+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

دلالة المصطلح الصوفي في شعر عفيف الدّين التّلمساني
الدكتورة نجاة حسين

ملخص الدّراسة:    

      إنّ مفاتيح العلوم مصطلحاتها على حدّ تعبير الخوارزمي، إذ هي مجمع حقائقها المعرفيّة، وليس من مسلك يتوسل به الإنسان إلى منطق العلم غير ألفاظه الاصطلاحيّة ويعدّ التّصوف واحداً من تلك العلوم الذي اتّخذ لنفسه مصطلحات، وألفاظًاً خاصّة انفرد المتصوف بدلالاتها، لتكون وسيلة اتّصال فيما بينهم، والتعبير عن تجاربهم الرّوحية، لذلك سنحاول في هذه الدّراسة التّطرق إلى موضوع المصطلح الصوفي ودلالته، باتّخاذ شعر عفيف الدين التّلمساني أنموذجًا للدّراسة.

الكلمات المفتاحية: المصطلح، التّصوف، المصطلح الصوفي، الدّلالة، عفيف الدين التّلمساني.

مقدمة:

لاشكّ أنّ المصطلح هو لغة العلم والمعرفة، “لأنه يؤدي المعنى بوضوح ودقة، ويشكّل الدعامة الأساسية في لغة العلم التي تعتمد على المصطلح في التعبير عن مادة العلم ومحتواه، وتقدّر بعض الدراسات التي أجريت في هذا المجال أنّ حوالي 50% من مفردات لغات البلدان المتقدمة علميًا تتكون من مفردات المصطلحات العلمية، ومعظم هذه الألفاظ باتت تستخدم من نطاق العالم”[1]، فلا وجود لعلم دون مصطلحات، “فمنزلته من العلم بمنزلة الجهاز العصبي من الكائن الحي، عليه يقوم وجوده، وبه يتيسر بقاؤه، إذ إنّ المصطلح تراكم مقولي يكتنز وحده نظريات العلم وأطروحاته”[2].

أولا: مفهوم المصطلح لغة واصطلاحًا:

     أ-لغة:

المصطلح مصدر ميمي للفعل “اصطلح” من مادة “صَلُحَ” ودلالة هذه الكلمة في المعاجم العربية تحدّد بأنها ضدّ الفساد[3]، كما تدل على الاتفاق[4]، وبين المعنيين تقارب دلالي، فإصلاح الفساد بين القوم لا يتمّ إلا باتفاقهم.

وورد في لسان العرب: الصّلح: تصالح القوم بينهم، والصّلح: السّلم، وقد اصطلحوا وصالحوا واصّلحُوا وتصالحوا واصّالحوا…[5].

ففضلا على كون دلالة “الصّلاح” ضد “الفساد”، فقد ذكر معانٍ أخرى لها يمكن إجمالها فيما يلي:[6]

  • أصلح في عمله ّأو أمره: أتى بما هو صالح ونافع.
  • أصلح ما بينهما: أزال ما بينهما من عداوة وشقاق.
  • الاصطلاح: (مصدر للفعل اصطلح): اتفاق طائفة على شيء مخصوص، ولكل علم اصطلاحاته.

ب-اصطلاحًا:

أورد الشريف الجرجاني (ت816هـ) في كتابه “التعريفات” أربع تعريفات للمصطلح نذكرها كالآتي:[7]

  • فالاصطلاح عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه الأول.
  • فالاصطلاح إخراج اللفظ من معنى لغوي إلى معنى آخر لمناسبة بينهما.
  • الاصطلاح إخراج الشيء من معنى لغوي إلى معنى آخر لبيان المراد.

وبناءً على هذه التعريفات الأربع نستطيع أن نعطي تعريفًا جامعًا مانعًا للمصطلح وهو أنّه: عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما يخرج من خلاله من معنى لغوي إلى معنى آخر لمناسبة بينهما لبيان المراد.

