+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

قصة قصيرة مترجمة: في يوم العيد
المنشئ بريم تشاند/ترجمة: د. قمر شعبان

بعد ثلاثين يوما من صيام رمضان، جاء يوم العيد، يا له من صبح فاتن خلاب! ويا لها من نضارة الأشجار المبتسمة كالأطفال الأبرياء!، تترونق المروج، وجو نادر يحلِّق فوق السماء، وما أجمل الشمس اليوم! كأنها تبارك الدنيا مسرات العيد السعيد!، والقرية كلها في حيرة غريبة!، كل يستعد للذهاب إلى المصلى، وهناك من لا أزرار في قميصه فيهرع لجلب الإبرة والخيط، وبعض تجمد حذاؤه فيلينه بالماء والزيت، حضَّروا طعام الثيران وشرابها بسرعة، ربما يتأخرون في العودة من المصلى، فإن الطريق طويل لثلاثة أميال، ثم تبادل التهاني والتباريك مع مئات الأقارب في الطريق، فالعودة مستحيلة قبل الظهيرة، الأولاد هم السعداء اليوم أكثر من غيرهم، بعض صام يوما حتى الظهر، وبعضهم لم يصمه أيضا، ولكن زيارة المصلى حقهم، الصوم للكبار والشيوخ، وللأطفال العيد السعيد!، كل يوم، كانوا يرددون: العيد، العيد!، وها هو ذا جاء يوم العيد!، كل مستعجل؛ لِمَ لا يذهبون إلى المصلى؟ ما لهم ولهموم المنزل! هل السكر والحليب والفواكه الجافة للمحلبية العيدية موجودة في المنزل أم لا؟! لِمَ هم يفكرون في ذلك؟ وما أدراهم ما كل ذلك؟ لماذا يهرول الوالد مبهوتا إلى منزل رأسمالي القرية العمدة قاسم علي ؟ فإنهم يملكون في جيوبهم كنوز قارون؛ فيخرجون كنزهم من الجيب مرة بعد مرة للعد،  ويعرضونها أمام الأصدقاء، ويضعونها في الجيوب سعداء مسرورين، وسوف يبتاعون نِعَمَ الدنيا كلها بهذه الفلوس المعدودة؛ الألعاب، والحلوى، والصفارة، و، و، و.  وأكثر الأطفال سعادة اليوم هو حامد!  هو طفل مسكين في الرابع من عمره، ذهب والده ضحية الوباء العام المنصرم، وأما أمه فاصفرت مرضا فماتت، لايدري أحد ما أصابها من المرض، ولم يكن لها من يعتني بها، كانت تتكبد المشاق، وزاد الطين بلة، ففارقت الحياة، والآن، ينام حامد في حضن جدته العجوز أمينه، وهو فرح بذلك، رحل أبوه إلى مدينة نائية لكسب المال، سوف يعود سالما وغانما، وذهبت أمه إلى ربها لتأتي بالحلوى له، فإنه من أجل كل ذلك، هادئ البال.

حامد حافي القدم، وعلى رأسه طاقية بالية اسودت حافَّتُها، ولكنه سعيد جدا، وعندما سيعود أبوه مع البضائع، وأمه مع التحف يتهلل بشرا، وسيرى كيف يملك محمود ومحسن وآذر فلوسا مثله، مهما كان تفاقم الكوارث في الدنيا تستطيع نظرته البريئة أن تجعلها هباء منثورا.

يقول حامد لجدته أمينه: “لا تخافي جدتي، سوف لن أترك رفاقي أهل القرية، لا تخافي أيما خوف”،  ولكن قلب أمينه خافق متفزع، كل أولاد القرية يذهبون مع آبائهم، هل سيذهب حامد بمفرده؟، عساه يضل الطريق في هذا الازدحام الشديد، من سوف يعتني به هناك؟، ربما لن تتركه أمينه يذهب وحيدا، طفل ضعيف، وسيمشي ثلاثة أميال راجلا، تكاد تتورم قدماه.

