+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

تأملات في سورة الكهف عن ذي القرنين
الباحث: محمد كاشف الجونفوري

تمهيد:

إن من أهم البحوث القرآنية التي لا تزال موضع الاهتمام والدراسة والتحقيق عند العلماء الباحثين، هو البحث عن شخصية ذي القرنين، وتعيينه من المصادر التاريخية. فقد ذكره القرآن كشخصية عظيمة الشأن مكنه الله في الأرض، فأدى مهمات حربية عظيمة ذكر منها القرآن الثلاث إلى الشرق والغرب والشمال.

وخاض في هذا البحث كثير من المفسرين المتقدمين والمتأخرين، وطبقوا صفاته على عدة شخصيات تاريخية، ولم يصلوا إلى نتيجة حتمية، فقد زعم قوم بأنه الاسكندر المقدوني ثم بطل هذا الزعم لثبوت وثنيته وعدم إيمانه بالله والبعث بعد الموت. وثم قام بها بعض الشخصيات العلمية، وجاؤوا بآراء جديدة، أبرزهم مولانا أبو الكلام آزاد صاحب تفسير “ترجمان القرآن” باللغة الأردية، وأثبت بالدراسة العلمية والشواهد التاريخية أن حلة ذي القرنين تنطبق تماما على شخصية ملك فارس (قورش). فقوبل هذا البحث بالاعجاب والتقدير في الأوساط العلمية، حتى يمكن أن نقول إن رأيه أصبح سندا لكثير من العلماء في هذا الموضوع.

ثم قام امتياز علي خان عرشي بدراسة نقدية ما كان مولانا أبو الكلام آزاد قد دونه حول هذا الموضوع، وذكر أولا اختلاف المفسرين في سبب نزول السورة بأدلة وبراهين، وبحث شخصية ذي القرنين، وركز على رأي مولانا أبو الكلام آزاد ما قدمه في تفسيره “ترجمان القرآن”، وقدم الاستعراض على رأيه، واستنتج الباحث أن قورش ودارا، والاسكندر ليسوا من توافق عليهم حلة ذي القرنين، فمن الواجب علينا أن لا نكتفي بهذا، ولا نزال نحاول لكشف عنه، والبحث عن تحقيقه، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.

سورة الكهف:

ومن الملاحظ أن سورة الكهف تهتم اهتماما بالنسبة إلى أنها تقص علينا ثلاثة قصص تحمل معنا ضخما في كيانها، ألا وهي قصة أصحاب الكهف، قصة لقاء موسى بالخضر وقصة ذي القرنين. وقد اختلف المفسرون في سبب نزولها، فمنهم من يقول:

إن المشركين من مكة بعثوا وفدا إلى يهود المدينة ليسئلوهم عن محمد، ويصفوا لهم صفته ويخبروهم بقوله، لأنهم كانوا أهل الكتاب الأول، وكان عندهم علما ليس عندهم من علم الأنبياء، فأتوا إلى المدينة، وسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفو لهم أمره، وأخبروهم ببعض قوله، وقالوا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار اليهود:

“سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤة؟ وسلوه عن الروح ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه، فإنه نبي، وإن لم يعفل، فهو رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم”[1]. فرجعوا إلى قومهم، وأشاروا عليهم ما أشيروا، فجاؤوا وتقدموا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.

ومنهم طائفة تقول إن هذه الأسئلة التي سبق ذكرها طرحها اليهود في المدينة، ولكن هذا الرأي لا يمكن قبوله، لأن السورة قد نزلت بمكة كما اتفقوا عليه.

وهناك قد بحث امتياز علي خان عرشي عن اسناده بحثا حتما، وتحدث شيئا عن قصة الوفد التي رويت عن ابن عباس رضي الله عنه، فقد رويت في سيرة ابن هشام بدون سند كما سبقت الإشارة إليها. وقام بفحص الأسانيد الأخرى أيضا، واستنتج أن في هذه الحالة لا يمكن الاعتماد علي هذه الرواية، والحقيقة أن الروايات كلها في سبب نزولها ضعيفة لا تعتبر، مشكوكة لا توثق بها.

