+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

قصة قصيرة مترجمة: مراقب الملح
للكاتب بريم تشاند، نقلها إلى العربية د. قمر شعبان

عندما أنشِئت مصلحة الملح، وفُُرِِضَ الحظرُ على التمتع بنعمة إلهية عامة، ووُصِّد الباب الرئيسي للمصلحة أمام الشعب، فراحوا يدبرون شتى  الحِيل.

لقد كان النهب والخيانة والطمع سائدا في المجتمع، وطفق الناس يتوظفون في مصلحة الملح مستقيلين ومنعزلين عن الوظائف الرابحة والمحترمة الأخرى، حتى غدا المحامون أيضا يغبطون مراقب الملح، وذلك في عصر، كان تلقي اللغة الإنكليزية، ودراسة الديانة المسيحية فيه شيئين مترادفين، وأما تعلم اللغة الفارسية فكان سبب فخر واعتزاز. وكان الناس، إبان ذلك،  يملكون جدارة تقلد المناصب العليا بدراسة قصص العشق والغرام؛ فبعدما أنهى المنشئ بانسي دهار قراءة قصة زليخا ظن أن قراءة قصص مجنون ليلى، وشيرين فرهاد فوق القدرة. فخرج المنشئ باحثا عن العمل، وكان أبوه شيخا بعيد المدى؛ فجعل يُقنعه وينصح له: “بُنيَّ، أنت تعرف جيدا ماهي ظروف المنزل، أعناقنا محملة بأعباء الديون، وكل مولود يولد في البيت ليس هو إلا الأنثى، الأولى هي الأنثى، والثانية هي الأنثى، والثالثة هي الأنثى؛ فتولد الأنثى واحدة تلو الأخرى؛ وأما أنا فمثلي كمثل شجرة كادت تُستأصَل جذورُها، فتسقط هاوية على الأرض؛ لقد آلت الآن أمور المنزل كلها إليك، فلاتبال بالمنصب والراتب؛ فإن الراتب كمثل مرقد الناسك، فعليك التطلع إلى الهدايا والقرابين والنذور، فابحث عن وظيفة يتضاعف فيها المال من هذا القبيل، فإن الراتب الشهري، مثله كمثل البدر؛ ينير ليلة ثم يتضاءل نوره حتى ينطفئ في غياهب الليل. والمال المرشو، مثله كمثل النبع الدفاق، يرتوي منه الظامئ بشكل دائم. الراتب من البشر، فلابركة فيه؛ والرشوة من الغيب فهي رابحة ذي بركة. وأنت مثقف وخبير فلا داعي إلى مزيد من الشرح والتفهيم. إن الرشوة، يا بُنيَّ، شيء وطيد الصلة بالغريزة وبعد النظر؛ تفرَّسِ الزبائن، وحاجاتهم، والفرصة السانحة، ودبِّرِ الحيل؛ وعليك القساوة والتماطل مع الشخص الأناني الشح؛ ولكن يستحيل لك التعامل معه، اسمع مني وع جيدا؛ فإنه حصاد تجارب السنين.           

بعد هذا النصح، دعا له والده، وأنصت إلى ذلك ابنه المنشئ بانسي دهار إنصات ولد بار رشيد، ثم انطلق مُدوِّخا هذه الدنيا الفسيحة الرحبة، حيث الصبر هو رفيق درب الإنسان، وطموحه هو المساند المعاضد له، وجهده هو مُعلِِّّمه ومربيه؛ ولكن بانسي دهار كان متسما بالحيوية والتفاؤل، إلى جانب كل ذلك، بدل أن يكون متشائما؛ فمن حسن حظه تولى منصب مراقب الملح مع راتب مناسب، من دون نقود مالية إضافية. ولما تلقى والده المُُسن رسالة تعين ابنه تهلل بشرا، وصدّقه جاره بائع النبيذ، فبدأ الجيران الآخرون يحسدونه، وتبدّلت قساوة الرأسماليين برفق ولين. 

