .سطيف, 2011.

جعفر, قدامة بن. نقد الشعر .بيروت لبنان : دار الكتب العلمية , دت .

حسان, تمام. اللغة العربية معناها ومبناها. Vol. ط4. القاهرة: عالم الكتب, 2004.

خليل, ألهام أبو غزالة ، علي حلمي. مدخل إلى علم لغة النص (تطبيقات لنظرية روبرت دي بوجراند ولفجاج دريسلر ،.مطبعة دار الكتاب, 1413/199م.

روبرت, دي بوجراند. النَّص والخطاب والإجراء. Traduit par تمام حسان. Vol. ط1. القاهرة: عالم الكتب, 1998.

شاهين, عبد الخالق فرحان. أصول المعايير النصيَّة في التراث النقدي والبلاغي عند العرب .الكوفة : رسالة ماجستير , 1433ه/2012.

صمود, حمادي. «التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره غلى القرن السادس.» منشورات الجامعة التونسية21 (1981): 227.

عطية, أسامة محمد سليم. «أثر الإيقاع في السبك الصوتي عند الرومي (قصيدة طواه الردى نموذجا).» جسور المعرفة العدد1، المجلد 4 (مارس/جمادى الآخرة 2018/ 1439): 72.

عفيفي, أحمد. نحو النَّص (اتجاه جديد في الدرس النَّحوي) .القاهرة : مكتبة زهراء الشرق, 2001.

فحال, أنس محمود. الإحالة وأثرها في تماسك النص في القصص القرأني .اليمن : رسالة دكتوراه , 2009.

فرج, حسام أحمد. نظرية علم النَّص –رؤية منهجية في بناء النص النثري – .القاهرة : مكتبة الآداب , 1421ه/2007م.

فضل, صلاح. بلاغة الخطاب وعلم النَّص .الكويت : عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون , 1413ه/1992م.

كوهين, جان. بنية اللغة الشعرية. Édité par محمد الولي ، ومحمد العمري. الدار البيضاء: دار توبقال للنشر, 1987.

مسالتي, محمد عبد الستير. «مصطلح البيان وأسئلة النَّقد المعاصر.» مجلة مقاليد11 (ديسمبر 2016): 186.

مصلوح, سعد. في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية آفاق جديدة .الكويت : مجلس النشر العلمي – لجنة التأليف والتعريب والترجمة ., 2003.

مفتاح, محمد. التشابه والاختلاف (نحو منهجية شمولية ).لبنان /المغرب: المركز الثقافي العربي, 1996.

منقذ, أسامة بن. البديع في نقد الشعر. Édité par تح: أحمد بدوي ، حادم عبد الحميد. وزارة الثقافة والإرشاد القومي, دت.

فاطمة حجَّاري، أستاذ بحث “أ”، مركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية (وحدة تلمسان)، الجزائر.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of