قصة ذي القرنين:

اختلف المفسرون في شخصية هذا الرجل، ولأن القرآن  لم يذكر اسمه ودوره أو وطنه، لم يزل المفسرون يجتهدون في البحث عنها ولا يزالون. ومن أقوالهم الكثيرة في السطور الآتية[2]:

  • المراد بذي القرنين كيقباد أو فريدون ملك فارس.
  • هو لقب أبو كرب شمس الحميري.
  • هو الإسكندر الرومي.
  • كان ملكا من الملائكة.
  • كان رجلا صالحا وهب علما وحكمة وملكا وأمرا.
  • هو مرزبان المصري.
  • كان شابا من الروم.

والقول الشائع المشهور، أنه الاسكندر المقدوني، وهو القول الذي انتصر له الإمام الرازي، وذهب إليه عامة علماء الإسلام، ولكنه قول لا وجه له، لأن الاسكندر المقدوني لا تتحقق فيه الصفات التي ذكرها القرآن في وصف ذي القرنين، من اتصافه بالإيمان بالله وخشيته، والعدل والرأفة بالمفتوحين، وبناء السد العظيم. والحقيقة أن هذا القول نشأ من عدم الاطلاع على تاريخ الاسكندر وسيرته في الحروب.

آراء المفسرين الهنود:

ومن الملاحظ أن امتياز علي خان عرشي قد قدم آراء المفسرين الهنود عن شخصية ذي القرنين، وهو يقول إن أول من بحث فيه في الهند هو مولانا الحكيم محمد حسن النقوى (المتوفى 1323ه) في تفسيره  بالفارسية الموسوم بــ “معالمات الأسرار”. ويرى أن المراد بذي القرنين هو “قورش” مؤسس إمبراطور الفارس، وتعضد هذا الرأي صحيفة دانيال وصحيفة إشعيا، وعنده وجه تسميته بهذه الصفة، إنما هو رؤيا دانيال.

ثم يأتي الحكيم نور الدين القادياني (المتوفى 1332هــ) بهذا الرأي في كتابه المسمى بــ “تصديق براهين أحمدية”، واستعرض المفسر قصة رؤيا دانيال وتعبيره بلسان جيريل، وطبقها على قورش، ثم وافقها بذي القرنين.

وبعده صنف السير السيد أحمد خان رسالة تسمى “إزالة الغين عن قصة ذي القرنين”، وأثبت فيها أن المراد بذي القرنين هو ملك الصين الذي بنى جدار الصين المعروف، وتوفي في 21 ق م. ولكنه لم ينقد شيئا على الآراء السابقة، ولعله لم يطلع عليها.

واستعرض أحمد المكرم العباسي الجرياكوتي في كتابه “الحكمة البالغة” وهو يرى أن ذا القرنين هو كيقباد قورش الذي فتح بابل، ولعل الأستاذ تأثر في هذا الرأي من تفسير الأستاذ النقوى الذي سبق ذكره.

مولانا أبو الكلام آزاد:

بعد هذا الاستعراض في تفاسير المتقدمين قد قدم امتياز علي خان عرشي ما كتب الأستاذ الكيبر مولانا أبو الكلام آزاد عن هذا الموصوع الذي حصل رأيه على قبول حسن في الأوساط العلمية والدينية.

