تمهيد:
في يوم من أيام مارس الماضي عام2021م قرأنا إعلانًا سارًّا في مجموعة واتساب المختصة بطلاب قسم اللغة العربية بجامعة دلهي، يفيد أن قسم اللغة العربية بجامعة دلهي سوف ينظم ندوة وطنية في 18-19 من شهر مارس عام 2021م حول “كوفيد-19 والتحديات الحديثة بالإشارة الخاصة إلى اللغتين: العربية والأردية”، وقد شاركت في الندوة، واستفدت من بحوث وكلمات المشاركين، وفي الجلسة الافتتاحية لفت أنظارَ المساهمين تدشينٌ لكتاب “فيوض الخاطر” للأستاذ الحبيب البروفيسور نعيم الحسن الأثري رئيس قسم اللغة العربية بجامعة دلهي بأيدي كبار المفكرين والأكاديميين، الذين أشادوا بجهود الأستاذ البروفيسور، وأبدوا انطباعات قيمة عن الكتاب وصاحبه، مما زاد الكتاب في نظري قيمةً واعتبارًا.
وقد أكرمني الأستاذ الكريم بنسخة من الكتاب، لأدرسه وأستفيد منه، فجزاه الله خير الجزاء، وقد طالعتُ الكتاب بنهم، وقطفتُ معلوماتٍ قيمة، فتحت لي آفاق الفكر والخيال، وأوضحت لي كثيرا من الجوانب المبهمة في طريق إتقان اللغة العربية، وجعلتني ألتقي بشخصيات فكرية وأدبية، مثَّلت دورا رائعا في تطوير اللغة وبناء الكيان الثقافي، ثم وددت لو شاركني غيري من طلاب اللغة والأدب في هذه المتعة الثقافية، فكتبت هذه السطور، إن أصبت فيها بإذن الله فهو ماقصدتُ، وإن قصَّرتُ فَحَسْبِيَ سلامةُ النية وحسنُ القصد، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيبل.
تعريف بالكتاب:
الكتاب يحتوي على 265 صفحة، وقد طبعته مكتبة البلاغ بنيودلهي عام 2020م طباعة رشيقة، بأوراق ناعمة ضاربة إلى الصفرة، خفيفة الوزن، وهي طبعة أولى للكتاب، وكُتب عنوان الكتاب بـ”فيوض الخاطر”ووُضعت تحته بين القوسين كلمة هادفة وهي: (مجموعة مقالات حول اللغة والأدب والثقافة)، وفي الصفحة التالية ذُكر حقُّ الكتاب –وهو محفوظ للمؤلف- وثمن النسخة البالغ 300 روبية هندية، وفي الغلاف الخلفي كُتب عنوان الكتاب واسم المؤلف والناشر باللغة الإنجليزية، مرفقةً بالرقم الدولي للكتاب(ISBN).
هذا من جهة المظهر، أما من جهة المخبر فالكتاب يبتدئ بكلمة الإهداء، وهي مُوَجَّهةٌ بصفة خاصة إلى أبويِ المؤلف وأستاذه الشفوق البروفيسور محمد سليمان أشرف، وبصفة عامة إلى جميع أساتذته، كما قال المؤلف: “إهداء إلى والديَّ الكريمين وأستاذي الشفوق البروفيسور محمد سليمان أشرف وكل من علمني حرفا ومهد لي الطريق إلى العلم والمعرفة”، وتليها مقدمة المؤلف التي جاءت باسم “بين يدي الكتاب”، قام فيها المؤلف الفاضل بعرض سريع لمضامين الكتاب وما فيها من مباحث لغوية وأدبية نفيسة. ثم يجد القارئ نفسه أمام مقالات وبحوث علمية قيمة، احتوى عليها الكتاب، وهي صلب الكتاب وصميمه، وقد بلغ عدد المقالات 20مقالة، وهي وإن تنوعت موضوعاتها، وتفرقت معانيها؛ ولكنها منحدرة إلى محيط بحثي واحد: محيط اللغة العربية وما يتعلق بها، يتحكم فيه العمق والأصالة، والجدة والروعة، وجمال العرض وسلامة الترتيب، وجودة السبك، ومراعاة المنهج البحثي.
