+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

تحولات الكتابة في الرواية الجزائرية: بنية الشخصية في رواية العين الثالثة لحبيب مونسي نموذجا
رشيدة عابد

 

ملخص البحث:

تعتبر الرواية من أكثر الفنون الأدبية انتشاراً وأقدرها تعبيراً عن أزمنة الإنسان المعاصر، وذلك لأنها تمثل ملحمته وسجل المجتمع البشري، تطرح بطريقتها الفنية المتميزة مختلف قضاياه التي شغلت الإنسان وتشغله، الأمر الذي جعل عدد الروائيين اليوم يعد بالآلاف، وتحول بعض الشعراء عن معاناة الشعر إلى إبداع الرواية وتعاطيها بشكل رهيب بالرغم من ظهورها متأخرة قياسا بالأجناس الأدبية الأخرى كالقصة والمسرحية لاسيما في الجزائر فلقد تعود الناس قراءة الرواية الجزائرية باللغة الفرنسية وترجمة معظمها إلى اللغة العربية ولكن اختلف الأمر في الوقت المعاصر حيث أصبح الناس يقرؤون الرواية بلغتهم الأم.

وتعد رواية”العين الثالثة”، إضافة جديدة في مسار “حبيب مونسي” الروائي الجزائري الذي أصبحت بصماته المتميزة في الخطاب الجزائري، فهو من الأقلام الإبداعية المهمة في الجزائر، ناقد متميز، وكاتب يسعى إلى تفعيل الدور الحقيقي للكتابة بأبعادها المختلفة       هاجس الكتابة لديه يتعاظم كلما تعمق أكثر في عوالم الذات والآخر، وهو روائي يشتغل   على إنتاج الجديد ويسعى إلى إبراز رؤية خاصة في معطيات الاشتغال بالنص وهنا تجدر الإشارة إلى جهود الأديب في البحث والتنقيب في الذاكرة الجزائرية التي صورها في قالب روائي متميز، ومن هنا أثرنا طرح الإشكال الآتي كيف تشكلت بنية الشخصة في رواية العين الثالثة؟

قبل أن ندرس بنية الشخصية في هذه الرواية لابد لنا من الوقوف باختصار على نشأة الرواية الجزائرية ، ومفهوم الشخصية :

1- نشأة الرواية :

 لعل هناك ظروفا كثيرة أسهمت في جعل من يكتب باللغة القومية مجهولا إلى حد ما، في حين أنها أسهمت في التعريف بمن يكتب باللغة الأجنبية في الجزائر حيث نجد بعض الدارسين للأدب الجزائري الحديث في البلاد العربية حين عرضوا   لهذا الأدب درسوا الآثار المكتوبة باللغة الأجنبية و لم يشيروا  إلى من يكتب باللغة القومية حتى أن منهم من نال جوائز تشجيعية ليس تقديرا لتفوقه، ولكن للدعاية وتشجيع الأدب الفرنسي طالما كان هؤلاء الكتاب يعبرون باللغة الفرنسية.[1]

والمعنى من هذا القول أن معظم الروائيين والقراء اتجهوا إلى كتابة وقراءة الرواية باللغة الأجنبية لاسيما باللغة الفرنسية وذلك بسبب الاستعمار الفرنسي.

الرواية الجزائرية هي نتاج الثورة الوطنية وإرهاصاتها، فلا يخفى على القارئ الذي يطالع الأدب الجزائري أن يلحظ فيه هذه الخاصية بوصفها هاجسا أساسيا يحرك عملية الكتابة، ولعل هناك أدباء كثيرون يكتبون عن الثورة لا عن قناعة وإيمان، بل يكتبون عنها مضطرين لأن قيمة العمل الأدبي لم تعد تكتسب  في الوقت الحاضر إلا بالمرور عبر جسر الثورة.[2]

إذن الثورة لها الدور الرئيسي في ظهور الرواية الجزائرية لأن قيمة العمل الأدبي كانت تظهر فعاليته عن طريق الثورة.

