+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

أثر السياق ودوره في توجيه الدلالة
الدكتورة: صابيح يمينة

   لقد ساهمت اللسانيات مساهمة فعالة في دراسة اللغات البشرية وكان لها الفضل في إثراء الدرس اللغوي الحديث موضوعا ومنهجا على حد سواء، ولعل من أهم الثمرات التي أنتجتها اللسانيات هي نظرية السياق والتي تعد من أهم محاور علم الدلالة، لذا سنحاول من خلال هذه المداخلة توضيح أثر السياق في توجيه  الدلالة، وسنتخذ من نص القرآني ميدانا تطبيقيا لهذه الدراسة لمعرفة مصداقية الحقائق التي يمكن الوصول إليها من خلال هذا الإثبات والمتمثل في إثبات تأثر أحد من الطرفين بالآخر ومن يوجه الآخر هل السياق الذي يتموضع على وفق الدلالة المطلوبة في النص فتكون الدلالة هي الحكم؟ أم أن الدلالة هي نتاج السياق وهو الذي يوجهها كما يشاء؟

لقد احتلت دراسة السياق مجالا واضعا من الفكر اللغوي العربي لأهميته  الكبرى وقدرته الهائلة في توجيه علم الدلالة، حيث نظر علماء العرب من اللغويين في السياق ففي نظرية سميت النظرية السياقية، وكان رائد هذه الأخيرة فيرث العالم الإنجليزي الذي كان يرى أن دلالة الكلمة مفردة لا تنكشف إلى بوضعها ضمن سياقات وبهذا يحدد معنى الكلمة داخل السياقات لا خارجها  وقد سبق إلى هذا الجرجاني إذ يقول: “لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض وتجعل هذه بسبب تلك”[1]، ومعنى هذا أن اللفظة لا ترد إلا بسبب اللفظة التي قبلها وبالتالي فإن معنى المفردة لا يفهم إلا بفعل المفردة المجاورة لها” إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي علم مفرد وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها  أو ما أشبه ذلك مما لا تغلق بصريح اللفظ”[2].

 من هنا نجد أن فيرث لم يسلمك من النقد في تركيزه على السياق في توجيه الدلالة وإهماله للمعنى المعجمي الحقيقي للفظة وإلى هذا يشير اللغويين المحدثين من العرب “إن الكلمة في التركيب مع غيرها مجردة مفردة لا هوية لها ولكن شخصيتها الدلالية تتميز عندما توضع في التركيب”[3] ولكن ما نجده هو أن أصحاب النظرية السياقية يواجهون صعوبة في الاقتناع على أن للألفاظ معاني معجمية أساسية قبل دخولها في السياق، وبالتالي يوضح قضية الحتمية المطلقة للسياق ليس في توجيه الدلالة المتعلقة باللفظ فحسب بل  في إيجاد الدلالة أصالة للفظ المساق في التركيب اللغوي.

من هنا يظهر أن الدلالة في التخاطب اللغوي على ضربين:

  • دلالة معجمية حقيقية تقع الفهم عليها بالتبادل الأول من دون الحاجة إلى قرينة خارجية وهي الأصل الذي تواصل به.
  • دلالة سياقية وهي التي لا يمكن إدراكها من الكلام خاطرا أوليا وإنما تحتاج إلى قرينة ما للوصول إلى دلالاتها المبتغاة وضوحا وكشفا.

وهي ما يمكن أن يُدعَى أيضا بدلالة القرينة وقد وجدت لاحقة على الدلالة الحقيقية تلبية لسد حاجة الإنسان إدراكا للتطور الجاري”[4].