وفي الشتاء، كان خوادم مصلحة الملح يبيتون لياليهم حراسا في الحانات، ولم تمض على مجيء بانسي دهار هنا إلا ستة شهور، إلا أنه لقد نال إعجاب كبار الإداريين في هذه الفترة القصيرة من الزمن، ولكن الشعب استهجنوه. كان بالجانب الشرقي لمكتب مصلحة الملح على بعد ميل نهر يامونا، تسبح عليه السفن. ففي ليلة من الليالي، كان مراقب الملح نائما نوما حلوا، إذ هبَّ من النوم، وإذا بضجيج وعجيج للسيارات بدل أن يسمع أنغام نسمات النهر الجاري في الليلة الهادئة، و وصلت إلى أذنيه أصوات المجدِّفين والملاحين، انتهض من فراشه بالتو : “لم كل هذه السيارات هنا في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ ما وراءها؟” لقد تغير شكه بيقين، ارتدى الزيَّ، ووضع الطبنجة في جيبه، وامتطى جواده، ووصل في لمح البصر إلى ضفة النهر؛ فإذا بسيارات مصطفة إلى حد بعيد تهبط من الجسر، سأل في أسلوب آمر: “لمن كل هذه السيارات”؟.

ساد صمت رهيب لهنيهة، وطفقوا يتهامسون فيمابينهم، إذ رد عليه سائق آخر: “للباندت ألوبي دين”.

“من الباندت ألوبي دين هذا”؟ 

“من منطقة داتا غانج”. 

تنبه المنشئ بانسي دهار، كان ألوبي دين عقاريا بارزا و كبيرا في هذه المنطقة، صاحب مآت الألوف من الكمبيالات، إضافة إلى اتجار الحبوب والغلال، ذو نفوذ قوي، و مكانة عظيمة في دوائر السلطات، وأما كبار الإداريين الإنكليز  فكانوا يأتون منطقته صيادين فينزلون عليه ضيوفا كراما. تظل داره مزارا للناس على مدار السنة. سأل المراقب: “إلى أين هذه السيارات”؟. ردوا عليه: “إلى مدينة كانبور”، ثم طبق صمت مدهش في سؤال: “ما في هذه السيارات”؟، وذلك ما بدّل شكه بيقين، وعندما لم يردَّ أحد على سؤاله، صاح عليهم المراقب صيحة ضاجرا متهددا: “أأنتم بُكم؟ هلا سألتكم: ما في هذه السيارات”؟.

وبعدما لم يجد الجواب هذه المرة أيضا، ربط حصانه بإحدى السيارات، وأخذ يتجسس ما بها، فتأكد من أن هذه قطعات الملح.

كان الباندت ألوبي دين في طريقه إلى الأمام راكبا سيارة مزينة بزينة، مرتاح البال، شبه نائم، إذ أيقظه بعض السواق مذعورين خائفين: “سيدي، لقد أوقف المراقب جميع السيارات على المرفأ، ويطلبك الآن”. 