قال الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم:

{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا* إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا* فَأَتْبَعَ سَبَبًا* حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا* قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا* وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا* ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا* حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا* كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا* ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا* حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا* قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا* قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا* آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا* فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا* قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا*[3]}

ويقول مولانا أبو الكلام آزاد في تفسيره عن شخصية ذي القرنين[4]:

إن القصة الثالثة في هذه السورة هي قصة ذي القرنين، وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، واتفق المفسرون كلهم أن السؤال كان من اليهود ولو كان على لسان معظم المشركين من مكة، لأن السورة مكية. ولو نستعرض فيما ذكر القرآن عن ذي القرنين، لا بد أن نتدبر في ضوء هذه النواحي الآتية:

  • الرجل الذي سئلوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه، كانوا يسمونه بذي القرنين، كما جاء في القرآن الكريم {ويسئلونك عن ذي القرنين}، ويتضح أن هذا الاسم أو اللقب لم يصفه القرآن من عنده، بل الذين سئلوا عنه، هم الذين أطلقوا عليه.
  • قد أعطاه الله الملك، وهيأ له أسباب الحكم والغلبة ما يتصور.
  • وكانت مهماته الحربية الكبرة ثلاثة:

الأولى: غربية، زحف من بلاده متوجها إلى الغرب، حتى وصل مكانا، كان له حد المغرب، فوحد الشمس هناك تغرب في عين.

الثانية: شرقية، فما زال يتقدم حتى بلغ أرضا، كان لها حد المشرق. ولا عمران فيها.

الثالثة: وفي المهمة الثالثة وصل بها إلى مكان مضيق جبلي يشن من ورائه قوم الغارات على الأهالي الذين سموهم باسم “ياجوج وماجوج”.

  • قد أقام الملك في المضيق الجبلي لمنع غارات القوم.
  • لم يتكون هذا السد من الحجر والآجر فقط، بل أفرغ فيها الحديد والنحاس، فأصبح سدا منيعا.
  • وكان الملك مؤمنا بالله وباليوم الآخر، وكان عادلا رحيما برعيته، ولم يكن فيه قسوة بالمفتوحين.
  • ولم يكن حريصا على المال، فأنه لما أراد المفتوحون أن يجمعوا له المال لإقامة السد، أبى أخذه منهم قائلا: إن ما أعطاني الله يغنيني عن أموالكم، ولكن أعينوني بقوة أيديكم، أشيد لكم سدا منيعا.

ومن الملاحظ أن هذه الشخصية التاريخية التي تحمل في طياتها هذه الأعمال والصفات، هي شخصية ذي القرنين، ولكن السؤال يقوم أن هذا الرجل من هو؟ وأين وجد؟ وعلى كل حال لم يبلغ المفسرون إلى نتيجة في تشخيصه. وما يضيئ على شخصية ذي القرنين، وهي إشارة من بعيد، وهي رؤيا دانيال التي رآها حينما كان في أسر بابل.

وها هي رؤيا دانيال:

“رأيت كبشا واقفا على شاطئ النهر له قرنان عاليان، وكان الواحد منهما منحرفا إلى ظهره، ورأيت الكبش ينطح بقرنيه غربا وشرقا وجنوبا، ولا يمكن للحيوان بالوقوف أمامه، فهو يفعل ما يشاء وصار هو كبيرا جدا، وبينما أفكر في هذه الظاهرة إذ رأيت تيسا أقبل من جهة الغرب وغشى وجه الأرض كلها، وكان بارزا بين عيني التيس قرن عجيب، ثم إن التيس اقترب من الكبش ذي القرنين، ونفر منه غضبا، ثم عمد إليه فكسر قرنيه، وصرعه وداسه، فأصبح الكبش ذو القرنين عاجزا عن مقاومته، محروما من ناصر ينصره عليه” ثم ظهر له جبرئيل وعبر عن رؤياه قائلا:

إن الكبش ذا القرنين يمثل اتحاد المملكتين مادا وفارس، وأما التيس ذو القرن الواحد الذي رآه بعد الكبش، فالمراد منه ملك اليونان، والقرن البارز بين التيس يدل على أول ملك من اليونان[5].