ولتوضيح هذا نأخذ على سبيل المثال لفظة ضرب التي ترد في سياقات مختلفة تكون معناها فترد مرة دالة على معنى المعاقبة وهذا ما ورد في قوله تعالى:﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾[5]، والذي عضد هذه الدلالة للفظة (ضرب) هي لفظة(اهجروهن) حيث صيغت على هيأة فعل الأمر والأمر تكليف لأداء شيء، ومنه فسياق الآية هو سياق تكليفي شرعي والتشريع فيه معاقبة وكذلك بداية الآية بالهجران و(اهجروهن)  وهو فعل يؤول بالضرورة إلى ألم وحسرة ، وبالتالي فالمعنى يدل على العقوبة ومنه فلفظة ضرب دالة على العقوبة لا على الانتقام والإضرار بالآخر، ومنه قوله تعالى:﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ  وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚوَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[6]، فهنا لفظة يضربون تدل على معنى السعي لطلب الرزق ولا تدل على المعنى المعجمي للضرب وهو الحدث المعروف، والذي يدل على دلالة السعي هي القرينة اللفظية يبتغون من فضل الله فهذه الأخيرة أي لفظة الابتغاء تدل على طلب الرزق.

وقوله تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ  الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾[7].

فمعنى كلمة (فاضربوا) موجهة للمسلمين تحثهم على الصبر ومواجهة الكفار، فهذه اللفظة توحي دلالتها إلى الشدّة والقوّة.

وقوله أيضا: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾.[8]

ضرب الله مثلًا أي اعتمد مثلًا ووضعه، و(كلمة) منصوبة بفعل مضمر أي جعله كلمة طيبة كشجرة طيبة، فنلحظ من الآية أن ضرب له معنيان (اعتمد وجعل)، فإنَّ الله يمثل ليكون ذلك أسلوبًا حيًا من أساليب تمثل الفكرة بطريقة حية موحية لأن الناس يتمثلون المحسوسات بأكثر ما يتمثلون المعقولات مما يجعل من التشابه في المدلول بين المحسوس والمعقول، وهذا ما درج عليه القرآن في أكثر من موضع مع أكثر من فكرة.

وورد هذا المعنى في آية أخرى من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي  سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.[9]

فورد المصدر (ضربًا) في الآية الكريمة بمعنى (سعيًا ومشيًا وذهابًا)، ونجد معنى آخر للفعل (ضرب) وهذا ما تدل عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمْ فِى ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾.[10]

فمدلول (ضربنا) في الآية الكريمة بمعنى (أبلى أو سلط أو منع)، فضربنا على آذانهم أي فاستجبنا دعاءهم، وصرفنا عنهم شر قومهم وأنمناهم .

نستنتج مما سبق أن تحديد معنى ضرب في الآيات هو السياق وهو القرينة التي تشخص الدلالة وتفرض قيمة واحدة بعينها على اللفظة ولتوضيح أثر هذا الأخير أي السياق ودوره في توجيه المعنى الدلالي لابد من ذكر أنواع هذا الأخير وتبيان أثر كل نوع في توجيه الدلالة وتوضيح ذلك بأمثلة لتأكيد هذا الأثر وقبل الخوض في هذه الأنواع ارتأيت أن أعرف بهذا المصطلح فما هو مصطلح السياق؟ وما مفهوم التوجيه؟ وما مفهوم الدلالة؟، وما العلاقة الجامعة بين الدلالة والسياق؟

السياق:

  • لغة: لفظة السياق أصلها السواق وإنما قلبت الواو ياء لكسرة السين[11] فهي مصدر من ساق يسوق ولقد ذهب ابن فارس إلى أن (السين والقاف والواو أصل واحد، يقال ساق يسوق سوقا)[12].

 وقد استعمل العرب الألفاظ المأخوذة من (س و ق) على نحو ما يلي:

ساق الإبلُ وغيرها يسوقها سوقا…وقد انساقت وتساوقت الإبل تساوقا إذا تتابعت وتقاودت فهي متقاودة متساوقة وفي حديث أم معبد: فجاء زوجها يسوق أكثرا ما تساوق أي ما تتابع المساوقة المتابعة كأن بعضها يسوق بعض”[13].

“والمنساق التابع والقريب”[14].

وقد عرفها الزمخشري بقوله: “ساق النعم فانساقت وقدم عليك بنو فلان فأخذتهم حبلا واستقتهم إيلاء ومن المجاز ساق الله إليك خيرا أو ساق إليها المعنى وساقت الريح السحاب وتساوقت الإبل تتابعت وهو يسوق الحديث أحسن سياق وإليك سياق الحديث، وهذا الكلام مساقه إلى كذا وجئت بالحديث على سوقه على سرده “[15].