كان يدرك الباندت جيدا ماهي قيمة النقود المالية؟ وقد جربها في حياته مرارا وتكرارا، للمال سيطرة وتسلط لافي الدنيا فحسب، بل في الآخرة أيضا. وصح من قال: “إن القانون، والعدالة، والمحاكم كلها ألاعيب في يد المال، يتلاعب بها كيفما شاء؛ نطق الباندت، وهو مسترخ على مقعده، في أسلوب متغطرس من دون مبالاة: “اذهب سآتي على أثرك”. ثم ألقى قطعة تنبول في فيه، وخاطب المراقب المتدثر لحافا بالتعامي: “سيدي…….تحياتي……! هل لي من خطأ حتى أوقفتَ سياراتي كلها؛ رفقا بنا نحن البراهمة يا سيدي!. عرف المراقب بانسي دهار أنه هو الباندت ألوبي دين، فرد عليه: “أمر الحكومة”! فتبسم الباندت ضاحكا وقال: “لا نستسلم لأمر الحكومة، ولاندري ماهي الحكومة؟ حاكمنا الآن هو أنت ولاغير، فإن بيننا صلة عائلية ودية، فهل يمكننا التغاضي عنك، لقد تكبدتَ مشقة إيقاف السيارات عبثا، كيف لنا أن لا نقدم القرابين والنذور على رب هذا المرفأ، كدنا أن نزورك” . لم تؤثر هذه المراوغة المالية الحلوة في المراقب بانسي دهار أيما تأثير، فإنه متحمس بعواطف الأمانة، والصدق، فقال متوعدا: “لست من الحراميين الذين يبيعون إيمانهم بثمن بخس دراهم معدودة، فإنك أنت الأسير الآن، ستدفع الغرامة صباحا، وكفى”. وأمر الحارس بادلو سنغ بالقبض عليه، قائلا: “هذا هو قراري”. لقد عمت الضوضاء والغوغاء فيما بين أصحاب ألوبي دين، وخدامه، وحراسه، وسواقه، لعل هذه هي المرة الأولى في حياته أنه فوجئ بمثل هذا الاستياء. أقبل بادلو سنغ؛ ولكنه للرعب المُفرط لم يقدر على القبض عليه، ولم يكن يجرب ألوبي دين أيضا طوال حياته أن الواجب المسؤول في غنى عن الرشوة لهذا الحد. لقد غُشي عليه، فقال في نفسه إن هذا المراقب حديث العهد بوظيفته وعمله، ولم يذق قط ما للمال من لذة ومتعة، ربما هو الأبله أو المذبذب؛ فلابد من مداهنته أكثر، فخاطب المراقب متبسما ضاحكا من جديد: “سيدي لاتعتد علي، وإلا لأوقعتني على هاوية الذل والتدمير، ولاينفعك كل ذلك إلا تكريمة تكرِّمك بها الحكومة تقديرا لبطولتك؛ إننا لسنا بأجانب”. فرد عليه بانسي دهار (منضجرا): “لانريد سماع هُراءاتك”. وبالتالي، كادت تنزلق وتنكمش من تحت قدميه الدعامة التي كان يعتمد عليها الباندت ألوبي دين ظنا بأنها هي الصخرة الصلدة، لقد تزحزحت بعد ذلك ثقته بنفسه، وغروره بالمال والثروة؛ ولكنه ما انفك متفائلا بحيلة زيادة مبلغ الرشوة من المال أضعافا مضاعفة، فأمر خازنه بأن يعطي المراقب ألف روبية؛ فإن مَثَلَه الآن كمثل الأسد الجائع.

اشتعل المراقب غضبا، وقال: “لن يحول بيني وبين واجبي مئة ألف روبية فضلا عن ألف روبية هذه”؛ لقد تزلزل كيان غروره بالمال إزاء هذا الموقف الحاسم للمراقب، واستغنائه، وأمانته، ما أدى إلى نشوب عراك قوي بين القوتين: قوة المال والرشوة، وقوة الواجب والأمانة؛ لقد هجم المال عدة حملات بعاطفة من اليأس، معتمدا على أضعاف مضاعفة من ألف روبية إلى خمسة آلاف، إلى عشرة آلاف، ثم إلى خمسة عشر ألف روبية، إلى عشرين ألفا، ولكن الأمانة مابرحت صامدة أمام هذه العاصفة الهوجاء كالجبل الشاهق، ولم تذعن له أيما ذَعَن. 

لقد يئس الباندت ألوبي دين، فنطق مستكينا مفتور البال: “لن أستطيع فوق ذلك، والآن، الخيار لك”. نادى المراقب بانسي دهار حارسَه، أقبل عليه بادلو سنغ متجمها، فتخلف سيادة الباندت بخطوات خوفا ورهبة، وتكلم ببؤس واسترفاق: “بالرب، لاتؤاخذني؛ فإني مستعد لتسوية القضية بخمسة وعشرين ألف روبية”.

المراقب: “مستحيل”.

الباندت: “ثلاثون ألفا”.

المراقب: “لايمكن”. 

الباندت: “ألايمكن بأربعين ألف روبية”.

المراقب: “لايمكن حتى بأربعين مليون روبية فضلا عن أربعين ألفا”. اعتقله بادلو سنغ توا، وتحركت شفتا المراقب: “لن أسمع حتى كلمة واحدة بعد الآن”.

لقد داست الأمانةُُ الرشوةًَ تحت أقدامها دوسا، رأى الباندت ألوبي دين شابا قوي البنيان ومعه الأغلال؛ فحدّق النظر المتشائم التاعس حواليه، وخر صعقا على الأرض.  

