+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

الاعتزازُ بالعربية ترياقُ الهجينِ اللُّغويّ
أد. جميلة روقاب

 الملخص:

        نسعى من خلال هذه الورقة البحثية المسمّاة: “الاعتزازُ بالعربية تِرْياقُ الهجينِ اللّغويّ”. الإجابة عن الإشكالية التالية: هل كان اعتزاز العرب بلغتهم ترفًا فكريًّا أم ضرورة حضارية ملحّة؟ وهو العمل الذي اضطلع به عُشّاقُ اللّغة العربية الطّموحون الذين لم يذخروا أيّ جهد في الارتقاء بها وخلق مختلف الحلول الكفيلة للاعتزاز بمكانتها بين اللغات الأخرى في ظل الاهتزاز اللغوي الذي خلّفه الصراع بين لغات العالم.

الكلمات المفتاحية:

اللغة العربية؛ الاعتزاز، اللغات الأجنبية، اللهجة، الهجين اللغوي.

مقدمة:

        اللغة العربية هي لغة القرآن ولغة النّبيّ العدنان ومن المغالطة بمكان وجود إنسان عربيّ عاقل مسلم ينبذ لغته الّتي نزل بها القرآن العظيم، إلى الحدّ الذي يحمله على التوجّه إلى تطليقها واستبدالها بلغة أجنبية  أخرى غريبة عنها وعنه! ومن السّائرين في هذه الدّعوة أولئك الذين يجهدون أثناء التخاطب بلغتهم الأمّ في إقحام كلمات وجمل بلغات أجنبية يستعرضون بها عضلاتهم اللغوية ثمّ يقفون عندها يفركون الجبين ويسألون محادثهم كيف يعبّرون عنه بالعربية، فهم بحقّ أصحاب نفوس مريضة يقنعون- بذلك التصرّف- أنفسهم بأنّهم مثقفون.

        بينما تمثل لغتنا العربية حضارة عريقة أنارت سبيل الإنسانيّة إلى التقدّم والتطوّر على مرّ العصور، إنّها مفتاح الباب المؤدّي للثقافة والتاريخ لثقافة غنيّة بالآداب والعلوم والمآثر لحضارة سادت الدنيا ونمت وربت حتّى بلغت القاصي والدّاني مازالت آثارها باقية إلى اليوم، وليست هي مجرد حروف وأصوات يتفاهم بها ربع البشرية في الكرة الأرضيّة، ولقد افتخر العرب بلغتهم التي ليست كباقي لغات العالم، فهي لا تعدّ وسيلة لأداء المعنى فحسب، لكن لأدائه بأجمل صورة من صور اللفظ. إنّها لغة البديع؛ والبديع مقصور على العرب، ومن أجله فاقت لغتهم كلّ لغة، وأربت على كلّ لسان[1]، ففقدانها يعني فقدان منظومة فكرية تحمل رصيدا حافلا من الأفكار والقيم والأدب وغيرها من منتجات العقل البشري، ويوم اعتزت اللغة العربية بعزّة الإسلام، وعاشت أزهى وأوفى عطائها عرفت عقدة نقص، أو قابلية استيلاب، فوطنت الوافد الذي يفرضه التفتح، من غير تفريط الذاتي الذي تحتمه الأصالة[2].

        وعليه أخذ الاعتزاز بالعربية مفهوما أكثر دلالة على عمق الوعي العربي، إذ رأى العرب فيها رمز كيانهم ووحدتهم، فهي النسب الدائم الواضح لهم. كيف لا والاعتزاز بالعربية هو تعبير عن الاعتزاز بالقومية.

يقول الشاعر أحمد تقي الدين:

لُغتي عُرى قومي فإن أهملتها***أوهنت في الأوطان أوثق عُروة

        اللغة العربية هي لغة محبّبة لأنها أقدم اللغات التي حافظت على وجودها، وعلى مفرداتها وصيغها ومفاهيمها البلاغية والمعجمية إلى اليوم، وذلك مقارنةً مع بعض اللغات الأخرى التي لم تحافظ على وجودها، واندثرت وحلت لغات أخرى مكانها[3]، وهذه هي طبيعة الفصاحة العربية دون سائر اللغات، وبها أمكن الإعجاز في هذه اللغة ولم يمكن في سواها.