يقول ابن منظور(ت771هـ) : “السوق معروف وساق الإبل وغيرها يسوقها سياقا وهو سائق سواق”[16].

وبهذا نستنتج أن المادة تدور في فلك التتابع والاتصال وهكذا استعملت لدى العرب.

  • اصطلاحا:

يعرف السياق في الاصطلاح بأنه هو الذي ساعد في كشف معنى الكلمة نتيجة الوضع المتفق عليه بين المتكلم والسامع[17].

وقد عرفه محمود السعران بقوله: “جملة العناصر المكونة للموقف الإعلامي أو للحال الكلامية”[18].

والسياق هو البيئة اللغوية التي تحيط بالكلمة أو العبارة أو الجملة وتستمد أيضا من السياق الاجتماعي وسياق الموقف وهو المقام الذي يقال فيه الكلام بجميع عناصره من متكلم ومستمع وغير ذلك من الظروف المحيطة والمناسبة التي قيل فيها الكلام[19]، أما عبده الراجحي فذهب إلى أنه “مجموع الظروف التي تحيط بالكلام”[20].

وقد أطلق عليه كمال بشر مصطلح المسرح اللغوي والمقام ومجريات الحال وليس هو مجرد مكان يلقى فيه الكلام إنما هو إطار اجتماعي ذو عناصر متكاملة أخذ بعضها بحجر بعض، فهناك الموقف كله بمن فيه من متكلمين سامعين ومستمعين ومتلقين وعلاقتهم ببعض وهناك كذلك ما في المواقف في الأشياء والموضوعات المختلفة التي تفيد في فهم الكلام والوقوف على خواصه وهناك كذلك الكلام نفسه”[21].

وذهب تمام حسان تأكيدا للمعاني اللغوية التي تدل على التتابع أو الإيراد المقصود بالسياق التوالي ومن ثم ينظر إليه من ناحيتين أولاهما توالي العناصر التي يتحقق التركيب والسبك والسياق من هذه الزاوية يسمى سياق النص الثانية توالي الأحداث التي صاحبت الأداء اللغوي وكانت ذات علاقة بالاتصال ومن هذه الناحية يسمى سياق الموقف”[22].

وقد عرفه محمود السعران بقوله: “جملة العناصر المكونة للموقف الإعلامي أو الحال الكلامية”[23]

التوجيه:[24]

جاء في معجم المعاني الجامع معجم عربي عربي توجيه اسم والجمع توجيهات مصدر وَجَّهَ وهي إرشادات أو نصح أو بيان اختار توجيهاً يتلاءم مع تكوينه اتجاها تَوجُهاً يحتاج إلى توجيهٍ سليم أي إلى إرشاد.

 التوجيهات التعليمات التي يزوّدها المسؤول مرؤوسيه والتي ترسم كيفية تنفيذ أعمال التوجيه المهني إعلام الفرد نظرا لذكائه وقدراته ونظرا لفرص العمل الميسر بالمهنة التي يمكن أن ينجح فيها.

الدلالة:

قال ابن فارس الدال واللام أصلان أحدهما إبانة الشيء بأمارة تتعلمها والآخر اضطراب في الشيء فالأول قولهم دَللت فلانًا على الطريق والدليل الأمارة في الشيء وهو بيّن الدلالة والدِّلالة”[25].

ويقول الجوهري الدلالة في اللغة مصدر دله على الطريق دَلالة ودِلالة ودُلُولةٌ في معنى أرشده[26].

وفي اللسان ودلِّه على الشيء يدُله دلاًّ ودلالة فانْدل سدّده إليه، والدليل ما يستدل به والدليل الدال وقد دله على الطريق يدله دَلالة ودِلالة ودُلولة والفتح على والدليل والدليلي الذي يدُلكَ”[27].

وفي القاموس ودَلَّهُ عليه دلالة فاندل سدده إليه والدليلي كخليفي الدلالة أو علم الدليل به ورُسوخه[28].

