+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

شعر التفعيلة المعاصر وغوايات التجريب
أ.د/ كمال لعور

ملخص:

سلك الشعر المعاصر بدفع من التيار الرومنسي، وبعمل مكثف من التيار الواقعي سبيل التجريب من خلال شعر التفعيلة والشعر الحر، فتخلصت القصيدة على يد الرواد الأوائل من بعض عيوبها القديمة، واستقوت بالإيقاع المزدوج، وبالتفعيلة بدل البحر وطوعت الشعر لأداء حاجاتنا الحيوية والفكرية والفنية، لكنها ما عتّمت ـــ والتجربة في مهدها ـــ من الوقوع في غوايات جديدة كادت تعصف بالشعرية العربية، ولا تزال بعض آثارها الماثلة إلى يومنا شاهدة على فيضان زائد لتخريب الذائقة العربية.

  1. مقدمة:

ورث العرب شعرا عربيا رصينا جعلوا له عمودا وحدوداً حتى اكتمل نضجاً ورأو أفضل ابتداع في اتباعه وزنا وقافية وديباجة وشرفاً، وكثيرا ما ردّد النقاد مقولة للجاحظ أضحت مدخلا لفهم الشعر العربي<<والمعاني مطروحة في الطريق يصدفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، إنما الشأن في إقامة الوزن، وتميز اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ، وجنس من التصوير”؛ ومثلما نظر العرب للشعر صناعة نظروا إليه أنه طبع وسليقة، وفي كل ذلك جعلوا حدّه الوزن، وعلو كعبه في التعبير عن الذات، فليس التعبير عن خوالج النفس جديدا استحدثه الرومنسيون شعراء ونقاد، فالشعر الذي لا ترى فيه أشجان صاحبه لا يكون شعرا بالمعنى الحقيقي حتى شعراء الجاهلية الذين خلناهم أبواقا مرددة لأصوات قبائلها لم يكونوا في أشعارهم إلا صدى لمشاعرهم، << فيصير الشعر كلفة إذا حاول الشاعر سلخ جلده عن شعره ويصبح وثيقة تاريخية لتسجيل الأحداث، وذكر أنواع الحيوان لا غير، ويغدو العمود الاتباعي للشعر مجرد هيكل يحوّل الشعر إلى نثر منظوم.>>[1]

لكن حصر الشعر في الوزن جنى عليه عندما ضعف الأدب في قرون الانحطاط وعندما انتحله الذين تحدثوا اللغة دربة لا سليقة، ومن هذا المقام بدأت أولى محاولات الثورة على الشعر العربي، من باب الوزن الذي هو حجر الأساس في قيام القصيدة والذي رفعه التوارث بين الأجيال إلى حدّ القداسة، يقول أدونيس:<< “الشعر هو الكلام الموزون المقفى”  عبارة تشوه الشعر، فهي العلامة والشاهد على المحدودية والانغلاق، وهي إلى ذلك معيار يناقض الطبيعة الشعرية العربية ذاتها، فهذه الطبيعة عفوية فطرية انبثاقية، وذلك حكم عقلي منطقي>>[2]؛ ويمكن أن نعارض أدونيس في هذا المقام لأن طبيعة الشعر ليست عفوية فقط بل تتصل بالممارسة، والجاحظ كان أحق منه في ذلك.

وعندما جاء الرومنسيون العرب المصريون، واللبنانيون كانوا على علم وثيق بشعر العرب وترسخت موسيقاه في حناياهم، فبدأوا يحفرون خنادقا في الوزن العربي، وتعالت دعواتهم إلى نظم شعر جديد بنفس جديد يعبر عن الذات والأنا، فكانت الصيحة خافتة مع خليل مطران هادرة مع جبران والعقاد والمازني، ولم تترجم هذه الصيحات فعلا ملموسا إلاّ مع تسارع الأحداث وظهور التيار الواقعي الذي كان أكثر هجومية، وأكثر فعالية، ويعزى له دور وقف مدّ الوزن العربي الخليلي، وبناء الشعر على أساس التفعيلة، << فالولادة الشعرية مع ما رافقها من انقطاع لاحق كانت تتهيأ في أحشاء التجربة الشعرية العربية منذ أوائل القرن، فقد تم استيعاب الإنجاز اللغوي في تجربة المهجريين، والإيقاع الجديد القادم مع اللغة الرومنسية؛  وسط هذا الجوّ ولدت القصيدة الجديدة، وهي تحمل جميع سمات العمود الشعري حتى إيقاعيا، فقد بقيت التجربة ضمن هذا الإطار، ولم تخرج عنه، لكنّها من جهة أخرى كانت تحمل عناصر أخرى، استطاعت أن تأخذ من انكسار العمود الشعري امتدادا إلى كسره نهائيا، ومحاولة تأسيس قصيدة جديدة، أي محاولة كسر الإيقاع، وكسر الرؤية القديمة، وهذا لن يأخذ اكتماله إلا في التجربة السيّابية، وفي أكثر لحظاتها نقاءا وبلورة، في قصيدة أنشودة المطر.>>[3]؛ فكانت الرومنسية أهم المحاولات في سلم التجديد، كانت ترقيا بسيطا، ولكنّه ثمين، جدّد ينابيع الشعر الوجداني، وأعاد للنفس والذات مكانها في الإبداع الشعري، وكان ذلك أول مسمار يدقّ في نعش بناء الشعر القديم، وإيقاعه الموسيقى الموروث، فصار الشعراء المحدثون أو المعاصرون ينوعون في الايقاع استجابة لتلون حالاتهم النفسية، واختلاف مقصدياتهم، وهكذا نجد القصيدة الواحدة قد تحتوي على ايقاعات متعددة[4]؛ فكيف أسهم رواد شعر التفعيلة في معادلة تجديد الذائقة العربية الموروثة؟ وما أفضالهم على الشعر العربي، وهل كانت تجاربهم الشعرية في مستوى أبعادهم التنظيرية والرؤوية، أم طوحت بها ضلالة التجريب، وشتت شملها سفينة التغريب؟