ويعرّفه رفاعة الطهطاوي أيضا بقوله: “هو الكلمات المتفق على استخدامها بين أصحاب التخصص الواحد، للتعبير عن المفاهيم العلمية لذلك التخصص”[8]، فهو يشير هنا إلى مبدأ الاتفاق، ويربطه بأصحاب التخصص من أجل التعبير عن المفاهيم العلميّة.

وتشير المنظمة الدولية للتعبير (إيزو) إلى أنّ معنى المصطلح هو: “أي رمز يتفق عليه للدلالة على مفهوم، ويتكون من أصوات مترابطة، وقد يكون المصطلح كلمة أو عبارة”[9].

ولعلّ أفضل تعريف له تعريف “فيلبر” (felber) حين وصفهُ بأنه “الرمز اللغوي لمفهوم واحد”[10] هذا المفهوم فيه كثير من الدّقة وهو مصدر المصطلح، فالرمز اللغوي هو اللفظ الذي يتفق عليه ليدلّ على دلالة معينة.

ثانيا: المصطلح الصوفي:

هو لفظ تواضع الصوفية عليه وأعطوه دلالة جديدة خاصة بهم، ليكون وسيلة اتصال فيما بينهم للتعبير عن تجاربهم الروحية في التقرّب إلى الله تعالى، وهو سلوك ألجأتهم إليه الرّغبة في كتم أسرارهم، وهذه الميزة هي التي أشار إليها القشيري بقوله: ” اعلم أنّ لكل طائفة من العلماء ألفاظ يستعملونها، وقد انفردوا لها على سواهم، كما تواطؤوا عليها لأغراض لهم فيها، من تقريب للفهم على المتخاطبين بها، أو للوقوف على معانيها بإطلاقها وهم يستعملون ألفاظًا فيما بينهم، قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والستر على من باينهم في طريقتهم، لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها؛ إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع من التكلّف أو مجلوبة بنوع من التصرّف، بل هي معانٍ أودعها الله تعالى في قلوب قوم، واستخلص لحقائقها أسرار قوم”[11].

وهذه الخصوصية ذاتها يؤكدها “عبد الرحمن بن خلدون” بقوله: “فلا يظن أنّ ألفاظهم التي اصطلحوا عليها تفيد غيرهم، وإنما تواضعوا عليها للكلام، فيما بينهم لا لخطاب من لم يذق أذواقهم”[12].

ويعرّف المصطلح الصوفي أيضا بأنه: “تلك الألفاظ التي جرت على ألسنة الصوفية من باب التواطؤ والوساطات، وتكون العلاقة فيها مباشرة بين المتصوّف وربّه، ومن ثم تصبح مصطلحات التصوف علامات سيميولوجية أو إشارات رمزية دالة وموحية، لا يفهمها إلا السالكون، والمريدون، والأقطاب، والشيوخ، والدارسون”[13].

فالمصطلح الصوفي إذن يتجاوز المعنى المركزي الظاهري الأول للكلمة إلى المعنى الباطني أو الانزياحي لها، فمثلا كلمة “الخمرة” في المفهوم الصوفي تتعدى دلالتها الحرفية التي وردت في الخطاب الديني الحقيقي، والتي تتمثل في السكر والخبث والرّجس، لتأخذ دلالة أخرى إيحائية رمزية تحيل على الصفاء والانتشاء الرّباني والامتزاج الوجداني.

ثالثا:أنواع المصطلحات الصوفية:

تطرّق الدكتور “محمد بن بريكة” في كتابه “التصوف الإسلامي من الرمز إلى العرفان” أمام ثلاثة ألوان من المصطلحات هي:

المصطلح البسيط، المصطلح المتقابل، والمصطلح العرفاني الخاص.