وإن ذهبت هي معه، فمن يُحضِّر محلَّبية السويان هنا، وستعود جائعة عطشى عند الظهيرة، فهل تستطيع تحضيرها عندئذ، المشكلة أن أمينه لا تملك النقود، كانت لديها ثماني آنات (50 قرشا)، كسبتها بخياطة ملابس فهمينه، لا زالت تحتفظ بهذه الآنات الثماني لهذا العيد كاحتفاظها بالإيمان، ولم تكن في المنزل فلوس سواها، وكان عليها دين اللبان فسددته؛ كانت تشتري الحليب لحامد بآنتين كل يوم، ولم تتبق لديها إلا آنتان من الفلوس، وثلاثة قروش في جيب حامد، وخمسة في صرة أمينه، وهذا هو الرأسمال كله، وسوف يجعل الله لهما مخرجا؛ ستأتي الغسالة والكناسة والحلاقة أيضا لأكل المحلبيات والسويان، كيف تحتجب عن عيونهن؟ مناسبة سنوية! دامت الحياة بكل خير، وقدره معه؛ رافقت السلامة الطفل! سوف تمر هذه الأيام أيضا كما مرت في الماضي. انطلق الناس من القرية وحامد معهم، كلهم مستعجلون ومهرولون، وبعضهم ينتظرون رفاقهم تحت ظل الأشجار، لا يمشي كلهم الهوينا، بدأت أطراف المدينة تظهر، وعلى جوانب الشوارع حدائق الإقطاعيين، عليها أسوار مشيدة، والأشجار مليئة بالمانجو، رمى حامد حجارة نحو المانجو؛ خرج البستاني من الداخل شاتما، والأولاد على بعد فرلنغ (ثمن ميل)، يضحكون ضحكا،مستهزئين بالبستاني.

تراءت خلال الطرق مباني شامخة وعظيمة، هذه هي المحكمة، وهذه مدرسة، وذاك نادي، كم من ولد يدرس في هذه المدرسة الكبيرة، ليسوا أولادا بل هم رجال، لهم شوارب طويلة، هل لا زالوا يختلفون إلى المدرسة؟ وقد أصبحوا كبارا. اليوم عطلة، ولكننا عندما أتيناها فيما قبل، كان أصحاب اللحى والشوارب يلعبون هنا، من يدري إلى متى هم سوف يدرسون؟ وماذا سيفعلون بعد هذه الدراسات الكثيرة؟ هناك اثنان أم ثلاثة من الأولاد الكبار في مدرسة القرية، ربما هم عاطلون مهملون مثل الغربان، وإلا لم يكونوا في المدرسة حتى الآن، ذلك هو بيت النادي، يجتمع فيه المشعوذون، سمعنا أن جماجم الأموات تحلق فوقه، يُسكِرون رجلاً، ثم يسألونه، فيجيب عما يسألونه، يشعوذون أنواعا من الشعاويذ، والسيدات أيضا يلعبن هناك. حقا، ولكن إن أعطيت أمي ما يقال له المضرب ستتدحرج على الأرض لو  أدارته.

قال محسن:          “ربما لا تستطيع أمي أن تمسكه بيديها، بالله، سترتجف يداها”.

خالفه حامد:        “كلا، إنها تطحن مئات الكيلو من القمح، فكيف ترتجف يداها بمجرد إمساك المضرب باليد”                                كما تملأ مئات الجرار بمياه البئر، تتغير الدنيا أمام سيدة إن كُلِّفت على ملء جرة واحدة بماء                                         البئر”.

محسن:                  “ولكنهن لا يستطعن الجري والركض، والقفز والوثب”.

حامد:                     يستطعن الجري إذا مست الحاجة إليه، قبل أيام فقط، هربت بقرتك إلى مزرعة عمدة                                           القرية فأمك هي التي هرولت إليها، وأخذتها من المزرعة، يا لها من سرعة جريها! لقد تخلفنا                                                نحن الاثنين منها”.

تقدموا إلى الأمام، إذ ظهرت لهم دكاكين الحلوى، لقد كانت زخرفت اليوم بالزينة، متى يأكل كل هذه الحلوى؟ انظروا، في كل دكان مئات الكيلو من الحلوى، سمعنا أن جنيا يحضر كل دكان في الليل، ويشتري كل ما يتبقى فيه من الحلوى بروبيات أصلية كمثل هذه الأوراق الفضية.

 محمود:                 “من أين يحصل الجني على روبيات مثلها”؟

محسن:                  “لا تقل الروبيات لدى الجني، فإنه يذهب إلى ما يشاء من الكنوز، ويحصل على النقود، فمن                                  ذا الذي يستطيع أن يراه؟ حتى لا يتسنى للأبواب الحديدية أن تمنعه من الدخول، ما رأيك؟ يا سيدي! إنه يمتلك اللآلي والدرر، فمن يسره يعطيه الأكياس المملوءة باللآلي، ويقدر  على أن               يصل إلى كابول في خمس دقائق.

حامد:                     “قد يكون الجني هيكلا عظيما”.

