+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

المسرحية لدى غسان كنفاني: دراسة تحليلية
د. محسن عتيق خان

المدخل:

لم يُعرف غسان كنفاني بصفته كاتبا مسرحيا إلا بعد استشهاده،  و لم تنل مسرحياته حظا  من الدراسة والنقد لدى نقاد الأدب العربي، و سبب ذلك يعود إلى قلة اهتمامه بالمسرحية، فلم ينتج غسان في طول حياته إلا ثلاث مسرحيات كما يلي:

  • مسرحية “الباب”: إنه كتب هذه المسرحية في عام 1964، ونشرها في حياته
  • مسرحية “القبعة والنبي”: أنتج هذه المسرحية في بدايات عام 1967، ولكن لم يوفق لها النشر إلا بعد استشهاده في مجلة “”شؤون فلسطينية”، نيسان عام 1973.[1]
  • مسرحية “جسر إلى الأبد”: إنه أنجز هذه المسرحية في عام 1965 في حلقات لإحدى الإذاعات العربة، ولكن لم تتم إذاعتها، وكذلك لم يتم نشرها إلا بعد استشهاده في ضمن أعماله الكاملة.[2]

فثلاث مسرحيات فقط، وهي عدد ضئيل بالنسبة لانتاجاته في القصة والرواية، وفوق ذلك لم ينشر إلا مسرحية واحدة في حياته، فهذا هو السبب الذي أدى النقاد إلى إهمال هذا الجانب من انتاجات كنفاني. وقد اعترف الناقد أحمد الشعث بعدم اهتمام النقاد العرب بمسرحيات كنفاني فيقول “على الرغم من تفاعل النقد الأدبي مع أدب غسان كنفاني، تفسيرا وتأويلا، و دراسة، وتقديره للموهبة الفذة لهذا الأديب، فإن نصيب مسرحياته من هذا الاهتمام كان ضئيلا وما زال.[3]” ونجد ذلك الاعتراف في صورة أوضح لدى سمير الشريف الذي أبدى  قلقه  لإهمال النقاد عن مسرحيات غسان فيقول “أجد كمَّاً من الدراسات التي حظيت بها أعماله  القصصية والروائية، في حين يغمض النقاد أعينهم عن إبداعاته المسرحية. ما السبب في وجود ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية، وكتاب الطريق إلى الخيمة الأخرى، وكتاب في القصة والرواية الفلسطينية، وكتاب البطل في قصص غسان كنفاني، وكتاب نكبة فلسطين في الرواية العربية، وكتاب مفهوم البطل في الرواية العربية، وكتاب ما تبقى لكم، وشروط الإنسان المعذب، وكتاب المغامرة الروائية وكتاب المبنى الرمزي في قصص غسان كنفاني، وكتاب عالم غسان كنفاني، وغيرها من الدراسات، في حين لا نجد إلا محاولات خجلى تتوقف مع إبداعه المسرحي؟[4]” و هناك كتاب آخرون ذكروا هذا الإهمال، وقد جرب ذلك كاتب هذه السطور خلال تصفح المجلات والدراسات النقدية عن المسرحيات العربية. فهذا الجانب من إنتاج كنفاني في أكثر حاجة إلى النقد والتحليل والدراسة.

علاقة مسرحياته بالقضية الفلسطينية:

