+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

مكانة الروائي إبراهيم نصر الله في الأدب العربي
عبدالآخر

يعد الروائي إبراهيم نصرالله من أبرز الشعراء العرب المعاصرين الذين كتبوا نصوصا روائية برعوا فيها إلي حد الدهشة إذ تمكن بفضل إبداعه المتعاقب المتميز خلال عقدين من أن يتصدر واجهة الرواية في الأردن ويحقق شهرة علي مستوى الوطن العربي والعالمي لكونه وظف خبرته الناضة في الكتابة الصحفية وبراعته في القول الشعري وثقافته الواسعة في تقديم مشروع روائي رائد أقصى تكرار الأصوات التقليدية منفتحا علي مجالات تخييلية لاحضور فيها للأشكال والصيغ المألوفة فخلق بنية مهيمنة جسدت مهارة فائقة باستخدام الآليات الصياغية وأثثت مضمونا حكائيا غنيا بقضايا مصيرية تشغل بال الإنسان العربي ومشحونا بفيض دلالي وفق علاقة جدلية ناتجة عن إمحاء التنافر بين الشكل والمضمون وذات أبعاد جمالية قادرة على التأثير في الملتقي. [1]

ومن المعروف أن الرواية بناء يتألف من عناصر عدة يجب تماسكها وترابطها ومن عناصر الرواية البارزة اللغة والزمان والمكان والشخصية، وتلعب هذه العناصر دورا بارزا في تحقيق الرواية هدفها الأكبر وهو نقل الحياة والطبيعة البشرية بشتى أحوالها وألوانها لإدراك معنى الحياة ودواخل الذات الإنسانية، ونجاح الرواية في إحقاق هدفها الأكبر منوط بأنه كيف يستخدم الرواي عناصر الرواية إذا استخدمها بشكل ممتع فنجاحها في تحقيق هدفها مضمون ولكن ليس هناك أي ضمان لنجاحها في تحقيق هدفها إذا استخدمها الروائي بشكل غير مناسب.

أما حال إبراهيم نصرالله في استخدام عناصر الرواية البارزة فهي قائمة على درجة عليا في هذا الصدد وبصفته مطلعا على الآداب العربية والغربية وبكونه ماهرا في اللغتين العربية والإنكليزية وعالما بفنون الفلسفة والأدب والنقد واللغة والترجمة يعرف بصورة جيدة طريقة استخدام عناصر الرواية لكي تؤثر في نفوس القارئين أثرا كبيرا وتنقلهم من وعيهم العادي إلى الوعي الذي يجره الكاتب إليهم.

فيقول الدكتور مرشد أحمد في كتابه ” البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصرالله ” ومن خلال المؤشرات النصية في روايات إبراهيم نصرالله وجدت أن الروائي ضمن نصوصه ثلاثة عناصر هي : الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وقد ألح عليها عبر مدار الحكي ولذالك استحوذت على مساحة نصية واسعة من منظومة الحكي الروائي وباستثمار هذه العناصر الدالة يمكن إنتاج الدلالة وما يميز هذه العناصر أنها تشكل وحدة موضوعية وتتصف بالترابط والاتساق والتكامل مما يمكنها من تشكيل نسق دلالي له خصائصه وجمالياته وبفعل مجاورة هذين النسقين : البنائي والدلالي يتشكل نسق العالم الروائي الذي يشير إلي اتساق العالم الداخلي في روايات إبراهيم نصرالله وهذا الاتساق كفيل بأن يجعل الروايات تختزل مسافة التلقي وتكسب جمالياتها[2].