  1. بزوغ شعر التفعيلة وتدفق الحداثة:

ظهرت المعالم الأولى للشعر العربي الحديث مع محمود سامي البارودي (1838-1904) بوصفه شاعر النهضة الأول، وبلغ قمته على يد أحمد شوقي، إذ تعزى مفاتيح الحذاقة الأولى والحداثة اليافعة للبارودي لأنه نفض الغبار عن قالب الشعر العربي القديم، ووصل الشعر الحديث بمصادره الفنية العتيدة، أما أحمد شوقي فقد وائم بين الذوق الشعري العربي و الغربي، فهجّن ألوانا شعرية جديدة لم تعهد من قبل في ثقافتنا الأدبية كالشعر المسرحي والتمثيلي، ثم جاء زمن الحداثة الشعرية مع التيار الواقعي حتى عدّت أعنف ثورة فكرية وجمالية لحقت بالشعر العربي، فهي التي بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بقصيدتي << هل كان حباً للسياب، والكوليرا لنازك الملائكة سنة 1947م، وأخذت في التبلور الناضج انطلاقا من قصيدة السيّاب، أنشودة المطر سنة 1954؛[5] فالحقبة الزمنية لانطلاق هذا التيار مشرقيا كانت في الأربعينيات من القرن العشرين بمحاولات فردية عند “محمد فريد أبو حديد، ولويس عوض” وعلي أحمد باكثير في تعريبه لروميو وجولييت، كأن القائل يريد أن يقول بسبق المصريين في كسر عمود الشعر، لكن التجديد أبى إلا أن يكون عراقيا إذ اشتدت شوكة هذا التيار، فأصبح له رواد منهم نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ثم انتقلت حمى التكسير والتجريب إلى بقاع عربية أخرى، على غرار نزار قباني في سوريا، وأدونيس، وخليل حاوي في لبنان، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي والشرقاوي في مصر، والفيتوري في السودان، ولم يصل صداه في المغرب العربي إلا في الخمسينيات، فتنباه أبو القاسم سعد الله، ومحمد صالح باوية، وأبو القاسم خمار، وفي المغرب الأقصى مصطفى المعداوي ومحمد الحبيب،” وفي تونس منّور صمادح، ومحي الدين خريف،  وفي ليبيا علي الرقيعي، وعلى صدقي[6]؛ ويتفق لفيف من النقاد على أن ّ الجيل الأول من الرواد لحركة الشعر الحرّ أو الشعر التفعيلة يناهز عددهم التسعة، قعدوا لهذا الشعر نظما وأحيانا نقداً؛ فصاروا مرجعا أساسيا لفهم الشعر، وقد ظهرت بواكير دواوينهم الشعرية منذ نهاية الأربعينيات وقرابة عقد من الزمن من 1949إلى 1959م، ونذكر هؤلاء الشعراء حسب التسلسل الزمني لدواوينهم الشعرية المبكرة التي توافقت مع اللون الجديد من الشعر:

نازك الملائكة شظايا ورماد 1949

بدر شاكر السياب      أساطير 1950

بلند الحيدري          أغاني المدينة الميتة       1951

عبد الوهاب البياتي   أباريق مهشمة             1955

صلاح عبد الصبور  الناس في بلادي            1956

خليل الحاوي         نهر الرماد                    1957

يوسف الخال       البئر المهجورة            1958

أدونيس    { أحمد سعيد إسبر }     أوراق في الريح 1958

عبد المعطي حجازي       مدينة بلا قلب      1959

أغلب هؤلاء الشعراء كتبوا الشعر العمودي ثم انتقلوا إلى الشعر الحر، ومنهم من طرق باب القصيدة النثرية ثم عاد أدراجه إلى الشعر التفعيلة، وهم الأوائل في تجريب هذا اللون الشعري الجديد بيد أن بعض النقاد يرجح ــــــو باعتراف بعض هؤلاء الشعراءــــــ أن أول من كتب الشعر الحر هو ً” علي أحمد باكثير” وسماه ” مزيجا من النظم المرسل و النظم الحر فهو مرسل من القافية، وهو منطلق لانسيابه بين السطور … وهو حر كذلك لعدم التزام عدد معين من التفعيلات في البيت الواحد[7]؛ وقد صدر كتابه المترجم سنة 1947م بعد أن ظل ينتظر النشر عشر سنوات، فهو حسب السيّاب أول داع له.

وقد وصف هذا الشعر الحديث من جهة شكله بالشعر الحر أو شعر التفعيلة، ومن جهة زمنه الشعر الجديد، أو الشعر المعاصر، ومن جهة اتجاهه العام الشعر المرسل، أو الشعر المنطلق، وجميع هذه المصطلحات جزئية لا تقبض على خصوصية هذا الشعر في جوهره الحداثي[8]؛ وكثرة التسميات لا تدل إلاّ على التيه، وعلى حجم الاختراق التغريبي لشعر التفعيلة، فتسميات هذا المولود الجديد، وتقنياته غربية الهوى والمنزع، لكنها وسمت بالشعر الحداثي، وعرفت هذه الحقبة في نظر النقاد بأنها منطلق الحداثة الشعرية العربية.

فجاءت هذه الحداثة لتعبر عن الواقع الجديد، ونتاجا للتصادم الحضاري مع الغرب الذي أخذ شكل الغزو الاستعماري، ونشر النموذج الحداثي الغربي باسم عالمية العلم، ومن ثم ظهرت الحداثة فيما يشبه التجويف داخل التاريخ العربي المكسور في الحاضر (الواقع)، المقطوع عن الماضي ( التراث) البعيد عن المستقبل(الغرب)[9]؛ فالثورة على المقاييس القديمة جاءت في وقت شهدت البيئة العربية حركات تحريرية في الوطن العربي، وثورة على الأوضاع السائدة مثلما صرح السيّاب وحجازي[10]؛ بل عدّه السيّاب امتدادا للتجديد الذي عرفه الأندلسيون والمهجريون ليعطي له شيئا من الجلال التاريخي والامتداد الحضاري لمن وسموه بسقط المتاع.