قيمة الكتاب وأهميته:
وليس اسم الأستاذ البروفيسور نعيم الحسن الأثري -حفظه الله- جديدا في الأوساط العلمية والأدبية في الهند؛ فهو أستاذ معروف: معروف بخدمة العلم والأدب، معروف بمزاياه التدريسية، معروف بخلقه “الوردي” ومزاجه “النرجسي”، معروف بشفقته على الطلاب، معروف بتبحره في العلوم العربية، معروف بمؤهلاته الإدارية، معروف بحضوره المشهود في الندوات والمؤتمرات، معروف بانقطاعه إلى ما يقدم الركب العلمي عن مغريات العصر، يشغل الأستاذ البروفيسور في هذه الأيام -عن جدارة واستحقاق- منصب رئيس قسم اللغة العربية بجامعة دلهي، وهكذا يسهم بشكل فعال في تطوير اللغة العربية وقيادة موكبها إلى الرقي والازدهار.
إن الكتاب قد يأخذ قيمته بقيمة صاحبه، فبعلو مكانته يعلو شأن الكتاب، وبخموله يخمل ويموت، وإذا كان صاحب الكتاب قد عُرف بتجاربه الواسعة وخبراته الطويلة في مجال اللغة والأدب، –نحو الأستاذ البروفيسور نعيم الحسن الأثري- فلابد أن يكون لكتابه دوِيٌّ في الأوساط العلمية وصَدًى في النوادي الأدبية، وهنا تكمن قيمة الكتاب، فكل ما جاء فيه من أبحاث ودراسات هو عصارة تجارب هذا المعلم الموفَّق، الذي عاش شبابه وفتوته في خدمة اللغة العربية، وواجه الصعاب وكابد المشاق في هذه السبيل، واطلع على أساليب التعليم ومناهج التربية قديما وحديثا، واستفاد من نوابغ العربية في الهند وخارجها، وتابع التطورات الحضارية الحديثة وما لها من تأثير في اللغة العربية وأبنائها وعُشَّاقِها وأنصارها في كل مكان، ثم أخرج مقالات قيمة، امتازت بدقة المعنى ورشاقة اللفظ وسهولة العرض وصدق التصوير، وبراعة التحليل وأمانة النقد ورقة المشاعر، ثم أخرجها في صورة كتاب -كهذا- إتماما للفائدة.
وإني شخصيا قد استفدت من الكتاب كثيرا، واطلعتُ على تحديات وصعوبات ومتغيرات في طريق اللغة العربية تعلما وإتقانا بجانب حلول واقتراحات وتوصيات وتجارب من شأنها حلُّ الأزمة وإزالةُ المحنة، وأراه من خيرة الكتب، التي ترشد المعنيين بالعربية إلى ما يهمهم من مواضيع وقضايا وتجارب، فالكتاب في الحقيقة مغنمة عظيمة، وتحفة أدبية، وهو حاجة كل طالب للعربية، ودليل كل معلم لها.
طبيعة المقالات وعوامل الكتابة:
والأستاذ بدوره يذكر طبيعة هذه المقالات والعوامل الدافعة إلى كتابتها، فيقول: “فهذا الكتاب يشتمل على دراسات عربية عديدة، يتمحور ما فيها من الدراسات حول شتى موضوعات اللغة العربية وآدابها وثقافتها في الهند وخارجها إلى جانب دراسات إسلامية، وهو في الحقيقة مجموعة مقالات عربية قد أعددتها لعدة ندوات أكاديمية وطنية ودولية خلال سنوات ماضية، فعندما أُسند إلي موضوع يمارس اللغة العربية وآدابها وثقافتها لكتابة المقالة، حاولت أن أقوم بتوطير الموضوع، في إطار التحليل والاتجاهات الحديثة لذلك الموضوع المعني به سعيا لتقديم ما يعين الباحثين والأكاديميين في إعداد أطروحتهم وبحوثهم في مجالات عديدة للغة الضاد”([1])
فالأستاذ لم يكتب هذه المقالات كتابةَ باحث متمهلٍ؛ وإنما كتبها بشكل عفوي، استجابةً لنداء الوقت، دُعي إلى ندوة أو مؤتمر أو دورة تدريبية، وطُلب إليه الإسهام الكتابي فجاد طبعه وفاض خاطره بمعانٍ نفيسة ومباحث شريفة، وهكذا يرتجل عفوَ الساعة مقالات طويلة النفس، قلما يهتدي إليها باحث دقيق النظر، فصحَّ أن يسمّى الكتاب بـ”فيوض الخاطر”، فهو فائض من خاطره الحافل وقلمه السائل.