        والفصاحة في جملتها وتفصيلها إحكام التناسب بين الألفاظ والمعاني، والغرض الذي يتجه إليه كلاهما؛ فمتى فصل الكلام على هذا الوجه وأحكم على هذه الطريقة، رأيت جماله واضحًا بينًا في كل لفظ تقوم به العبارة، من النسج المهلهل الرقيق، إلى الحبك المحكم الدقيق، إلى الأسلوب المندمج الموثق الذي يسرد في قوة الحديد؛ إذ يكون كل حرف لموضعه، ويكون كل موضع لحرفه، ويكون كل ذلك بمقدار لا يسرف، وقياس لا يخطئ، ووزن لا يختلف[4].

  1. الاعتزاز ترياق الهجين اللغوي:

        تعاني الدّول العربيّة في عصرنا من غزو لغات الشعوب الغربيّة، مما أدَّى إلى انقطاع الصلة الرحم اللغوية بين الإنسان العربيّ ولغته، وفقدان جذوره ومناعته اللغويّة، وتهميش معالم حضارته وثقافته فأصبح العربيّ بلا هوية أو كيان، لا سيَّما أنّ اللغة الأهمّ في عالمنا العربي أصبحت هي لغة البلد المستعمر من دون إعارة العربية أدنى اهتمام.

        كيف لا وقد أثرَّ الاحتلال الغربيّ على لغتنا بشكلٍ سلبي، ودعا إلى إحلال العاميات محلّ الفصحى بزعم منه أنّها لغة صعبة على الألسنة والآذان والأفهام، وسبب في التخلّف وضياع الإبداع،  وكان في دمج بعض مفردات ومصطلحات لغاته الأجنبية مع مصطلحات من اللغة العربيّة هجنة لوّثت العربية الفصيحة ممّا أدَّى إلى نشوء لهجات ولغات تخاطب جديدة بين أفراد المجتمع مثل التي تجمع بين اللغتين العربيّة والفرنسيّة، أو العربيّة والإنجليزيّة،  وغيرها…الخ

ونرى اليوم أنّه لا غضاضة في اطلاعنا على الثقافات والحضارات الغربية الأخرى بتعلّم لغاتها بشكل صحيح، ولكن تكون الهويّة العربية غربالا يمسك خُشارَ الثقافات الأخرى ويُفلت لُبابَها.

يشيد وديع عقل بالعربية فيذكر:

لغتي أكرمُ أمّ لم تلد***لذويها العُرب غير المَكرمات

        كلّ هذا دفع بالأمم الغربية للبحث عن أواصر الوحدة وتوحيد الصف من خلال توحيد اللغة على الرغم من تاريخها الزاخر بالصراعات العرقية والمذهبية والأطماع الاستعمارية وتعدد لغاتها المختلفة والثقافات المتباينة، ولكنّنا نحن العرب والمسلمين عامّة نبتكر –للأسف الشّديد- سبل التفريق فيما بيننا ونحن لغتنا وثقافتنا وعقيدتنا واحدة مقارنة ببقية الأمم والدّول في العالم.

وهذه القضية القومية الكبيرة تستدعي منّا جميعا التهّيؤ لمعالجتها عن طريق رسم المناهج الدراسية المتزنة وتبنّي استراتيجيات عملية فعالة. وهذا الأمر ليس مستحيلا عندما تجتمع الدول العربية على رأي واحد في سبيل تنفيذ هذه الخطة[5].

        إنّ الذي يدعو إلى الألم والأسف أنّ بعض المفكرين العرب أنفسهم يشكون ويشككون في حقيقة وجود اللغة العربية، أولئك هم الذين بهرتهم انتصارات الثقافات الغربية المهيمنة على العالم، فأعمتهم أشعتها الساطعة وأسجدتهم يسبحون بمجدها المزيّف، وهم لا يرون شيئا غير هذه اللغة الغربية التي أخذت ما عند العرب وغيرهم من ثروة فكرية لتصبّ في قالبهم.