وإذا حددنا الإطار الزماني لنشأة الرواية الجزائرية فإننا نجد أنفسنا أمام ثلاث فترات تاريخية، كان لها الدور الحاسم في بلورة الوعي لدى الكتاب، وتحديد هوية الرواية الجزائرية فكانت البداية مرتبطة  بـثورة الفلاحين سنة 1871م التي كان لها مساهمات عظمى في تشكل الفكر الاشتراكي في الجزائر وتكريسه، من خلال الإسهامات التي قدمتها بشكل مباشر أو غير مباشر بتراثها الثوري.[3]

كانت هذه الثورة البداية الفعلية لإحياء الفكر الاشتراكي من جهة وخدمة الرواية الجزائرية من جهة أخرى بطريقة غير مباشرة.

   بينما نجد الفترة الثانية ذات صلة مباشرة بانتفاضة 1945م الجماهيرية التي أيقظت الحس القومي لدى الشعب، ودفعته إلى الاقتناع بأن الاستعمار مهما كان حضاريا فسيظل يستهدف إذلال  الشعب، وتصادف هذه المرحلة ظهور أول رواية جزائرية مكتوبة باللغة العربية (غادة أم القرى) لأحمد رضا حوحو 1946م.[4]

من هذا المنطلق تفطن الروائي وأصبح يستوعب القوالب الروائية وحيازته على اللغة الأدبية الخاصة به، هي من العوامل التي تلعب الدور المهم في تأصيل الرواية.

 وتعتبر(حكاية العشاق في الحب و الاشتياق) لمحمد بن إبراهيم أول عمل روائي جزائري، وكانت تعكس نتائج الحملة الفرنسية على الجزائر ، و يرى بعض النقاد أن النثر الأدبي في الجزائر لم يعرف إلا محاولة روائية واحدة في هذه الفترة و هي رواية (غادة أم القرى) لأحمد رضا حوحو، وقد كتبت في الحجاز 1943م قبل أن يتم طبعها في تونس سنة1974م، وهي بذلك أول رواية فنية  ظهرت في النثر العربي الحديث في الجزائر وتجدر الإشارة إلى أن الأدب الجزائري قد عرف جنس الرواية قبل القصة القصيرة الفنية، وهذه الرواية من النوع القصير ولكنها جاوزت مفهوم وحجم القصة القصيرة بكثير.[5]

والمعنى أن الرواية الجزائرية ارتبط ظهورها بتاريخ الثورة التي ساهمت في ظهور البذور الأولى في الأدب الجزائري.

        أما الفترة الثالثة والأخيرة فتتمثل في دخول الحركة الوطنية في نهج جديد أدى بها في النهاية إلى تجميع كل قواها الممزقة، هذا التمزق الذي استثمره الاستعمار للتفرقة      بين الجماهير الشعبية والحركة الوطنية، حيث شهدت هذه الفترة قفزة نوعية في الرواية الجزائرية باللغة الفرنسية، في الوقت نفسه لم تظهر إلا روايتان باللغة العربية (الطالب المنكوب) لعبد المجيد الشافعي 1951م   و(الحريق) لنور الدين بوجدرة .[6]

ففي الرواية الأولى تناول الكاتب قضية اجتماعية عاطفية تحكي قصة طالب جزائري عاش في تونس، أحب فتاة فرنسية، أدى به هذا الحب في نهاية المطاف إلى حالة مرضية  وعلى الرغم من بقاء الرواية في إطارها الرومانسي إلا أنها لم تتخلص من السذاجة في طريقة تعبيرها، أما الرواية الثانية فتحكي قصة زهور وعلاوة الذي ترعرع حبهما تحت ظلال البنادق وعمر هذا الشاب المتفائل بغد أفضل.

        مهما يكن أمر الجدل في تحديد بداية الرواية الجزائرية الحديثة، فلقد تأخر ظهور الرواية العربية مكتملة النضج من ناحية السرد والتقنيات التي عرفتها الرواية إلى ما بعد الاستقلال بسنوات.