  1. خصومة الريادة والبحث عن المرجعية:

 تضاربت الآراء بين ريادة السيّاب في فتح باب الشعر الجديد، وبين نازك الملائكة، لأن كلا الشاعرين جاء بقصيدة على ضرب موسيقى جديد في سنة 1947م، فوضعت نازك الملائكة قصيدة الكوليرا عندما ضرب هذا الوباء مصر، فانفطر قلب الشاعرة العراقية بعد أن تناهى لها الخبر عبر الأثير، فنظمت قصيدة بتفعيلة “الخبب” تضارع وقع الخيل، وهي تروح وتجيء بالضحايا، حتى قيل مرضت مصر فتعافت القصيدة العربية، ثم عرضت هذه القصيدة على جمهورها الصغير عائلتها، فتنبأ لها الكلّ بالفشل الذريع، ولكن عكس ذلك ما حدث، تقول نازك الملائكة في بعضها[11]:

استيقظ داء الكوليرا

حقدا بتدفق موتورا

هبط الوادي المرح الوضاء

يصرخ مضطربا مجنونا

لا يسمع صوت الباكينا

في كل مكان خلّف مخلبه أصداء

في كوخ الفلاحة صرخات الموت

لا شيء سوى صرخات الموت

الموت الموت الموت

في شخص الكوليرا القاسي ينتظم الموت

الصمت المرير

لا شيء سوى رجع التكبير

حتى حفار القبر ثوى لم يبق نصير

الجامع مات مؤذنه

الميت من سيؤبنه

لم يبق سوى نوح وزفير

الطفل بلا أم وأب

ببكي من قلب ملتهب

ثم وضع بدر شاكر السبّاب قصيدة على تفعيلة الرمل عنوانها “هل كان حبا” رآها البعض مجرد قصيدة عمودية شطرت أنصافا ولم تبن بناء حراً، يقول فيها:

هل نسمي الذي ألقى هياما ؟

أم جنونا بالأماني؟ أم غراما؟

ما يكون الحب؟ نوحا وابتساما

أم خفوق الأضلع الحرى إذا حان التلاقي

بين عينيا فأطرقت فرارا باشتياقي

عن سماء ليس تسقيني إذا ما؟

جئتها مستسقيا إلا أواما

العيون الحور لو أصبحن ظلا في شرابي

جفت الأقداح في أيدي صحابي

دون أن يحظين حتى بالحباب

لقد وضع هذان الشاعران مثلما اتفقت العديد من المراجع الأدبية والنقدية التي أرخت للشعر المعاصر والحديث حجر الأساس لشعر التفعيلة مع أصالة ظلت مشعشعة في نصوصهم  ودون جفاء متطرف للقصيدة العمودية، فلا يمكن أن نناقش حيثيات تأسيس الشعر العربي الحديث دون التفكير في السيّاب، وهو شاعر ملهم من قرية جيكور بالعراق أحسّ بسيرورة ثقيلة للشعر العربي نتيجة القيود اللفظية والمعنوية، فجاءت منه مبادرة التغيير، وكانت بدايته الأولى لا تخلو من الشكل الرومنطيقي.”[12]

وللشاعر الجواهري رأي معزز رغم ما عرف عنه من محافظة على العمود، ومباركة له إذ يقول “إنّ السيّاب هو الجسر الذهبي الذي ربط بين الشعر القديم، والشعر الحديث” لكنه يجده شاعرا سابقا لمرحلة الشعر الحر بل هو شاعر كلاسيكي أصابه نوع من الانزياح؛ وفي ذلك اعتراف حتى من أنصار القصيدة العمودية بدوره النضالي والريادي في رفد الشعر العربي الحديث، ويبدو السيّاب استثناءا في رأي الجواهري، فهو بعد ذلك يحمل دون لين على من أسماهم بالمخابيل الذين أشبهوا النمل في تكاثره، وباتوا في حركة دائمة من التطاول على أصول الشعر ورموزه وتراثه، فيقول: “وأنا أتعجب من بعضهم عندما يقولون بأن كتاباتهم الشعرية باتت تسد رمق القارئ العربي بعدما تخلص من القصيدة العمودية، كم هؤلاء فطاحل في الدجل والكذب.”[13]؛ أما نازك فكادت أن تكون لها الريادة لولا أنها تحولت حسب بعض النقاد إلى خليل جديد عندما وضعت كتابين نقديين ترسم فيهما قيودا عروضية على الشعر الجديد فتساوى عندها فعل التنظير والتجريب، وكأنها وحدها من يملك حقوق الإذن بكتابة هذا اللون الجديد وفق اعتبارات مرسومة، وكادت أن تتلاشى أحلامها في البند والمخلع المزيد[14]؛ أو حتى في بحر الموفور الذي اعتبرته اختراعا غير مسبوق، لكن البعض الآخر يشيد بدراستها المدققة لأوزان الخليل العروضية، “ومتابعتها المتميزة لإيقاع الشعر الحر، ومحاولاتها في نظم الشعر باستخدام التفعيلات الصافية، ودرايتها بالعيوب العروضية التي وقع فيها بعض الشعراء المحدثين.. مكنّها أيضا من أن تستنتج قواعدا عروضية لإيقاع الشعر الحر.”[15]