ويتضح في ضوء ما بحث الأستاذ وما نقله من المقتبسات في تفسيره:

  • أن ذا القرنين الذي وصفه القرآن، هو “قورش” الذي أسس أسرة “هخامنشي”. وكان اليهود من العرب يسمونه بهذا اللقب.
  • أنه كان مؤمنا صالحا، وكان ملهما من الله.
  • وتشهد على إيمانه وصفاته الملهمة صحف التوراة.
  • وكما كان قورش يعرف بذي القرنين في اليهود، كذلك كان يذكر أهل إيران بهذا اللقب.

ومن الملاحظ أن الامبراطور “قورش” كان ملقبا بهذا اللقب، وما كانت هذه فكرة دينية عند اليهود، بل كان محبوبا عند الرعية له. وهو تمثال حجري لقورش وجدوه منصوبا في مكان يبعد عن عاصمة إيران القديمة “استخر” نحو خمسين ميلا على شاطئ النهر “مرغاب”، وإنه تمثال على القامة الإنسانية، ظهر فيه قورش، وعلى جانبيه جناحان كجناحي العقاب، وعلى رأسه قرنان كقرني الكبش[6].

ومن هذا قد تقرر بأن تشبيه مملكتي مادا وفارس بقرنين كان فكرا مقبولا وخيالا عاما، ولا شك أن قورش كان يدعي بذي القرنين، وصورة الجناحتين تشير إلى صفاته وفضائله، ولأنه يعرف في أهل فارس خاصة، والأقوام المعاصرة عامة، وإنه لم يكن كسائر الناس، بل كانت صفاته فوق البشرية. وهناك في القرطبي عن السدي رواية، وفيها إلى ذلك إشارة:

“قال: قالت الهيود: أخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد، قال: ومن؟ قالوا: ذو القرنين”[7]. والإشارة إلى ذي القرنين إنما وقعت في رؤيا دانيال، ولذلك هذا ما قيل عن اليهود إشارة إلى شخصه.

إن أهم ما يتصف به ذو القرنين هو إيمانه بالله، كما تدل الآيات على إيمانه بالله وباليوم الآخر، وعمله الصالح على أحكامه السماوية، وكان مؤمنا بأن الفوز والنجاح إنما هو من فضل الله. وهناك يمكن السؤال هل كان قورش يعتقد هذه العقيدة، أم لا؟ وأثبت مولانا على بناء الشهادات الخارجية أن “قورش” كان من متبعي “زرداشت”، وهذا الدين كان على التوحيد الخالص.

قورش:

ظهر قورش في سنة 559 ق م، وقد جمع بين مملكتين فارسيتين عظيمتين، كانتا قد انفصلتا منذ زمان، وهما: (مادا) الجزء الشمالي الذي قد يعبر عنه المؤرخون العرب بــ “ماهات”، وفارس الجزء الجنوبي، فكون منها امبراطورية فارسية عظمى، ثم امتدت فتوحه ومغامراته التي اتسمت بالعدل والكرم، والانتصار للضعيف المظلوم، فلم ينقض اثنا عشر عاما حتى خضعت له البلاد والدول ما بين البحر الأسود إلى باختر (Bactria)، وقد ثبت تاريخيا أنه غزا في الغرب مرة، فأوغل فيه إلى غرب آسيا الصغرى،   وفتح دولة ليديا (Lydia) التي كانت عاصمتها ساردس (Sardis) حتى وصل إلى البحر في أقصى الغرب.

وغزا ثانية الشرق، فوصل في هذه الغزوة إلى مكران وبلخ، وأخضع القبائل الهمجية التي ليست لها وقاية من الشمس لبعدها من المدنية، كما جاء في القرآن الكريم: {وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا}، ثم ذهب إلى بابل، فأنقذ اليهود من الذل والأسر والاضطهاد الذي سلطه عليهم ملك بابل بخت نصر.

وكانت له غزوة ثالثة في الشمال، وواصل فتوحه ومغامراته حتى وصل إلى أمة تعيش في فجوة من جبلين، تعيش في خطر دائم من أمة همجية وحشية وراء الجبال، يذكرها القرآن وتذكرها الصحف السماوية بيأجوج مأجوج.