ولا يخفى علينا أن ظاهرة الكتابة بلغة المستعمر ليس خاصة بالجزائر وحدها، فقد عرفتها بنسب متفاوتة معظم بلدان إفريقيا وآسيا، وأمريكا التي كانت خاضعة في يوم من الأيام للاستعمار الفرنسي[7]

       تعتبر فترة الخمسينات من القرن العشرين فترة ظهور الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية، غير أن الجذور الأولى لهذه الرواية تعود إلى ما قبل هذا التاريخ  بعد أن أحكم الاستعمار سيطرته، فلقد كان الأدب الجزائري الناطق باللغة الفرنسية ذا بعد إنساني عظيم بدأ يعطي الأولوية والصدارة للمسألة الوطنية، ويرى عبد المالك مرتاض في هذه القضية أن هؤلاء الكُتاب الجزائريين في معظمهم معجبين كل الإعجاب بالحضارة الفرنسية بوجه خاص والحضارة الغربية بوجه عام جاهلين بالتاريخ العربي، غير ملمين بمعالم الحضارة الإسلامية[8]

وأحكام مثل هذه تدل على غياب الإطلاع الواعي على الكتابات الأدبية الجزائرية باللغة الفرنسية، فمسح صغيرٌ لأعمال محمد ديب وكاتب ياسين خصوصا روايته(نجمة)  ومالك حداد وغيرهم تثبت عكس هذه المزاعم، فالموقف بعيد كل البعد عن روح البحث العلمي، ويكفينا أن هناك تجارب رائدة تحاول تجاوز الظرف التاريخي لتكتب مثلا باللغة العربية، ومثال ذلك الروائي الشاب رشيد بوجدرة  وهو من الجيل الثاني الذي أحقب محمد ديب، وفي روايته الأخيرة (ألف عام من الحنين)، يحاول بوجدرة الغوص في التاريخ العربي الإسلامي لا بعاطفة جوفاء ولكن بوعي ودراية بالتاريخ العربي الإسلامي وبنظرة نقدية متفحصة[9]، ومن هنا فليست المسألة مسألة إعجاب بالحضارة الفرنسية أو عدمها، وإنما القضية قضية ظرف تاريخي، كان أكبر من مجرد الكتابة باللغة الفرنسية[10]

 فاللغة الفرنسية إذن ليست ملكا لأحد، إنما تكون ملكا لمن يسيطر عليها ويطوِّعها. أما فيما يتعلق بالرواية الجزائرية فإن للنقاد عذرهم في عدم الحديث عنها، لأنها ظهرت متأخرة إذا ما قورنت بالرواية الفرنسية، فهي من مواليد السبعينات ويرجع                     ذلك إلى أن هذا الفن صعب المراس، يحتاج إلى تأمل طويل وإلى صبر وأناة… وفي مقدمة هذه العوامل أن الكُتَّاب الجزائريين الذين كتبوا باللغة القومية أدبا عربيا اتجهوا إلى القصة القصيرة لأنها تعبر عن واقع الحياة اليومي خاصة أثناء الثورة التي أحدثت تغيرا عميقا في الفرد»[11]

نجد القصة القصيرة ملائمة للتعبير عن موقف الجزائريين آنذاك، بينما نجد الرواية  تتطلب لغة طيعة ومرنة، إضافة إلى هذا فإن كُتَّاب الرواية في الجزائر لم يجدوا أمامهم نماذج جزائرية يقلدونها، ومن الروايات التي ظهرت في السبعينيات نذكر القمر والأسوار والوشم لعبد الرحمن مجيد الربيعي و(ريح الجنوب) لعبد الحميد بن هدوقة، و زقاق المدق لنجيب محفوظ، وزينب لمحمد هيكل…إن كل هذه الروايات تعالج التحولات الاجتماعيةفي العراق والجزائر ومصر.[12]

2- مفهوم الشخصية :

       تعرف الشخصية أنها « مجموعة الصفات التي كانت محمولة للفاعل من خلال حكي ، ويمكن أن يكون هذا المجموع منظم أو غير منظم»[13] ، يتضح لنا من خلال هذا المفهوم أن الشخصية هي مجموعة من السمات التي يتصف بها الكائن الحي من خلال تجسيده لأحداث في الرواية قد تكون منتظمة أو غير منتظمة .