 يبدو للوهلة الأولى بعد شاشع بين مسرحيات كنفاني وإنتاجاته الأخرى، ويلمح كأنه خرج عن إطاره الفكري الهادف وغرضه النبيل، وتشبثه بالقضية الفلسطينية. فحينما تتناول قصصه ورواياته القضية الفلسطينية مباشرة، تبدوالمسرحيات كأنها لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية، وكـأنها ليست إلا خرافة وهراء، فمسرحية الباب مستوحاة عن أسطورة عربية قديمة، ومسرحية “القبعة والنبي” تحكي قصة عن مخلوق خارق العادة يأتي من عالم آخر، و كذلك مسرحية “جسر إلى الأبد” تقص علينا قصة لا علاقة لها بالحقيقة، كما يقول غنام وهو يتكلم عن مسرحية الباب “ذهَبَ كنفاني إلى عالم الميثولوجيا بعيدا عن القضية الفلسطينية التي كانت أساس أعماله القصصية والروائية.” ويضيف قائلا ” أنَّ المسرحية الثانية المعنونة بـ “القبعة والنبي”، تنتمي إلى ما يسمى بمسرح العبث الذي يعتبر سيد الجدوى بسبب إتاحته المجال للدخول إلى عوالم غامضة لكشفها وإماطة اللثام عن مضامينها”[5]، وكذلك لا يعتبر الدكتور علي الراعي مسرحيات غسان من الأعمال الأدبية التي تعتني بقضية فلسطين، فيقول في مجموعة دراساته المعنونة بالمسرح في الوطن العربي “و في غير قضية فلسطين كتب المناضل الشهيد غسان كنفاني مسرحية الباب.[6]” و في جانب آخر نجد نقادا يتخذون موقفا يختلف كل الاختلاف من موقف النقاد المذكورين أعلاه، فهناك ناقد يظن بأن مسرحيات كنفاني عبارة عن حياته الواقعية اليومية وتعكس غدواته وروحاته فيقول “وجد الشهيد غسان كنفاني في فن الكتابة المسرحية وسيلة لمسرحة حياته اليومية العامرة بمساحة الألم بالوطن الموجوع (فلسطين).”[7] و ناقد آخر يرى أن مسرحياته مرآة لمأساة فلسطين وأهاليها، فيقول “لم تكن هذه المسرحيات بمعزل عن تناول الواقع الفلسطيني، إذ عبرت مجملها عن مأساة الإنسان الفلسطيني وصراعه اليومي المتواصل مع الاحتلال.[8]” و هذه هي الحقيقة، فالقارئ المتأمل يجد مسرحياته ذات مغزى عظيم ورسالات سامية بما فيها المقاومة المستمرة، والقضاى الفكرية في دثار الرمز البعيد المنفرد، وسوف يظهر مدى علاقتها ومبلغ تناولها بالقضية الفلسطينية خلال الدراسات التالية.

تعميم الثورة والمقاومة:

مسرحيات غسان –كما سقنا آنفا- تتناول القضية الفلسطينية و مربوطة بمأساة أهالي فلسطين، و لكنها تعم بالنسبة لانتاجات غسان الأخرى في عرض الثورة و المقاومة، فساحتها واسعة و منصتها غير محدودة،  كما يقول غنام “ففي كل قصصه و رواياته كان الموضوع الفلسطيني بتفاصيله اليومية والتاريخية حاضرا و محركا لابطاله و شخصياته، فيما كان في المسرح منعتقا باتجاه انساني عام، موغلا في الثوري المطلق، مبتعدا عن الثوري الفلسطيني اليومي.”[9]

الرمزية في مسرحيات غسان:

مثل انتاجاته القصصية والروائية، استخدم غسان في كتابة مسرحياته الرمز الذي يخدع النقاد في كثير من الأحيان و يؤديهم إلى سوء فهم مسرحياته، و تقييمها تقييما غير ملائم. و قد تكلم عن الرمز في مسرحيات كنفاني عبد الله أبو راشد، فيقول “اعتمد كنفاني في نصوصه المسرحية كافة على مفاعيل الصياغة الرمزية المغرقة في رمزيتها التي تشدو غرما منفردا في ميادين الكتابة المسرحية، خارجة عن أسوار الواقعية الوصفية والسرد المباشر، بل متدثرة في ملابس اللغة الفلسفية المحلقة في معابر السرد الجمالي و متعة الحوار، وإقحام المتلقي إلى معابر فتنته اللغوية و غاياته المرجوة في نهاية كل كتابة مسرحية.[10]” و كذلك يقول احمد شعث “إن عمق المعاني و ثراءها في المسرحية ينفي محاولة حصرها في مدلول واحد مثلما يحدث في الرمز اللغوي او المعادلة المنطقية، و يبدو أن تقنية الرمز في أدب كنفاني معطى أساسي و هدف أدبي سام، كان المؤلف يبدعه من أجل نقش أهداف إنسانية في نفوس القراء، و يبذل جهده و يسعى بكل ما أوتي من ملكة فذة و نفاذ بصيرة للوصول إلى ما يمكن تسميته الواقعية الرمزية في فنه[11]“، فالرمز في مسرحيات كنفاني يظهر في أبعد أشكالها و هي تشير إلى القضية الفلسطينية من بعيد ولكن تتناول الماسأة الفلسطينية بقوة و بشدة أكثر كما يظهر خلال دراسات المسرحيات في الفصول القادمة.