ومن أهم العناصر والملامح والوسائل الفنية التي يستخدمها إبراهيم نصرالله في رواياته هي لغته العذبة المشرقة التي تجذب نفس القارئ إليها وتعمل في نفسه عمل الإبداع والشعور برشاقتها وروعة صورها أن الدارس المتأني ليدرك لدى قرائته إياها أن وراء هذه اللغة يدا صناعا تعرف كيف تنتقي الألفاظ انتقاء مقصودا متمهلا متدبرا بعد أن رصفتها بأناقة في بناء جميل لكى تؤثر على القارئ وعلى سبيل المثال أنا أقدم لكم نبذة من روايته تحت شمش الضحى “وعندماعاد للأوراق التي أمامه، أحس بـأن الحياة قسمان: واحدة تمضيها وواحدة تعيشها،  قال له ياسمين كلاما متشابها: ما الفرق بين حياة إنسان و إنسان؟ ذات يوم قرأت لكاتب عربي كلاما استوفقني كثيرا، قال {قد أستطيع كتابة ألف صفحة عن طفل لم يبلغ بعد العاشرة من عمره، ولا أستطيع كتابة سبعين صفحة عن رجل بلغ السبعين، تسألني، لماذا ؟ سأجيبك: لأن منسوب الحياة في الأول أكثر ارتفاعا بكثير من منسوب الحياة في الثاني، فالأول عاش الحياة والثاني عبرها}”[3].

ولا يقصد الروائي إبراهيم نصرالله بشاعرية اللغة الدغدة السطحية التي تثيرها الألفاظ في النفس لوقعها الجميل بل يقصد بها أن يهيئ النفس لتتقبل الجوّ الخيالي الذي يخلقه الحدث القصصي، وشاعرية اللغة في الرواية كشاعريتها في القصيدة تنقل القارئ من واقع الحياه العادي إلى ما يخلقه الكاتب من أجواء تشير إلى الواقع غير العادي ولكنها من صنع الخيال ، ومن خلال دراسة روايات إبراهيم نصرالله الكاملة يمكن للقارئ أن يدرك بأن كل صفحة من صفحات رواياته مشحونة بشاعرية اللغة ولا تخلو أي صفحة منها ولكن درجة الشحنات تختلف من صفحة لأخرى .

ويعد التوظيف المكثف للغة الشعرية الوصفية في روايات إبراهيم نصرالله مظهرا أساسيا فيها مبتعدا عن اللغة التقليدية البسيطة مستخدما لغة إيحائية مليئة بالمجازات والاستعارات، وبالرغم من وجود مثل هذه التشبيهات والاستعارات في لغة الرواية التقليدية إلا أنها لغتها كانت قائمة على التشبيهات والاستعارات فإنها من باب الاستعارات الميتة التي يحيا بها الناس العاديون ويتداولونها وتشكل جزأ من حديثهم اليومي، بينما هي عند نصر الله في اتجاهه الحداثي في الكتابة تشكل دعامة لغوية أساسية لخطابه الروائي، والمعروف أن الخطاب الروائي بشكل عام هو بنية دالة أو تشكيل لغوي سردي دال يصوغ عالما خاصا تتنوع و تتعدد في داخله اللغات والأساليب والأحداث والأشخاص والعلاقات والأمكنة والأزمنة، دون أن يقضي هذا التنوع والتعدد والاختلاف على خصوصية هذا العالم و وحدته الدالة بل يؤسسها، وقيام هذا البناء اللغوي على الاستعارة يجعل الخطاب الروائي قريبا من الخطاب الشعري[4].

وأحلي شيء في معظم رواياته الذي يتبادر إليه النظر ويخلق غاية الاهتمامات والعنايات لقراءها هو التقاطع مع الشعر في الاستهلال الذي سبق الرواية، لأنه يبدأ بأبيات تصور المعاني والمبادئ في أسلوب رشيق ممتع و في جمل تأسيسية جامعة تلقي الضوء على الفكرة الهامة المعنية وتعبر عما تكنه وتشعره كثيرمن الصدور ولكن لا تجد الكلمات التي تحسن التعبير عنها على أسلوب رائع خلاب الذي يجلب القراء إليها :

جنوبا …… جنوبا

حيث البحر الأحمر

وسمك القرش الأبيض

“” والقنفذة “”

جنوبا …… جنوبا

حيث طاولات المقاهي المتبعة

وأسراب الذباب الثقيل

كانت الشوارع تنتهي في جسد المدينة

إلى الفراغ

والمياه المندفعة من أعالي عسير

عبثا تحاول الوصول إلى الزرقة

جنوبا …… جنوبا

كان الرجال يندفعون من الشمال

أو يعودون إليه

والحصاد الوحيد الذي يقطفهم

عزلة قاتلة

ومزيد من القهر[5]