يرى  فيليب هامون أن الشخصية « ليست بالضرورة تلك التي تحيل على كائن حي له وجود في الواقع ، وليست الشخصية مؤنسة بالضرورة، فالشخصية هي رمز أو علامة تنتج من خلال دورها دلالة معينة »[14]، يقصد فيليب هامون من خلال هذا المفهوم أن الشخصية ليست بالضرورة التي تحمل خواص الإنسان ، فقد تحمل خواص الحيوان مثل حكاية (كليلة ودمنة).

ويرى بعضهم الآخر أن الشخصية« هي كل شيء ، فالمكان مكانها، والزمان زمانها والحوار حوارها، ومنشأ السرد ينطلق منها وينتهي إليها حيث أن العمل السردي لا يمكن أن تُبنى أحداثه بدون الشخصية التي تمثل العمود الفقري لأحداث العمل الإبداعي بجلّه، إلا أن هذه الشخصيات تظل مجرد كائنات ورقية أو رموزا وليست من دم ولحم»[15]، يتبين  لنا من خلال هذا المفهوم أن الشخصية هي الفاعل الذي يتحكم في العمل السردي وعليه تبنى الأحداث ، قد تكون خيالية أو واقعية.

صدرت رواية العين الثالثة لحبيب مونسي سنة 2009م، وتعالج الواقع المعاش.

أ- ملخص الرواية:

تحكي الرواية وقائعا وأحداثا وقعت في السجن تروي قصة فتى دخل إلى السجن عن طريق الخطأ لأنه كان يمشي بين جماعة مشاغبة تشجع المباراة وكان مصيره أن تزج به الشرطة ومعه رجلين أحدهما كهل والآخر شاب وجد نفسه بين أربعة جدران محبوسا لجرم لم يرتكبه ونظر إلى الأمر بنظرة مختلفة وحاول التأقلم مع الوضع الجديد والتفكير كيف يقتل الوقت

وفي تلك الأثناء نام بعمق فرأى حلما غريبا فلما أراد أن يسرد وقائع الحلم فوجئ بأنهما رأيا الحلم نفسه ومن هنا تبدأ نقطة تحول الأحداث ويدخل فيها بطل ثان بطل الحلم الذي رآه السجناء الثلاثة وهو شاب يعمل في المكتب الوكالة العقارية ، المسؤولة عن السرقة والنهب وتزوير الوثائق ، تتضح الرواية قصها على الزمن الحاضر تدور أحداثها حول صفقة العمر التي تغير حياته من الفقر إلى الرفاهية وفي نهاية المطاف وجد نفسه  في السجن بسبب المؤامرة التي دبرها جماعة اللصوص الكبار.

خلق الزمن والمكان صراع داخلي للفتى أصبح يرى فيه العذاب لتغرق الرواية فيما بعد في سرد تمفصلات الماضي المرير والأليم وبصفة عامة تتحدث الرواية عن شخصية عبد الحق الذي تعرض لمؤامرة مدبرة بخطة محكمة أوقعت به حتى وجد نفسه وراء القطبان ولقد أراد تغيير مجرى حياته بالانتقام من الأشخاص الذين أوقعوا به في الفخ وتنتهي أحداث هذه الرواية يلقى الفتى المصير المحتوم بعد أن أدخل بعض أفراد العصابة إلى السجن ويرى السجناء الثلاثة الذين دخلوا الزنزانة تفاصيل قصته في حلم مشترك بالعودة إلى الحاضر لينظر عبد الحق جثة معلقة في عارضة معدنية يطل برأسه المنكس لقد قتل مغدورا نهاية حزينة، ولكن بطل القصة الأولى الذي هو مدمن على قراءة الروايات يقرر الانتقام عن طريق نشر قصته إلى الناس.