يمكن تقسيم المقالات إلى ستة محاور أساسية، وهي كما يلي:
- اللغة العربية أهميتها في هذا القرن وصعوبات تعلمها وتحديات إتقانها
- مشاكل الترجمة الشعرية والمترجمين
- من كبار الأدباء وأساتذة الأدب في الهند
- علم التفسير في الهند
- ذكر تراجم وأعمال بعض رواد ورائدات اللغة والأدب في مصر
- مساهمة المستشرق الإنجليزي وليم بكثول في ترجمة القرآن الكريم باللغة الإنجليزية.
ولكي تكون هذه الدراسة وافية بالمستوى البحثي وسارية على المنهجية المطلوبة في الدراسة والتحليل، أرى أن أقف وقفة قصيرة مع هذه المحاور الستة الأساسية، وهي كالتالي:
المحور الأول: اللغة العربية أهميتها في هذا القرن وصعوبات تعلمها وتحديات إتقانها
احتوى هذا المحور على أربع مقالات، لها مساس مباشر باللغة العربية في المنظور العولمي، وفي ظلال المتغيرات الثقافية واللغوية، تتمحور حول اللغة العربية في هذا القرن، ففي المقالة الأولى التي حملت اسم “أهمية اللغة العربية في القرن الحادي والعشرين(تحديات وحلول)” قام الأستاذ بتفصيل رائع لما استجدَّ في هذا القرن من ثورة علمية هائلة ووسائل متكاثرة في مجالات الاتصال والتكنولوجيا واكتشافات عصرية بديعة، وما تبعها من تحديات في اللغة والحضارة والثقافة، كما ذكر ما واجهت اللغة العربية في هذا العصر من تحديات ومشاكل؛ ولكن الأستاذ كتب بكل ثقة واعتزاز أن اللغة العربية تحتوى على عناصر تجعلها تتغلب على كل مشكلة، وتزيل كل حاجز.
وبعد ذلك تطرق الأستاذ إلى تحديات تعليم اللغة العربية في هذا العصر، فذكر عددا من التحديات وأردفها بحلول تلك التحديات والمشاكل، والمقالةُ كلها محشوةٌ علمًا وتجربةً، وغنيةٌ بالمعلومات والدراسات الميدانية.
وفي المقالة الثانية التي أسماها الأستاد بـ”دور المهارات اللغوية في إتقان اللغة العربية” وقف الأستاذ من المهارة اللغوية ودورها في إتقان اللغة العربية وقفة تأمل وتدبر، فبعد بيان معنى المهارة اللغوية لغةً واصطلاحًا بيَّن المهارات اللغوية الرئيسية، وهي أربعة أنواع: مهارة الاستماع ومهارة الكلام، ومهارة القراءة ومهارة الكتابة، ولم يكتفِ الأستاذ ببيان هذه المهارات؛ بل ذكر ميزاتها وفوائدها وكيفية تدريباتها ومجالات استخدامها وأهدافها ومراحلها ووسائل حصولها وإتقانها، والقارئ يشعر أثناء قراءة هذه المقالة بأن الأستاذ قد اعتصر تجاربه الواسعة ولخَّص خبراته الطويلة في صفحات لاتتعدى عشرين صفحة.
وجاءت المقالة الثالثة باسم “تعليم اللغة العربية وتعلمها في المدارس الإسلامية الهندية”، وعنوانها دليل على أهميتها؛ ولكن الشيء السارَّ أن الأستاذ الكريم قد أنصف الموضوع كل الإنصاف، فعامَّةُ من يتناولون هذا الموضوع لاينصفونه، وإنما يطلقون العبارات بدون وعي لما ترمي إليه المدارس من أهداف، وما حققته من إنجازات، وما أنجبته من رجال الفكر والدعوة واللغة والأدب، نعم! يقف الأستاذ موقفا وسطا، يشيد بالمعطيات الإيجابية للمدارس، ويشير على أربابها بإعادة النظر وإدخال التعديلات في المنهج التعليمي ليكون أكثر استجابة لضمير العصر وصدى الوقت.