اصطلاحا:

ذكر التهانوي أن الدلالة في مصطلح أهل الميزان المنطق والأصول والعربية والمناظرة هي أن يكون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر[29].

وأما الأصفهاني فيقول اعلم أن دلالة الفظ عبارة عن كونه بحث إذا سُمِعَ أو تخيّل لاحظت النفس معناه[30]، كما يقول ابن النجار: “كون الشيء يلزم من فهمه فهم شيء آخر، فالشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول”[31].

أنواع السياق:

  • السياق اللغوي:

هو السياق الذي يستند في تحديد المعنى إلى عناصر لغوية ومعنى هذا أن الكلمة تحدد حسب السياق الوارد فيه، وبهذا يمكن للكلمة الواحدة أن يكون لها عدة معانِ حسب وجودها في سياقات المختلفة والأمثلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا  جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[32]، فاليد في الآية الكريمة تدل على العضو المعروف للإنسان وذلك بقرينة القطع وهي العقوبة نتيجة سلب الناس شيئا بغير وجه حق وما نلاحظه أن معنى اليد هنا هو المعنى المعجمي الحقيقي وهذا ما جاء أيضا في قوله تعالى:﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [33] وكلمة يد هنا تعني العضو كما سبق وأن ذكرنا ولكن قد يكون لها معنى آخر في قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[34] ومعناها هنا القدرة أو السيطرة أو الهيمنة وهذا لم يكن ليدرك من اللفظة وهي خارج نطاق السياق فمعنى يد هنا تختلف عن المعنى السابق.

ومعنى آخر لكلمة (يد) يظهر في الآية الكريمة: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ  وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ﴾[35]، يخبر الله تعالى عن اليهود لعنة الله عليهم أنهم وصفوه بالبخل وهو له خزائن السموات والأرض، وعبّر عن بخلهم وحسدهم وضغائنهم بقوله تعالى: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾.[36]

وقوله أيضا: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾.[37]

أراد بما (بين يديها) يعني ما سبقت من الذنوب، أي جعلنا تلك العقوبة جزاء لما تقدم من ذنوبهم قبل نهيهم عن أخذ الصيد.

وقوله أيضا: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾.[38]

أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة أي الهلاك وقيل التهلكة كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك.

ومعنى (يد) في الآية الكريمة: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.[39]

إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام، بيد الله وإليه، دونكم ودون سائر خلقه، فالله عزّ وجل هو المعطي والمانح الخير لمن يشاء من عباده فهو الوهاب الرزاق، ذو سعة بفضله على عباده.

ويظهر في قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾.[40]

لفظة (أيديكم) تشبر إلى العضو المحسوس الذي أمرنا الله عزّ وجل بتنظيفه استعدادا للصلاة، فاليد تستعمل للمسح على الصعيد الطيب (تراب، حجر).

  • السياق العاطفي: إن اعتبار اللغة ظاهرة اجتماعية فرض عليها أن تتأثر وتؤثر من جانب الناحية النفسية للذين يتخذونها لسانا ينطقون بها لتأدية مقاصدهم وكشف مدلولاتها وصولا لتحقيق التفاهم فيما بينهم وأن مرد ذلك يعود إلى المتداولين باللغة نفسها فهم يتعرضون لحالات نفسية ومواقف انفعالية مختلفة تجاه بعض الألفاظ دون سواها لارتباطها بخزينهم الذهني ببعض الأفكار الخاصة بهم وبحياتهم التي عاشوها لذا أن الكلمة يكون لها جو عاطفي يحيط بها وينقذها ويعطيها ألوانا مؤقتة على حسب استعمالها.[41]