واستطاع الشعراء بعدهم من خلال الشعر الحرّ أن يفجروا الاحساس العربي في زمن انقلاباته السياسية وتوتراته الاجتماعية، ومكنّوا عن طريق التجريب من إقرار شكل جديد “ففي فترة الخمسينيات والستينيات كنت تستطيع أن تتحدث عن قصيدة للسيّاب أو لأدونيس أو لصلاح عبد الصبور، وهي نوع من معلقات العصر، قصيدة تمتاز بروح المرحلة على حدّ تعبير جابر عصفور[16]؛ وتجلى ذلك نتيجة لتفتح العقل العربي على وعي جديد من جراء الأوضاع الجديدة التي ألمت بحياته إثر الحربين العالميتين الأخيرتين، “والتي تتنافى وما نصبو إليه من عز و حرية وسعادة، فعمد إلى صنع ثورة أعطت السند الحقيقي للمثقفين المتضامنين معها”[17]؛ ووجد الشعراء في رتابة الوزن العربي داعيا إلى طرق أشكال جديدة وتجريب ما كان محرّما في أزمان غابرة،  فأبو إلا أن يتخذ  شعرهم سمة عصرية في شكله ومضمونه يعكس قضايا الإنسان الجديد وتموجات أفكاره ومشاعره “فالثورة العربية الشاملة قد اندلعت عنيفة جريئة في الفكر والسياسة والمجتمع والأيدولوجية، فالقصيدة العربية في نظر هؤلاء قد استنفذت أغراضها، فلم تعد صالحة لتكون إيقاعا لهذه الثورة، فلم يرو بدا من أن يستعيضوا عنها بأخرى ملائمة لديالكتية المرحلة الثورية حتى يتسنى لهم مواكبة الحياة الجديدة، فيعبرون كما شاؤوا عن عواطف النفس وانفعالاتها، ويستلزمون قضية أمتهم الضائعة، ويحاربون بالكلمة من أجل المستقبل السعيد المنتظر.[18]

فهل كان حقا تعبيرا عن تفتح العقل العربي وعن ثورة مصنوعة أم دليلا على انتكاسة الذهن العربي جراء سلسلة من الهزائم الفكرية والسياسية؟ فلم يجد هذا العقل المفزوع سوى الشعر ليقضي على بناءه العتيد، وعلى ما تبقى من روح الماضي وإرث العروبة، فالذين قرنوا التجربة الحرة بتجارب أندلسية أو مهجرية مثيلة يؤكدون بصورة أو بأخرى أن للغرب يدا في هذا التغيير بتأثير شعراءه، وتسلل هيمنته الفكرية والأدبية إلى أذواق الشعراء، فالمهجريون اللبنانيون كرعوا حد الثمالة من الثقافة الأمريكية والفرنسية، والأندلس قبلهم كانت حضارة في قلب أوروبا استلهمت من منبع قريب أو تسممت ببعض روافده، والسيّاب نفسه كان يترجم أشعار الانجليزيين قبل أن يسلك هذا المسلك، وقد وصل الجواهري سلفا إلى الحقيقة نفسها التي خامرتنا حينما يتكلم عن قصيدة النثر ـــ وهي النفق المسدود الذي بلغه الشعر الحرــ كجزء من مؤامرة الغرب في الشرق، وفيضان زائد لتخريب الذائقة العربية.

  1. المسلك الفني لأنصار الشعر الجديد:

 و أول تبدل مع هؤلاء الرواد إعادة تحديد مفهوم للشعر يناسب العصر وفي ذلك يقول السياب: “الشعر الحر بناء فني جديد واتجاه واقعي جديد جاء ليسحق الميوعة الرومانتيكية وأدب الأبراج العاجية، وجمود الكلاسيكية، كما جاء ليسحق الشعر الخطابي الذي اعتاد الشعراء السياسيون والاجتماعيون الكتابة به”[19]؛ ويفهم من نصه مدى ثورية الشعر الحر ومعارضته للمذاهب الأدبية السالفة، ومحاولة تجاوز مواقفها، رومانسية كانت أو كلاسيكية أو تقليدية، ولم يعد الشعر وثيقة اجتماعية أو نفسية أو فلسفية أو دينية، بل أضحى طريقة تعبير خاصة لا يمثل فيها الموضوع إلا عنصرا بين العناصر المختلفة في القصيدة، وهو ليس مجرد شكل جميل في ذاته أو مضمون جميل في ذاته، بل هو نظام خاص من حيث لغته و صورته وموسيقاه، إنه عالم خاص مستقل عن العالمين الخارجي و الداخلي، عالم رمزي أسطوري يمثل مرجعية ذاته[20]؛ وبهذا أخذ الشعر معهم مفهوما جديداً، فلم يعد يصور خارجا ولا يعكس داخلاً إنّه رؤيا جديدة تمثل وعي الشاعر وفهمه لقضايا الحياة والفن.

والشعر عندهم رؤيا بالدرجة الأولى وما خصائصه الفنية إلا امتداد لها، فاللغة والصورة و الإيقاع نتيجة لرؤية خاصة للأشياء، وهذه الرؤية الخاصة نتيجة علاقة خاصة بأشياء العالم، وما العلاقات اللغوية و الإيقاع و الصورة إلا تجسيدا لهذه العلاقة ذاتها، فالرؤية و الرؤيا غير منفصلين لأن الرؤيا هي نتيجة لما تتوصل إليه الرؤية، فالرؤية نظرة حسية تجزيئية للأشياء تقف عند المظاهر الخارجية، أما الرؤيا فتتجاوز الظاهر إلى الباطن لتكشف علائق جديدة تعيد على ضوئها ترتيب الأشياء ثانية، وصنع عالم جديد.