وفي هذا الصدد أعجبني جدا قولُ الأستاذ الكريم: “وأما تفاعلات هذا المنهج الدراسي لتحقيق البراعة والتمهر في اللغة العربية كتابة وخطابة ومحادثة فهي في ورطة التساؤلات الكثيرة، لااستجواب منها حتى الآن، ومن يقول: إن هذا المنهج لايدعم كفاءة اللغة العربية في المتطلبات المعاصرة للطلبة فهو يخطئ في تحليل هذه الحقيقة، وما يدرس في المدارس من أدب وكتب أدب عربي، فما هي إلا أداة ووسيلة للوصول إلى غاية محددة، ولا صلة لها بالأدب والإنشاء في إطار الفن وروحه، وكان العلماء مثل الشيخ مولانا محمد قاسم النانوتوي يوصون الطلبة كذلك في العصر الغابر أن يخلوا أوقاتهم للدراسة في الجامعات العصرية والمعاهد العلمية الأخرى ليسد فراغهم ويصقل موهبتهم العلمية والأدبية”([2])
وأفضل شيء في هذه المقالة ما قدَّمه الأستاذ من حلول واقتراحات، من شأنها أن تنمي الذوق الأدبي لدى الطلاب، وتصقل المواهب الخامدة، وتزيل عوائق وعراقيل في طريق التقدم في اللغة العربية والتبريز فيها.
وكان “معالجة صعوبات تعليم وتعلم اللغة العربية في منظور التكنالوجيا الحديثة” رابع المقالات في هذا المحور، تابع فيها الأستاذ تقدمات التقنية الهائلة، وما لها من تأثير كبير في التعليم واللغة، والمؤلف كأستاذ بارع في مادة اللغة، عاش تجارب ميدانية يركز عنايته على اتجاهات حديثة في تعليم اللغة، ويلفت الأنظار إلى تحديات حديثة وكيفية معالجتها، وما أصدق ما قاله الأستاذ: “نحن ندرِّس جيلا جديدا ولد في بيئة تسيطر التقنيةُ على أغلب نشاطاتها وتحف بأكثر مجالاتها، ومن ثم فلا يمكن أن يأتي المعلم أو المتعلم إلى صفٍ ما، وهو في عالم “آف لائن” منعزلا عما يحدث في ميادين التكنولوجيا من نزعات نابعة واتجاهات نافعة على طرق التعليم والتعلم، وبناء على الثورات الحديثة في كافة المجالات، بما فيها التعليم والتدريس والعرض والاكتساب، فقد تطورت مناهج تدريس اللغة العربية إلى مستويات حديثة وتحولت اتجاهاته من المواد التقليدية إلى تقنيات تدريسية جديدة، ومن النظريات اللغوية إلى التطبيقات البيانية…
“فهل منا يا معشر المعلمين من يتصور أن يكون معلما ناجحا ويكفي إلقاء الخطبات وطرح المعلومات أمام المتعلمين في الفصل فحسب؟ ومن يتزعم منا ان الاعتماد على الكتب المؤلفة لأبناء اللغة العربية خلال التدريس يفضي إلى ما يتطلب الزمان من النتائج المنشودة في ميدان اللغة العربية فهما ونطقا وكتابة؟ كلا؛ إنه أمر مضى بمضي الزمن، فعلى المعلم أن يطور من كفاءته العلمية وبراعته التقنية اعتمادا على طرائق تعليمية حديثة وإثراء العملية التعليمية بالأنشطة التقنيقية في توصيل المادة التعليمية وتطبيق اللغة العربية في ضوء هذا الانفجار”([3])
إي والله! إنه لكبريت أحمر، لايستطيع أن يتنبه له إلا من عَصَرَتْه التجارب، وحَنَّكته الخبرات، ومن ثم نجده في نفس المقالة يشير على المعلم باختيار ما ينمي كفاءته التدريسية في ضوء التطورات التقنية الحديثة، ويقترح عليه عددا من التوصيات الهامة.
المحور الثاني: مشاكل الترجمة الشعرية والمترجمين:
هذا المحور لايحتوي على أكثر من مقالة قيمة؛ ولكن جعلتُه محورا، وهذا لقيمتها وخطورتها، وهنا كتب الأستاذ ما للترجمة من أصالة وتاريخ في الأدب العربي، ونهضة جديدة في الأدب العربي المعاصر، وذكر ما لترجمة الشعر من لغة إلى لغة أخرى من صعوبة، جعلت العربَ يحجمون عن هذه العملية لقرون؛ حتى جاء سليمان البستاني(1856م-1925م) وقام بترجمة الملحمة اليونانية الإلياذة لهوميروس، فتتابعت الترجمات، وتلاحقت العمليات، وتكونت فنا مستقلا، له نماذج عديدة ومناهج فريدة.