ب- دراسة تطبيقية تحليلية للرواية:

1- العنوان:

يعتبر العنوان بمثابة الرأس من الجسد، فالعنوان هو المرآة العاكسة للمضمون فإذا فهمت الخلفيات التي يحملها العنوان فهمت المعنى الذي يريده المؤلف”العين الثالثة ” المتأمل هذا العنوان يجده ضمن التركيب النحوي أنه جاء في صورة جملة اسمية، حيث يعبر عن الرحلة التي بدأت فهذه الرواية تلخص لنا تجربة الرحلة من الانطلاق رغبة في العودة أي؛ أنه انطلق من المعاناة ويريد الخلاص والعودة إلى حياته السابقة هذا العنوان يحمل شقين وكل شق له دلالة:

العين: حيث يراد به النظرة الثاقبة العين البصيرة في شتات الهموم والرغبة في الخلاص والانتقام.

الثالثة: رمز لمخالفة الواقع لما هو متخيل، هواجس تلاحقه كالظل لا تفارقه وترمز من خلال الرواية إلى العوالم الجن والإنس والأشخاص الذين كانوا داخل الزنزانة.

2- الشخصية في الرواية:

أول ما يلفت الانتباه في هذه الرواية هو سيطرة الأسلوب غير المباشر، حيث يتوزع السرد عل محورين أساسيين هما”عنصر الانفعال والفعل”،حيث يكشف لنا هذا النص الحضور الكثيف للسارد الذي لا يكتفي بالرؤية الخارجية التي تركز على ظاهر الشخصية بل ينفذ إلى معرفة أهم الخصائص الداخلية والدليل على ذلك من الرواية حيث استهل هذه الرواية بالحديث عن البطل الغارق في قراءة الروايات ويرى أن لعبة الورق بأنها مضيعة للوقت مقارنة بالقراءة وكما تحدث عن السجن ووصفه وعن الزمن الذي يرى فيه العذاب ولقد تحدث في البداية عن الشخصية الرئيسية التي لا تجيد لعبة الورق وصار عنده متسع من الوقت داخل الزنزانة حتى دعاه رفيقه لقتل هذا الوقت بالمشاركة في لعبة الورق ويتجسد ذلك في قوله : « ولما دعاني رفيقي في الزنزانة لقتل الوقت بلعب الورق…بل كانت الأوراق تسيّر حركة اللاعب وتملي عليه أمزجته الخاصة تفرحه…تقلقه تدفعه إلى اللهاث وراءها جريا وراء احتمال كاذب ترده خائبا…أو تصيبه بشيء من الفوز فيخيل إليه أنه يملك من أمرها نصيبا غير أنها تعود وتلبسه الابتسامة البلهاء التي ارتسمت على قسماته لحظة الفرح »[16].

لعل أبرز ما اعتمده السارد حين سرد الأحداث على التدرج، والذي يتمثل في هذه الشخصية التي تلعب الورق حيث وصف كيف يمكن أن تغير الأجواء السائدة من حزن إلى فرح :”الفرح القلق الخيبة الابتسامة…” وهذه مظاهر خارجية لينتقل إلى المظهر الداخلي المتمثل في الحالة الشعورية والنفسية المنهارة للفتى حيث تعد شخصية البطل الأول شخصية رئيسية يروي أحداث خاصة به حيث يقول: « وقادتني طريق العودة إلى شارع اكتظ بالعائدين من الملعب بعد انتهاء مباراة في كرة القدم…وحدث أن دلفت في وسط جماعة مشاغبة بدأت تنقل نقمتها على فريقها المهزوم إلى واجهات المحلات والمتاجر…ثم سمعت عويل سيارات الشرطة من خلفي فالتفت وإذا بسياج من رجال الأمن المدججين يطوقنا من كل ناحية».[17]