الواقعية في مسرحياته:

في معظم قصصه و رواياته ظل التعامل مع الواقع أساسا لبناء منجزه الإبداعي الذي كان يأتي واقعيا بشكلس أو بآخر، لكن عمله في مسرحياته دخل عوالم العبث والتجريد، و ذهب مع الأسطورة في لا معقولها و فانتازيتها، و لكننا ندرك جميعا أن هذا برمته ما هو إلا إيغال في تفكيك الواقع و تصويره من جديد. و من هنا تجده قد إلى الفانتازيا الواقفة على باب العبث و الوجودية في القبعة والنبي، تماما كما ذهب إلى المجهول فيها.”

قضاى فكرية في مسرحياته:

أورد غسان في مسرحياته قضاى فكرية مختلفة ما عدا قضية الحرية، والمقاومة، و قد أشار إلى ذلك سمير الشريف فقال “كان غسان خصص مسرحياته للتوقف مع الذات وطرح إشكالية الفرد الوجودية” و يضيف قائلا”مسرحيات كنفاني تتمحور حول قضايا فكرية يمثلها جانب التمرد الميتافيزيقي الذي طرحته مسرحياته بجلاء ، وإن حاول المؤلف إيصال قناعاته على لسان أبطالها كما هو الحال في مسرحية (الباب) ممثلة بشداد ومسرحية (القبعة) ممثلة بالمتهم ومسرحية (جسر إلى الأبد) ممثلة بمارس.”[12]

اجتناب عن ذكر فلسطين و أماكنها في المسرحيات:

لم يذكر غسان كنفاني إسم فلسطين أو أماكنها في مسرحياته رغم انه قصد بفلسطين و بعض أماكنها بالطريقية الرمزية، فيقول يحيى عيسى “و مما يلاحظ في مسرحيات كنفاني أنها لا تذكر فلسطين، أو إسما لمكان فلسطيني كما عهدناه في كتاباته الأدبية الأخرى، و إنما يظهر ذلك على نحو رمزي أحيانا و تجريدي أحيانا أخرى.[13]

الحرية في مسرحيات كنفاني:

الصراعات في انتاجات كنفاني تحدث للحصول على الحرية و الخلاص، الحرية من المستعمر، والخلاص من التعدي والظلم، فالحرية لدى غسان تظهر في أشكال مختلفة كما يقول غنام “لا تتجلى الحرية في مفهوم او اتجاه أو عملية واحدة مفردة لدى غسان، و يمكن الإشارة إلى أكثر تجليات الحرية بروزا لديه، علما أن هذه التجليات مشتبكة الأقطاب، غير منفصلة، مفتوحة المنافذ والنوافذ[14]” و نرى في مسرحياته رغبة الحرية تتعدى من الاستقلال عن المستعمر إلى الحرية عن التقاليد الاجتماعية والمعتقدات الدينة الراسخة في الشعب الفلسطيني والعربي، و هذا شيئ لا نجدها في رواياته و قصصه، فنرى غسان ينفذ من خلال مسرحياته “إلى تفكيك و إعادة تركيب المفهوم الديني للخلق و الرب و العبودية والثواب والعقاب، تلك القيم التي يستند عليها الدين السماوي و كأنه يرسم لنا موقفه العلمي الذي ينتهجه كماركسي و بشكل فني غير مباشر و غير مستفز للقاري غير المادي.[15]” فغسان كان مصابا بالحمى الشيوعية العامة في ذلك الحين، و تأثرت بها كتاباته ولكن أثرها ظهرت في أقوى صورتها في مسرحية “الباب”.

التراث في مسرحية غسان:

للتراث الأدبي الكلاسيكي -العربي والفلسطيني كلاهما- أثر كبير في كتابات كنفاني، فحينما كان للآخر أثر في قصصه و رواياته، يشكل السابق بنية مسرحية الباب[16]، و التراث “كل ما هو متوارث بما يحوي من الموروث القولي، الممارس أو المكتوب، إضافة إلى العادات والتقاليد والطقوس والممارسات المختلفة التي أبدعها الضمير العربي، أو العطاء الجمعي للإنسان العربي قبل الإسلام و بعده.[17] فاستخدام قصة عاد كبنية لمسرحيته يعتبر من مساعي احياء التراث، و تجديده و عرضه من جديد.