وفي هذا الصدد ذكر الأستاذ مشاكل الترجمة، ولايخفى على أحد أن الترجمة في حد ذاتها عملية صعبة، وإذا كانت ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى نظما أو نثرا فهي أكثر تعقيدا وأشد صعوبة.
المحور الثالث: من كبار الأدباء وأساتذة الأدب في الهند:
هذا المحور يحتوي على أربع مقالات قيمة، تتمثل في:
- دور محمد سليمان أشرف معلما وكاتبا
- الأستاذ خورشيد أحمد فارق في ضوء كتاباته
- الأستاذة فرحانة الصديقي: أستاذة مثالية
- إسهامات الأمير السيد صديق حسن خان القنوجي في تطوير اللغة العربية
ولعل القارئ يتساءل: ما الذي جعل الأستاذ يخص هؤلاء الأربعة من أدباء الهند دون غيرهم؟ والجواب ما ذكره الأستاذ في مقدمة كتابه من أن هذا الكتاب مجموعة مقالات، ارتجلها الأستاذ استجابة لضرورة الندوات والمؤتمرات، ولم يُرِدْ وضعَ كتاب، يسرد الأدب العربي في الهند وأعلامه ومظاهره.
والأمير السيد صديق حسن خان القنوجي شخصية ذاع صيتها وانتشر ذكرها في العالم، فعرفه العرب والعجم والقاصي والداني، وذلك لما له من مؤلفات قيمة وإسهامات جسيمة في معظم العلوم الإسلامية.
أما الشخصيات الأخرى الثلاث فهي مازالت لايعرفها إلا القليل من الأكاديميين، وهي في حاجة إلى التعريف بشخصياتها وأعمالها، وقد أحسن الأستاذ المؤلف عند ما ذكرها وما تميزت به من منهج وأسلوب وميزة.
وأنا شخصيا كنت في حاجة إلى ترجمة مفصلة للأستاذ البروفيسور محمد سليمان أشرف والأستاذ البروفيسور خورشيد أحمد فارق، وذلك عند ما أردت أن أكتب مقالًا عن قسم اللغة العربية بجامعة دلهي.
إن مقالات الأستاذ حول البروفيسور محمد سليمان أشرف والأستاذ البروفيسور خورشيد أحمد فارق تتركنا أمام عبقرية في مجال اللغة والأدب والتدريس، تحوي تراجمُهما كل مايتعلق بهما من مولد ونشأة وأسرة ومزايا السيرة ومخايل النبوغ ومواصفات التدريس وإسهاماتهما العلمية من خلال مشاركاتهما في الندوات والمؤتمرات ووضع مؤلفات قيمة، وما أُكرما به من جوائز وأوسمة وما تمتعا به من مكانةٍ علمية وأدبية عالية.
وأعجبني مجهودُ الأستاذ المؤلف في التعريف بمؤلفاتهما، فالشخصيات بعد انتقالها إلى دار الخلود تَخْلُدُ بعلومها وكتبها، فمن شاء التلمذ عليها والاستفادة من علومها فعليه بمؤلفاتها، فإنها تربط القارئ بشخصيتها، وتورثه أفكارها واتجاهاتها وأساليبها في الفكر والكتابة.
أما الأستاذة فرحانة الصديقي فقد كتب لها الأستاذ مقالةً اشتملت على صفحتين؛ ولكن لخَّص فيها مكانتها في العلم والأدب، ومنهجها في التدريس والإلقاء، ومشاركتها في الندوات وقيمة مؤلفاتها، ومن ذا الذي ينكر الإسهامات النسائية في الهند وخارجها في مجالات الثقافة المتنوعة؟ فهن جزء نشيط من التاريخ الثقافي في كل عصر ومصر، وهكذا احتلت الأستاذة مكانة مرموقة في هذا التاريخ، وحسبها فخرا واعتزازا أن من تلاميذه أمثالَ البروفيسور نعيم الحسن الأثري حفظه الله، الذي أصبح بدوره نجمًا ساطعًا في سماء العلم والأدب، يهتدي به الحيارى ويستضيء به السائرون.