وبموجب ذلك تتغير وظيفة الشعر أيضا، فلم تعد لتقديم منفعة مباشرة وفق الأسطرة الأفلاطونية القديمة أو التعاليم الكلاسيكية التليدة، إنما هدف الشعر المباشر الإمتاع، وهو لا يقدم معرفة جاهزة سبق إليها العلم بل له معرفته الخاصة التي تشعّ من خلال جماليته، ولا يعني هذا الأمر أن الشعراء الرواد اتفقوا حول هذا المفهوم بل نراهم أحياناً يخلطون بين الشعر الحر وشعر التفعيلة، وما كثرة تسميات شعرهم الجديد بأسماء كثيرة إلا دليل آخر على الخبط والضلالة، ومن بين هؤلاء “نازك الملائكة”  حينما صنفت شعرها ضمن الشعر الحرّ وهو لا ينتمي إليه بل لشعر التفعيلة، كما يؤاخذها جيرا إبراهيم جبرا على تصنيف كتابة ” محمد الماغوط” ضمن القصيدة النثرية رغم أنها تدخل في إطار الشعر الحرّ “أما قصيدة النثر فهي ترجمة لمصطلح “poeme en prose” الفرنسي الأصل الذي وُجد لتحديد بعض كتابات رامبو النثرية الطافحة بالشعر “كموسم في الجحيم” و “إشراقات”؛ و معلوم أنّ الشعر الحرّ مصطلح غربي يعرف في الفرنسية تحت مسمى “Verse Libre”؛ وفي الانجليزية “Free Verse” وقد أطلقه الغرب على الشعر الخالي من الوزن والقافية “إنّه الشعر الذي كتبه “وَلت وتمان” وتلاه فيه كثيرون في آداب أمم كثيرة.[21] والسؤال الذي يمكن أن نطرحه على جبرا: ما الفرق إذن بين الشعر الحرّ و الشعر النثري إذا كان كلاهما لا يخضع للوزن والقافية؟  

وحرص المجددون على الابتعاد عن القوالب القديمة المتداعية، وعن القافية الواحدة الرتيبة التي كانت تستعبد عواطفهم ومعانيهم، وتقيد خواطرهم، كما حرصوا على وحدة القصيدة بتشابك الأبيات لا تتابعها “ولا يصح أن يكون البيت شاذا خارجا عن القصيدة بعيدا عن موضوعها، فالقصيدة هي شيء كامل[22]؛ وهو ما سمي في عرفهم بالوحدة العضوية الدينامكية، والوحدة العضوية كما يشير النويهي ليس مقصودها اقتصار القصيدة على تجربة واحدة أو عاطفة واحدة، ولكن الوحدة المطلوبة لا تحجز الشاعر عن تعدد التجارب والعواطف.

كما لجئوا للرفع من قيمة التفعيلة بدل البحر لأن هؤلاء المجددين أدركوا <<أن الوحدة الإيقاعية في الوزن العروضي هي التفعيلة، وهي التي تفرق بين صورة الكلام المنثور وصورة الكلام المنظوم …. والالتزام بعدد معين من التفعيلات ليس بالضروري، فطفقوا يستخدمون الأساس الإيقاعي المنبني على التفعيلة.>>[23]؛  ولنلاحظ نازك الملائكة حين تقول من قصيدة الشهيد[24]:

 في دجى الليل العميق

 رأسه النشوان ألقوه هشيما

 و أراقوا دمه الصافي الكريما

 فوق أحجار الطريق

فالتماسك بين هذه الأسطر قائم بالقوة وبالفعل، فالفراغات الشاسعة التي كان العمود الشعري القديم يرعاها تكاد تنعدم وتتلاشى في حضور تتابع وتعاقب فكري أو نفسي، فحجم الثرثرة والتكديس كما كان يسميه نزار قباني يتلاشى هنا لأن الشاعر لم يعد همّه الجري وراء الكلمات المموسقة الرتيبة ليقيم أركان الوزن الخارجي.

والكلمة أضحت في الخطاب الشعري المعاصر تدرك بوصفها كلمة وليست مجرد بديل عن الشيء المسمى، فهي الانبثاق الحقيقي للحمولة الدلالية لمكوناتها المستحضرة للحظة الانفعال أو التجاذب كما يقول عبد الله حمادي، وهي ليست ككلمة “الخطاب الروتيني الشعائري المألوف إذ الخطاب الأدبي الحديث أو المعاصر يقوم على مفاجأة المتلقي وتعتيم الطريق أمامه”[25]؛  كما تجاوزت اللغة المعنى العقلي لحمولتها من أداة للتعبير، وتعلقت همتها الشعرية بجماليات وقيم خاصة يمكن أن تكون في بعض الحالات مسموعة لذاتها، لتصبح قيمتها في جوهر ما تحمله لا فيما تعبر عنه بالمفهوم المجرد، فهي تسعى لممارسة حق التجاوز لذاتيتها أولا ولمتلقيها ثانيا فتهتك المتعارف عليه.[26]

والملاحظ أيضا أن صورهم الشعرية أكثر كثافة، ويمموا صوب الإيحاء والرمز، فانحرفوا باللغة عن دلالاتها المعهودة، و إمامهم في ذلك نزار قباني الذي كان يقول: “مهمة القصيدة كمهمة الفراشة هذه تضع على فم الزهرة دفعة واحدة جميع ما جنته من عطور و رحيق، متنقلة بين الجبل و الحقل و السياج، و تلك ــأي القصيدة ـــ تفرغ في قلب القارئ شحنة من الطاقة الروحية تحتوي على جميع أجزاء النفس، وتنتظم الحياة كلها”[27]؛ فنزار يريد أن يقول بلغته العاطفية المشحونة إن القصيدة الجديدة ليست مجرد تحول موسيقي وزني بل هي على مستوى كبير من العمق والرؤيا ناجمة عن اختمار التجربة، فالشعر تلقيح و لقاح يخترق المحظورات و يتجاوز العراقيل والعثرات، وهو أبعد من أن يكون مجرد ظاهرة صوتية هادرة أو خافتة، لذلك يقدم لنا الشعر المعاصر في بعض نماذجه بنى وافضاءات مشكلة من أدوات لا عقلية، لأن العلاقات بين الدال والمدلول مثلما يرى الشاعر عبد الله حمادي[28]؛ أضحت علاقات تنافرية أو تجاورية تتحكم في طرفيها دلائل تراسلية تدعو إلى الالتباس كما تعتمد على تشكيلات فنية لا تخضع للإدراك الواقعي بقدر ما تخضع للإدراك الحسي، فيصبح من المتعذر على المتلقي فهمها وإدراك ابعادها الواقعية إلا بتخمين عميق وتأويل متأني.

