+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

التصوير البياني في النص القرآني: قراءة في سورة الرعد نموذجا
أد. روقاب جميلة/ أ.د حاج هنّي محمد

مقدمة:

       تمتلك آيات القرآن العظيم أساليب فريدة في التصوير البياني البديع، القائم على عرض النماذج الحيّة في الكون والإنسان معا، وجموع الأحاسيس والمشاعر، فيما يكشف عن نعيم المؤمن، ويصف عذاب الكافر، وفيما يخصّ وصف الجنّة والنار، وفيما يصوّر علم المولى عزّ وجلّ بالغيب وإحاطته المطلقة بحال الكون ومن عليه.

       وفي هذا المساق، تسعى هذه المداخلة إلى الإجابة عن الإشكاليات التالية:

ما المقصود بالتصوير البياني؟ وما أهمّ ملامحه في النص القرآني على وجه الخصوص؟

1- جمالية الأسلوب القرآني:

       لعلّ ما ينماز به الأسلوب القرآني على غيره من الأساليب؛ تنوعه مرّة بالحقيقة وأخرى بالمجاز، وكذا اعتماده التعبير بالمشاهد الحسيّة واستثارته لعقول البشر، واحتكامه إلى العواطف، والتخييل الجيّد، وتوفره على وسائل الإقناع والاستمالة؛ إذ يمكن استخلاص معالم الجمال التصويري لسور القرآن الكريم، ولتكن سورة الرعد كنموذج للوصف والتحليل من خلال ما جاء فيها من معان ومشاهد منسجمة فيما بينها.

       وبالتالي  فإنّ أدنى تأمّل في سورة الرعد، تلك السورة المدنية التي تحتل الرتبة الثالثة عشر في تصنيف المصحف الشريف وفق الترتيب العام لسور القرآن الكريم، المسبوقة بسورة يوسف وبعدها سورة إبراهيم، وسورة الرعد يبلغ عدد آياتها ثلاثة وأربعين آية، وما احتوته من مشاهد ولوحات تصويرية فنيّة، تجعل المخلوق يستشعر عظمة الخالق، ومظاهر قدرته سبحانه عزّ وجلّ في تلك السماوات السبع المرفوعة بغير عمد، وفي الأرض وبسطها، وفي تعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، والجبال الراسيات وتثبيتها، وفي البرق والخوف منه والطمع فيه، وما في الأرض من زروع وحدائق وثمرات، والسحاب وما ينزل منه من ماء، وجريانه في الأودية سيلا ذا زبد، أو غير ذي زبد، وتصوير الرعد في صورة المسبِّحِ بحمد الله تبارك وتعالى.

       لذا تعدّ جمالية الأسلوب القرآني بمثابة المشهد المتكامل الذي، “تملأه العين، والأذن، والحسّ والخيال، والفكر والوجدان، تصوير حيّ ينتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجرّدة وخطوط جامدة ، هو تصوير تقاس فيه الأبعاد والمسافات بالمشاعر والوجدانات، فالمعاني ترسم وهي تتفاعل بين آدمية حسية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة”[1].

2- وجوه البيان في سور القرآن(الرعد نموذجا):

       تعدّدت وجوه البيان وتنوّعت في المتن القرآني، فهي كثيرة يمكن حصر بعضها لا كلّها فيما يلي:

أ- أسلوب القصر: في قوله تعالى:﴿اللهُ الذِي رَفَع َالسَّمَواتِ بغَيرِ عَمَدٍ تَرَوْنهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُسَمَّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لعََلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِكُمْ تُوقِنُونَ[2]؛ حيث يعلق  أحد المفسرين على هذا القصر الذي ينجر إلى تسخير الشمس والقمر لأنّهما من ملحقات صلة الموصول؛ أي الله وحده هو الذي رفع، واستوى، وسخّر، وفعل كلّ شيء سبحانه عزّ وجلّ.

ب- أسلوب الفصل: ويتجلّى عموما في قوله: ﴿تَرَوْنهَا، يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ[3]، فجاء الفصل ها هنا لكمال الاتصال، لأنّها جمل استئنافية وقعت جوابا لسؤال سائل.

ج- أسلوب التقابل والتضاد: ذلك لأنّ المعنى يجرّ ما يقابله، والضدّ أكثر خطورا بالبال، والعقل أسرع استجابة له وهو الذي يوضح الفكرة، ويعين على فهمها[4]، وبضدها تتميّز الأشياء، و”إدراك الأضداد عماد ذهنية يسيرة لا تحتاج إلى كدّ الفكر”[5].