وقد حافظت الجملة من حيث الأسلوب التركيبي على نمطها الخبري، ولم يعمد الشاعر إلى توظيف الأساليب الإنشائية، بل اعتمد عوضا عن ذالك على شعرية اللغة وأدواتها في بناء حركة النص، ولعل الدوافع وراء هيمنة الأسلوب الخبري هنا، تعود إلى أن مقصديه هي البوح والتعبير عن تلك النوافذ كمكان وكحضور، فهي البطل الذي يلعب دور البطولة في النص بدون منازع .[6]

إن تجربته الروائية تعد من التجارب العربية الحديثة الناضجة والخصبة، لما تشتمل عليه من قيم فنية مهمة تميزها على مستوى التجربة الروائية في الأردن خاصة وعلى مستوى الرواية العربية عامة، إذ تتصف بشمول الرؤية، وعمق النظرة ونجاح التقنيات الإبداعية ولا سيما الوصف .[7]

ومن عناصر الرواية البارزة الأخري الزمن وله دور مهم في جعل الرواية مؤثرة، فعلى الروائي أن يصوره تصويرا قابلا للتصديق لدى نقل حقيقة الحياة ودخيلة الإنسان إلى صفحات روايته على وجه عام في أغلب الروايات العربية تسير آونة الزمن سيرا أفقيا من الماضي إلى الحاضر وتتجه إلى المستقبل بصورة متسلسلة ولكن إبراهيم نصر الله لا يتبع هذا التصور الزمني وذلك لأن هذا التصور في وجهة نظره يضيق عن تصوير الوعي الإنساني بالزمن ويرى إبراهيم نصر الله أن الإنسان كائن ذو ذاكرة تتجمع فيها آناء الزمن تجمعا غريبا فيخلط فيها الماضي بالحاضر ويؤثر ذلك في ما تختزنه الذات من تطلعات المستقبل.

فيقول الكاتب غاستون باشلار في بنية الزمن في روايات إبراهيم نصر الله : إن الزمن الروائي لم يكن قليل الشأن وإنما كان ذاحضور فاعل في النص الروائي بسبب براعة الروائي في تحويل الزمن إلى مادة طيعة نقلت مزيجا من الأحداث الغرائبية والواقعية، وتقاطعت فيها السياقات الحكائية التي تم حكيها وفق أنظمة صوفية ذات إيقاع يتسق منطق الحكي ويحقق جماليات التلقي، و ذالك امتاز كل نص روائي بنمطه الزمني و تقنياته الزمنية التي تناوبت علي الحكي وقيم الزمن الخاصة به[8].

فليس من الضروري أن تتم المطابقة بين تتابع الأحداث في النص الروائي والترتيب الطبيعي لها كما وقعت بالفعل، لأن السارد ليس بوسعه أن يحكي عددا من الأحداث في آن واحد، وهذ التمايز بين زمن الحكاية و زمن الحكي هو الذي يمنح الحكي الروائي سمة جمالية تميزه عن الأنواع الحكائية الأخرى، ومهارة الروائي الفنية تظهر لا في حضور هذين الزمنين في روايته، بل على قدرته في نجس الحركة بينهما بحيث تنتج اللعبة الفنية بين هذين الزمنين أو في حركة العلاقة بينهما و دلالاتها، و بحيث تتسق هذه الدلالات المولدة علي المستوى الفنى و دلالات العناصر الأخرى في النص الروائي[9].

لذلك يمكننا أن نرى أن إبراهيم نصرالله يبني لروايته هيكلا زمنيا محددا، قد يكون ليلة واحدة وقد يكون سنة واحدة وقد يكون أسبوعا واحدا وقد يطول الزمن أحيانا إلى ما يقارب نصف قرن من الزمن، وهذه الخلافات الزمنية ستجدها على وجه الكمال والتمام في جميع رواياته المصدرة في ضمن “الملهاة الفلسطينية، والشرفات” وهو يستعين بالذاكرة الحافلة بالأحداث والتجارب لشخصيات الرواية ومن خلال الذاكرة يعرض أشياء كثيرة على امتداد القرن بل القرون.