وينظم الشاعر حافظ إبراهيم يقول على لسان العربية:

أرى لرجال الغرب عزّا ومَنْعةً***وكم عزّ أقوام بعزّ لغات

أتوا أهلهم بالمعجزات تفنّنا***فيا ليتكم تأتون بالكلمات

أيطربكم من جانب الغرب ناعب***ينادي بوأدي في ربيع حياتي

        ومن الملابسة أن نقذف بلغتنا بعيدا عن وجودنا كأنّها الشيء المنفصل عن كياننا ونصبّ عليها اللّعنات فنسميها لغة القرون الوسطى، ولغة الشّعر والعاطفة وأخيرا لغة الرّجعية والرّجعيين فغياب أو ضمور الاعتزاز باللغة العربية عند أهلها وانجذابهم لاستعمال غيرها حتّى عن عدم الحاجة إليها، كما يحدث في كثير من المؤتمرات والاجتماعات الدولية خصوصا، رغم توفير الترجمة الفورية هو مؤشر كاف لوجود خلل في علاقة العرب مع لغتهم؟

وصدق حافظ إبراهيم حين تساءل حائرا:

أيَهْجُرُني قَومي عَفا اللهُ عنهُم***إلى لغة لم تتَّصلْ برُواةِ

سَرَتْ لَوْثَةُ الإفرنْجِ فيها كما سَرى***لُعابُ الأفاعي في مسير فُراتِ

فجاءت كثوب ضمّ سبعين رقعة***مُشكلةَ الألوان مختلفات

        مالنا إذا رمنا تقليد الغربي قلّدناه في فعاله، وما قلّدناه في اعتزازه بهويته ولغته وثقافته؟ ولماذا لا يشعر الإنسان العربي بالفخر في استخدام لغته العربية كما يفعل الغربي مثلا؟ هل للهزيمة السياسية والتنموية دور في ذلك؟ وهل هو السبب الوحيد أم أنّ هناك أسبابا أخرى هي الأكثر تأثيرا في ذلك؟

        إنّ استخدام اللغة العربية والتواصل بها هو أكبر دليل على الاعتزاز بها، ما سوى ذلك من أعمال وأقوال وجهود وبحوث هي كلّها خدمات مكمّلة للفعل الأساسي الّذي هو أن نتكلّم[6]. فالإطراء والتّزاخر الخطابي للغتنا العربية لا يجدي كثيرا لا في اكتساب الكثير من النّاطقين بها ولا في استرجاع المارقين منها، وقد تكون آثاره سلبية وعكسية خصوصا عندما يتمّ بناء زخارف المديح للغتنا على ركام الهجين والأسلبة اللغوية[7].

        إنّ المجال الحقيقي والفعلي لرفع مكانة اللغة العربية ليس في كثرة مديحها بل في كثرة استخدامها والتعامل بها في مختلف مناحي الحياة، في حين أنّ التقيّد باستخدام اللغة العربية ليس من أجل الحديث بها فحسب؛ بل لأنها تُعبِّر عن هويّة وثقافة وحضارة ودين من يتمسّك بها، فهي مصدر قوّة لصاحبها.

  1. بين الاعتزاز اللغوي والاهتزاز اللغوي:

        من الواضح البيّن أنّ التهجين هو تحريف لقواعد اللغة الفصحى ونظامها الصوتي، حيث أصبح التهجين هو المسيطر على اللسان العربي فقد بات كل أفراد المجتمع يلجأون إليه في خطاباتهم الشفوية وحتى المكتوبة، وليس هذا فحسب بل نجد أيضا أصحاب الطبقات الفاخرة يستعينون به في كلامهم وكأنه زخرفة لفظية تنمّق الكلام وتجعله في أبهى حلة، وبمقابل ذلك نلمس حتى وسائل الإعلام والأسر والمدرسة والمعاهد والجامعات وكل من هم ساهرين على تسيرها يمزجون العربية باللغات الأخرى، وفي نظرهم أنّها السبيل الوحيد للتّفاهم والتعبير عن الذّات متجاهلين ضرورة استخدام اللغة الوطنية التي تمثلهم وهي العربية الفصحى [8].