       هكذا رأى المفسرون أنّ التصوير القرآني اتخذ الطبيعة مجالا يقتبس منه صوره من نبات وحيوان وجماد، بل نلفي الآية الكريمة تستمد عناصر التصوير من أقوى عناصر الطبيعة ألا وهو الماء؛ وفي ذلك على ما يبدو سرّ خلود التصوير، فبالماء يحيا كلّ شيء، مصداقا لقوله عزّ وعلا: ﴿وَجَعَلْناَ مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّاً[6].

       إنّ التصوير في ثنايا آيات سورة الرعد (نموذجا)، يُشعِر المرء بعظمة الحال، ففي قوله تعالى: ﴿يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ، يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَدِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ[7]، “فالمتأمّل طريقة الإيضاح وكيفية أداء المعنى إلى الذهن من خلال هذه الصور؛ إذ تلفّ في إطارها صورة تسبيح الرعد، ورؤية البرق، تلك الصورة ينجم عنها هذا التقسيم الجميل: الخوف، الطمع ولا ثالث لهما”[8]، أو بالنظر إلى الصور البيانية مثلا المذكورة في المتن القرآني.

3- الصور البيانية وقيمتها الفنية:

       لا يكاد يخلو النص القرآني بسوره وآياته من ألوان الصور البيانية، نحو التشبيه والكناية والاستعارة والمجاز…وهاهي سورة الرعد تستوقف قارئها مجدّدا بصورها على مشاهد ولوحات فنية بديعة، تبرز من خلالها دقّة التصوير والعظمة الإلهية، ومن جملة تلك الصور، ما ذكره المولى تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَ البَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ[9].

        لقد كنّى المولى عزّ وجلّ عن العلم بالأودية عن القلوب وبالزبد عن الضلال، واستدلّ أحد علماء البلاغة على الكناية بهذه الآية الكريمة مصرّحا بالقول:” وقد رأيت جماعة من أئمة الفقه لا يحققون أمر الكناية، وإذا سئلوا عنها عبّروا عنها بالمجاز، وليس الأمر كذلك وبينهما وصف جامع كهذه الآية وما جرى مجراها، فإنّه يجوز حمل الماء على المطر النازل من السماء، وعلى العلم، وكذلك يجوز حمل الأودية على مهابط الأرض، وعلى القلوب، وهكذا يجوز حمل الزبد على الغثاء الرابي الذي تفتقده السيول وعلى الضلال”[10].

       وما يهمّ في هذا المقام، كيف لابن الأثير أن يجعل للكناية جانبي حقيقة ومجاز في تحديده معنى الكناية، إذ لا أثر لذلك في الآية الكريمة، فالتصريح فيها بالحقيقة ظاهر لا غبار عليه.

       وللوقوف على طبيعة المشهد التصويري أيضا، يستوقفنا قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ[11]، في هذه اللوحة التصويرية الرائعة انسجام واتساق بين ليونة الألفاظ والجو الحضري،  اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ[12]، والتشبيه في قوله:﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ[13]؛ إنّه تشبيه تمثيل بحكم وجه الشبه منتزع من متعدّد، بل هو من أروع التشبيهات الغنيّ بالمقابلات الجزئية بين أجزاء المشبه، وأجزاء من المشبه به.

       هذا وقد حفلت السورة بكثير من الصور البيانية الأخرى، التي تنتظم إنكار الكفار للبعث والنشور، واستعجال العذاب، فضلا عن تصوير أولئك المشركين ولجوءهم إلى ما لا ينفع ولا يضرّ، وتمثيلهم بذلك الذي بسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، فلا يصل إليه، حيث يتجلّى هذا المشهد وغيره من المشاهد في المعاني التالية: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذَا كُنَّا تُرَابًا إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيْدٍ وَأُولَئِكَ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَأُولَئِكَ الأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَاِلُدوَن، وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاَتُ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِم، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ، وَيَقُولُ الذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ[14]، وقوله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلِ[15].

       وما يشدّ بحقّ عقول ومشاعر الناس عند تلاوة القرآن الكريم بعامة وسورة الرعد بخاصة، ذلك التصوير الذي أثاره مصدر التعجب من الكفار وشكهم في إعادة خلقا جديدا، فمن بديع ذلك التصوير الفني ” التنسيق بين غل العقل وغل العنف؛ فالأوّل معنوي والثاني حسي عبّر به لاكتمال الصورة في الذهن عن جزائهم بالنار على الكيفية الرهيبة جرّاء تعطيلهم مقومات التفكير والتدبير التي بها أكرم الله بني الإنسان، لكن هؤلاء الكفار يأبون هذا التكريم ويعطلونه”[16].