1.3. المصطلح البسيط:

وهو المصطلح الذي يكون واضحًا بذاته، وليس له مصطلح يقابله”[14] ،ومن بين المصطلحات التي يتضمنها: الحجاب، السفر، الغيبة، الستر، الروح، الإرادة،…

2.3. المصطلح المتقابل:

ويقصد به تلك المصطلحات التي تفهم من خلال فهم أضدادها، حيث اتبع هذه الطريقة العديد من الصوفيين من بينهم القشيري اعتمدها في رسالته، ولهذا الاستخدام أصل في الرسالة القشيرية”، إذ عمد صاحبها إلى هذه الطريقة لتوضيح بعض المعاني المرادة من مؤلفه، بخلاف أصحاب المعاجم والرسائل الذين تطرّقوا لموضوع المصطلح الصوفي، فإنهم وصفوها في الصفحة المناسبة للحرف أبجديًا والحق أنّ مقابلة المصطلحات الصوفية يعين على الولوج إلى بعض الأنواع السيميولوجية الصوفية”[15]، كما يتبين مما يلي:[16]

  • الإشارة والعبارة: العبارة هي ظاهرة اللفظ والإشارة هي باطنه.
  • التجريد والتفريد: التجريد ترك الأسباب والتفريد ترك النفس.
  • التحلي والتخلي: يكون التحلي بجملة الفضائل بعد التخلي عن جملة الرّذائل.
  • الجمال والجلال: الجمال هو نعوت الرحمة الإلهية، والجلال هو نعوت القصر الإلهي.
  • الحال والمقام: المقام هو المنزلة التي يدركها العبد بالجدّ في السلوك، والحال معنى يرد على القلب من غير تعمّد ولا اجتلاب ولا اكتساب.

والشرح بالضد معمول به في لغتنا، لأنه يصعب شرح بعض المصطلحات وصياغة تعريفات لها، لكن إيراد المصطلح المقابل يساعد على الفهم، ويزيل اللبس والغموض، كما أنه يعين على الدخول إلى بعض أسرار السيميائية الصوفية.

33..المصطلح العرفاني الخاص:

وجد المستشرقون صعوبة جمّة في فهم هذه المصطلحات ،فربطوها بالعقائد والأديان السماوية والوضعية والفلسفات القديمة”[17]، ويعد “ابن عربي” و”الحبلي” و”الحكيم الترمذي” من أهم الصوفيين الذين اهتموا بالمصطلح العرفاني، ومن هذه المصطلحات نجد: الإنسان الكامل، ختم الولاية، الغيب…

رابعا: دلالة المصطلحات الصوفية في ديوان عفيف الدين التلمساني:

تناول الشاعر “عفيف الدين التلمساني” في ديوانه العديد من المصطلحات الصوفية، ومن بين هذه المصطلحات نجد:

1-مصطلح السكر:

    *لغة: “نقيض الصحو…والأنثى سكرة وسكرى وسكرانة والاسم السكر بالضم، والجمع سُكارى وسَكارى وسكرى… ورجل سكّير: دائم السكر…وسكرة الموت: شدّته، والسكر: الخمر نفسها”[18].

    أما السكر في اصطلاح الصوفيين: “السكر دهش يلحق سرّ المحب في مشاهدة جمال المحبوب فجأة، لأنّ روحانية الإنسان التي هي جوهر العقل لما انجذبت إلى جمال المحبوب بعد شعاع العقل عن النّفس، وذهل الحس عن المحسوس، وألم بالباطن فرح ونشاط وهزة وانبساط لتباعده عن عالم التفرقة والتمييز، وأصاب السرّ دهش ووله وهيمان دونه لتحيز نظره في شهود الجمال الحق، وتسمى هذه الحالة سكرًا لمشاركتها السكر الظاهري في الأوصاف المذكورة”[19].

  وأيضا يعرف عن أهل الحق (أي الصوفية): “غيبة بوادر قوي، وهو يعطي الطرب والالتذاذ، وهو أقوى من الغيبة، وأتمّ منها”[20].

   فالسكر إذن ينشأ من الدهشة التي تلحق بالسالك عند مشاهدته لأسرار الربوبية وحقائقها، مما تجعله يفقد للأشياء وشعوره بنفسه وبمن حوله ، كما يفعل سكران الخمر.