لقد دخل إلى السجن عن طريق الخطأ وهناك التقى برجلين حيث يقول: « ولما استقبلتنا فسحة ساحة السجن تولتنا أيد قسمتنا أفواجا وانتهى العد إلينا نحن الثلاثة ولم يبق لنا سوى الزنزانة».[18]

كانت فكرة السجن جديدة عليه لقد أثر فيه الكم الهائل من الوقت لقد تعود على قراءة الروايات أما الآن فأصبح داخل السجن يحس بفارق الوقت حيث يقول: « كانت الفكرة جديدة علي وجدت فيها أن قضاء ليلة أو ليلتين في الزنزانة تجربة لا يمكن أن أفوت فرصة الاستفادة منها أن أديرها على طريقتي بين يدي شخصيتان لا أعرف عنهما شيئا ولعبة ورق…إذن لن يقهرني الزمان ولا المكان… »[19]

لقد قهره الحزن ثم استسلم للنوم وهنا شاهد حلما غريبا والأغرب أن ثلاثتهم شاهدوا نفس الحلم وهنا بدأت نقطة التحول في الأحداث حيث بدأ يسرد وقائع الشخصية الثانية في حين نجده تحول إلى شخصية ثانوية.

تعتبر شخصية عبد الحق شخصية ثانية رئيسية في الرواية فهو البطل ولقد قدمته الرواية على أنه فتى تعرض لمؤامرة بشعة من قبل أفراد العصابة في العمل لقد أراد التخلص من حياة الفقر التي يعيشها يقول: « لقد ضايقته هذه الأفكار كثيرا وهو يعود إلى مكتبه يطيل النظر إلى القضية المعروضة بين يديه كان يعلم جيدا إن عولجت على النحو الذي أداره في ذهنه أياما بلياليها فسوف تكون مخرجه من هذا الضيق…إنها قضية غير شرعية ابتزاز سرقة وما شاء لها من أوصاف!! ولكنها الصفقة التي ستنهي حيرته وضيقه سيكون له من البيت الجديد والسيارة الفاخرة والزوجة الشابة»[20].

كان الفتى يشعر بالمأساة في أبعد حدودها وكان يتساءل لماذا لا يكون له المال والمكانة المرموقة يتجسد ذلك في قوله : « لقد سئم بناياته سئم الأشكال البشرية التي يصادفها كل صباح ومساء »[21] كانت هذه الحياة اللعينة التي عاشها دور كبير في أن فجرت في داخله رغبة التغيير وامتلاك سيارة فخمة ومنزل وفتاة رغبة حثيثة في التخلص   من هذا الحي القذر وبذلك تتحقق له الثلاثية.

فعلا لقد غيرت حياته حيث يقول: : «سمع طرقات خفيفة على الباب هب مسرعا نحوه فتحه: كان العميل يتقدم رجلين في ثياب حسنة مد يده مسلما قال: أقدم لك رفيق المهندس المعماري ومحمود مقاول مساعد…كان الظرف سميكا جدا ملفوفا بشريط لاصق، أمسكه أحس بالأوراق النقدية بثقلها يجمعها بمقدارها خرج ثلاثتهم أغلق الباب في صمت لم يودع أحد..عاد إلى مكتبه فك الشريط »[22] وأخيرا وقّع الصفقة التي غيرت له حياته ولكن من السيئ إلى الأسوأ لقد انتهى به الأمر في زنزانة عتمة داخل السجن

والمتصفح لأحداث الرواية يجد أن السارد وظف أنواعا مختلفة  من الشخصيات وبشكل مكثف تعددت أدوارها وتباينت أبعادها في مواقف مختلفة ترصدها ذاكرة السارد بعناية مركزة وتنتقل محطاتها بذكاء محكم من خلال أبرز الأحداث وذلك مجسد في قوله:«كانت الصدمة عنيفة على قلبه كان كل غضبه ينصب على رجلين: الأول جاءه في بذلة أنيقة تميل إلى البياض وقد سرح شعره الجعد إلى الوراء بعدما أشبعه من مادة براقة تحافظ على هيئته تلك…قال: بأنه محام وأنه يعرف القاضي وسيعالج القضية»،[23]  «كان الرجل الثاني ذلك الكهل الأشيب الذي تدثر بعباءة سوداء متوسطا المنصة جلسة المحاكمة»[24]

كان عبد الحق يحمل ثقلا كبيرا على كاهله بعدما وقع في مؤامرة محكمة دمرته.