فطلبوا منه أن يحفظهم من هؤلاء الوحوش المفسدين، وقبل الملك طلبهم، ووعدهم ببناء السد، واستغنى بما أتاه الله من الخير الكثير عن أموالهم بخلاف الملوك الطامعين، وطلب منهم أن يساعدوه بالسواعد، وما يوجد في بلادهم من الحديد، وتعاون الجميع في بناء هذا السد، وتهيأ السد، وقد مات قورش سنة 529 ق م[8].

فوجد في سنة 1838م تمثال من رخام في اصطخر، وظهر في رأسه قرنان مثل قرني الكبش، يمثلان مملكتي مادا وفارس اللتين جمع بينهما قورش، وبذلك سمى ذا القرنين. وقد شهد المؤرخون العصريون بكرم قورش وشخصيته العادلة. ومن أراد التوسع في ذلك فليقرأ ترجمان القرآن لمولانا آزاد.

الأستاذ حفظ الرحمن: 

قد صنف الأستاذ حفظ الرحمن كتابه قصص القرآن، فأعجبه تحقيق مولانا آزاد إعجابا، ولا شك أنه كان مدللا فاختاره الأستاذ ونقله في المجلد الثالث من كتابه بدون تغير، وقدره تقديرا[9].

مولانا عبد الماجد الدريا آبادي:

وذكر مولانا عبد الماجد في تفسيره بالأردية أن ذا القرنين كان متدينا كبيرا فيما صرح القرآن، ولكن لم يعين شخصه. وأما ما يأتي في التفاسير عن تشخيصه، إنما هو القياس والأغلب على الآراء كلها أنه هو الاسكندر المقدوني م 323 ق م. وأما ما ذكر عن قورش، فتضعف الشهادات التاريخية فيه.

الاستعراض على الآراء:

 قد استعرض امتياز علي خان عرشي في البحوث والآراء السابقة كلها، وهناك طرح هذه الأسئلة الآتية، وأجاب أجوبة محققة:

  • هل كان السؤال عن ذي القرنين على إشارة أحبار اليهود؟
  • هل كان ملك اشتهر في اليهود بذي القرنين؟
  • هل كان أهل إيران أو اليهود أو اليونانيون يسمون قورش بذي القرنين؟
  • هل كان قورش مؤمنا بالله وباليوم الآخر؟
  • أهذا التمثال الذي ظهر باستخر هو لقورش؟

أما الأول فكلما قد ذكر امتياز علي خان عرشي حينما بحث عن شأن النزول، ويقول عرشي: إن كان السؤال على طلب أحبار اليهود، لكان واجبا أن يكون ذكره في التوراة وفي صحفهم، وأن يكون مكررا لأنه أنجا اليهود عن الأسر، ولكنا لا نرى هذا القب لا في التوراة ولا في تلمود. وإن كان كذا كان مقتضيا أن يبين القرآن عن نواحي حياته التي تؤثر على اليهود، وما يستعظمه اليهود، ولكن ما نزل القرآن عنها لا يتصل باليهود ولا تذكر صحفهم. وما كان لليهود أن يكذبوا رسالة النبي أو يصدقوه بأن يتحقق ما يقصده أهل مكة من هذا السؤال.

الثاني: إن صحف اليهود وكتبهم التاريخية تخلو من ذكر هذا اللقب، ومن ذكر ملك اشتهر بهذا الاسم ولو كان مرة. أما رؤيا دانيال التي رأى فيها كبشا كان له قرنين، فيرى مولانا آزاد أن يراد به مملكة مادا وفارس.

ويرى مولانا عرشي في النسخ كلها في العربية والإنكليزية والفارسية استعمل لفظ الجمع في بشارة جبرئيل، فلا بد أن يراد بالكبش ذي القرنين مملكة إيران أو ملوك أيران، ولا يراد بملك خاص. ففي هذه الرؤيا نفسها يريد بالتيس ملك اليونان، ولم يعبر عنه الاسكندر، والقرن البارز بين عيني التيس يدل على أول ملك من اليونان، فلا تصح أن تقول إن ملكا قد اشتهر بهذا اللقب في اليهود.