وقد تجلى ذلك في شعره قائلاً: (المنسرح)

وَأَشْرَبُ الرّاح حين أَشْرَبُهَا

                        صِرْفًا وأَصْحُو بها فَهنَا السَّبَبُ

خَمَرتُهاَ من دمي وعَاصِرُهَا

                       ذاتي ومن أَدْمُعِي لَهَا الحَبِيبُ

إن كُنتُ أَصْحُو بِشُرْبِهَا فَلَقَدْ

                       عَرْبَدَ قَومٌ بِهَا وَمَا شَرِبُوا

هي النّعيمُ فِي خَلَدِي

                    وَإِنْ غَدَتْ فِي الكؤُوسِ تَلْتَهبُ[21]

يشير الصوفية إلى أنّ الأثر الناشئ من خمر الحب الإلهي هو الصحو لا السكر، فهذه الخمرة الأزلية تورث صحوًا، بما تفتحه من أبواب الحقائق التي تتجلى لقلب المحب.

ويقول في موضع آخر: (الخفيف):

إنما يشرب التي تَسْلُبُ العَقْلَ

                    نَدامَى هُمُ لَهَا أَكْفَاءُ

أَسْكَرُوهَا بِهِمْ كَمَا أَسْكَرَتهُمْ

                    في ابتِداهُمْ بِهَا فتم الوَفَاءُ

قد تَسَمّتْ بِهِمْ وَلَيسوُا سِوَاهَا

                    فالمسمىّ أُولئكَ الأسْمَاءُ[22]

إنّ السكر الوارد في هذه الأبيات هو سكر الأرواح بخمرة الوفاء، وهو وفاء بالعهد والميثاق التوحيدي الذي شهدت به الأرواح في عالم الذّر، ويشير التلمساني في البيت الأخير إلى ما يعرف عند الصوفيين بتجلي الأسماء الإلهية، وهي حالة من الترقي الصوفي وتكون بعد الفناء التام.

ويقول في موضع آخر:

ودارت عليهم من سلافةً رِيُقُهَا

                        طَلاَ قبلُ اعْصارِ  العَصير اعْتِصَارُها

هُدَامُ يَديمُ الصَحْوَ إِدْمَان شربها

                        وإن أسكرت صرف العقار عقارها

وعندي بها صحو أو سكر كلامها

                         حبانية خمّار حواه خمارها[23]

فالشاعر التلمساني هنا يؤكد على كرم ولطف الذات الإلهية التي ساقت عشّاقها خمرة قديمة قدم هذا الوجود، فالسكر عنده مختلف عن السكر الناتج عن الخمرة المادية في كونه يعقبه صحو وبقاء.

2-مصطلح العشق:

لغة: قال الجوهري(ت393هـ): “العشق فرط الحب”[24].

وفي الاصطلاح الصوفي: يقول” ابن عربي”: “العشق هو إفراط المحبة أو المحبة المفرطة، وهو الذي يعقد نار الشوق والوجد الذي في القلب”[25].

ومن أمثلته في ديوان التلمساني: (الكامل)

أَمَا وَكُلُّ الكَوْنِ يَعْشَقُهُ

              فَعَلاَمَ أُخفِي فَيه مَا عِنْدِي[26]

فعشق الكون لله تعالى مشهد يعرج إليه الصوفي في رحلة ترقيه من الخلق إلى الحق، فيرى حقائق الأشياء[27]، وفي هذا البيت نجد التلمساني يتساءل أنه إذا كانت أجزاء الكون منجذبة إلى الله، فلماذا يخفي هو انجذابه إليه تعالى.

3-مصطلح الشوق:

لغة: ورد في لسان العرب معنى الشوق على أنه: “نزاع النفس إلى الشيء… وحركة الهوى، أو تعلقها بها”[28]، وجمع الشوق: أشواق”[29]، ويقال أيضا: “شاقني الشيء فهو شائق وأنا مشوق، وشوقني فتشوّقتُ، إذا هَيّجَ شَوْقَكَ”[30].

  وجميع هذه الألفاظ تصبّ في معنى واحد وهو اشتياق النفس لما يستهويها ويجعلها تميل إليها، أما في الاصطلاح الصوفي يقول “ابن الدباغ”: “الشوق معناه حركة النفس إلى تتميم ابتهاجها بتصور حضرة محبوبها وهو من لوازم المحبة، إذ النفس تشتاق أبدًا لمن تحب”[31].