يقول صلاح عبد الصبور من قصيدة هجم التتار[29]:

هجم التتار

و رموا مدينتنا بالدمار

و رجعت كتائبنا ممزقة، و قد حمي النهار

الراية السوداء والجرحى، وقافلة موات

والطبلة الجوفاء والخطو الذليل بلا التفات

وأكف جندي تدق على الخشب

لحن الشغب

والبوق ينسل في انبهار

والأرض جارفة كأن النار في قرص تدار

والأفق مختنق الغبار

و نرى في هذه الأبيات أبعادا جديدة، تزيد العمق والانزياح، فيقوى التماسك والتلاحم، مرجع ذلك إلى أن المحدثين والمعاصرين تأثروا بالتيارات السيميائية، فصاروا يقصّدون اللغة بسبق الإصرار، فنجد في قصائدهم ما يحاكي أصوات الطبيعة، وحشدا هائلا من أسماء الأعلام المختلفة ذات الدلالات الإيحائية، وألفاظا عتيقة ضاربة في أعماق التاريخ، أو حديثة آتية من آفاق مختلفة.”[30]

أضحى الشاعر المعاصر بتقيد بالوزن والقافية وهو يحيا  في زمن متحرر، و السّياب يعبر عن هذا الوضع المزري مؤكدا على عدم القدرة على استعمال قافية واحدة على عكس الشاعر الجاهلي الذي وظف كلمات كثيرة منسجمة مع قوافيه، وهل يصح لشاعر اليوم حسبه أن يوظف عبارة كالسجنجل، والمتعثكل، والشاعر الحديث مطالب بخلق تعابير جديدة، و عليه أن ينحث لا أن يرصف الآجر القديم، لقد شبعنا من تلك القوالب التي تفرضها القافية عليه كالجحفل الجرار، الشفير الهاوي، النسيم الساري، الصيب المدرار، هذه الصفات و المواصفات التي يجمعها بحر واحد وروي واحد[31]؛ والبياتي يؤكد الحقيقة ذاتها ويعتبرها سببا مباشرا في الإقبال على الشعر الحرّ، فقد تأثر بالشعراء المتمردين أمثال المتنبي والمعرّي والشريف الرضي، فكان يحّس في شعرهم “ثنائية موسيقى قديمة ورؤية حديثة، إن رؤاهم تعاني من قيد الشكل القديم”[32]؛ وقد قيّم بلند الحيدري تجربة الشعر الحرّ على أصول ثلاثة يأتي على رأسها اعتقاد الموسيقى التقليدية سابقة على الموضوعات الجديدة، فهي تقيد الشاعر بما يتواءم مع مرحلة سابقة، ويرى أن الشعر الحرّ انتقل بالشعر من القصيدة الطبقية إلى القصيدة العضوية المتماسكة النامية في تجربتها والمتآلفة بين عناصرها الفنية والجمالية.

اندفع الشعراء المعاصرون إلى هذا الشعر من أجل اقتناص المفردة الشاعرية المعبرة بعيداً عن كلمات قاموسية متحجرة قد لا تناسب تطلعات الشاعر( المعنى القاموسي ليس ما يريده ولكن ايحائية الكلمة، الكلمة الموحية، فإذا قيض لي إن اختار بين كلمتي سكّين ومدية لاخترت السكين…فالسكين كلمة تعايشنا معها في البيت، إذ لها تداعيات في القوى الذهنية و تستطيع أن تستخدم هذه القوة الذهنية عند القارئ، وتعلق هذه الأبعاد من خلالها. [33]

لا يخفى الانبهار بالشعرية الغربية من قبل الشعراء الرواد لأنهم يحسنون اللغات الأجنبية وبعضهم ينظم الشعر بها، ويعترف  أدونيس بهذه الحقيقة فيقول: ” وقد تأكد لي في هذه المقارنة غنى الأولى موسيقيا ومفردات، لكنني اكتشفت فقرها تشكيليا، وتحركها في مدار ضيق، أما الثانية (الشعرية الغربية) فتأكد لي غناها التشكيلي، وتفجرها الذي تجاوز كل عائق سواء جاء من الماضي أو من الحاضر.