محسن:                  “أجل، كل واحد من الجن يساوي السماء، إذا قام واحد على الأرض، ارتقى رأسه إلى السماء،                                ولكنه لو شاء لدخل الإبريق أيضا”.

سميع:                    “سمعت أن عمدة القرية يملك الكثير من الجن، إذا سرق شيء يخبر جنيه بالسارق وبعنوانه،                              حتى يخبر باسم السارق بالتحديد، لقد ضل عِجل جمعراتي قبل أيام، ولم يجده في ثلاثة أيام                         فلجأ إلى عمدة القرية هذا، قال العمدة: العِجل في دار الأنعام فوجده هناك، فالجن هم                يخبرونه بكل شيء.

 أدرك الجميع أن العمدة قاسم علي كيف يملك هذه الكمية الهائلة من الثروة؛ الجن هم يعطونه المال.

ثم واصل الجميع سيرهم إلى الأمام؛ هذه هي منطقة المخافر؛ يتدرب فيها الشرطة والضباط ورجال الأمن: “در يمينا، در شمالا، قف، واجلس”.

صحح نوري: “الشرطة يحرسون هناك، لديهم أخبار كثيرة، هم الذين يشرفون على السرقات واللصوص وقطاع الطرق؛ فكلهم على صلة قوية بهم، وفي الليالي يرسلون اللصوص إلى حي، وينادون في حي آخر: “كونوا مستيقظين”.

 فإن خالي شرطي في مخفر؛ يتقاضى عشرين روبية راتبا شهريا؛ ولكنه يرسل الحقائب الحافلة بالنقود إلى البيت؛ ذات يوم، سألته: “خالي، يمكنك نهب مئات الألوف من الروبيات في يوم واحد، فقال: لا آخذ أكثر مما يتسبب في الإساءة، ويؤدي إلى الإقالة عن الوظيفة.

سأل حامد مستغربا: “هم يشرفون على السرقات؟! ألا يقبض عليهم أحد؟!”؛ ترحم على قلة فهمه نوري: “أيها الأبله، من سوف يقبض عليهم، إنهم هم الذين يقبضون على غيرهم، ولكن الله عندما يعاقبهم يعاقبهم عقابا شديدا؛ قبل أيام قليلة جدا، اندلع الحريق في بيت خالي؛ فأصبح كل شيء هشيما تذروه الرياح، حتى لم تحفظ آنية من الحريق، وقضوا أياما تحت ظل الشجرة؛ بالله، لا ندري من أين حصلوا على الأواني بعد ذلك بالديون”.

جعلت القرية تتكاثف، وبدأت تتجلى جماعات  للذاهبين إلى المصلى، مرتدين أزياء وملابس فاخرة وخلابة منوَّعة، بعض يركب عجلة الحصان، والبعض الآخر السيارة، وعندما يمشون على الطرقات، يفوح منهم المسك والعطور.

كانت جماعة أصحاب القرية هذه مواصلة الخطى في سيرها، متعامية عن تخشنها وفقرها بكل صبر، وبعاطفة مليئة بأسمى آيات الشكر والامتنان، إن أعجبهم شيء يحملقون إليه لوقت طويل، وأحيانا لا يلتفتون إلى أصوات صفارات السيارات من أجل تعاميهم عن ذلك؛ فلقد نجا محسن مرة من اصطدام السيارة.

ها هو ذا مصلى العيد يلمع عن كثب، لقد أقيمت صلاة الجماعة للعيد، وثمة ظلال وارفة لأشجار التمر الهندي المكثفة، وتحتها فرش مشيد منفتح، فرشت عليه السجاجيد، وصفوف المصلين ممتدة إلى حد مجهول؛ والسجاجيد غير مبسوطة في بعض الفروش المشيدة؛ وهناك العديد من الصفوف خارج السجاجيد، وكل من يدرك الصلاة يقف وراءها، ولا يوجد مكان فارغ في الصفوف الأمامية، ولا يرى أحد في هذه الصفوف المنصب والمكانة والرتبة، كل سواسي في الإسلام. توضأ هؤلاء الريفيون أيضا، ودخلوا صلاة الجماعة، يا لها من جماعة منظمة تنظيما متينا!، مئات الألوف من المصلين يركعون معا، ويقعدون على ركبتيهم معا، ويعيدون هذا العمل مرات وكرات، يبدو أن ألوف المصابيح الكهربائية تتنور معا وتنطفئ معا، يا له من مشهد مليء بالتبجيل والرعب!، وتناسقه واتساعه وعدده كل ذلك مما يثير العواطف الجياشة والوجدان القوي؛ هذا هو  الإخاء الذي يجعل الأرواح تتعانق مع بعضها البعض.