المقاربة بين غسان و المسرحيين الآخرين:

إذا أردت أن تبحث عن مقاربة بين كاتب مسرحي و آخر، و بين أديب و أديب آخر، فستجد كثيرا من الأمثلة، و الأساليب، و طرق الأداء، و مستوى الأفكار المشتركة بين البعض والآخر، فكل أديب و شاعر يستفيد ممن خلوا قبله و يبني على أفكارهم قصره المبتكر الممتاز، و نرى ذلك المقاربة عند غسان كنفاني أيضا كما تقول رابعة حمو “غير أن تأثر كنفاني بالأدباء العالميين لم يقف عند الشاعر القرطبي فحسب، بل تعداه إلى الكاتب الألماني بيرتولد بريخت الذي يعتبر من أهم كتّاب المسرح العالمي في القرن العشرين”[18]. قد ظهر تأثر كنفاني بـ”برتولد بريخت” في مسرحيته جسر إلى الأبد، و سوف نتكلم عن ذلك في الفصل الرابع من هذا الباب.

تصوير المرأة  والجنس في مسرحيات كنفاني:

في مسرحية الباب: نجد في هذه المسرحية ثلاثة أدوار للمرأة، فنرى في الفصل الأول  تذكرة الجرادتين أو جاريتين لمعاوية بن بكر. و دورهن ينحصر في إنساء مهمة الوفد عن طريق توريطه في  لهو الغناء لمدة ثم تذكيره. أما المرأة الثالثة فهي التي تعرف بشخصية “أم” فهي تؤدي دور زوجة عاد، و أم شداد، و جدة مرثد، وهي عرفت بشدة عقيدتها بـ”هبا” أحد آلهة قبيلة عاد كما يقول شداد في الفصل الخامس و هو يذكر شدة عقيدتها بـ”هبا” “آه لو أستطيع أن أعود و أقول لأمي: يا أماه! لا تقدمي القرابين لتمثاله القائم بين الناس كالوتد..لا تخافي..إنه لا يستطيع أن يفعل شيئا..إنه يخيفك عبر عالمنا، هناك، عالم الموت..ولكنه إذا ما سقط من الفضاء إليكم لمات في الطريق مثلما يموت المهزوم قهرا.”[19] دور شخصية “الأم” أهم من حيث تظهر هي في الفصل الثاني و الثالث كشخصية ثانية بعد شداد و مرثد فيجري الحوار بينها و بين شداد خلال الفصل الثاني بأكمله، و كذلك في الفصل الثالث بينها و بين حفيدها مرثد. يظهر أمامنا في الفصل الثاني من خلال حوارهما مغز القصة، فنجد شداد يصف جنته، و يتكلم عن فكرته و رؤيته، و يذكر ما تعاني منها قبيلته من قحط و جدب، و موت، ويخوض في الحوار فنجده يتجاوز حدوده و لا يراعي مكانة أمه، فقوله لأمه عندما تسأل عن حالته القلقة “هذا هو أسوأ ما في الأمر!…أنت تتدخلين حتى في الأمور التي لا تعنيك” و جواب أمه. صـ6 “كيف تقول لأمك إن هذا الأمر لا يعنيها؟ تلك جرأة لم أعتدها منك” يدل على إبعاد المرأة عن أمور الحكومة والسلطة، و لكن الكلام الذي يفوه به شداد إثر احساسه بالإحباط ياتي خلافا للشرافة و في غير محل ولا يتكلم ابن هكذا أمام أمه. فشداد يبدو متفلسفا و يلقي الضوء على أفكار المرأة و طموحها المحدود في الحياة، و هو يخاطب أمه  فيقول “سوف أقول لك ما هو الفرق بيني و بينك، أنت حينما بدأت تحسين الحياة، و لنقل أن ذلك حدث حين كان عمرك خمس عشرة سنة، كنت تفكرين كل يوم بأنك ستتزوجين يوما ما، و هذا وحده كان سببا يدفعك إلى الحياة، كنت تعتقدين أن الزواج شئ رائع، و أنه هو الغاية من كل الحياة، كنت تقولين –بينك و بين نفسك-أنه من الممتع جدا أن تنامي كل ليلة في أحضان رجل!..