وقد وضح هذا الأخير  العالم أي بالمر من خلال حديثه عن الدلالة قائل :إن العلاقة بين علم النفس واللسانيات مهمة إلى الحد الذي أدى إلى ظهور اللسانيات النفسية فالمدخل  النفسي إلى اللغة يكمن مبدئي في محاولة تفهم العمليات التي تمر بها اللغة في حالتي المتكلم والسامع وبهذا يلفت إلى أن مسألة التأثير لا تقع على المتلقي أو السامع حصرا وإنما يكون للتأثير سطوة على المتكلم أيضا وذلك من جهة قدرته على استيعاب مدى التأثير الدلالي الذي تحدثه اللفظة دون أخرى التي يوردها في سياق معين دون آخر ، وبالتالي فالسياق هو الذي يوجه الدلالة النفسية أو العاطفية فوجود اللفظة في سياق معين يكون لها دلالة نفسية معينة تتناصب مع دلالة السياق بخلاف ما لو استبدلت من غيرها ومن هنا يمكننا القول أن السياق هو الحكم في انتقاء اللفظة ذات التأثير الذي يتلائم معه ومراد المتكلم[42].

من هنا نجد أن السياق العاطفي هو المحدد لدرجة القوة أو الضعف في الانفعال مما يقتضي تأكيدا أو مبالغة أو اعتدالا”[43].

وإذا قلنا بأن التأثير له ارتباط بالمتكلم فإن هذا المضمون أو الارتباط النفسي يختلف من متكلم إلى آخر [44]، وهذا ما ينطبق على المتلقي كذلك لكن تباين الأفراد في نفسية تقبلهم للألفاظ دون غيرها حسب الاستجابة، فمثلا شتم شخص أمام الناس بكلمة فاشل قد تبقى محفوظة في نفسه ومخزونة في ذاكرته اللغوية، وتختلف ردة الفعل إذا ذكرت من باب الممازحة من شخص في يوم ما فإنها ستثير عنده ردّة فعل وتقهقرا نفسيا شديدين لما لهذه اللفظة من تلازم مع الموقف السابق على حين أن شخصا آخر غير معرض لموقف مماثل لما واجهه الأول حينما يسمع هذه اللفظة من زميله فقد لا تثير عنده ردّة فعل وتقهقرا نفسيا شديدين لما لهذه اللفظة من تلازم مع الموقف السابق، في حين نجد الآخر غير المعرض لهذا الموقف المماثل عند سماعها  لا يتأثر كما حدث مع الأول.[45]

3- سياق المقام :

ويسمى بسياق الموقف، أو سياق الحال، أو السياق الخارج عن النص، ويُقصَد به السياق الخارجي الذي يمكن أن تقعَ فيه الكلمة، إذ تحدد دلالة الكلمة من عناصرَ غيرِ لغوية تتصلُ بالعصر والمحيطة بالكلمة، وقد يتسع المعنى أخيرًا ليشمل أيَّ شيء يعود إلى ذلك العصر نراه مناسبًا لتفسيره.

فكلمة سياق تشمل هذا النوع من القرائن أيضًا ويمكن أن يتسعَ المعنى المألوف لكلمة “سياق”، ليشملَ الظروف التي تحيط بالكتابة أو القول.[46]

فمن القرائنِ ما يكونُ دوره الأساسي متجاوزًا دلالةَ الألفاظ المعجمية في تحديد المعنى المراد؛ إذ ما دام المتكلم يملِك من الحرية ما يكفُلُ له الانتقال باللفظ الخاص من الخصوص إلى العموم، وباللفظ العام من العموم إلى الخصوص، وما دامت

دلالةُ الألفاظ ليست كلها قطعية، فإن الدلالةَ المعجمية للألفاظ تبقى قاصرةً عن تحديد المعنى المراد.

فالقرائن اللغوية التي يستعملها المتكلمُ في سياق كلامه كعلامات هادية إلى المعنى المراد، إن لم يصحَبْها معرفة بالمتكلم المنشِئ للخطاب، وبالمستمِع الموجَّه إليه الخطابُ، وبالظروف المحيطة بالخطاب – فحينئذٍ لا يمكن معرفةُ المراد بالتحديد من الخطاب؛ لأن المعنى (كل مركَّب من مجموعة من الوظائف اللغوية، بالإضافة إلى سياقِ الحال غير اللغوي، ويشمل سياق الحال عناصر كثيرة تتصل بالمتكلِّم والمخاطَب والظروف الملابِسة والبيئة ذلك أن إجلاء المعنى على المستوى المعجمي لا يُعطينا إلا المعنى الحرفيَّ، أو معنَى ظاهرِ النص، وهو معنى فارغ من محتواه الاجتماعي؛ والتاريخي، منعزلٌ عن كل ما يحيط بالنص من القرائن الحالي.