المحور الرابع: علم التفسير في الهند
إن الكتاب لايختص بالأدب العربي، فبعض مقالاته تتصل مباشرة بالدراسات الإسلامية، فجاء في الكتاب مقالتان، إحداهما “تطور علم التفسير في الهند باللغة العربية” وأخراهما “الشيخ ثناء الله الأمرتسري وإسهاماته في علم التفسير”، سرد الأستاذ المؤلف في المقالة الأولى تطورات علم التفسير في الهند، والاتجاهات التفسيرية والتعريف بكتب التفسير المؤلفة في الهند في اللغات المختلفة؛ ولكن الأستاذ ركز عنايته على الكتب العربية، فذكر كلا من تفسير ملتقط وتبصير الرحمان وتيسير المنان ومنبع عيون المعاني ومطلع شمس المثاني وسواطع الإلهام وزبدة التفاسير والتفسير المظهري وفتح البيان في مقاصد القرآن وتفسير القرآن بكلام الرحمن وبيان الفرقان على علم البيان وتفسير نظام الفرقان وتأويل الفرقان بالفرقان والتفسيرات الأحمدية مع تعريف موجز بهذه الكتب وما لها من قيمة علمية كبيرة.
وكان ثاني المقالات في هذا المحور تمثل في “الشيخ ثناء الله الأمرتسري وإسهاماته في علم التفسير”، تناول فيها المؤلف حياة الشيخ الأمرتسري بجميع جوانبه بإيجاز، ثم ذكر مهارته في علم التفسير ومميزات كتبه التفسيرية، ومنهجه في التفسير وعرَّف بكتبه في التفسير باللغتين: العربية والأردية وأسباب تاليفها مع الإشارة إلى انطباعات كبار العلماء عن شخصيته وكتبه التفسيرية.
المحور الخامس: ذكر تراجم وأعمال بعض رواد ورائدات اللغة والأدب في مصر
احتوى هذا المحور على سبع مقالات كالتالي:
- رائدات اللغة العربية في مصر وإسهاماتهن في تطوير الأدب العربي
- إسهامات عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ في إثراء الأدب العربي
- الواقعية الاجتماعية في كتابات يحيى حقي بالإشارة الخاصة إلى كتابه “قنديل أم هاشم”
- عبد الحميد جودة السحار وأسلوبه في كتابة السيرة النبوية
- إسهامات أمينة السعيد في الأدب العربي بالإشارة الخاصة إلى رحلتها إلى الهند
- قيم وثقافات في كتابات عبد الحميد جودة السحار
- صورة المجتمع الهندي كما تتجلى من “مشاهدات في الهند”
وهذا المحور له قمية علمية وأدبية كبيرة، فهو يتناول جانبا مهما من جوانب الأدب والثقافة، فإن لمصر المكانة والصدارة في تطوير النهضة وبناء اليقظة وتأسيس الوعي الثقافي والأدبي، فأنجبت مصر روادا ورائدات في مجال العلم والثقافة والأدب، فالاطلاع على هذا يفتح للقارئ آفاقا جديدة في التعليم والتجديد.
والأستاذ معجب كل الإعجاب بشخصية الأستاذة عائشة بنت الشاطئ، وينظر إلى أعمالها نظرة إجلال وتقدير، ويستعرض أعمالها من منظور علمي وأدبي وثقافي، ويسرد العوامل التي كونت شخصيتها فكرا وثقافة ومنهاجا، وفي هذا الصدد ذكر المفكرَ والأديب أمين الخولي الذي كان أستاذها وزوجها وشارك في بناء كيانها العلمي والأدبي.
كما أن الأستاذ وجَّه عناية خاصة إلى رحلة الدكتورة أمينة السعيد إلى الهند، التي شاهدت الهند ومجتمعاتها وأديانها وحركاتها العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية عن كثب، فسجلت انطباعاتها في كتاب “مشاهدات في الهند”، فذكرها في ثلاث مقالات، خصها بالذكر في مقالتين، وذكرها في إحدى المقالة ضمن رائدات مصريات.