ومن أهم عناصر الرواية الأخرى المكان واختار إبراهيم نصرالله في رواياته أماكنة محدودة مثل القنفذة في روايته “براري الحمي” ومخيم الوحدات في روايته “طيور الحذر”  وعمان في روايته “حارس المدينة الضائعة”  و أماكنة غير محدودة أيضا مثل المدينة في روايته “عو” و المخيم في روايته “مجرد 2 فقط”  ونحو ذالك البلاد والعاصمة والمعسكر.

فيعد المكان من أحد المكونات الحكائية التي تشكل بنية النص الروائي لكونه يمثل العنصر الأساسي الذي يتطلبه الحدث الروائي والشخصية الروائية في الوقت نفسه، ولهذا يلعب دورا مركزيا  داخل منظومة الحكي لأن الحدث الروائي لا يمكن أن يتم في الفراغ، بل لابد من مكان يقع فيه كي ياخذ من مصداقيته وتتم عملية تبليغه بنوع من المصداقية إلى المتلقي، ولكون النص الروائي يتسم بتنوع الأحداث و تغيرها، يقتضي هذالأمر تعدد الأماكن وتنوع تجلياتها حسب السيمات التي تتوالى في الحكاية، ولهذا جزم “بوتور” بعدم وجود نص روائي تجري حوادثه في مكان واحد، و إذا ماتجلي للمتلقي أنها تجري في مكان واحد، فإن هذاالمكان يخلق في ذهن المتلقي أفكارا تنقله إلى أماكن أخرى[10].

ولكنه أبقى لكل شخصية من شخصيات الرواية ذاكرتها ومن خلال الذاكرة يستطيع الكاتب أن يبرز جميع الأمكنة والمدن والبلدان التي تتعلق بها الشخصيات أو تسافر إليها بسبب من الأسباب.

وقد لعبت التغيرات الاجتماعية التي طرأت علي المجتمع العربي والتبدلات الاقتصادية التي تعرض لها والأحداث السياسية المتواترة التي هزت كيانه ووسعت الفرقة بين أقطاره بالإضافة إلى تعرض الوطن العربي للغزو الاستعماري بطرق مختلفة طمعا بخيراته و موقعه الاستراتيجي دورا هاما في لفت نظر الروائيين العرب إلى المكان[11].

وعلى الرغم من هذا الاهتمام بالمكان على مستوى الإبداع الروائي، لم يحظ المكان بالاهتمام المناسب من النقاد العرب، وما كتب عنه اعتمد على الدراسات النقدية الأجنبية، وهي قليلة و قسم منها غير مترجم، فلم يبق حظا وافرا من الدراسات بالقياس إلي الزمان والشخصية، وكل ما كتب عن هذه البنية الحكائية بقي محصورا في رتبة الاجتهادات[12].

تعد الشخصية إحدى المكونات الحكائية التي تشكل بنية النص الروائي لكونها تمثل العنصر الفعال الذي ينجز الأفعال أو يتقلبها وقوعا التي تمتد وتترابط في مسار الحكاية، ومن أجل أن تقوم الشخصية بإملاء اللحظة الشخصية المستندة إليها تأليفا وتفهم بالواقع وتمتلئ بروح الحياة، يعمل الروائي على بناءها بناء متميزا محاولا أن يجسد عبرها أكبر قدر ممكن من تجليات الحياة الاجتماعية، ولذالك يمكن القول: إن الشخصية الروائية يمكن أن تكون مؤشرا دالا على المرحلة الاجتماعية التاريخية التي تعيشها وتعبر عنها، حيث تكشف عن نظرتها الواعية إلي العالم، وهذه النظرة هي أرقي أشكال الوعي لدي الإنسان وموقف خلاق يسهم في امتلاك الواقع جماليا، لأن غني وعمق الشخصيات المخلوقة فنيا يتبعان غني وعمق المجرى الاجتماعي الشامل، ولهذا تعد الشخصية الروائية أحد المقاييس الأساسية التي يعتمد للاعتراف بكاتب الرواية أنه روائي حقيقي[13].