كانت الدنيا في سبات عميق، ولكن لسانها لازال يقظا متنبها، فلما بلج الصبح، انتشر في المدينة خبر اعتقال الباندت كالنار، وأصبح ذلك حديث البلد، بدأت تتردد وتعلو في كل الأرجاء أصوات الزراية واللوم والهوان، كأن الدنيا طُُهِّرَت من أدناس الذنوب والمعاصي؛ فإن الباندت ألوبي دين هو ذاك الرجل الذي لطالما يخضع له الحكام البائعون للمياه باسم الحليب، ويذعن له الأمراء الذين يركبون القطر من دون تذاكر، وينقاد له الرأسماليون الذين يعدون المستندات المزيَّفة؛ ولكن عندما حان موعد الاستجواب في اليوم التالي، و سيق إلى المحكمة أسيرا مغلولا مطأطئ الرأس خِزيا وعارا، تأججت المدينة بأسرها بالضجة والشغب، وتجمهر الشعب من كل فج وحدب، واكتظت باحات المحكمة بمشاهدي افتضاح الباندت ألوبي دين على رؤوس الأشهاد. 

ولكن الباندت كان أسد هذه الغابة، يُكِنُّ له أصحاب السلطة التبجيل، ويحترمه المسؤولون الإداريون، ويتدلل به المحامون والقضاة، وأما الخوادم والحرسة والموظفون فكانوا بمثابة عبيد مبتاعين، فما إن وصل الباندت إلى المحكمة لقد هرعوا إليه جميعا حيارى مبهوتين؛ لا لأنه ارتكب جريمة، بل لأنه تم القبض عليه، وسيق إلى المحكمة؛ فإنه ذاك الشخص الذي يملك من المال ما يستطيع به أن يبدِّل  العسر يسرا، والمستحيل ممكنا؛ ويمتلك من طلاقة اللسان وناصية البيان ما يسحر به العفاريت، ويأخذ بمجامع القلوب؛ فلم الآن هو فريسة بيد القانون؟ فجعلوا يشفقون عليه تأسفا على وصوله إلى مثل هذا الموقف المدهش . 

اجتمع على الفور طائفة من المحامين لمرافعة قضيته، والدفاع عنه، وبدأت المحاكمة بين المال والواجب، وبين الأمانة والارتشاء. كان بانسي دهار واقفا بإحدى زاوية المحكمة ساكتا منعزلا، ولم يكن له رفيق ما عدا الأمانة والوحدة؛ ولا سلاح معه سوى الصراحة والصدق؛ كان لا بد للمستغيث من الشاهد. ومن جهة أخرى، كان القضاة والمحامون كلهم ميالين إلى الباندت رغبة في “المال”. هذا صحيح، أن العدالة في غنى عن الدينار والدرهم، ولكن يا لها من فتنة المال التي تعمل عملها إن لم تكن علانية فسِرًّا من وراء الأستار! وعلى الرغم من أن هذه هي المحكمة، ولكن أصحابها جميعا متهافتون على المال تهافتا. سيتم الحكم على القضية في أسرع ما يمكن، كتب مساعد القاضي القرار النهائي، أن الشهادات ضد الباندت ألوبي دين غير قابلة للأخذ بعين الاعتبار؛ فإنها شهادات زور؛ إن الباندت رجل غني، و مالك للإقطاعيات، فإنه بريء تماما من أن يرتكب أمثال هذه الجريمة الشنيعة من أجل ألوف معدودة من الربح؛ فحُكِم ضد مراقب الملح المنشئ بانسي دهار على الأقل باتهام إجراء مهمة تافهة، وخطأ مؤسف.

ونحن سعداء أنه شاب يدرك أهمية المسؤولية والواجب، ولكن قدرته على التمييز بين الصحيح والغلط جد متدهورة من أجل شعوره المُفرط بالأمانة، فعليه التحذر جيدا.