ويقول “الشيخ القاشاني”: “الشوق يَعْنُونَ به قواصف قهر المحبة بشدّة ميلها إلى إلحاق المشتاق بمشوقه، والعاشق بمعشوقه”[32].

كما يقول “أحمد زروق”: “الشوق: اهتياج القلق لتمكن الحرق”[33].

ومن أمثلته في ديوان التلمساني (المنسرح)

مَا هبَّ مِنْ نَحوِكُّمْ نَسيمُ صَبا

                       إِلاَ وَ أذْكَى بِمُهْجَتِي لَهَبًا

وَلاَ شَداَ مُطْرِبٌ بِذِكْرِكُمُ

                       إِلَا وَنَادَىَ المُشَوقُ وَأَطْرَبا

لاَ نالَ منكَ المَشُوقُ بُغْيَتَهُ

                       إِنْ كَانَ يَومًا إِلَى سِوَاكَ صَبَا

   يَا حَبَذا لَوعَتِي عَلَيكَ وَيَا

                        بُشْرَاي إنْ مُتُّ فِيكَ مكتئبا[34]

ويقول في موضع آخر: (المنسرح)

وَإنْ تَشَوّقكُمْ بَعَثْتُ لَكُمْ

                      كُتْبَ غَرامي ومِنْكُمْ الكُتُبُ[35]

ويقول أيضا:(مجزوء الوافر)

وَيَا شَوْقِي إِلَى عَيْشٍ

                مَضَى في ظلّهِ الرّحبِ[36]

4-مصطلح الغيبة:

لغة: الغيبة: “الوقيعة في الناس من هذا، لأنها لا تقال إلا في غيبته[37] يقال: “اغتابه اغتيابًا إذا وقع فيه، والاسم الغيبة، وهي ذكر الغيب بظهر الغيب”[38].

وهي في اصطلاح الصوفيين: “هي أن يغيب الصوفي عن حظوظ نفسه فلا يراها”[39]، ويقول “القشيري ” و”الكمشخانوي”: “هي غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لما يرد عليه، ثم قد يغيب عن غيره فقط، وقد يغيب عن غيره وعن نفسه أيضا، إذا عظم الوارد”[40].

  إذن الغيبة عند الصوفيين بمعنى أن يغيب قلب الصوفي عن عالمه ولا يدري ما يقع حوله، ولا يفهم كلام الناس، فظاهره معهم، وباطنه غائب عنهم.

ومن أمثلتها في الديوان: (المنسرح)

وَغِبْ جَنَاحَيْكَ في حُضُورهِمُ

                      عَنْكَ فَمَنْ غَابَ عَنْهُ لَمْ يَغِبْ[41].

فالغيبة التي يشير إليها التلمساني هنا هي: “أن يغيب الصوفي عن الفناء والفاني، بشهود البقاء والباقي، فيكون الشهود شهود عيان، وتكون الغيبة غيبة عن شهود الضر والنفع… لا غيبة استتار واحتجاب”[42]. وذلك هو المراد في إشارة التلمساني إلى الغيبة في الحضور.

5-مصطلح الحجاب:

لغة: يعرّف الحجاب لغة: “الستر حجب الشيء حجبًا وحجابًا وحجبة: سترة”[43]

وفي الاصطلاح الصوفي: يقول “عبد المنعم الحفني”: “الحجاب هو حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود ويبقى طالبه وقاصده، وقيل الحجاب: هو الذي يحتجب به الإنسان عن قرب الله”[44]، وقد نوع الصوفية في الإشارة إلى مراتب الحجب، فمن ذلك نجد: حجاب الحسن، حجاب الكون، حجاب العين، حجاب الوهم، حجاب النور…الخ.