وكذلك من أهم عناصر الروايةالشخصية ويعطيها إبراهيم نصرالله عناية كبيرة ومن خلالها يعبر عن تجاربه وفهمه لمعاني الحياة والإنسان وبسبب التجربة الفلسطينة التي عاناها الروائي قبل سنة 1948م في فلسطين وبعد سنة 1948م خارج فلسطين وخصوصا في الأردن و العراق وسوريا تحتل شخصية الفلسطيني مكانة مرموقة ورئيسية في كل رواياته تقريبا وهو يحيطها دائما بمجوعة صغيرة من الشخصيات الأخرى التي تتفاعل معها لإبراز المزيد من مزاياها، فمن شخصيات إبراهيم نصرالله الفلسطينية الرئيسية هي العلم العربي أحيانا و قد تكون العلم الأجنبي من أمثال ” ميشيل، بلوتر، أنطونيو، غور باتشوف، بوش” .

إن التنوع فتح أمام إبراهيم نصرالله أفقا واسعا، وحفزه على اختيار ما يراه مناسبا لشخصياته، فاشتغل هذا الحافز المتاح أمامه واختار أسماء لشخصياته من الحياة المعاصرة ” فؤاد، حنون، فيصل ” ومن أسماء الرسل والصحابة ” يوسف، عيسي، عمر، علي، حسان، سلمان، عائشة، فاطمة ” ومن التاريخ العربي “نعمان، سعد، خالد” ومن الأسماء المنسوبة إلي المكان ” إبراهيم الدمنهوري، سالم الشمراني ” ومن الصفات “رجل جهم، رجل طويل” ومن المهن” الجنرال، الجزار” وكذالك تتجلى التنوع في الاكتفاء بالإسم المفرد “ثريا، نبيلة، سالمة، حامد” وفي الاكتفاء بالكنية “أبوصلاح، أبوعلي”[14]، فهذ التنوع يشير بوضوح إلي أن الروائي لم يعتمد في اختيار أسماء شخصياته على مصدر واحد بل على مصادر عدة، حيث متح من الحياة قسما وغرف من التراث العربي المتعدد الأنساق القسم الأكبر، من إيحاءات اللغة العربية وجماليات صرفها القسم الباقي، وهو ناتج عن تراكم أسماء الشخصيات في روايات إبراهيم نصر الله كلها وهو يعين الراوي على بناء الشخصية بصورة أفضل مما لو كان مجال الاختيار محددا، وبه أيضا تصبح الشخصية اكثر جمالا من حيث الإسمية و أكثر قبولا لدى المتلقي[15].

 

إنجازاته في موضوعات أخرى

يعتبر الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصرالله من أشهر الروائيين والشعراء العرب، وإذا تعمقنا في أعماله الأدبية الرائعة نجده شخصية ذات أبعاد مختلفة وأفكار شاملة ومؤهلات إبداعية وتخيلات بديعة، فلو نظرنا في رواياته لاعتبرناه روائيا كبيرا بدون أي تفكير، ولوسمعنا أشعاره لقلناه أشعر الشعراء تأثيرا بدون أي تمهيد، ولو قرأنا كتبه الأدبية الأخري لفهمناه أروع الكتاب صناعة بدون أي غموص، وهذا ما تدل عليه خدماته الأدبية الشاملة وقوته الإبداعية الخيالية التي بها يقدم تصويرا جليا لأحداث المستقبل ووقائع الماضي كأنهما يتحركان بين يديك أو على الشاشه وأنت تراهما بعين الاعتبار حتي تعتبر أنت نفسك جزء هاما منهما، لأنه حينما يكتب يتأمل بدقة في دواخل الإنسان ويراقب جميع جوانبه وتتقاطع الغرائبية والعجائبية والأسطورية مع محاولاته التجريبية في الأبعاد الكتابية المبنية على المشاعر والأحاسيس الإنسانية، وهو دائما يراعي كل المراعاة البعدالواقعي في انتاجاته الأدبية الذي يتجاوز الوثوقي واليقيني، محمّلا في ملامحها الأساسيّة بأسئلة الواقع والحياة والوجود والمصير، فبعض كلماته المستخدمة في كتاباته الأدبية تدل بوضوح كامل على تفكيره الطويل في الإنسان الكئيب المنهوك الذي ليس لديه أمل العيشة الراضية والحياة الرغيدة لأنه لايستطيع أن يقف علي رصيف واحد أو أن يقر على منصة مستقلة تعطي له فرص العمل وفرص التطور والإزدهار، مثلما يقول في بعض كتاباته “الدموع ليست هي الحزن، الحزن هو أن تستطيع أن تمنع نفسك من أن تبكي أمام أحد من أجل هذا الأحد” و “الرياح التي نثرتني في الجهات هل كان يمكن أن تفعل ذلكل وأنها توقفت قليلا لتسمع صيحة أشجاري” و “في الخيل عزّه لايستطيع الإنسان أن يفهمها، إنها تحزن ولاتبوح، وتتألم ولا تنكسر يا ظاهر، كأنما تسرب من الفرس البيضاء إلى داخلك، لميكن حليبها وحدها، ولكن عليك أن تتذكر أنك إنسان أولاً وأخيراً” فمثل هذه الكلمات العذوبة النعومة تزيد من أعماله الأدبية رونقا وبهاء وحسنا وجمالا وتترك علي قراءها الأثر الأعمق الأشمل وتخلق لهم حياة من جديد و تحيي جميع أمنيتهم، فهم يسعون لتحقيق تطلعاتهم ولتحسين حياتهم .

