+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

قصة قصيرة: خيبة
محمد الدرقاوي

 تعمدت أن تتركن  في زاوية  تواجه  باب مقهى المحطة، تطويها اللهفة ويؤرقها  الترقب والانتظار. أمامها فنجان قهوة نفد حتى الثمالة..  وهي تحاول أن تطلب فنجانا آخر، لفت نظرها رجل ستيني على أحد المقاعد المقابلة ،وقد انشغل عن كتاب بين يديه ، يتابعها بنظرات الإعجاب. كان الرجل مبهورا بجمالها وأناقة هندامها، قدرانشغاله بقلقها منثورا من عينين حجلاوين، واهتزاز شفتين  ممتلئتين لأنثى  تنبض بالحياة ، وتصرخ الأنوثة من صدرها النافر المتناسق ،وكأن الله ما امدها بوجه قمحي وأنف خناسي صغير الا ليكمل صورة البهاء في خلقها ، فلاغرابة إن  هو انشد اليها ،يتابعها بنوع من القلق اللحظي تلبَّسه على من ترك أنثى بفتنتها على جمرات الترقب والانتظار، تمسح بلهفتها أركان المقهى .. قلقه عليها لم يكن  أكثر مما  يعتمل في صدرها من  قلق وجودي جعلها تخشى لحظتها ،ماقبلها وما بعدها، بين تعاطف ونفور من المكان، كانت  تزفر قلقها وهي تتابع كل داخل وخارج، يمناها على ساعتها اليدوية تارة و عيناها على ساعة المحطة  تتعجل عقاربها السوداء الكبيرة وكأن صهيلا ما يمور في نفسها…
وهي تلامس فنجان قهوتها الثاني ، وجدت أن  عيني الرجل مصوبتان نحوها  لاتغادران وجهها .. رجل على وشك الستين،  أنيق ، يصير أكثر جاذبية وقدرة على الإثارة  حين تتبسم عيناه   .. شجعته ببسمة تحية وكأن لها به سابق معرفة.. قذفت بسمتها في نفسه قوة، هي نفس القوة التي حاولت أن تطرد بها كل اثر لانزعاجها النفسي ،أو جزع من انتظار طال .. ترك الرجل  مكانه وتقدم منها ، حياها ثم سألها ان كان المقعد الثاني قبالتها فارغا..
قالت وكانها تهمس ردها  وقد أبهرتها جرأة ما تعودتها من قبل :
ـ تفضل ، لا احد..
خفف من قلقها  ان تجد مؤنسا تبادله كلمات ريثما يصل من تنتظر ، فعلى الأقل تملأ به إحساس اليأس الذي شرع يدب في  نفسها ،وربما ان كان من نفس المدينة يستطيع أن يرشدها الى ما تريد ، الى أن تعود من حيث أتت حيث ينتظرها أخوها الذي تعلقت بالسفر معه  ادعاء أنها تريد أن تزور صديقة عزيزة ..  اقلقتها عيون الرجل التي التصقت بوجهها، بصدرها، وكأنها تريد ان تلتهمه، فهو أكبر سنا ممن تنتظر، أو ممن قد يثير أنثى في عمرها رغم وسامته .. لا  باس ان تحتمله وتقضي وقتا في رفقته، فجرأته قد لا تصل الى درجة التحرش أو العبث بها ..