ومن أمثلته في الديوان قوله (الكامل)

أَأَرى سِوَى لَيْلى إذا حَكَمَ الجَفَا

                                مِنْهَّا عَلَيَّ بِبُعْدِهَا وَحِجَابِهَا[45]

6-مصطلح المحو والإثبات:

المحو في اللغة: “محا الشيء: يمحوه وَيَمْحَاهُ مَحْوًا أو مَحْيًا: أَذْهَبَ أَثَرَهُ”[46]

الإثبات لغة: “مشتق من مادة (ثبت) يقال: ثَبَتَ الشيء وَيَثْبُتْ ثَبَاتًا وثُبوتًا فَهو ثَابِتٌ، ويُقال: ثَبَت فُلانٌ في المكان يَثْبُتُ ثُبُوتًا، فهو ثابت إذ أقام به، والثبت بالتحريك: الحجة والبيان، وقول ثابت : صحيح، وكله من الثبات [47] أما في الاصطلاح الصوفي: فالمحو والإثبات لفظتان متقابلتان الدلالة في المصطلح الصوفي “فالأولى تشير إلى فناء ما سوى الله من قلب المكاشف… والثانية تعني رجوعه إلى الصحو، وإثبات الموجودات الحسية لكنه يكون آنذاك مجازيًا…”[48]

ومن أمثلته في الديوان: (الطويل)

فَرُحْتُ بهِ بَلْ رَاحَ بِي وتَردّدتْ

                        بِهِ حَالَتِي مَا بَيْنَ مَاجٍ وَمُثْبِتِ[49]

7-مصطلح الباطن والظاهر:

الباطن (الكمون) والظاهر (الظهور) مقابلة صوفية شهيرة يعبرون عنها أحيانًا بألفاظ أخرى منها القشر واللب، الشريعة والحقيقة[50].

ومن أمثلته في الديوان قوله: (السريع)

لاَ تَنْكِرِ البَطِنِ في طَوْرِهِ

                     فإنهُ بَعْضُ ظُهورَاتِهِ

وَأَعْطِهِ مِنْكَ بِمِقْدَارِهِ

                    حَتَى تَوَفَّى حَقَّ إثْبَاتهِ[51]

فالتلمساني يريد في هذا البيت “أنه إذا لم يتحقق الصوفي بالباطن ويجعل له محلاً في نفسه، فإنه ببطن في الطريق أي لا يظهر”[52]، ولا يكون فيه شأن.

-خاتمة:

تجلى مما سبق جملة من النتائج نوجزها فيما يلي:

  • المصطلح عبارة عن اتفاق قوم على تسمية شيء باسم ما، ونظرًا لأهميته أصبح علمًا قائمًا بذاته له منطلقاته الخاصة كغيره من العلوم.
  • انفرد المتصوف بمصطلحات وألفاظ خاصّة بهم، لتكون وسيلة اتصال فيما بينهم، وخوفًا أن تشيع أسرارهم.
  • وظّف الشاعر التلمساني في ديوانه مختلف المصطلحات الصوفية سواء البسيطة أو المتقابلة أو العرفانية.

هوامش المقال: 