بعدما سمع المحامون هذا الحكم طاروا به سرورا، وخرج الباندت من غرفة المحكمة ضاحكا مبتسما، وأمطرت عليهم الدنانير والدراهم، وفاضت سيول من السخاء والكرم والرحابة والسعة، لقد زعزعت أمواجها القوية أركان المحكمة والعدالة. ولما خرج المنشئ بانسي دهار من المحكمة، فاضت عيناه فخرا، أضحت أصوات الطعن والاستهزاء تعلو وترتفع، قدَّم الخوادم والحراس تحاياهم خاضعين، ولكن هذه الحادثة لم تكن أقل من زلزال عنيف. كان هادئ البال، يمشي الهوينا إلى الأمام بكل شرف واعتزاز، لقد لقنته الدنيا  الدرس الأول، أن العدالة والإنصاف والألقاب والأزياء والخلع والمناصب لاتستحق الاحترام والتقدير أيما استحقاق.

ولكنه عادى الثروة والنفوذ، فكان عليه الآن أن يدقع ثمن هذا العداء؛ فلم يمض أسبوع إلا وقد تلقى رسالة إقالته عن العمل؛ نال جزاء واجبه وأمانته، عاد إلى وطنه مكسور الخاطر بائسا، كان أبوه الطاعن في السن يسيء الظن به من ذي قبل؛ فكان نصح له عند الوداع، ولكنه لم يمتثل نصيحة والده. سخط أبوه؛ فبدأ يتفوه مخاطبا ابنه في مخيله: “هنا، يتقاضى الجزار وبائع النبيذ والآخرون تسديد ديونهم، وإنني مُسن ومتقاعد، أقضي أيامي متعبدا؛ وهذا هو الراتب القليل، إنني أيضا، لقد كنت اشتغلت موظفا؛ ولم أكن صاحب منصب، ولكني كل ما كنت عملت عملت بقلب منفتح، وأما أنت فتمثل الأمانه، والصدق. تنير السرج والمصابيح في المعابد؛ وبيتك في ظلام حالكٍ؛ ويل لمثل هذا العقل! لم تُجدِ تربيتي وتثقيفي إياك نفعا”. وأثناء ذلك، وصل ابنه المنشئ بانسي دهار إلى بيته تاعسا مكتئبا، وأنصت أبوه المسن قصته، فاشتعل غضبا، وقال: “أريد أن أفجر رأسي ورأسك”، وظل يتأسف ويتأفف لمدة غير قصيرة، وألقى عليه اللؤم، وعسى أن يتبدل غضبه ضربا مبرحا ما إن لم يخلِّ بانسي دهار مكانه بالتو، قلقت أمه العجوز أيضا، وخابت آمال جاغناث وأميشوار، ولم تنطق زوجته معه أياما إلا باستفزاز واشمئزاز. 

وهكذا، مر أسبوع بالمعاناة من تجهمات الأقارب، ومشاعر الأعزة المثبطة. وذات مساء، كان أبوه الهرم عاكفا على التعبد والتسبيح، إذ وقف قبالة بيته مركب مزخرف مغطى بالستائر الوردية والمخضرَّة، يسوقه ثوران من أفضل الأنواع، في أعناقهما حِبال زرقاء، وأقرانهما مطلية بالمياه النحاسية، لقد هرول إليه أبوه مرحبا به، إذا هو بالباندت ألوبي دين؛ فقدم إليه التحية بتواضع وانحناء، وبدأ يكالمه مراودا إياه بتدبير وفطنة: “بأي وجه سألاقيك، وجهي ملوَّث بالذنوب، ولكن ماذا سأفعل؟ إن ابني متبلد عنيد، وإلا لم أك مستور الوجه أمامك-لا رزق الرب ولدا مثله-. رأى بانسي دهار الباندت ألوبي دين فحياه وصافحه، ولكن بإباء وغيرة واستغناء؛ تفرس أنه جاء يطلبه، ولكنه لم يعتذر إليه، وكره مراوغة والده إياه، إذ استأنف الباندت كلامه قائلا: “لا يا أخي لا تقل هكذا”.