  1. عثرات شعر التفعيلة: ككل تجربة جديدة تستلهم من الغرب، وتغربل القديم، وقع مجربو قصيدة التفعيلة في عثرات ومطبات غير محمودة منها:
  • السقوط في قعر الغرابة والغموض والابهام رغم أن أساس دعوتهم الجديدة “جعل الشعر جماهيريا ملتزما وواقعيا فعالا”[34]؛ فالشعراء المتطفلون يعتقدون الغموض والتعقيد صفة محبوبة لذاتها[35]، ويكاد التجريب المستمر أن يتحول لدى البعض إلى غاية تطلب لذاتها، “وعندـئذ يصبح لعبة شكلية، “ويتحول الشعر بوجه خاص إلى لعبة لغوية، فتصبح بها القصيدة سجنا للوعي، وليس سيفا أو وسيلة لتغيير العالم.”[36] نستثني من ذلك الغموض الفني أو التعقيد المكثف الذي مرده إلى صانع الفعل الشعري ليعبر عن معاناته ساعيا للتمرد على معضلات هذا العصر، وهي تحاول أن تسحق الانسان بثقلها الصناعي، والفنان في موقفه غير المذعن لهيمنة الدمار يسعى ليخلق من فضائه الفني محيطا لا واعيا.[37]
  • الإساءة لنظام التفعيلة فراحوا يتخبطون في ظلمات التسميات حيث يضمّنون القصيدة كلاما عاميا، وحينا آخر غناءا شعبيا ومرّة ألغازا وأساطير، وتارة يفرغونها في قالب نثري، ففارق الشعر أصالته، وفقد في الطريق ميسمه، وصعب جدا أن يحقق الشاعر تلك المعادلة التي يدعو إليها النويهي حينما أكد أن من مزايا الشعر لا أن يترفع عن لغة الكلام بل يرتفع بها، فقد وقع الشعراء على اختلافهم في لغة الكلام وأدمنوها فتزحزحت المنزلة اللغوية للشعر، وأضحى مطية ذلول لا يركبها الشعراء فقط بل حتى الشعارير والمتشاعرون.
  • الشعر العربي الجديد لم يقدم أشكالا يانعة يمكن أن تندرج تحت قانون فني عربي أصيل، فابتعد عن الشعبية، ولم يحقق نظاما فنيا ذاتيا، فالكثير من أقطابه عادوا إلى الشعر العمودي إذ أحسوا أن القابلية غير متوافرة، أو أن التوصيل ناقص لا يحقق الغرض خاصة بعد أن استلهموا أشكالا موسيقية مستعارة عن الغرب، فاكتملت عندهم ولم تكتمل عندنا، مثل السوناتا، الشعر المدور، والقصيدة النثرية.
  • من قبيل الحيلة يلجأ بعضهم إلى القصائد المنظومة على النمط التقليدي ويقطعونها تقطيعا من شأنه أن يجعل شعرها يكتسي صورة الشعر الجديد ظنا منهم أن هذا الشعر الجديد لا يختلف عن القديم إلا في شكله، وهو تلفيق جديد، وهذا ما جعل جابر عصفور يقول بعد عقدين من انتشار هذا الضرب من الشعر “الآن لا نستطيع أن نتحدث عن هذه القصيدة لسبب بسيط هو أنه لا يوجد هناك شيء ما قد حدث، الوحدة التي كانت تنطوي عليها القصيدة قد أصبحت تفتتا”. [38]
  • عدم تمكن الشعراء من الموسيقى الداخلية عندما جعلوها بديلا للشكل الايقاعي القديم، وتنكبوا عن إحراز تقدم في هذا المجال، فغابت الموسيقى عن الشعر، وما الشعر بلا موسيقى إلا ضربا من النثر، فالإيقاع جوهر الشعر، وليس قالبا خارجيا، فهو يصهر عناصره لتتشكل القصيدة، وتنمو محققة كيانها واستقلالها، فالشعر نظام وليس مجرد صور مبعثرة وأفكار مجردة، وعواطف هادرة متدفقة، ولا نظام خارج الوزن، فالشعر ليس حرا من القيود، لهذا يقرر خليل حاوي أن تسمية الشعر الحر خاطئة مستشهدا بقول الشاعر إليوث، في أن الحرية لن تكون أبدا هروبا من الوزن في الشعر وإنما في السيطرة عليه واتقانه[39]؛ وللسبب ذاته اتهم النويهي المجربين في الشعر الحر بالمتطفلين لعدم التفاتهم إلى أن هدرهم للموسيقى السطحية للشكل القديم يجب أن يعوضوه بما قد يكون أقصى امتحان للشاعرية، وأكبر استلزام للطبيعة الفنية الناضجة، ويعني بذلك تنمية الموسيقى الداخلية للقصيدة كوحدة فنية متكاملة.[40]
  1. الخاتمة:

عرف العرب تجديدا شعريا كبيرا في الحقبة المعاصرة، ويعزى الفضل في ذلك لرواد الرومنسية الذين جدّدوا ينابيع الشعر الوجداني، وأعادوا للنفس والذات مكانها في الإبداع الشعري، وانتقدوا بناء الشعر القديم، وإيقاعه الموسيقى الموروث، ودعوا إلى التغيير.

وترجع حقوق الملكية والابتكار في بزوغ الشعر الحر وشعر التفعيلة كتجربة ايقاعية فنية جديدة وريادية إلى أنصار التيار الواقعي، فكانوا أكثر حزما في التغيير والتجريب مع التصدي لحملات الانتقاص من جهودهم المبذولة في سبيل تجديد الأساليب، وتطوير الكتابة الشعرية، فكانت لهم جرأة في التنظير والإبداع.

بزغت هذه المدرسة الجديدة في الخمسينيات من أعماق الأرض العراقية الخصيبة (السياب، البياتي، نازك) و سرعان ما انتشرت في البقاع العربية، وما فتئ روادها يرددون صلتهم الوثيقة بالمحاولات التجديدية العربية القديمة عند الأندلسيين أو الحديثة مع المهجريين، لكنهم يتحاشون الحديث عن التأثير الغربي البودليري والإليوثي رغم أنه كان عنصرا فاعلا.

لا ينكر في هؤلاء المجددين فضل هدم أسوار الرتابة عن الشعر العربي، وإلباس النص الشعري وحدة عضوية دينامكية فنية كانت تعوز الشعر العربي القديم، وجعلوا الوحدة الإيقاعية في الوزن العروضي هي التفعيلة بدل البحر، وبارحت اللغة الخطاب الشعائري المألوف والمأنوف منه، وتكثفت الصورة الشعرية وتلبست من وحي العلاقات التجاورية أو التنافرية بين الدال والمدلول، فحلّ التأويل محل التفسير.

ولم تسلم هذه المغامرة الفنية من غوايات كثيرة كوقوع صناع الفعل الشعري في الغموض والتعقيد اللافنّي متأثرين بنظرية شعر النخبة أو الشعر الخالص، فهؤلاء نسجوا شعرا فلسفيا أو طلسميا لا يُفهم، فيما وقع البعض الآخر في سطحية لغة الكلام فصار الشعر عشبا يداس ولا يُكثرت به بعد قراءة وحيدة، وكانت ثالثة الآثافي قصيدة النثر التي لم يرها الشعراء الفحول سوى طوفانا متعجلا عارما لتخريب الذوق العربي.