تمت صلاة الجماعة، وجعل الناس يعانقون معانقة العيد، وبعضهم يتبرعون بالصدقات إلى المساكين والمتسولين، الذين اجتمعوا هنا في الآلاف، وفي جانب آخر، هاجم إخواننا القرويون دكاكين الحلويات والألاعيب؛  وليس الشيوخ أقل من الأطفال في هذه الهوايات؛ هذه هي الأرجوحة ترتقي إلى السماء حينا وتهبط إلى الأرض حينا آخر؛ وذلك بقرش واحد. وذاك محور وعمود دوران، وحصان، وجمل، وفيل من خشب وكل ذلك معلق على الجدار؛ اركبه بقرش واحد، وتمتع بخمسة وعشرين شوطا، محمود ومحسن كلاهما يتأرجحان على الأرجوحة، وامتطى آذر و سميع على الحصان، وشيوخهم أيضا يتأرجحون على عمود دوران متمتعين بالهواية الطفولية ذاتها، وأما حامد فهو واقف عن بعد، ليست لديه إلا ثلاثة قروش، لا يتسنى له أن يستهلك ثلث ما لديه من الكنز لشوط تافه؛ يناديه والد محسن إلى عمود دوران نداء متكررا، ولكنه لا يرضى بذلك، فيقول الشيوخ:  هو أبي النفس منذ الآن. فإنه لا يحب أن يمن عليه غيره، إن العسر لقد جعله حسّاساً مُفرِطا، كلهم يهبطون من عمود الدوران، فيبدؤون شراء الألاعيب؛ الجندي، والمغني، والملِك، والملِكة، والمحامي، والغسال، كلهم جالسون جنبا بجنب من دون تمييز بين المناصب والمنازل والرتب؛ الغسال بجنب الملِك والملِكة؛ والسقاء بجنب المحامي؛ أجمِل بهم جميعا!  يوشكون أن ينبسوا ببنت شفة؛ يستميت محمود على الجندي اللابس بدلته الرمادية، معمما بعمامة حمراء، حاملا بندقيته على كتفه؛ يبدو أنه مستعد للرياضة البدنية، وأعجب محسن بالسقاء المنحني الظهر؛ يمسك بيدٍ فوهةَ السِّقاء وفي يده الأخرى حبله.  وياله من وجه هاش وباش! كأنه منشد بعض الأغاني، ويبدو أن الماء يتقطر من السِّقاء.  وأما نوري فهو مولع بالمحامي؛  يا لها من صورة مثقفة! عباء أسود، وتحته جبة بيضاء، وفي جيب الجبة فوق الصدر سلسلة من الذهب معلقة، يمسك بيدٍ كتاب الدستور، ويبدو أنه يعود بالتو من المحكمة مرافعا قضية أو مدافعا عنها، وكل هذه الألاعيب بقرشين ولا غير. ولا يملك حامد إلا قرشين، لو اشترى لعبة بقرشين لما استطاع شراء شيء آخر؛ كلا، إنه لن يشتري اللُّعَبَ؛ فإنها عديمة الجدوى؛ إن سقطت فوق الأرض تكسرت تكسرا، ولو تبللت بالماء لذهب لونها؛  فلا فائدة في هذه اللُّعَبِ؛ إنها لا تسمن ولا تغني من جوع.

يقول محسن:       “إن سَقَّائي سوف يعطيني الماء صباح مساء”.

محمود:                  “سوف يكون جنديي حارسا لمنزلي، فما إن تسلل إليه لص أطلق عليه النار”.

نوري:                     “ومحاميي سوف يمارس المحاماة فيكسب لي المال كل يوم”.

ويندد حامد بالألاعيب؛ فإنها مصنوعة من التراب، إذا سقطت على الأرض تحطمت فصارت ترابا، ولكنه يرى كل شيء نظرة طمع؛ حبذا، لو أمسك بكل هذه الألاعيب ولو للمح البصر. هذا هو دكان الأمتعة؛ رداء مبسوط، وعليه الكُرَات، والصفارات، والأبواق، والشِّباك، ولعب المطَّاط، وآلاف الأشياء، يأخذ محسن صفارة، ويشتري محمود كرة، ويبتاع نوري صنمَ مطَّاطٍ؛ يطلق صوت شو شو، ويشتري سميع مزمارا سوف يزمره مغنيا به، فهو يرى كل واحد منهم بتحسر، عندما يشتري صديق له شيئا يمسكه بيده متفرسا فيه بكل شوق ورغبة، ولكن الأولاد ليسوا مُقدِّرين للأصدقاء، ولا سيما إذا كانت الرغبة في شيء جديدة وطرية، فإن المسكين هذا ييأس من دون جدوى.