لقد كنت –حاولي أن تتذكري-تفكرين بالأمر ليل نهار….ثم تزوجت! اعتدت النوم مع رجلك كل ليلة حتى بدا الأمر، بعد فترة، سخيفا و مملا و ربما قذرا…سألت السؤال من جديد، و كالعادة كان لا بد من جواب فقلب:كى أنجب أطفالا، و ذلك بلاشك، أمر ممتع و هو رسالة كبيرة أيضا..حسنا، ثم أنجبت أطفالا، و بعد فترة عاد السؤال: لما أعيش الآن؟ و وجدت الجواب: لأراهم يكبرون و يتزوجون و ينجبون أطفالا….هذا صحيح يا أمي هذا صحيح..لقد تعبت من السؤال، فيما بعد، و قررت أن تعيشي بلا سؤال، تاركة كل شئ لحكمة هبا، أنت تعشيشين بدافع العادة فقط، هل تتصورين ذلك؟ …أنت ربما تفعلين ذلك من أجل أن تقولي، بين الفينة الأخرى، أنك أحرقت كل صباك من أجل شداد و شديد!.. من يدري! ربما تطعمين بالجنية من وراء ذلك كله! فيربت هبا على ظهرك و تهتز لحيته الكبيرة البيضاء و يقول لك: أدخلي إلى الجنة! نامي على فراش وثير! اقطفي من شئت من التفاح و الكرز…واختاري من شئت من الرجال! ألست تعيشين من أجل ذلك.”[20] في هذا الكلام الفلسفي أراد شداد أن يعرض حياة امرأة و مبلغ طموحها، و ثم يتقدم في الكلام  و يذكر علاقته بالنساء و هناك يتجاوز كل الحدود و يبدو أنه أمام أمه  فيقول لأمه و هو يمضي في الكلام “أما أنا، فالأمر معي يختلف تماما..منذ كان عمري ست عشرة سنة بدأت أضاجع النساء.. لحظة متعة وراء لحظة أخرى كومت أحمالا من الاكتفاء الحيواني..ضاجعت مختلف النساء، كل النساء، و بكافة الأساليب التي تخطر على بال الشيطان، لم أعد أطمع بالمزيد..أتسمعين؟ لقد عرفت من النساء قدر ما عرفت من المأكولات، و ذقت من النساء قدر ما ذقت أنت من الخبز، و ضاجعت النساء بطرق مختلقة، و قدر ما تعرفين، بل أكثر مما تعرفين من طرق لف الشال، لم أعد أجد في ذلك أي متعة..و لو وجدت في الأمر كله متعة لحظة واحدة حقيرة فإنها لا تساوي قط مبررا لحياتي.”[21] كل هذا الكلام يعرض المرأة كأنها سلعة و متاع، و تذكرة الجنس في هذه الصورة تبدو جليا خارج الإطار الأدبي البناء.

في مسرحيةالقبعة والنبي”: نجد في هذه المسرحية دورين للمرأة. أولا دور السيدة حبيبة المتهم الحامل بدون الزواج، و ثانيا دور أم السيدة الحبيبة. في جانب نجد السيدة لا تريد أن تبقى مع المتهم لفقره و لعدم قدرته على إطعامها ولكنها تغير رأيها بعد أن تكتشف بأن لديه شيئ ثمين و تريد أن تقطع آخر شوط الحياة و تريد أن تحتفظ بجنينها الحرام و تحب أن تتزوج معه ليكون ابنه الحلال، و في جانب آخر نجد أم السيدة التي امرأة عاطفية و تحب ابنتها كثيرا و تخشى عليها، تصر على اجهاض الجنين، و كل همها هو أن يدفع المتهم نصف تكلفة إسقاط الجنين و هي مئة ليرة، لأنها تخالف الزواج، و تعتبر المتهم من الذين لا أصل له و دون مستوى السيدة، فتريد أن يناصف المتهم في ثمن الإجهاض، و يقطع علاقته مع السيدة، و يعيد إلي السيدة كل رسائلها التي كانت كتبت إليه عندما شب الحب بينهما. و هي لا ببدو امرأة ضعيفة، بل سيدة ذات إرادة قوية، و لهجة تهديدية كما تجيب لسؤال المتهم في صوت يحمل تهديدا:

“الأم: ماذا استطيع أن افعل؟ سأعدد لك: أستطيع أن ارفع عليك دعوى. استطيع ان أرسل لك اخاها فيذبحك و يغسل عار العائلة. أستطيع أن انهال عليك ضربا الآن..استطيع ان اروي القصة لخال السيدة فيضعك في السجن حتى تموت.”[22]

“الأم: (مقاطعة) تتزوج؟ أنت تتزوج؟ أنت المفلس تتزوج و تتحدث عن الطفل ايضا! الطفل الحرام الذي جاء ثمرة احتيالك هذه المسكينة. رجل بلا أصل تريد الزواج من السيدة. اسمع ايها المحتال: يجب أن نعمل عى اسقاط الجنين فورا، و يجب ان تعيد كل رسائل السيدة إليها. وتدفع حصتك في التكاليف.”[23]

و ما عدا هاتين دورين للمرأة، نجد غسان يصف للشئ الغريب المرأة اي الجنس الآخر للإنسان فيبدو كأنه يحلم فيما يتحدث “كيف تستطيع أن تفهم؟ إنك لم تجرب لذة أن تلتصق بدفء المرأة ، عاريين. لا تعرف تلك الغيبوبة الراجفة كيف تهطل في العروق……لا تعرف لحظة الذروة في اللذة، لأنها مزيج من الألم والسعادة، كمن يضرب على قصبة ساقه، ولكن لا تعرف الألم….بل لا تعرف معنى أن تحب و أن تحب المرأة….دعني أوجز لك الأمر: ان تخرج ذات يوم مع امرأة تحبها و تحبك فتغتسلان بحرارة الشمس و تأكلان و أن تعودا بعد ذلك للفراش فتنجبا الأولاد. الأطفال! أنت لا تعرف هذه السعادة أيضا..”[24]

في مسرحية “جسر إلى الأبد”:  أما في مسرحية جسر إلى الأبد، فنجد دورين مهمين للمرأة، الواحد لبطلة هذه المسرحية المسماة بـ”رجاء”، والثاني لأم بطل هذه المسرحية المسمى بـ”فارس”. رجاء فتاة جميلة و مدللة تعرف بين زملائها و أساتذتها لحدة ذكائهان، أبوها رجل مترف يحب ابنته و يعتبر بذكائها. تلعب رجاء في هذه المسرحية دورة بطلة شجاء و ذكية تنجي بطل هذه المسرحية فارس من الأزمة العقلية، و من المشكلة التي يواجهها في صورة شبح. أما الدور الثاني فلامرأة عجوز كسيحة مات زوجها و ترك خلفه ديونا باهظة، ابنها يبحث عن العمل فلا يجد أيا في مدينته وأخيرة يجد عملا في مكان بعيد براتب ممتاز، ويضطر أن يغادر المدينة تاركا خلفه أمه المسكينة. الأم لا تريد أن تفترق عن ابنها بسبب ضعفها، فتبكي و تتوسل إليه حتى تجبره ان يمتنع عن مغادرة المدينة، ولكنه يغادر بدون إخبارها.

مكانة كنفاني في المجال المسرحي:

كنفاني-رغم قلة انتاجاته في هذا المجال- يحتل مكانة مرموقة بين المسرحيين كما تقول رابعة حمو “ويُصنف كنفاني على أنه واحد من أبرز الكتاب المسرحيين الجادين والجديرين بالاهتمام على الرغم من قلة أعماله المسرحية. فقد سجّل اسمه في لائحة المسرحييّن العرب بمسرحيتين اثنين هما : “الباب” عام 1964 و”القبعة والنبي” عام 1967 الذي لم ينشر الا بعد وفاته عام 1973.[25]” و لعل رابعة حمو تبالغ في تصنيف كنفاني و تعيين مكانته إذ بلغ كاتب هذه السطور إلى نتيجة -بعد تصفح الدراسات التي تعالج المسرحيات- أن كنفاني لا يحتل مكانة كمسرحي على المستوي العربي الدولي مثلما يحتل كروائي و قاص، فلا يظهر إسمه في الدراست التي تعالج المسرح على المستوى العربي، ولكنه نجح في الوصول إلى مكانة مهمة مرموقة بين المسرحيين على المستوي الوطني الفلسطيني، و لمسرحياته دور بارز في الحركة الفلسطينية، و قد اعترف بذلك مرتبوا موسوعة كولومبيا للدرامة الحديثة فيعتبروا مسرحيات كنفاني حافزا للحركة المسرحية الفلسطينية خلال ستينات القرن المنصرم.[26]