ومما يبدو جليا أن هناك علاقة بين الذات والموضوع  تكمن في نقطة تحول الأحداث، حيث وقع على الأوراق ، ثم اتخذت الأحداث مجرى آخر لتظهر شخصيات فلم يشأ أن يكشف عن أسمائها فاكتفى فقط بذكر الرموز فشخصية “س” «رجل نحيف العود هش البنية أسود النظرات حتى ليخيّل إليك أنه لا يملك بياضا في عينيه…كث الحاجب تميل بشرته إلى السواد في احمرار غريب الإضاءة يطل عليه من وجنته البارزتين في حين تختفي شفتاه تحت شارب كث يغالطه بياض الشيب»[25] ، حيث تعتبر هذه الشخصية غامضة يأتي نادرا إلى رئيس المصلحة وكان عبد الحق يراه في بعض المعاملات وكان لا يرتاح له كلما رآه أحس بشعور غريب من النفور والتقزز.

بعد ذلك تظهر شخصية “ف” :« نموذج ثان كذّاب بامتياز لا يحب إلا ذاته يريد أن كل شيء يريد أن الذكي…رآه عبد الحق يوما قصير القامة سمينا مدور الرأس قليل الشعر نتن الريح يختفي وراء طلالة من عطر رخيص…سريع التملص »[26]

والشخصية الأخيرة هي شخصية”ك” « كانت بدايتها في المصلحة مستخلفة تناوب  من يتخلف عن العمل لعلة أو سبب، كان عبد الحق كلما رآها يلتفت إلى العشرات من الفتيات اللواتي يقابلهن في الشارع…لأنه رآها أول أمرها حملا وديعا يقودها من شاء ممن مكتب إلى مخدع كان يقرأ في قسماتها شيئا من الحياء»[27]
كل هذه الشخصيات كانت لها علاقة بالمؤامرة.

ثم ظهرت شخصية رشيد ولكن لم يسرد الراوي تفاصيل قصته سوى أنه كان داخل الزنزانة مع عبد الحق يقول: « كان النزيل شخصا متوسط العمر عليه بعض أثار الإرهاق وكأنه تقلب بين أيدي كثيرة قبل أن ينتهي إلى هذه الزنزانة سلم على عبد الحق وقال أنا رشيد»[28]وقوله أيضا: « جاء من آخر و لا أعرف كيف انتهى إلى هذه الزنزانة …قالوا إنه وافق على إخفاء قضية تتصل بالأمن القومي ».[29]

انتهت هذه القصة بموت عبد الحق مقتولا وهنا تعود الشخصية الأولى وتقرر الانتقام لموته وذلك بنشر قصته بين الناس بعد خروجه من السجن لقد تعجب الرجلين من رؤية نفس الحلم حتى أنهم شكوا بأن هذه الزنزانة مسكونة بالأرواح الشريرة.

وصفوة القول لقد تحولت الكتابة في الرواية الجزائرية من خلا ل معالجة القضايا السياسية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي خلفها الاستعمار الفرنسي قبل الاستقلال وبعد الاستقلال لتشمل مواضيع أخرى كالأحداث التي تناولتها رواية حبيب مونسي كان لها بعد ثقافي فالعين الثالثة تشمل العوالم الثلاث الإنس والجن والملائكة حيث اتضح في نهاية هذه الرواية أن تلك الزنزانة كانت مسكونة.