بعد الألاعيب جاء دور الحلوى؛ اشترى بعض حلوى الريوري، والبعض الآخر الغلاب جامون، والبعض السويان؛ وكلهم متمتعون بتناولها مع لذة واشتهاء،  ولكن حامدا على منأى منهم؛ لديه ثلاثة قروش فلِمَ لا يشتري بعض الحلوى ويأكله؛ فإنه يختلس النظر نحوهم بتمعن.

محسن:                  “اشتر  يا حامد حلوى الريوري هذا؛ فإنه أشهى وألذ”.

فهم حامد أنه يستهزئ به، ولم يكن محسن ولدا كريما لأي حد، ولكنه اقترب إليه، وأخرج له بعض الريوريات؛ فمد حامد يده إليه، ولكن محسنا سحب يده، ووضع الريوريات في فمه، صفق على ذلك محمود ونوري وسميع تصفيقا ساخرين منه؛ فانزعج منهم حامد، إذ تفوه محسن: “أجل، سوف أعطيك الآن؛ خذ هذا بالله “.

حامد:                     “ضع عندك، هلا أملك الفلوس؟”.

سميع:                    “هل لديك غير ثلاثة قروش؛ فماذا ستشتري بها”.

محمود:                  “لا تتكلم معه يا حامد؛ هيَّا خذ هذا الغلاب جامون”.

حامد:                     “ما قيمة هذه الحلوى؟ فإن الكتب تذمها وتندد بها”.

محسن:                  “ولكنك تقول لنفسك: لو كنتَ اشتريتَ شيئا منها لكنتَ أكلته، لم لاتخرج ما لديك من القروش”.

محمود:                  “إنني أدرك حيلته؛ عندما سينفد ما لدينا من الفلوس؛ سوف يشتري الحلوى وقتئذ، ويأكلها ساخرا منا”.

وفي نهاية دكاكين الحلوى، كانت هناك دكاكين الأدوات الحديدية، و المجوهرات المطلية بالذهب؛ ولم يكن للأولاد رغبة فيها، ولكن حامدا وقف أمام دكان الحديد لبرهة؛ كانت فيها الملاقيط؛ سوف يشتري حامد ملقاطا؛ فإن الأم لا تملك الملقاط، فتتحرق يدها عند خبز الرغيف، ولو اشترى هذا الملقاط لأمه لبلغ سرورها مبلغه؛ ثم لن تتحرق أصابعها أبدا، ولسوف يضاف إلى المنزل شيء مفيد أيضا، فإن اللُّعَبَ لا تجدي شيئا، فتذهب الفلوس سدى، يسعد الإنسان باللُّعب للحظة، ثم لن يراها أحد؛ إما تتكسر؛ فتضيع في الطريق، وإما سيأخذها بلجاجة أولئك الصبية الذين لا يتسنى لهم وصول المصلى، فيكسرونها تكسيرا؛ فما أنفع هذا الملقاطَ! ستنزل الأخباز من الطاجن، وتُخرج الوقود من الموقد؛ أنى للأم أن تختلف إلى السوق حتى تشتري الملقاط، ثم أنها لا تملك هذا القدر من المال، كل يوم تتحرق يدها.

 وحتى ذاك الحين، لقد كان تقدم رفاقه إلى مشوار طويل؛ يشربون الماء عند السقاء. “يا لهم من الطماعين! اشتروا الكثير من الحلوى، ولكنهم لم يؤتوني شيئا؛ ثم يقولون لي أن ألعبَ معهم، وأنظِّفَ سبورتهم.  ولو طلب مني محسن بعد الآن لرفضته رفضا تاما. مهما أكلوا الحلوى، تتقذر أفواهُهم، وتبثَر جلودُهم، ويتمطق لسانهم، فيسرقون الفلوس ثم يُضرَبون؛ ولن يتقذر لساني أبدا”. خطر ببال حامد مرة أخرى: “سوف تفاجئ أمي برؤية الملقاط وتأخذه مني قائلة: لقد أتى ابني بالملقاط لأمه، ثم تدعو لي  بآلاف الأدعية،  ثم تعرضه أمام الجيران؛ عندئذ تتجمهر القرية كلها بالتباريك وهتاف المرح، فمن ذا الذي يدعو لهم للُعَبِهم، وليس بين الله وبين أدعية الصالحين حجاب، فإنها مستجابة من دون تأخير.  صحيح أنني لا أملك الفلوس الكثيرة؛ فإن محمودا ومحسنا يعلوان علي؛ فبعد الآن،  أنا أيضا سوف أعلو عليهما؛ دعهم يلعبوا مع لُعَبِهم ويأكلوا ما عندهم من الحلوى؛ فلا جناح علي أنني مسكين؛ المهم أنني  لست متسولا أحدا، ونهائيا سوف يعود والدي يوما ما، فأسألهم: كم من لعبة تريدونها؟، وسأعطي فردا فردا سلة مليئة باللُّعَبِ، وألقنهم: ما هي طريقة التعامل مع الأصدقاء، كما سوف أهدي إلى كل مسكين الملابس والقمصان الجيدة، وكتبا للقراءة، بدل أن أشتري الحلوى لقرش، وآكله أمام الآخر مستهزئا به”.