       وعطفا على ما سبق، اشتملت سورة الرعد في ثناياها على العديد من الصور البيانية التي زادتها براعة وجمالا، من ذلك استعارة لفظ الأغلال لتشبيه عوامل الكفر بها، مع خروج الاستفهام في قوله: ﴿ أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً[17] على معناه الحقيقي ليفيد بدوره غرضا بلاغيّا آخر ألا وهو الإنكار والتعجب.

       إضافة إلى معنى إذا في قوله تعالى: ﴿أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً[18] وخروجها هي الأخرى عن المعنى المحقق إلى المعنى المشكوك فيه؛ لأنّ “استحالة أجساد الناس إلى تراب يراه سائر البشر، فليسو يشككون فيه إلاّ أنّ الكفار كبر عليهم استعادة تلك العظام والأجساد صورتها الأولى يوم البعث”[19]؛ أي يوم القيامة والله أكبر.

       ناهيك عن الاستعارات الأخرى التي لا يسع هذا البحث المتواضع ذكرها جملة وتفصيلا، لهذا وقع الاختيار على بعض منها في قوله تعالى: ﴿وَبِئْسَ المِهَادْ[20]؛ إذ أطلق لفظ المهاد وهو المكان الممهد الموطأ، وأريد به مكان تعذيبهم في جهنّم غير الممهد ولا الموطأ والغرض من تلك الاستعارة التهكم والاستهزاء، فليس ما وعدوا به خيرا مما هم فيه من حال وسوء مآل[21].

خاتمة:

  وصفوة القول، أنّ تقصي بدائع التصوير البياني في كلّ آية من آيات المولى عزّ وجلّ يجعل المفسرين والقراء والناس عموما عاجزين مبهورين أمام تلك العظمة الإلهية، والقدرة الربّانية التي لا تزول أو تنقضي عبر الزمن، فما ذكر في هذه الصفحات قليل من كثير كان  محاولة بسيطة لإبراز روائع الفنّ البلاغي، والتصوير البياني الذي تتزيّن به كلّ آيات الرحمان، بل كلّ عبارة أو جملة من تراكيب القرآن الكريم.

هوامش المقال: 

[1] – ينظر: التصوير الفني في القرآن الكريم، السيد قطب، طبعة:1376هـ- 1966م، ص:35.

[2] – سورة الرعد، الآية:2.

[3] – المصدر نفسه.

[4] – ينظر: الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، المطبعة الأزهرية، مصر، ط:2، 1343هـ- 1965م، ص:131.

[5] – ينظر: روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود الألوسي، مطبعة إحياء التراث العربي، بيروت، ص:139.

[6] – سورة، الآية.

[7] – سورة الرعد، الآيتين:12و13.

[8] – ينظر: الصيغ البديعة، أحمد موسى، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1380هـ- 1969م، ص:33.

[9] – سورة الرعد، الآية:17.

10- ينظر: المثل السائر، ضياء الدين نصر الله بن الأثير، المثل السائر، تحقيق: محي الدين عبد الحميد، مطبعة الحلبي،  ج:2، د.ط، 358هـ، ص:204.

[11] – سورة الرعد، الآية:17.

[12] – تفسير أبي السعود، أبو السعود محمد العمادى الحنفي، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، مطبعة السعادة، مصر، د.ط، ص:213.

[13] – سورة الرعد، الآية، ص:17.

[14] – سورة الرعد، الآية، ص:5.

[15] – سورة الرعد، الآية:14.

[16] – تفسير ظلال القرآن، السيد قطب،  دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط: 3، د.ت، ص:91-92.

[17] – سورة الرعد، الآية:5.

[18] – المصدر نفسه، الآية نفسها.

[19] – ينظر: سورة الرعد دراسة أدبية وفكرية ولغوية، عبد الرحمن حنبكة الميداني، ط:1، 1391هـ- 1971م، ص:69.

[20] – سورة الرعد، الآية:18.

[21] – ينظر: التعابير القرآنية والبيئة العربية في مشاهد القيامة، ابتسام مرهون الصغار، مطبعة الآداب، النجف، ط:1، 378هـ، ص: 261، نقلا عن الصحاح للجوهري ولسان العرب لابن منظور.

*جامعة الشلف/ الجزائر

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of