      إن بنية الشخصية لرواية العين الثالثة تكشف للقارئ عن إستراتيجية حبيب مونسي وفلسفته وتقنياته في السرد، حيث تتوزع تقنية الشخصيات الرئيسية والثانوية على فصول الرواية أضفى جمالية ومتعة سردية ، من خلال ذلك التلاعب بالشخصيات الرئيسية ومواضيعها المختلفة ، كما أن للشخصيات الثانوية دور مهم يتمثل في المساندة أو المعارضة لتلك الموضوعات المختلفة

قام الروائي بتنويع الشخصيات وتوزيع الأدوار بشكل محكم  لم يكن عبثا منه،  فمن خلاله ظهرت براعته مما أعطى بعدا فنيا تخيليا واقعيا لروايته.

    نلاحظ على تشكيل بنية شخصيات الروائي دورها المهم في تحريك العمل السردي الموكل إليها ، فكل شخصية قامت بدورها على أكمل وجه ، والسمة البارزة في هذه الشخصيات يغلب عليها الطابع الاجتماعي ، والخيال الواسع لأن الموضوع يتناول قضية حساسة ، وكل هذه العلاقات نعيشها في وسط المجتمع فجاءت هذه الشخصيات حاملة لأفكار معينة تصوّر الواقع كما هو ، مما أعطى سمة جمالية وبعدا فنيا سرديا للرواية.

هوامش البحث:

[1] – ينظر:عبد الله الركيبي ، تطور النثر الجزائري الحديث ، دار الكتاب العربي، الجزائر،دون  طبعة ،2009م ، ص235

[2] – ينظر: مخلوف عامر، الرواية والتحوّلات في الجزائر( دراسات نقدية في مضمون الرواية المكتوبة بالعربية)، منشورات اتحاد الكتّاب دمشق، دون طبعة ، دون سنة ، ص 14.

[3] – ينظر: واسيني الأعرج، اتجاهات الرواية العربية في الجزائر( بحث في الأصول التاريخية والجمالية للرواية)، المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر، د ون طبعة ، 1986م ، ص 17.

 [4]- نفسه، ص 17.

– نفسه، ص 17.[5]

[6] – نفسه، ص18.

[7]  – ينظر:  أحمد منور، الأدب الجزائري باللسان الفرنسي( نشأته، تطوّره وقضاياه)، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، دون طبعة ، 2007م، ص113.

[8] – ينظر: واسيني الأعرج، اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، ص 70.

[9] – نفسه، ص 70.

[10] – نفسه، ص 70

[11] – نفسه، ص 122.

[12] – ينظر : عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية بحث في تقنيات السرد ، سلسلة عالم المعرفة للنشر والتوزيع   1998م ، ص45.

[13] –  ينظر  : تودوروف، مفاهيم سردية، ترجمة : عبد الرحمان مزيان ، منشورات الاختلاف، الجزائر، طبعة 1، 2005م، ص 74.

[14] – ينظر : حسين خالفي، البلاغة وتحليل الخطاب، دار الفرابي للنشر والتوزيع ، لبنان، طبعة 1، 2011م، ص217.

[15] – ينظر : شارف مزاري، مستويات السرد الإعجازي في القصة القرآنية( دراسة) منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق،  د ون طبعة ،  2001م  ص 21.

[16] – ينظر: حبيب مونسي، العين الثالثة، دار الرشاد للنشر والتوزيع، الجزائر طبعة 01، 2009م، ص06

[17] – نفسه، ص11 – 12.

[18] – نفسه، ص13.

[19] – نفسه، ص 24.

[20] – نفسه، ص 33.

[21] – نفسه، ص36.

[22] – نفسه، ص39.

[23] – نفسه، ص 41

[24] – نفسه، ص 42.

[25] – نفسه، ص 77.

[26] – نفسه، ص 84.

[27] – نفسه، ص 91.

[28] – نفسه، ص 118.

[29] – نفسه، ص 130.

*جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of