الثالث:  هذه هي الحقيقة أن أهل إيران لم يكن قط بأنهم يسمون قورش بذي القرنين أو ما يرادفه لا في عهده ولا بعده، كما كان اليهود يعرفونه بهذا اللقب كما سبقت الإشارة إليه.

ويقول مولانا عرشي نقلا عن “كتاب نقش قديم”: ومما بقي من آثار مرغاب، وجد لوح مكتوب عليه في الخط المسماري: “ها أنا قورش من هخامنشي، قورش المعظم، الآمر على الدنيا، من هو مدفون في هذا المكان هو قورش ملك الملوك”[10].

ولقد ذكر مولانا عرشي أقوالا عديدة من الكتب المختلفة، وقال: ففي هذه الكتب كلها لم يذكر بذي القرنين أو ما يدل على أن له قرنان، فإن كان مشتهرا بهذا الاسم في أقطاره لكان واجبا أن يذكر به. وهناك لنا أن نتأمل: هل كان قورش أو من استخلفه يحب هذا اللقب أم لا؟

ويجيب مولانا عرشي قائلا: ففي رأيى لا يحبونه، لأن بنائه إنما على رؤيا دانيال وما رآه فيها عبر عنه أن مملكة إيران ستنشأ نشأة في بدايتها، ثم تهلك على يد الاسكندر اليوناني.

فإن هذه الرؤيا تنبؤ نبوءتين، نبوءة التقدم ونبوءة الانحطاط، فهل كان مناسبا لدانيال أن يخبره بهذه الرؤيا ويجعله محزونا، وهو أنجا قومه من سوء العذاب، وإن كان فعل هذا لسبب فهل كان قورش يختار هذا اللقب بناء على هذه الرؤيا النحسة. ولم ويكن لأحد من أهل إيران أو اليونان أو اليهود حتى هزيمة دارا الثاني على يد الاسكندر ان يلقبه بهذا الاسم.

وأخيرا يرى مولانا عرشي أن هذه العبارة التالية تستحق النظر فيها:

“رأيت الكبش ينطح بقرنيه غربا وشرقا وجنوبا” فإنها تدل على أن الكبش يفتح الأقطار الغربية والشمالية والتي في الجنوب، وتحفط الأقطار الشرقية من النهب والتدمير. ولكن القرآن قد صرح أن ذا القرنين قد حقق المهمات الحربية في الشرق والغرب والشمال.

وهذا التضاد بين الكتاب والقرآن، ومع القرآن شهادة تاريخية يجعل كتاب دانيال مشكوكا على المتأمل فيه.

الرابع: أما الكتب التاريخية والدينية، ففي ضوءها ليس قورش ملكا معتقدا بالتوحيد الخالص لله تعالى، كما أثبت مولانا عرشي من كتاب إشعيا وإرميا، ويظهر من الآيات الموجودة في كتابين المذكورين أن قورش كان لا يعرف الرب، وكانت قواته ناهبة مدمرة، فهل نقر هذا الموصوف له مؤمنا بالله وباليوم الآخر؟

ويقول مولانا عرشي: “أما الآيات التي جاءت في إشعيا وصفته بالمسيح والراعي أو المطيع المنتصر من الله، فإنها على سبيل الاستعارة. كما ذكر صاحب المقال (Encyclopedia of Ethics 2|556) في المسيح أن هذا اللفظ استعمل لقورش على سبيل الاستعارة، ويظهر أنه سيعمل عملا ما يناسب لصفاته الإلهية. ولعل مولانا آزاد ومن تابعه اتفقوا به وألا يسلمونه نبيا، لأن مسيح الله إنما جاء في التوراة لنبي فحسب”. ثم يذكر مولانا عرشي قول زينوفن[11] (Xenophon) بأنه قد ذكر في حكايته عن قورش أنه كان يقدم النذور، ويستعين من ماجي، وينذر من الأوثان[12].