الهوامش:

[1]  كنفاني، غسان، القبعة و النبي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط3 عام1998، صـ9

[2]  كنفاني، غسان،جسر إلى الأبد، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط2 عام1987، (الغلاف الخلفي للكتاب)

[3]  أحمد شعث، الأسطورة والخطاب الأيديولوجي في مسرحية الباب لغسان كنفاني، مجلة جامعةالخليل للبحوث ، المجلد5، العدد 1،سنة 2010، ص166

[4]  سمير الشريف،مسرحيات غسان كنفاني: لماذا نسيها النقد؟ ،صحيفة الدستور،الجمعه، 13 أغسطس/آب، 2010،الأردن

[5] جريدة الغد الاردني’ في عددها10/07/2010

[6] الدكتور، علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب، الويت،يناير1980 ،ص 312

[7]  عبد الله أبو راشد، المسرح في عالم غسان كنفاني، جريدة الأسبوع الأدبي، اتحاد كتاب العرب بدمشق، العدد1308، السنة السادسة والعشرون، 2012

[8]  يحيى عيسى و عمر نقرش، توظيف التراث في النص المسرحي الفلسطيني، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، المجلد 27(3)، 2013، صـ 554

 [9]  غنام غنام، الحرية في مسرح غسان كنفاني، الباب نموذجا، الملحق لجريدة رمان، يوليو 2011، ص 9-11

[10]  عبد الله أبو راشد، المسرح في عالم غسان كنفاني، جريدة الأسبوع الأدبي، اتحاد كتاب العرب بدمشق، العدد1308، السنة السادسة والعشرون، 2012.

[11]  أحمد شعث، الأسطورة والخطاب الأيديولوجي في مسرحية الباب لغسان كنفاني، مجلة جامعةالخليل للبحوث ، المجلد5، العدد 1،سنة 2010، ص169

[12]  سمير الشريف،مسرحيات غسان كنفاني: لماذا نسيها النقد؟ ،صحيفة الدستور،الجمعه، 13 أغسطس/آب، 2010،الأردن

[13]  يحيى عيسى و عمر نقرش، توظيف التراث في النص المسرحي الفلسطيني، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، المجلد 27(3)، 2013، صـ 554.

[14] الملحق لجريدة رمان، يوليو 2011، ص 9-11  غنام غنام، الحرية في مسرح غسان كنفاني، الباب نموذجا

[15] الملحق لجريدة رمان، يوليو 2011، ص 9-11  غنام غنام، الحرية في مسرح غسان كنفاني، الباب نموذجا

  [16]  Julie Scott Meisami, Paul Starkey, Encyclopedia of Arabic Literature, Volume 2, Routledge, New York, pno. 426

[17]  يحيى عيسى و عمر نقرش، توظيف التراث في النص المسرحي الفلسطيني، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، المجلد 27(3)، 2013، صـ 545

[18]  رابعة حمو، مقاربة في الأسلوب المسرحي بين غسان كنفاني و برتولد بريخت، الملحق لجريدة رمان، يوليو 2011، ص7

[19]  كنفاني غسان، مسرحية الباب، صـ 31.

[20]  نفس المصدر، صـ 10.

[21]  نفس المصدر، صـ 11.

[22]  كنفاني، غسان، القبعة والنبي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط3، 1998، صـ 38.

[23]  نفس المصدر، صـ 38-39.

[24]  نفس المصدر، صـ 34-35.

[25]  رابعة حمو، مقاربة في الأسلوب المسرحي بين غسان كنفاني و برتولد بريخت، الملحق لجريدة رمان، يوليو 2011، ص7.

[26]  Gabrielle H. Cody, Evert Sprinchorn, The Columbia Encyclopedia of Modern Drama, V2, Columbia University Press, New York 2007, P no. 1032.

*كاتب وباحث من الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of