  1. عبد الله سليمان القفاري، نحو استراتيجية مدعمة بالحاسب لمعالجة ونشر المصطلح الطبي العربي، مجلة اللسان العربي، ع 43، 1997، الرباط، ص: 157.
  2. يوسف وغليسي، إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، بيروت، 1429ه، 2008م، ص: 42.
  3. الجوهري، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، لبنان، 1999، ج1، ص: 565.
  4. الأداء القاموسي العربي الشامل. عربي-عربي، هيئة الأبحاث والترجمة بالدار، دار الكتب الجامعية، ط1، بيروت، حرف الألف، ص: 48.
  5. ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، ط1، بيروت، 1997، مج: 2، ص: 08.
  6. مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، ط1، مصر، 2005، ص: 520.
  7. الشريف الجرجاني، التعريفات، مكتبة القرآني،ط1، القاهرة، ص: 34.
  8. إيمان السعيد جلال، المصطلح عند رفاعة الطهطاوي بين الترجمة والتعريب، مكتبة الآداب، ط1، القاهرة، 2003، ص: 34.
  9. مكتب تنسيق التعريب، معجم مفردات علم المصطلح، (مؤسسة إيزو 150 التوصية رقم 1087)، مجلة اللسان العربي ع 22-23، الرباط، المغرب، 1982، ص: 206.
  10. Felbrer, Standardisation of terminology,veinna, 1985, p 17.
  11. القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق: عبد الحميد محمود ومحمود بن الشريف، دار المعارف، د ط، القاهرة، د ت، ج 1، ص 442.
  12. عبد الرحمن بن خلدون، شفاء السائل إلى تهذيب المسائل نشره الأدب أغناطيوس عبده خليفة اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1995، ص: 71.
  13. جميل حمداري، المصطلح الصوفي: jamil hamdaoui. net
  14. عبد الله بكيري، التصوف في القراءة التاريخانية إلى التأصيل الابستمولوجي التاريخي، مجلة نماء لعلوم الوحي والدراسات الإنسانية، ع 18، 2022، ص: 70.
  15. محمد بن بريكة، التصوف الإسلامي من الرمز إلى العرفان، دار المتون، ط1، الجزائر، 2006، ص: 229.
  16. نفسه، ص: 292-232.
  17. نفسه، ص: 236.
  18. لسان العرب، ج6، ص: 305.
  19. عبد الرزاق أحمد القاشاني، كشف وجوه الغر لمعاني نظم الدّر ، شرح تائية ابن الفارض، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، لبنان، 2005، ص: 29.
  20. محمد بن عبد الرحمن الخميس، شرح الرسالة التدمرية، دار أطلس الخضراء، د ط، 2004، ص: 106.
  21. عفيف الدين التلمساني، الديوان، دراسة وتحقيق: يوسف زيدان، دار الشروق، د ط، د ت، ج 1، ص: 78.
  22. نفسه، ص: 67.
  23. نفسه، ص: 123.
  24. الجوهري، الصحاح، ج4، ص: 1525.
  25. محمود محمود الغراب، الحب والمحبة الإلهية من كلام الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، مطبعة الكاتب العربي، ط2، دمشق، 1992، ص: 83.
  26. الديوان، ص: 226.
  27. نفسه، الصفحة نفسها.
  28. ابن منظور، لسان العرب، مادة (شوق).
  29. مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مادة (شوق).
  30. الجوهري، الصحاح، مادة (شوق).
  31. الحكيم الترمذي، ختم الأولياء، تحقيق عثمان إسماعيل يحيى، بحوث ودراسات، معهد الآداب الشرقية، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص: 467.
  32. علي بن عطية الحموي، المدد الفائض والكشف العارض لشرح تائية عمر بن الفارض، تحقيق ودراسة أحمد الفريد المزيدي، دار الكتب العلمية، 2020، ص: 147.
  33. المعجم العربي الأساسي، منشورات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مصر، 1989، ص: 125.
  34. الديوان، ص: 104-105.
  35. نفسه، ص: 78.
  36. نفسه، ص: 121.
  37. ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، ط1، دمشق، 1979، ج4، ص: 403.
  38. [1] محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تح: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، ط2، 1964، ج16، ص: 335.
  39. إحسان إلهي ظهير الباكستاني، دراسات في التصوف، دار الإمام المجدد للنشر والتوزيع، ط1، 2005، ص: 299.
  40. نفسه، الصفحة نفسها.
  41. الديوان، ص: 98.
  42. نفسه، الصفحة نفسها.
  43. ابن منظور، لسان العرب، مادة (حجب)
  44. عبد المنعم الحفني، معجم مصطلحات الصوفية، دار المسيرة، ط2، بيروت، 1987، ص: 74.
  45. الديوان، ص: 125.
  46. لسان العرب، ج 15، مادة (محا)، ص: 271.
  47. نفسه، ج2، ص: 19-20.
  48. يوسف زيدان عبد الكريم الحلبي، فيلسوف الصوفية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، د ط، 1988، ص: 141.
  49. الديوان، ص: 136.
  50. نفسه، ص: 138.
  51. نفسه، الصفحة نفسها.
  52. نفسه، الصفحة نفسها.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of