بكل تأكيد، سوف يضحك جميعهم برؤية الملقاط، ما أكثرهم حماقة! لقد سأل حامد الدكاني مذبذبا:” هل ستبيع هذا الملقاط؟ “

رأى الدكاني نحوه ولم يجد له مرافقا أو مصاحبا فقال له:” مالك ولهذا الملقاط؟ “

“هل هذا للبيع أم لا”؟

” نعم للبيع،  وإلا لما كنت عرضته هنا”

فلم لا تخبرني بكم ستبيعه”؟

” بستة قروش”!

تثبط حامد بعض الشيء؛ ولكنه تحمس من جديد:” هل يمكن بثلاثة قروش”؟ وواصل سيره إلى الأمام حتى لا يواجه ضجر الدكاني، مد الدكاني الملقاطَ إليه وأخذ منه ثلاثة قروش.

حمل حامد الملقاط على كتفه، كأنه بندقية، ومشى نحو  رفاقه مرحا بكبرياء.

نطق محسن ضاحكا: “أخذتَ هذا الملقاط؛ ماذا ستعمل به أيها الأحمق؟ “

ألقى حامد الملقاط على الأرض قائلا:” ألق سقاءَك على الأرض تتحطم أضلاعه تحطما.

محمود: “هل هذا الملقاط لعبة”؟

حامد: “بلى! لو  وضعته على كتفي لصار البندقية، ولو أمسكته بيدي لأصبح ملقاطَ المتسول، وإن أردت أمسكتُ به أنوفَكم، ولو ضربت به لُعَبَكم لمُزِّقت كل ممزق. ولا تستطيع لعبُكم مواجهتَه ولو بشق الأنفس، هذا الملقاط هو أسدي الباسل، قال سميع معجبا به:” هل تستبدله بطبلي، فإنه لقرشين”؟

رأى حامد نحو الطبل بازدراء، وقال: “إن شاء ملقاطي مزق جوف طبلك الذي ألصق به غشاء من جلد فصار يطلق الصوت، ولو صُبَّ عليه  الماء لمابقى له من شيء، فإن ملقاطي يقف ثابتا بقوة أمام النار، في الماء، في العواصف الهوجاء، والطوفان.

وإنهم حتى ذاك الحين، لقد كانوا تجاوزوا عن السوق بعيدا، وكانت الساعة عشرة قبل الظهر، وكلهم مستعجلون للوصول إلى منازلهم، ولا يمكن شراء الملقاط الآن، ولم يتبق لديهم من فلوس، فإن حامدا أذكاهم جميعا، انقسم الأولاد إلى فريقين؛ محمود ومحسن ونور في فريق. وحامد بمفرده في فريق آخر، وأما سميع فإنه محايد، سوف ينضم إلى من ينتصر، احتدمت المناظرة فيما بينهم: “حامد اليوم صريح اللسان وطليقه، والثلاثة الآخرون منزعجون ومنفعلون بكلامه اللاذع، ليس لهم إلا قوة العدد، وأما حامد فمعه الحق؛ كما وإنه متسم بالأخلاق الكريمة، في جانب، أشياء مصنوعة من المطَّاط، والتراب، والخشب، وفي جانب آخر؛ الحديد الوحيد المشبه بالفولاذ، فإنه القوي الباسل المكتسح للجيوش، لو زمجر الأسد لتزلزلت قدما السقاء، وولى الجندي الخشبي هاربا تاركا بندقيته، ولتبعثرت أوراق الدستور تبعثرا، واختفى المحامي وراء جبته، ولكن هذا الباسل الشجاع سوف يقفز فوق عنق الأسد ويفقِّئ عينيه.