أدركت أنه يروم قول شيء، او ربما يحاول كسر لحظة اللقاء الأولى، فرغم جرأته كان  كثمل غيَّبه سكره فشرد ، لا يدري ما يدور حوله .. كان مفتونا بها والفتنة قد غيبت لسانه في حلقه …أو ربما قارن عمره بعمرها فوجد أنها قد تستصغر شأنه . بادرته بسؤال عساه ينفك من وثاق دهشته :
هل السيد زائر أم  من سكان المدينة ؟
رد بتلعثم وكأنه استفاق من نومة :
ساكن مقيم  .. اسمي عبد الكريم ، ناديني كريم
اشرقت بسمة اطمئنان على وجهها ،ثم دبت فرحة غامرة بين جوانحها  حين قرات  اسم مؤلف الكتاب الذي بين  يديه ، هي تعرف صاحب الكتاب ومن  أجله ركبت خطر مغامرة السفر؟
هل تعرف السيد كريم  صاحب الكتاب ؟ بادرته في لهفة،
انتبه وكأنه قد نسي مافي يده ، مسح الكتاب بنظرة وقال :
الكتاب لي ، مجموعة قصصية أنا صاحبها..
اكفهر وجهها مما سمعت، وانطفأت البسمة التي كانت علت محياها؛ مفاجأة صادمة حقنتها بنوع من القلق والخوف  والخيبة، نار في صدرها قد أوقدها رده…
قالت بصوت يهتز و قد جف حلقها، فبادرت الى كأس ماء تتوسل ما تبقى فيه:
ألم يكن السيد كريم يترقب أنثى في المحطة ؟
جفل !! .. كيف عرفت ؟ هل هذا من ذكائها ام مجرد تخمين؟
قال بتلعثم بَيِّن :
نعم ، لا .. لكن يكفي ان أحدث انثى بجمالك فأكون قد حققت هدف وجودي..
بدأت تخرج من جزيئاتها الى كلية زادت عمقها اضطراما..هو لا محالة، كان ينتحل اسما وشخصية غير شخصيته وعمرا غير عمره الحقيقي ،كيف أغراها بالقدوم اليه وهو يدرك أنها لن تصمت عند لقائهما عن إهانة مثل هذه؟  وحين تراه حقيقة حضور !! .. هل هو غرور الرجل ؟ أين المبادئ التي كان يروجها في احاديثه وخواطره وقصصه؟ هل صار كل الرجال عن بكرة ابيهم جرثومة واحدة يكذبون ويلفقون للإطاحة بأنثى ذنبها انها لم تستطع التحرر من ثقتها في الرجل رغم الدراسة والثقافة والتحرر المجتمعي والوعي بوجودها؟
هي اللحظة أمام حقيقة لن تفر منها ويلزم أن تجابهها بما تستحق من سقي يروي غرور الجالس قبالتها وقد افتتن بجسدها قبل شخصيتها..
السيد كريم اسمعني من فضلك: قالتها بنوع من الحدة فاجأته:
عيب الرجل العربي انه لا يستقر على قرار ، يستغل دوما الحاضر السهل، يعشق المثل الذي تعلمه في صباه : عصفور في اليد خير من عشرة على شجرة ..أليس كذلك السيد كريم ؟
عبارتها أيقظته من غفلته ، وقد ابهرته بصراحتها وطلاقة لسانها ، لكنه استغرب من لكنتها غيرالمغربية وهي لا تتكلم الا بالفصحى. هل يعترف بحقيقة لحظته ؟ هل ينكر؟ وجد نفسه أمام أنثى واعية بخبرة وثراء نفسي..
بلع ريقه وقال : كل رجل امام انثى بجمالك لايملك الا ان يضعف..
رمت على وجهه بسمة ذات معنى ..عليها ألا تحسسه بقلقها ، بخيبتها ،بنوع من الاحتقار الذي صارت تحسه نحو الرجل العربي الذي لم يحاول ان يغير من نظرته الى أنثاه وكأنها ذيل تابع تنفذ بإشارة ،وتأتيه طوعا بلمحة .. قالت وكأنها تختبر عزيمته في التخلي عمن ينتظر :
أمد لك يد صداقة أولا فرجل في سنك لا يمكن أن أخشاه ، فهل تترك من تنتظر وتتجول معي في المدينة ؟
قال وقد استعاد جرأته  وانطلق لسانه:
ولماذا لا ننتظرها ونصير ثلاثة أصدقاء؟
ردت وعيناها مركوزتان في عينيه:
وهل انت واثق من قدومها ؟
قال: حتما هي في الطريق الى هنا.