الخامس: يقول مولانا عرشي: أما التمثال الذي وجد في “اصطخر” فيدعم “رائسن” أنه لسروش، ونقل “كربورتر” (Ker Porter) نقلا عن Heron أنه روح فوق البشرية. وادعى صاحب المقال Encyclopedia of Religion and Ethics أنه لقورش لما كتب على لوحه: “ها أنا قورش من أسرة هخامنشي” واختاره مولانا آزاد ووافقه، ودليله أن ذا القرنين البارزين فيه والجناحين كذلك توافق ما ذكر في رؤيا دانيال عن الكبش[13].

وهكذا لم يطلع مولانا عرشي على تمثال ذي أجنحة كهذا إلا لمردوخ الذي كان معبودا لقورش، ففي رأيه يكون هذا التمثال الاصطخري لمردوخ ولا غير.

نظرة على ديانة دارا:

وفي الأخير قد تحدث مولانا عرشي شيئا عما يتدين دارا الأول، وذكر رأي محمد علي اللاهوري والميرزا بشير الدين.

فيرى محمد علي اللاهوري والميرزا بشير الدين أن مصداق ذي القرنين هو دارا الأول، ويقولانه موحدا، ولا يقبل مولانا آزاد والأستاذ حفظ الرحمن إلا أنهما يوافقانهما في كونه موحدا، والدليل لهم أنه يذكر “أهور مزده” الإله الواحد في الفرامين كلها.  وهل تصدق على دارا صفات ذي القرنين التي وصفها القرآن لموحد؟ فالجواب: لا.

الخاتمة:

هذه هي الحقيقة أن هذا التضاد لا يمكن قبوله عند أحد، وينتج هذا البحث أن قورش ودارا والاسكندر ليسوا من توافق عليهم حلة ذي القرنين، فمن الواجب علينا أن لا نكتفي بهذا ولا نزال نحاول لكشف عنه والبحث عن تحقيقه، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.

 الهوامش:

[1]  السيرة النبوية، لابن هشام، والتعليق والتخريخ: عمر عبد السلام تدمري، الجزء الأول، دار الكتاب العربي، بيروت، 1990م، ص 328- 332.

[2]  تأملات في سورة عن ذي القرنين، امتياز علي خان عرشي، عربه: سلمان الشمسي الندوي، مجلة المجمع العلمي الهندي، جامعة عليكراه الإسلامية، يونيو، 1977م. ص 21- 22.

[3]  القرآن الكريم، سورة الكهف، آية 83- 98.

[4]  ترجمان القرآن، مولانا أبو الكلام آزاد،  سورة الكهف، ج2، ص 399-  430.

[5]  المرجع السابق ج2، ص 400.

[6]  تأملات في سورة عن ذي القرنين، المرجع السابق، ص 26-27.

[7]  نقلا عن “ترجمان القرآن” ج2، ص 405.

[8]  الصراع بين الإيمان والمادية، (تأملات في سورة الكهف) أبو الحسن علي الحسني الندوي، دار القلم، كويت، 1971م، ص 100-103.

[9]  قصص القرآن، مولانا محمد حفظ الرحمن السيوهاروي، دار الإشاعة، كراتشي، 2002م، المجلد الثالث والرابع، ص 123- 179.

[10] كتاب نقش قديم، آر- كى- وي، طبع ممبائي، 1889م، ص 155. وتأملات في سورة عن ذي القرنين، المرجع السابق، ص 35.

[11] هو فيلسوف يوناني، وكان أحد طلاب سقراط، وهو يعتبر مصدرا مهما عن سقراط مثل زميله أفلاطون،

[12]  تأملات في سورة عن ذي القرنين، المرجع السابق، ص 39- 40.

[13]  المرجع السابق، ص 41-42.

*الباحث في الدكتوراه،  قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة الملية الإسلامية

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of