خاطب محسن مشدقا: “اللهم نعم، ولكن لا يستطيع ملقاطك أن ينزع الماء”، فصوَّب حامد الملقاط متلفظا: “لو وبَّخ ملقاطي السقاء لأتى له بالماء مهرولا بكل سرعة، وصبه على بابه،  سيدي، املأ به ما شئت من الجرار، والأسقية، والدِّنان، والمعالف”.  ضاق محسن خناقاً فساعده نوري: “لو قبض الشرطة على الطفل وتسكع فيما بين المحاكم مغلول اليدين، لدافع عنه محامينا، ما رأيك يا سيدي؟ “

ولم يكن لدى حامد رد سريع على هذا السؤال، ولكنه سأل  سؤالا متقاطعا بالفور: “من سيقبض عليه”؟

قال محمود: “هذا الجندي صاحب البندقية”!

حامد ساخرا منه: “هل سيقبض ذلك المسكين على هذا الباسل الشجاع؟ إذن، هاتوا به لنرى من ينتصر في المبارزة، سوف يموت هذا الجندي المتطفل بمجرد رؤيته فكيف يقبض عليه”؟

تنفس محسن الصعداء، وهاجم من جديد: “سوف تحترق فوهة ملقاطك كل يوم في النار”،

كان الجواب جاهزا لدى حامد: “إن الشجاع هو الذي يثب على النار يا سيدي، فإن محاميكم، وجنديكم، وسقاءكم كلهم جبناء، سوف يختفون في زوايا البيت، فإن الوثوب على النار لا يطيقه إلا الشجاع الباسل”.

ابتكر نوري جوابا: “سوف يظل ملقاطك ساقطا على الأرض في المطبخ، ولسوف يجلس محاميي على الكرسي أمام الطاولة بكبرياء؛ استرعى هذا الرد البديع انتباه الجميع؛ فتنبه له سميع أيضا قائلا؛ “من دون شك، ما أعظم كلامَك”! سوف يظل الملقاط ساقطا في المطبخ”.

احتال حامد حيلة: “سوف يكون ملقاطي في المطبخ؛ ولكن عندما يجلس المحامي على الكرسي سوف يصرعه على الأرض، ويقضُّ كل قوانينه قضًّا”.

لم يكن لهذا الرد معنى واضح، ولكن قوله: “ويقضُّ كل قوانينه قضًّا” أزعجهم جميعا، فبهت الأبطال الثلاثة أمام هذا الرد المسكت، وهزمهم حامد هزيمة نكراء،

لا زالت تتبقى لديهم الكرة، والصفارة، والتمثال، ولكن شتان ما بين هؤلاء الجبناء والرشاشات والمدافع، فإن الملقاط هو الشجاع الباسل ولا ريب فيه.

المنهزم دوما يداهن الهازم المنتصر، فجعل حامد يتمتع بهذا الشرف والتبجيل من قبل الأولاد، أنفق كل واحد منهم ثلاثة قروش، ولكنهم لم يستطيعوا  شراء شيء مفيد. حامد أيضا أنفق ثلاثة قروش، ولكنه استولى عليهم جميعا بهذه القروش الثلاثة؛ ما جدوى للألاعيب؛ سوف تتكسر في يوم أو يومين، ولكن ملقاط حامد سوف يظل منتصرا للأبد. أخذوا يقررون شروط الصلح.

محسن: “أرني ملقاطك للحظة؛ وها هو ذا المحامي، يمكنك رؤيته لو شئت؛ ولا جناح عليك في ذلك، فإن حامدا هو المنتصر الكريم؛ لقد أعطاهم الملقاطَ، فأمسك به محمود ومحسن ونوري وسميع بانتياب، كما أمسك حامد بلُعَبِهم بانتياب.  ما أجمل هذه اللُّعَبَ! يبدو أنها توشك أن تتلفظ، ولكن، من ذا الذي سيدعو لهم من أجل هذه اللعب؟ ومن ذا الذي سيسعد برؤيتها، كما ستسعد الأم برؤية الملقاط؟ إنه ليس متأسفا أيما تأسف على شرائه الملقاط. ثم لقد أصبح الآن هذا الملقاط الملكَ المنتصرَ. اشترى محمود خيارا بقرش؛ فكان لحامد أيضا نصيب فيه رغم رفضه المستمر؛ وابتاع كل من محسن وسميع الفالوذة بقرش؛ فوجد حامد نصيبه فيها أيضا؛ وذلك كله من بركة الملقاط، الشجاع الباسل.