أسلوب إبراهيم نصرالله الشعرية

يقرر الشاعر إبراهيم نصرالله، ويوضّح كلامه بقوله: الشعر في جوهره ليس ابنا للهزيمة أو للبشر المهزومين، بقدر ما هو توأم الروح الرافضة للهزيمة، أوالذاهبة لمطلقها الإنساني بزهو، لأنّ المرء حين يتخذ الهزيمة مسكناً له لا يُمكن أن يرى سوى جدرانها القاتمة، والشعر دائماً خارج هذه الجدران لأنه ابن الحياة [16].

ومن هذه الرؤية الواضحة لدور الشعر وعلاقته بالإنسان، ولإيمانه بأن السؤال الجدير بالطرح هو: هل يعيش الإنسان أم يموت؟ انطلق ابراهيم نصرالله حاضناً حلمه الكبير بالآتي، رافضاً التسليم بالهزيمة التي يُعاني منهاعالمه العربي والإنسان العربي، مجاهراً: لنبدأ من حلمنا أوّلاً [17].

عاش إبراهيم نصرالله فترة طويلة من حياته في الأردن ومازال، فقد نشأ وترعرع في أحضان الأردن وقد ظهر ذالك جليا في شعره وأخذ أبعادا كثيرة فأحب عمان والسلط ومأدبا والبترا، وظلت تلح تلك العلاقة القريبة الودودة، ومن أكثر المدن ظهورا في شعره عمان، فقد عبر عن علاقته بها بأشكال مختلفة وجميلة من التعبير، فعنونت بعض قصائده بإسمها الصريح، ففي ديوان “أناشيد الصباح” هناك قصيدة معنونة بأزهار عمان وحين طلب إليه في إحدي المقابلات أن يختار مكانا أردنيا ترك أثرا في قلبه أجاب : في الأردن ربما عمان وضواحيها ربما أكثر من البترا نفسها، إن عمان التي أحبها الشاعر تبدو في شعره عنوانا للحب والفرح والحزن معا، ويبدو كذالك تعلقه فيها كمكان مميز له في الروح والذاكرة حضور لايمكن الانفلات منه أو الإنسلاخ عنه، سواء أكانت في حالة القرب أو البعد [18].

وذلك يتضح تماما في جميع أعماله الشعرية على الأعم ولكن يجدر هنا على الأخص ذكر نبذة من قصيدته “للبحر هيبته …وانحني” التي استخدم فيها كلمة عمان بكل صراحة وهي فيما يلي :

والتقينا فقالت

لعمان لون جرحي

ولون حنيني

ولون التي لم تزل ترتديني

ترابا……. وماء

والتقينا فقالت

لعمان لون حنيني

ولكن ربما بفطرة روح الشمال

تسافر للبحر كل مساء[19].