تنهيدة عميقة  تخرج من صدرها:
ـ انك تربي يقينا وبه تكابر، السيد كريم ، فلربما تأتي مع الشخص الذي انتظر ومن أجله غامرت  بلا خطر ..قالتها بغير قليل من السخرية ..
بسرعة رد : لا أظن فمن انتظرها ليبية وصلت من ساعة الى المغرب ثم ركبت سيارة أجرة الى هنا ..
ركزت في وجهه طويلا ثم بادرت بنوع من التحدي الممزوج بالخوف من ان تنهار قبل ان تعرفه من هي؟:
هل تعرفها السيد كريم ؟
ضحك ثقة وقال : طبعا أعرفها وصورها معي.
قالت: ممكن أرى صورتها؟
وكأنه يمتطي الحقيقة ،وضع يده في جيب سترته الداخلي واخرج صورة أنثى وقدمها لها..
تملكتها حرقة تصعد وتنزل راكضة في صدرها ، وشرعت عيونها تنزف دمعا حارقا فجر صبرها..لم تكن غير صورة قديمة لها  بلا مساحيق ..اعادت له الصورة وهي تبتلغ غصتها ، فاجأه  موقفها ، فهو لا يعرف سببا لدموعها ولا لصدرها الذي صار كمنفاخ صاعد نازل … وقفت بعد ان تركت ورقة ماليه على الطاولة ثمن قهوتها وقالت له وهي بين التحدي والقلق والحنق:
آسفة حبيبي سعد، أنا من تنتظر، حبيبتك سناء !! .. من أغريتها بالمجيء اليك وانت لا تعرف حتى نفسك وحقيقتك، فأحرى أن تعرفها؛ أولا لم تصور لي نفسك أنك في سن والدي ،ثانيا يبدو انك ضيعت صورتي الأصلية من مخيلتك بل ضيعت حتى الحب الذي كنت به تتغنى ، وكنت مستعدا أن تترك أنثى وقد قطعت اميالا من اجلك ،ذنبها أنها تزينت بمساحيق غطت حقيقتها أمام عيونك لتعيش لحظة هي فرحة زمنها ، لهذا كانت اعماقك وما تخفيه اقوى من ردائك الذي تتزيى فيه ، أنا سناء الليبية التي عشقتك ياسعد ، وبك كانت مبهورة ،.. خروجي من موطني اليك رغم ما يمور فيه تجربة رخيصة عرفتني بحقيقتك..
أحس بنفسه تتضاءل ، تصغر ، وان كل ما كان يقمطه من اندهاش بجمالها  وجرأة في سلوكه معها  قد تصبب عرقا وساح تحته. .أراد ان يتكلم ، ان يدافع عن نفسه ، أن يشرح لها قصة ما  لا تعرفه عن شخصيته الماضية ..لكنها كانت اسرع منه الى سيارة أجرة ..
من وراء زجاج النافذة رأى دموعها تتسربل على خديها وكأنها تبكي خيبتها في رجل هو من غير حياتها ومن أجله ضحت بأسرة وعادات وتقاليد وخلقت مواقف لتصاحب أخاها فتراه ..كيف ضيع أنثى وحدها ملأت حياته بثقة وصدق من بين كل بنات المنتديات اللواتي كن يبادرن الى الارتماء بين أحضانه مشدودات بما يكتب ،كان عليه ان يفهمها انه كان يمارس مهمة بحث ودراسة عن المنتديات العربية ، وكيف تقمط  خلال أكثر من عشر سنوات في شخصية أتقن تشخيصها وحقق بها ما عقد من أجله صفقة مربحة ..
غادر المكان ونفسه صغار هو أكبر بكثير من عمره، ارق مؤلم وعذاب لا يتوقف…

*كاتب وباحث من المغرب 

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of