                ولا بدّ لنا ونحن نعيش اليوم الاهتزاز اللغوي من أن نقارن بينه وبين الاعتزاز اللغوي إذ بينهما تكمن معركة الوجود أولا وجود، وبقاء أو فناء[9]. إنّ التهجين اللغوي لم يكن وليد الصدفة وإنّما هو وليد دعاة العامية الذين يمجدونها ويتخذونها وسيلة لهدم الإسلام في معركتهم ضدّ الفصحى، فهؤلاء دعاة التهجين اللغوي يسعون اليوم إلى زحزحة الفصحى عن طريق أهدافهم وخلخلة الوحدة العربية والإسلامية، وكأنّه لا يوجد لغة فصحى وعامية إلاّ في الوطن العربي وفي العربية.

قال أمير الشعراء:

ويَجْمَعُنا إِذا اخْتَلَفَتْ بِلادٌ***بَيانٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ ونُطْقُ

       فمن واجب القارئ العربي إلى جانب غيرته على لغته أن يذكر أنه لا يطالب بحماية لسانه فحسب، ولكنه يطالب بحماية العالم من خسارة فادحة تصيبه، بما يصيب هذه الأداة العالميّة من أدوات المنطق الإنساني بعد أن بلغت مَبلغها الرّفيع من التطوّر والكمال، وإنّ بيت القصيد هنا أعظم من القصيد كله لأنّ السهم في هذه الرمية يُسدّد إلى القلب، ولا يقف عند الفم واللسان، وما ينطق به من كلام منظوم أو منثور[10].

        ومن الترف الفكريّ أن نقلّد الأمم المتقدّمة في طريقة حياتها وفي ألفاظها، بحجّة أنّهم يتفوّقون علينا وبذلك الترف يصدق علينا قول العلامة ابن خلدون (ت 808ه) رحمه الله حين وصفنا بالقول أنّ المغلوب يقتدي بالغالب في كلّ شيء، ومهما حاولنا الاعتزاز  بلغتنا العربية فإنّ ذلك يبقى دون معنى إذا كنّا غير قادرين على الاعتزاز بمنجزاتنا الحضاريّة المتنوّعة، وبالتالي غير قادرين على إثراء لغتنا العربية بالمفردات الجديدة التي تدلّ على نبض الحياة الحضاريّة في عروق مجتمعنا العربي، لأنّ اللغة في النهاية انعكاس صادق ما في المجتمع، أو بكلام آخر هي سجلّ أمين نجد فيه تعبيرا عن كافّة النشاطات والمسمّيات التي يزخر بها أيّ مجتمع إنسانيّ، وبما أنّنا لسنا المبتكرين أو المخترعين لهذه الأشياء المستحدثة، فمن المنطقيّ أن تكون أسماؤهم بلغة القوم الذين استحدثوها؛ إذ لا يسمّي المولودَ إلاّ والداه[11].

        وعليه يقال بأنّ الاعتزاز باللغة ليس وليدا لاعتزاز بذات اللغة، بقدر ما هو اعتزاز بالثقافة التي تمثلها هذه اللغة. “ولا بدّ من التعبير عن الاعتزاز العظيم باللغة العربية، على الرغم من أنّ الاعتزاز لفظ غير علميّ؛ إذ نطمح إلى أن نغرق في العلمية والموضوعية، ونبتعد عن الذاتية والإدّعاء، وهذا الاعتزاز ليس نابعا فقط من ارتباط لغتنا بمجالها الدّيني أو القوميّ أو الحضاريّ فحسب، وإنّما من أنّ النظام البنائي للغة العربية يثير الإعجاب والاعتزاز، وتضاف إلى ذلك القدرة الدلالية لرصيدها العامّ والخاصّ، وتنوّع أنماط الأداء والأشكال الاشتقاقية الهائلة والمرنة في آن معا”[12].

        ولو قدر للغة العربية بفضل التربية العربية الإسلامية السليمة، أن تحتلّ في النفوس مكانة من الاعتزاز لا تقبل التشكيك، وإيمانا بقدرة العطاء، وطاقة للإبداع، لكان يومها أفضل من أمسها، وغدها خير الاثنين معا، بناء ذاتيّا، وعطاء حضاريّا، وإبداعا علميّا[13].