يريد الشاعر إبراهيم نصرالله أن يعبر في هذه الأبيات عن المودة والمحبة تجاه بلاد الأردن عامة وعاصمتها عمان خاصة التي وفرت له المأؤى الملائم للمناخ الثقافي والتعليمي والتطويري والتنافسي، فهي تحتل مكانة سامية وحيزا ملموسا في قلبه وأشعاره وقصائده وتلوح ذلك بعدة صور نحو لون جراحه وحنينه، والتراب والماء تدل بوضوح على أساسات الوجود الإنساني في هذه الأرض الخصبة المفعمة بالفرص، وهي تقرب إلي العواطف والمشاعر الداخلية لقلب الشاعر وتحمل من مقومات الحياة المتجددة وتصويرا واضحا للحنين إلي الأم وحضورها.

ومن المعروف أن الشاعر ضمير أمته وقلبها الحي الذي لا يستطيع أن ينفصل عنها، لأن مكوناته الفكرية ومرجعياته نشأت وتشكلت بين أحضان أمته، فنشأ بفكرها وبقيمها ولديه من الرموز والمرجعيات ما لديها، وقد وظف إبراهيم نصرالله في شعره هذه الرمز ليعبر عن صلاته القوية مع أمكنته وتبلور ظهورها في نصوصه الشعرية محملة بإيحاءات ورموز تكشف عن مدي قدسيتها، وعن حبه لها، فظلت حاضرة في نصة مثل مكة المكرمة ويثرب والقدس [20].

فكثيرا ما يعرب الشاعر إبراهيم نصرالله عن ارتباطاته القوية الجمة واتصالاته الروحية الشديدة بالأمكنة ذات القدس والجمال والشرف والكرم ويختار في ذالك رمزا للتعبير عن شوقه ورغبته كي يظل الحب بينه وبينها للأبد، ويزيد من روحه وقربه وانعطافه ويستخدم رمزا دينيا ممزوجا بالأحاسيس التي تكنها صدوره كشاعر يربط بمكانه وتاريخه وشائج ممنونة وذاكرة عظيمة، كما يتضح ذالك فيما يلي :

أيا حب عد

مكة الآن أقرب

أياحبعد

لم يعد لي طريق لأطلق نافذتي طائرا أو رسائل

إني أعود وألف سراقة خلفي [21].

فخلال دراسة أعماله الشعرية وجدت أن معظمها يعتمد على مبدأين رئيسيين من محور الذات الشاعر ومحور المكان النوافذ، وتتفرع منهما أمكنة الدلالات الفنية المختلفة من معجم الإنسان وما له ارتباط كبير به كالنبض والقلب، ومن معجم المكان وما يتصل به من أمثال النوافذ والتلال والسلال والبحار والجبال، ومعجم الكائن غيرالعاقل مثل وردة الثمر، ومن معجم الطبيعة كالغيم والقمر والصخور وعتمة الليل، فتؤدي استعمال هذه الكلمات بسهولة ورشاقة دورا هاما في خلق المناخ الملائم للدلالة التي ينتج منها الشاعر كل معاني المحبة والمودة والرغبة والحنانة، وتتمتع هذه المعاجم بعلاقة وطيدة فيما بينها التي تدوم ولا تنفصل أحيانا ولكن اتصال الشاعر بها يظل مميزا ومختلفا عن غيره من البشر، فمن خلال هذه الأشياءالمختلفة والأساليب العديدة يحال الشاعر إبراهيم نصرالله أن يقدم لك صورة واضحة للغاية للحياة النابضة والحب المكنون في القلب الإنساني والعواطف التي تغلي فيه، فقد قام بتأليف بمجموعات شعرية مختلفة علي مواضيع شتى من أشهرها “الخيولعلىمشارفالمدينة” و “نعمانيستردلونه” و “الفتىوالنهروالجنرال”.