كانت الساعة إحدى عشرة ظهرا،  لقد عَجَّتِ القريةُ على بكرة أبيها بتحرك ونشاط وحيوية وصخب وضوضاء، وانفتحت المعارض؛ أسرعت أخت محسن واختطفت من يده السِّقاءَ، وقفزت طربا؛ فسقط من يدها السِّقاءُ على الأرض، وفارق الحياة. فتخاصم عليه الأخ والأخت كلاهما وصرخا بكاء وعويلا، بعدما سمعت أمهما صراخهما  لطمتهما لطما. وكانت نهاية المحامي أخطر من ذلك؛ إن المحامي، كان لايمكنه أن يجلس على الأرض أو على المحراب من أجل منصبه، فنصب له وتدان على الحائط، ووضع عليهما خشب قديم، وفرشت عليه خرقة حمراء؛ كأنها هي السجاده، ثم وضع المحامي متربعا على هذا التخت؛ سوف يرافع القضايا، ويناقش الدستور من هنا، إذا بنوري كان يحرك مروحة ولا ندري من التيار الهوائي للمروحة أو من ضربها سقط المحامي من عرشه على الأرض، وتمزق جسمه المصطنع تمزقا؛ فصاحوا بالعويل والنياح؛ رميت جثته على المزبلة تباعا للطقوس المجوسية؛ لتكون طعام البوم والغربان.

وأما جندي محمود المحترم فإنه ذو أبهة و وقار، لا يطيب له أن يمشي راجلا على الأرض، فأخذ محمود عتوده وأركبه جنديه، وأخته ممسكة جنديه بيدها، ومحمود يسيِّره آخذا أذنيه في فناء الدار، وأخواه يهتفان بصوت جهوري: “انتبهوا أيها النائمون، انتبهوا!” لا ندري كيف سقط الجندي من ظهر فرسه فوق الأرض مع بندقيته، وانكسرت رجله؛ ولكن لا جناح عليه، فإن محمودا طبيب ذكي؛ يتتلمذ عليه الأطباء؛ فلسوف يربط رجله المكسورة بلمح البصر، ولا يحتاج لذلك إلا إلى عرق الجُمّيز؛ فأتي به، وربطت الرجل، ولكنه ما إن وقف لثوان تحطمت رجله من جديد، وعندما رسبت العملية الجراحية كسر محمود رجله الأخرى أيضا؛ والآن يستطيع الجندي أن يظل  جالسا في مكان مطمئن البال؛ فإنه لم يكن يستطيع المشي برجل واحدة. ومنذ الآن سوف يصطاد بزاوية من وراء الحجاب.

وإليكم الآن قصة حامد؛ ما إن سمعت أمينه صوته هرعت إليه، واحتضنته بكل حب ودلال، إذ فوجئت برؤية الملقاط في يده:

“أين كان هذا الملقاط ولدي”؟

 “اشتريته بثلاثة قروش”

صاحت أمينه: “يا له من ولد أبله!  لقد حان الظهر، لا أكل شيئا ولا شرب شرابا، واشترى هذا الملقاط!؟، ألم تجد شيئا غير ذلك في المعرض كله يا بني”.

 أجاب حامد بكل اعتذار، منحني الرأس: “ألم تكن أصابعك تحترق بالطاجن”؟

استبدل غضب أمينه بالرأفة والرحمة، وفاض قلبها حنانا وتوددا! دون أن يظهر أثرهما على اللسان، “يا له من وجع مليء بالرجاء! ويا لها من حرقة القلب! وما أصبر هذا المسكين! ما أصبره على تحكم هواياته الطفولية!؛ عندما كان الأولاد الآخرون يشترون اللُّعَبَ، ويأكلون الحلوى، كم كان قلبه متوجعا بالكلوم. أصبر بهذا الطفل البريء! وعلى ذلك، لم يغضَّ البصر عن أمه العجوز طوال هذه المسيرة العيدية ومسراتها! “كم يعتني بي فلذة  كبدي”! جادت قريحتها بعاطفة أمومية جياشة: “حبذا لو كانت ملكت ملوكية الأرض كلها لافتدت يها على حامد، طفلها البريء”.

ومن الممتع جدا في تلك الآونة، أن أمينه العجوز صارت أمينه الطفلة، تنهمر الدموع على خديها، كأنها  تُتحِف لحامد عالمَاً حافلا بأزكى الأماني وأحلى الأدعية؛ يا لها من دموع الرقة والفرح والسعادة!،  ولكن أنى لحامدٍ الطفل  أن يدرك أ سرارها، وما أدرى الكثير من المشاهدين أيضا ما هي تلك الأسرار! ؟.

**********

أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة بنارس الهندوسية، فارانسي، الهند*

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of