         وهذا ما جاء على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه(ت 23ه) ينهانا عن تعلّم رطانة الأعاجم: لا تَعَلَّمُوا رَطانَةَ الأعاجِمِ؛ فإنَّ الرَّجُلَ إذا تَعَلَّمَها خَبَّ[14]؛ أي غشّ، وعنه في مصنّف سيّد الحفاظ  ابن أبي شيبة (ت235ه): ما تكلّم الرّجل الفارسية إلا خَبّ ولا خَبّ رجل إلا نقصت مروءته[15]. مصداقا لما ذكره عثمان المهري: أتانا ونحن في أذربيجان كتاباً من عمر بن الخطاب رضي الله عنه كُتِبَ فيه: تعلموا اللغة العربية فإنها تُثبِّت العقل وتزيد في المروءة[16].

        كما يذكر زوج بنت الإمام الشافعي رحمه الله بأن الشافعي كان يقول: لقد تبحرت في اللغة العربية عشرين سنة لكي أتقوى بها لفهم القرآن الكريم والسنّة النبويّة…، وأصحاب العربية جنُّ الإنس يبصرون ما لم يبصره غيرُهُم[17]؛ وهذا معناه أنّ الشافعي مكث عشرين سنة وهو متبحّر في اللغة العربية يتفقه القرآن والسنة، لأنّه يؤمن بأنّ متعلّمها يرى من المعاني ما لا يراه غيره كالجنيّ الذي يرى ما لا يراه الإنسان.

       ومما ينبغي الإلماح إليه – في هذا الموضع- ما بيّنه أحدّ الغيورين على لغة الضاد وسبب اعتزازه  في التأليف والكتابة بكلام الله وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن بغض العرب يعني بغض الإسلام وأن حب العرب يعني حب الإسلام وأن الحرب على اللغة العربية يعني الحرب على الإسلام. فالرّبط محكم إذن بين لغة العرب ودين الإسلام ولا فكاك، فمن يحارب اللغة العربية هو بلا شك يحارب دين الإسلام ولا مفر.

       فالمستقبل في هذا العالم للغة العربية بين اللغات، والمستقبل في هذا العالم لدين الإسلام بين الأديان الشيطانية الباطلة من عبادة الذات وعبادة الأوثان وعبادة الصلبان والرهبان.[18]

        ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية(ت728ه): وأمّا اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية -التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن- حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، أو لأهل الدار، أو للرّجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم، وهو مكروه كما تقدم[19]، وبالتالي فهم الكتاب والسنّة فرضٌ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللّغة العربيّة، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.

        وإنّما سقنا هذه الأقوال والنّقول للتدليل على أنّ اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرا قوّيا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدّين والخلق. أفلا يقولون أنّ اللّغة حاملة للقيم، ولأجل ذلك سعى أعداء الدّين بكلّ قوّة من أجل تغيير اللّسان العربي في البلدان المستعمرة وصنع نخبة تدين بالولاء للغة المستعمر، إنّ تعلم اللغة الأجنبية أمر مرغوب فيه شرعا، لكنّ التّخلي عن اللّسان العربي بدون داع ولا ضرورة فهو شرّ وخنوع وخضوع[20].

        ومن المؤكد أنّ هذا غير ناتج من عجز عضويّ في اللغة، وإنّما من عجز عضوي في الثقة بها، واستمراء الهبوط باللغة إلى المستويات الدنيا في المخاطبين عوض الارتقاء بهذه المستويات إلى صعيد من اللغة المبدعة والموحدة[21].

وفي هذا السياق لا يسعني إلا أن أقول شيئا من الفذلكة:

كلّ شيءٍ في الوجود يُسْئِمُ****بطالة عنوسة فقر وكوفيد

عدا كـــلام الله ورسولِــــــــه****أدبٌ وعلم بلــــــــغة مفيــــد

لغة أنجــــــبت الفحـــــــــول****عنترة حسّـــــــان وبن دريد

قولي هذا ليس ترفــــــــــا****بل اعتزاز بعربيّــــتنا أكيد

  1. من بين سبل الاعتزاز باللغة العربية:

        إنّ المعضلة بالتأكيد ليست في اللغة العربية بحدّ ذاتها، وإنّ الحلّ بداية يكمن في إعادة الاعتبار لهذه اللغة العظيمة، من خلال أمرين أساسين:

-إحيائها من جديد باعتزاز ودون حرج في حواراتنا وأحاديثنا في بيوتنا، ومدارسنا ومساجدنا وفي قنواتنا الدعويّة، التي باتت معظم من يظهرون فيها من الوعّاظ والدعّاة يتحدثون في برامجها بعامية بلادهم، وإنّ الاعتزاز بلغتنا إنّما ينطلق من اعتزازنا بها كلغة كتاب إلهي مبين، يسّره الله للذكر وإنّ المحافظة على لغتنا العربية هو في الحقيقة حفاظ على أهمّ أثر لذلك الكتاب في القلوب والعقول.

-تأهيل وتدريب القائمين على تدريسها، وفق أساليب التعلّم الحديثة، وابتكار وسائل جديدة سواء في المدرسة أو الإعلام أو التأليف والطباعة، لإيصالها بسهولة ويسر إلى متلقيها صغيرا كان أم كبيرا، عربيا كان أم أعجميّا.

        وحين يتمّ لنا هذان الأمران لابدّ أنّ أملا سيشرق من جديد في سماء لغتنا الخالدة خلود المؤمنين الصادقين في جنان جعلت لغة أهلها لغة كتابه المبين[22]، وفي ذلك حرص كبير على تعليم الناشئة التفكير باللغة العربية بوسائل تناسب عصر الصوت والصورة.

        ومن مظاهر الاعتزاز باللغة هو عدم الانسلاخ من الهوية العربية الأصيلة، كأن يزخرف الحرف العربي لافتات شوارعنا ويزيّن محلاتنا ومؤسساتنا العامة والخاصة بديلا للحرف اللاتيني.  دون أن نغفل تفعيل مختلف القوانين التي تحمي العربية وتصونها في بلدانها، بالتزام الإعلام والمؤسسات الرسمية والهيئات العليا بقرارات المجامع اللغوية العربية أينما وجدت.

        وفي وسعنا القول أنّ من مقتضيات الاعتزاز باللغة العربية ألاّ يغمس الإنسان نفسه في لغة الغير لغة أخرى تهدم سليقته، وهل هناك أبغض من التهجين اللغوي الذي أشان وجه الفصاحة وأكثر من هذا ينبغي أن يكون الاعتزاز في استخدام العربية حمية قومية، واعتزازا واعيا مبنيا على فهم واع لمعنى الاعتزاز اللغوي الذي يتعارض كليّا مع ما سميناه بالاهتزاز اللغوي وفي عدم الإذعان لغير الناطقين بالعربية أو في الانصياع للغات الأخرى التي تهددها، وبهذا تتحقق الأنفة اللغوية العربية؛ لأنّ علمائنا الذين حموا اللّسان العربيّ، وفي صدارتهم لغويّونا الذين جمعوا لنا اللغة متنًا من كلِّ شبرٍ من رقعة الفصاحة في فيافي الجزيرة العربية وتتبّعُوا العرب الخلّص السّليقيين بين أحراش البوادي، فقيّدوا ما أمكنهم – ولم يألوا في سبيل ذلك جهدا- قدّموا لنا مدوّنةً لا نظير لها في الحضارات الأخرى، هي الآن حقًّا تمثل مرجعيتنا اللغوية التي نحتكم إليها سواء في الوضع والاستعمال، أو في التّأثيل أو في التحليل بل أيضا هي ملاذنا في التأويل والتفسير.

        ومن الحصافة بمكان أن ننساق وراء الدعوات المغرضة والهدّامة – التي سبق الحديث عنها- الموهمة بأنّ لغتنا العربية لغة صعبة قديمة لا تلبي حاجات العصر والحياة، لذا كان من الواجب أن نعود ونحسن نبش أمّات الكتب التي علاها الغبار، لنفليها فليًا حتّى نُخرج جواهر اللغة، وعقيان فرائدها، ودرر استعملات فقهاء اللغة المرجعيين لها، وهو العمل الذي اضطلع به ولا يزال عُشّاقُ صاحبة الجلالة  من الطّموحين الذين لم يذخروا أيّ جهد في الارتقاء بها والاعتزاز بمكانتها بين اللغات الأخرى من خلال تجسيدهم لمشروع الأمة ألا وهو المعجم التاريخيّ للغتنا العربية الجميلة؛ لأنّ الاعتزاز بهذه اللغة العالية الشريفة المصطفاة  الجامعة الموحِّدَةِ يكون في استعمالها وعدم إهمال إتقانها.