بناءا على ما سبق يستنتج أن السیاق Context يعد في الدراسات اللغویة الحدیثة من أهمّ القضایا التي ترتبط ارتباطا وثیقا بعلم الدلالةSémantics ؛ وذلك لدوره الرئیس في كشف دلالة النّصّ وتحدید معناه، فالكلمة لا تكتسب قیمتها إلاّ بفضل مقابلتها لما هو سابق ولما هو لاحق أو لكلیهما معا. ولا نعني بالسیاق هنا النسق اللغوي الداخلي وحده؛ وإنما أیضا المقام الذي حدث فیه الخطاب. وقد كان للعلماء العرب جهود رائدة في العنایة بدلالة السیاق، إمّ ا على المستوى النظري، وإمّ ا على المستوى العملي، إذ أشاروا إلى أهمّیته ودوره في إنتاج الدلالة، إلاّ أن عنایتهم انصرفت أكثر إلى الجانب التطبیقي، وقد استعمل مصطلح السیاق في التراث اللغوي العربي بصیغ أخرى كالمقام، والحال، والنظم، والسباق، واللحاق، والمساق، والقرینة، والمناسبة، وما إلى ذلك… وقد اعتنى المفسّرون كثیرا بدلالة السیاق لما لها من أهمّیة بالغة في تفسیر كلام الله تعالى، فهي أصل ثابت من أصول هذا العلم، وبإهمالها یضع المفسّر قدمه على عتبات الزلل.

أما فيما يخص السیاق القرآني فيظهر دوره في إنتاج الدلالة من خلال سیاق الآیة الواحدة حیث یأتي اللفظ مستقرا في موضعه مع غیره من الألفاظ، فیكون من الألفاظ ما هو أنسب لمدلول السیاق تحقیقا للمناسبة المعنویة. وتعدّ المناسبة نظرة كلیّة إلى النص القرآني بوصفه وحدة كلّیّة متكاملة، متماسكة ترتبط أجزاؤه بعضها ببعض، إمّا على المستوى الشكلي وإمّا على المستوى الدلالي، وللسياق دور في استنطاق العبارات وتبيان معانيها حسب مناسبة القول فمدلول لفظة واحدة يوجب العديد من المعاني التي تكتشف عن طريق التفسير والتأويل.

المصادر والمراجع:

[1] – دلائل الإعجاز، للجرجاني، ص38.

[2] –  دلائل الإعجاز، للجرجاني، ص32.

[3] – النحو والدلالة، عبد اللطيف، ص71.

[4] – جدلية السياق والدلالة في اللغة النص القرآني أنموذجا، ص37، م.د سيوان عبد الزهرة الجنابي، كلية الآداب، جامعة الكوفة،  حيدر جبار عيدان ، كلية الآداب جامعة الكوفة.

[5] – سورة النساء، الآية : 34.

[6] – سورة المزمل، الآية : 20.

[7] – سورة الأنفال، الآية : 12.

[8] – سورة إبراهيم، الآية 24.

[9] – سورة البقرة، الآية 273.

[10]  – سورة الكهف، الآية 11.

[11] – النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود، محمد الطناجي، دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي، ط1، 1963، ج2، ص424.

[12] –  مقاييس اللغة، ابن فارس، تح: عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، 1999، ج3، ص117.

[13] – لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، ط1، بيروت، ج10، ص166-167.

[14] – القاموس المحيط، الفيروز آبادي، دار الكتب العلمية، ط1 ،141 ج3، ص335-336.

[15] –  الزمخشري، أساس البلاغة، تح: محمد باسل عيون السود، بيوت-لبنان، ط1، 1998، ص484.

[16] –  ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت- لبنان، ط1، 2000، 7/304.