  1. قائمة المصادر والمراجع:ساليبأ

  • الكتب:
  • رضوان بن عربية، مساءلات جديدة للشعرية العربية في الضوء الثابت والمتحول لأدونيس،ط1، 2007، المحمدية، المغرب.
  • إلياس خوري، دراسات في نقد الشعر، دار بن رشد بيروت لبنان، ط2،1981، ص 16.
  • محمد مفتاح، دينامية النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2006 إبراهيم رماني: الغموض في الشعر العربي الحديث، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الرغاية، 2008.
  • محمد الطمار، مع شعراء المدرسة الحرة بالجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر،
  • نازك الملائكة، الديوان، ج2، دار العودة، بيروت 1997.
  • رحاب عكاوي، نازك الملائكة شاعر الليل، دار الفكر العربي لبنان،2007.
  • جهاد فاضل، أسئلة النقد، الدار العربية للكتاب.
  • عبد الله حمادي، مساءلات في الفكر والأدب، ديوان المطبوعات الجامعية 1994.
  • أحمد زكي أبو شادي، قضايا الشعر المعاصر، الهنداوي، المملكة المتحدة 2017.
  • محمد النويهي، قضايا الشعر الجديد، معهد الدراسات العربية العالية، مصر، 1964.
  • صلاح عبد الصبور، الديوان، ج2، دار العودة، بيروت 1988.

ب. المقالات

  • حوار أسعد الجبوري مع الشاعر الجواهري بعنوان: بريد السماء الافتراضي…مع الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، على موقع ضفة ثالثة alaray.co.uk نشر بتاريخ 21 أفريل 2020. استرجع بتاريخ 07 نوفمبر 2023.

الهوامش:

  [1]  رضوان بن عربية: مساءلات جديدة للشعرية العربية في الضوء الثابت والمتحول لأدونيس،ط1، 2007، المحمدية، المغرب، ص37.

[2] المرجع نفسه، ص58.

[3] إلياس خوري: دراسات في نقد الشعر، دار بن رشد بيروت لبنان، ط2،1981، ص 16.

[4]  ينظر محمد مفتاح، دينامية النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2006ص 55.

[5]  إبراهيم رماني: الغموض في الشعر العربي الحديث، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الرغاية، 2008،ص 34.

[6]  محمد الطمار: مع شعراء المدرسة الحرة بالجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر،  2005.

[7]  روميو وجوليت، وليم شكسبير، ترجمة عي أحمد باكير-دار مصر للطباعة مكتبة مصر، 1946 ، ص 03

[8]  إبراهيم رماني: الغموض في الشعر العربي الحديث، ص 35.

[9]  المرجع نفسه، ص35.

 [10] ينظر فاتح علاق: مفهوم الشعر عند رواد الشعر العربي الحر، دار التنوير، الجزائر، ط1، 2010، ص122-123.

[11]   نازك الملائكة، الديوان، ج2، دار العودة، بيروت 1997، ص138.

[12]  رضوان بن عربية: مساءلات جديدة للشعرية العربية، ص 124.

[13]  ينظر حوار أسعد الجبوري مع الشاعر الجواهري بعنوان: بريد السماء الافتراضي…مع الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، على موقع ضفة ثالثة diffah.alaray.co.uk نشر بتاريخ 21 أفريل 2020. استرجع بتاريخ 07 نوفمبر 2023.

[14]  وضعت نازك الملائكة المقياس العروضي لشعر البند، وهو تجربة موسيقية ظهرت قبل أربعة قرون،   وهو شعر ذو أسطر غير متساوية الطول، وهو شعر ذو وزنين الرمل والهزج.

 رحاب عكاوي، نازك الملائكة شاعر الليل، دار الفكر العربي لبنان،2007، ص122[15]

[16]  جهاد فاضل: أسئلة النقد، الدار العربية للكتاب، دون تاريخ، ص 61.

[17]  محمد طمار: شعراء المدرسة الحرة بالجزائر، ص، 09.

[18]  المرجع نفسه، ص13.

فاتح علاق: مفهوم الشعر عند رواد الشعر العربي الحر، ط1 دار التنوير الجزائر 2010ص 13[19]

 المرجع نفسه، ص 14[20]

 جبرا إبراهيم جبرا، الرحلة الثامنة من منشورات المكتبة العصرية .صيدا بيروت 1967 ، ص18[21]

[22]  محمد طمار: شعراء المدرسة الحرة بالجزائر، ص 10.

[23]  المرجع نفسه، ص 11

[24]  نازك الملائكة، الديوان، ص 236.

[25]  محمد مفتاح، دينامية النص، ص 51.

[26]  ينظر عبد الله حمادي، مساءلات في الفكر والأدب، ديوان المطبوعات الجامعية 1994، ص204.

[27]  أحمد زكي أبو شادي : قضايا الشعر المعاصر، الهندواي، المملكة المتحدة2017،  ص 99.

[28]  ينظر عبد الله حمادي، مساءلات في الفكر والأدب،  ص200.

[29]  صلاح عبد الصبور، الديوان، ج2، دار العودة، بيروت 1988، ص253.

[30]  محمد مفتاح، دينامية النص، ص56.

 فاتح علاق، ص124-125[31]

 المرجع نفسه، ص135[32]

 عبد العزيز مقالح: الشعر بين الرؤيا و التشكيل .دار العودة بيروت ،ط1 ، 1981، ص 41.[33]

[34]  محمد الطمار، مدرسة الشعر الحر في الجزائر، ص13.

  محمد النويهي، قضايا الشعر الجديد، معهد الدراسات العربية العالية، مصر، 1964، ص.134[35]

[36]   جهاد فاضل، أسئلة النقد، ص56.

[37]  عبد الله حمادي، مساءلات في الفكر والأدب، ص205.

[38]  جهاد فاضل: أسئلة النقد، ص 61.

 [39]  فاتح علاق: مفهوم الشعر عند رواد الشعر العربي الحر، ص298.

[40]  محمد النويهي: قضايا الشعر الجديد، ص 126.

*جامعة الشلف الجزائر

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of