أخطأ أبوه في تكهناته، فنطق حائرا متعجبا: “كيف أواصف ولدا مثله”. تلفظ الباندت ألوبي دين متحمسا: “عليك أن تحمد الرب، الذي رزقك ولدا بارا يفتخر به؛ والذي هو سبب فخر وسمعة جميلة للآباء، فما أقل من يضحي بكل ما يملك من ثروة ومنصب من أجل الأمانة والصدق والواجب! لقد كنت اعتقلتني تلك الليلة بحكم السلطة يا سيادة المراقب، ولكنني أتيتك اليوم أسيرا لك بنفسي؛ لقد جربت في حياتي آلاف الإداريين وأصحاب السلطة والضباط، وآلاف الأثرياء وأصحاب المناصب ورؤساء المكاتب، ولكنك أنت الوحيد الذي صرعتَني وغلبتَني. لقد كنت استعبدتهم جميعا لي ولمالي. هل لي أسألك شيئا؟ توسم المنشئ بانسي دهار شيئا من الإخلاص في هذا الكلام، رأى وجهه بنظرة عابرة ولكن بتفرس، تجلى له فيه الصدق تجليا واضحا، فرد عليه بقدر من الندم: “هذا من كرمك، لقد كان الواجب أجبرني على إساءتك، وإلا لست أنا إلا تراب من تحت قدميك، وسوف لن أعتذر إلى امتثال أوامرك قدر المستطاع، فأمرني بماشئت”.

تكلم الباندت بعيون مرتجية :”لقد كنتَ رفضتَ طلبي على ضفة النهر تلك الليلة، ولكن عليك تحقيق ما أطلبك الآن”..

رد المنشئ بانسي دهار :”لست جديرا بذلك، ولكني لن أحجم عما بوسعي من خدمة”. 

أخرج الباندت مرسوما قانونيا، وقال له: “اقرأ هذا الخطاب، ووقع عليه، وسوف لن أغادر ديوانك ما دمت لم تحقق طلبي” . 

ولما قرأ المنشئ خطاب اعتماد هذا، انهمرت عيناه بدموع الامتنان، لقد فوض إليه الباندت  ألوبي دين السلطة الكاملة لمراقبة كل ما يملكه من مال وضياع واتجار، بستة آلاف روبية راتبا سنويا، علاوة على النفقات اليومية، والخيل، والتصرف اللامحدود في كل شيء.

تكلم المنشئ بانسي دهار في صوت مرتعش: “كيف لي أن أشكرك على هذه العطاءات السخية الفياضة، ولكني أقول لك بصدق إني لست جديرا بهذه المناصب”. 

الباندت ألوبي دين: “لاتمتدح نفسك بلسانك”.

المنشئ بانسي دهار: “هكذا،  صرتُ عبدك، لي الفخر بأن أخدم شيخا يتسم بالنورانية مثلك، ليست لدي ثقافة، وحكمة، وخبرة أستطيع بها ستر مابي من نقص وخلل؛ فإن كل هذه المهمات العظيمة والمحترمة تقتضي إداريا خبيرا ومحنكا. 

أخرج الباندت ألوبي دين قلما ووضعه بيد المنشئ بانسي دهار قائلا: “لست بحاجة إلى الثقافة والحكمة والخبرة؛ لقد جربت الكثير من أصحاب هذه السمات والمواصفات مرارا وتكرارا، ولكن شاءت الأقدار، وحالفني النصيب الآن، أنني وجدت الدرة اليتيمة التي بات بريق الثقافة والحكمة أتفه أمامها، ها هو ذا إليك القلم؛ لاتتأمل كثيرا، ووقع على الخطاب بلطف، أدعو الرب أن تبقى أنت ذلك المراقب العنيف العنيد الصارم الحاسم،  الذي سبق أن مثَّل الأمانة، والصدق، والشعور بالمسؤولية والواجب تلك الليلة على ضفة النهر”.

فاضت بعيد ذلك قريحة المنشئ بانسي دهار، ودمعت عيناه فرحا، ونظر إلى الباندت ألوبي دين نظرة إجلال وخضوع مرة أخرى، ووقَّع على خطاب اعتماد بأيد مرتعدة، وامتلأت نفس ألوبي دين سرورا وبهجة، وعانقه معانقة. 

**********

*د. قمر شعبان، أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، كلية الآداب،  جامعة بنارس الهندوسية، فارانسي، الهند

      

        

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of