[17] – عبد الواحد حسن، التنافر الصوتي والظواهر السياقية، دار الوفاء للطباعة والنشر، مصر، ط1، 1999، ص30.

[18] –  فوزي عيسى، علم الدلالة النظرية والتطبيق، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط1، 2008، ص111.

[19] –  فوزي عيسى رانيا فوزي عيسى، المرجع نفسه، ص111.

[20] – عبد المنعم خليل، نظرية السياق بين القدماء والمحدثين، دار الوفاء للطباعة والنشر، الإسكندرية، ط1، 2007، ص82.

[21]  – كمال بشر، دراسات في علم اللغة نقلا عن عبد المنعم خليل، نظرية السياق بين القدماء والمحدثين، ص82.

[22] –  تمام حسان، قرينة السياق، بحث قدم في الكتاب التذكاري للاحتفال بالعيد السنوي للكلية، دار العلوم، مطبعة عبير الكتاب، القاهرة، دط، 1993، ص375.

[23] – فوزي عيسى رانيا فوزي عيسى، علم الدلالة النظرية والتطبيق، دار المعرفة، الإسكندرية، ط1، 2008، ص111.

[24] – المعاجم الإلكترونية في الشبكة الإلكترونية.

[25] –  مقاييس اللغة (دل) 2/259 لابن فارس، تح: عبد السلام هارون، دار الفكر،1399هـ- 1979 .

[26] – الصحاح، دلل 4،1968، تاج اللغة وصحاح العربية لإسماعيل بن حماد الجوهر، تح: أحمد عبد الغفور غفار، دار العلم للملايين، بيروت- لبنان ، ط4، يناير 1990م.

[27] – لسان العرب دلل، 1/399 وما بعدها، ابن منظور، دار الحديث، 1427هـ/2006م

[28] – القاموس المحيط (دلل)، للفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط6، 1998م.

[29] – كشاف اصطلاحات الفنون للعلامة محمد بن علي التهانوي، 1/787، تح: د. رقيق العجم وآخرون، مكتبة لبنان، ناشرون، ط1، 1996م.

[30] – بيان المختصر، شرح مختصر ابن الحاجب،1/120 لشمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصبهاني، تح: د. علي جمعة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2004م، 14091هـ.

[31] –  شرح الكوكب المنير المسمى مختصر التحرير أو المختبر المبتكر شرح المختصر 1/125 لابن النجار، تح: د/محمد الزجيلي، ود نزيه حماد، مكتبة العبيكان، رياض ط2 1418هـ/1998م، وينظر التعريفات للجرجاني، ص93، ط الحلبي، مصر 1357هـ،1938 م.

[32] – سورة المائدة، الآية: 38.

[33] – سورة المائدة، الآية: 16.

[34] – سورة الفتح، الآية: 10.

[35]  -سورة المائدة، الآية: 64.

[36] -سورة المائدة، الآية: 64.

[37]  -سورة البقرة، الآية: 66.

[38]  -سورة البقرة، الآية: 195.

[39]  -سورة آل عمران، الآية: 73.

[40]  – سورة المائدة، الآية: 06.

[41] –  جدلية السياق والدلالة في اللغة النص القرآني أنموذجا، ص 43، م.د سيروان عبد الزهرة الجنابي، كلية الآداب، جامعة الكوفة، وم حيدر جبار عيدان ، كلية الآداب جامعة الكوفة.

[42] – جدلية السياق والدلالة في اللغة العربية، النص القرآني أنموذجا، ص43.

[43] – علم الدلالة، أحمد مختار عمر، ص70.

[44] –  السعران، علم اللغة، ص302.

[45] – بتصرف يراجع: جدلية السياق والدلالة في اللغة النص القرآني أنموذجا، م.د سيروان عبد الزهرة الجنابي، كلية الآداب، جامعة الكوفة، م حيدر جبار عيدان، كلية الآداب جامعة الكوفة.

-علم اللغة؛ للسعران، ص (288[46]

* جامعة حسيبة بن بوعلي-الشلف، الجزائر

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of