5.خاتمة:

         وممّا هو قمين الذكر أنّ نترجم اعتزازنا بلغتنا العربية الجميلة بغرس حبّها في نفوس أبنائنا وبناتنا كي نربيهم على صقل أذواقهم وتهذيب مشاعرهم، بجعلهم يتذوّقون فنيّات التعبير بها مشافهة وكتابة، وذلك من أجل إدراك أسرار بلاغتها ودلائل ألفاظها التي لا تزال في ظلمات الكنائن وغياهب المصادر والمعاجم والقصائد لم يصل إليها نور تداولها للآن؟ هذا الإرث اللغوي والعلميّ الثمين الذي لا يزول ولا ينفذ؛ لابدّ لنا من عنايته وحمايته ونقله من جيل إلى جيل.

الإحالات:

[1] – إميل منذر، اللغة العربية الفصحى مشكلاتها ومشاريع تيسيرها، دار النهضة العربية، مصر، ط2016م، ص: 67.

[2] – صالح الخرفي، مجلة الفيصل، العربية هويتنا، دار الفيصل الثقافية، المملكة العربية السعودية، ع218 سنة 1995م،  ص:20.

[3]– أحمد فال بن أحمد، (3-5-2010)، “مكانة اللغة العربية وأصالتها”، www.articles.islamweb.net

[4] – مصطفى صادق الرافعي، من وحي القلم، مطبعة النهضة، مصر، ج:3، ص: 323

[5] – أحمد علم الدين الجندي، اللهجات العربية في التراث، دار العربية للكتب، مصر، ط1993م، ص:166.

[6] – زياد الديس، حكاية اليوم العالمي للغة العربية،  مدارك،  ص20على الرابط Amazon France.

[7] – المرجع نفسه، ص: 21.

[8] – زهية زويش، التهجين وانعكاساته على اللغة العربية في الجزائر، مجلة أقلام الهند عدد 2021 ، مارس-جوان.

[9] – ينظر: مؤتمر اللغة العربية أمام تحديات العولمة، الدورة الأولى، 1423ه، 2002، ص:12.

[10] – محمد عبد الشافي القوصي، عبقرية اللغة العربية، دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، ط 2016، صفحة 15.

[11] -بين الواقع والمتخيل حروف لا تحترق، حسن عبد الرازق منصور، أمواج للطباعة والنشر والتوزيع، ط2014م، ص: 76.

[12] – سليمان حسين، اللغة والدلالة والتفكير، مجلة الفيصل، دار الفيصل الثقافية، المملكة العربية السعودية، عدد279، سنة 2000م، ص:49.

[13] – المرجع نفسه، ص:21.

[14] – البيهقيُّ، في السّنن الكبرى (9/ 392 رقم 18861/ تح:محمّد عبد القادر عطا، ص: 56

[15] – ابنُ أبي شيبة، كتاب الأدب،  ص:153، و‎المصنَّف‏‎ ، ج:8، ص: 548.‏

[16] – جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج:1، ص: 408.

[17] –   آداب الشافعي ومناقبه، الرازي، ص:150.

[18] – الطيب رحمه قريمان، اللغة العربية الخالدة لغة العالمين، على الرابط: https://sudaneseonline.com

[19] – شيخ الإسلام ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، ص: 207 وما بعدها.

[20] – الرطانة بغير العربية بين الدونية والاعتزاز، عبد الله مخلص، 2018 على الرابط:

http://howiyapress.com/الرطانة-بغير-العربية-بين-الدونية-والاعتزاز.

[21] – صالح خرفي، اللغة العربية هويتنا، مجلة الفيصل، عدد 218، سنة 1995م، ص:24.

[22] – ميمون محمد قصاص، فسائل بين يدي قيامة، ط2019م، ص:224.

*أستاذة في جامعة الشلف، الجزائر

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of