أسلوب كتابته على موضوعات مختلفة

فيما سبق قدمت أعماله الروائية والشعرية بالبسط والتفصيل ولكنه كتب ماعداهما على المواضيع المختلفة الإنشائية كأدب الأطفال والنقد والقصص القصيرة والسينماء والتاريخ، فاللغة والأسلوب المستخدمة فيها عامةيقولالدكتورحسيننشوان عنها:

تشكل تجربة الشاعر والروائي إبراهيم نصرالله حالة متميزة على صعيد التنوع الإبداعي الذي تجلى في انشغالاته الشعرية والسردية والنقدية والبصرية بما يمكن معه وصف تجربته “بعابرة الأجناس” التي تؤكد وعي الكاتب لطبيعة التحولات على صعيد الأدب التي تتوازي مع حركية العصر وتطوره التقني، وقد رصد نصرالله هذه التحولات في عدد من الدراسات النقدية والآراء والرؤئ والشهادات الإبداعية والحوارات التي تمثل إطارا نظريا لتجربته الإبداعية التي طاولت غالبية الفنون، وحقق خلالها نحو عشرين كتابا في الشعر والرواية والنقد الأدبي والسينمائي والتشكيل والفوتوغراف وكتابة الأغنية، وبالمقدار الذي صاغ فيه نصرالله تجاربه الإبداعية وفق أجناسها الخالصة فقد أفاد أيضا من تعدد اهتماماته وانشغالاته في إثراء أعماله الشعرية والروائية والنقدية انطلاقا من رؤية عميقة لتداخل الفنون والآداب وما يستتبعه من تطوير للتقنيات [22]

هوامش المقال:

[1]  الدكتور مرشد أحمد ، البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصرالله ، ص  : 13 ، الطبعة الأولى: 2005 ، المطبعة: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

[2]  المصدر نفسه ، ص : 14

[3]  إبراهيم نصرالله، تحت شمش الضحي ، ص  : 146، الطبعة الرابعة: 2012، المطبعة:  الدارالعربية للعوم ناشرون ، بيروت ، لبنان

[4]الدكتوراة نداء أحمد مشعل، الوصف في تجربة إبراهيم نصر الله الروائية ، ص  : 386/387، الطبعة الرابعة : 2015 ، عمان ، الأردن

[5] إبراهيم نصر الله، براري الحمي، ص : 5

[6] الدكتور دلال حسين عنبتاوي، المكان بين الرؤيا والتشكيل في شعر إبراهيم نصر الله، ص  : 215

[7] الدكتوراة نداء أحمد مشعل، الوصف في تجربة إبراهيم نصر الله الروائية ، ص  : 13/14 ، الطبعة الرابعة : 2015 ، عمان ، الأردن

[8]غاستون باشلار، جدلية الزمن، ص : 68

[9]  الدكتوراة يمنى العيد، في معرفة النص .. دراسات في النقد الأدبي، منشورات دار الآفاق الجديدة – بيروت، الطبعة الثانية : 1984، ص : 233

[10]ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ص : 61

[11] أحمد مرشد، المكان في الرواية العربية، 1995، ص : 84

[12]حميد لحمداني، بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت،الطبعة الأولى : 1991، ص : 62

[13]الدكتور مرشد أحمد، البنية والدلالة في روايات إبراهيم نصرالله، ص : 33، الطبعة الأولى: 2005 ، المطبعة: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت

[14] المصدر نفسه، ص : 41

[15]المصدر نفسه، ص : 41

[16]حوارللشاعرمعالكاتبأنطوانشلحت،الاتحاد، 16 شباط2001، حيفا

[17]إبراهيمنصرالله،الأعمالالشعرية،قصيدة “بينالماءوالماء.. هذاحلمي”المؤسسةالعربيةللدراساتوالنشر،بيروت،طبعة،أولى 1994، ص : 12

[18] الدكتور دلال حسين عنبتاوي، المكانبينالرؤياوالتشكيلفيشعرإبراهيمنصرالله، ص : 21/22

[19]إبراهيمنصرالله،الأعمال الشعرية،ص: 24،الطبعةالرابعة : 1994،المطبعة : المؤسسة العربية للدراسات

[20]الدكتوردلالحسينعنبتاوي،المكانبينالرؤياوالتشكيلفيشعرإبراهيمنصرالله،ص : 189

[21]إبراهيمنصرالله،الأعمالالشعرية،ص : 581،الطبعةالرابعة : 1994 ،المطبعة : المؤسسةالعربيةللدراسات

[22]الدكتورحسيننشوان، عين ثالثة في ….دراسة في أعمال إبراهيمنصرالله، ص : 3

*الباحث في الدكتوراه بمركز الدراسات العربية والإفريقية بجامعة جواهرلال نهرو بدهلي الجديدة، الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of