أما الأديب عبد الحميد جودة السحار فعلى الرغم مما قدَّمه من إنجازات أدبية هائلة، وأسهم بنصيب وفير في عرض أهم وقائع التاريخ الإسلامي في صورة قصصية مثيرة، تتسم بدقة التاريخ وسهولة العرض، على الرغم من هذا كله ما زالت شخصيته في الهند منسية، فلانسمع في الأوساط العلمية هنا همسا ولا ذكرا لشخصيته وأعماله إلا نادرا، وقد أعطى الأستاذُ المؤلفُ هذا الأديبَ الإسلامي الكبير حقه من العناية، فاهتم بأسلوبه وأفكاره، وما دعا إليه من قيم وثقافات وما تركه من آثار وما خلفه من مؤلفات.
المحور السادس: مساهمة المستشرق الإنجليزي وليم بكثول في ترجمة القرآن الكريم باللغة الإنجليزية.
هذا المحور يحتوي على مقالة واحدة، أسماها الأستاذ بـ” مساهمة المستشرق الإنجليزي وليم بكثول في ترجمة القرآن الكريم باللغة الإنجليزية”، ولكن المقالة لاتخص هذا المستشرق بالذكر؛ بل تتناول حركة الاستشراق وأسباب ظهورها وازدهارها وعناية المستشرقين بالعلوم الإسلامية، ثم يتطرق الأستاذ إلى ذكر مساهماتهم في ترجمة القرآن إلى اللغات الأوربية، ثم يأتي إلى صلب الموضوع فيذكر مساهمة المستشرق الإنجليزي وليم بكثول في ترجمة القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، وقد ذكر الأستاذ أهمية هذه الترجمة وميزاتها وأنها ترجمة موثوق بها في اللغة الإنجليزية، ومن سعادة حظ هذا المستشرق أنه اعتنق الإسلام، ولعله كان مخلصًا في عمله، أراد أن يعرض معاني القرآن على العالم الأوربي، فجازاه الله بالإحسان وأخرجه من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإسلام، وبذلك طاب الرجل شخصا ودينا وإنجازا.
نبذة عن مؤلف الكتاب:
هو الأستاذ الفاضل البروفيسور نعيم الحسن الأثري بن السيد عبد الحفيظ الأنصاري، ولد في 15/ أغسطس عام 1971م، في قرية محمد فور بمديرية جمفارن الغربية بولاية بيهار، وكانت أسرته أسرة دينية وعلمية كريمة، اشتهرت بالمحافظة على الدين، وتلقى تعليمه الابتدائي في كُتاب قريته ثم انتقل إلى مدرسة رياض العلوم بساتهي بمديرية جمبارن، وهي مدرسة معروفة في الأوساط العلمية بولاية بيهار . وبعد الحصول على شهادة الفوقانية انتقل إلى الجامعة الأثرية دار الحديث بمئو نات بنجن بولاية أترابراديش؛ حيث تلقى العلوم العقلية والنقلية ونال شهادة الثانوية العامة والثانوية العليا، ثم ارتحل إلى مركز العلوم وعاصمة البلاد دلهي والتحق بالجامعة الملية الإسلامية بدلهي الجديدة، وحاز شهادة البكالوريوس في الآداب (ليسانس) باللغة العربية بالجامعة الملية الإسلامية بنيودلهي الهند، ثم نال شهادة ليسانس اللغة العربية عام 1994في قسم اللغة العربية بالجامعة الملية الإسلامية بنيودلهي، ثم التحق بقسم اللغة العربية بجامعة دلهي، ليحصل على شهادة ماجستير اللغة العربية عام 1996م، وعلى ماجستير في الفلسفة باللغة العربية عام 1999م، ومضى قدما في سبيل العلم والثقافة بعزيمة صادقة، فالتحق بمرحلة الدكتوراه، وأعدَّ رسالة علمية قيمة باسم “الشيخ ثناء الله الأمرتسري- حياته وآثاره”، تحت إشراف كل من البروفيسور محمد سليمان أشرف(ت2011م) والبروفيسور محمد نعمان خان، فنال شهادة الدكتوراه عام 2004م بتقدير وامتياز.
الحياة العملية:
وفيما كان الأستاذ باحثا في الدكتوراه عمل محاضرا موقتا في قسم اللغة العربية بجامعة دلهي منذ 1999م إلى 2004م، ثم عمل محاضرا دائما في نفس القسم منذ 2004م حتى عام2010م، ثم رُقي فاختير في عام 2013م أستاذا مشاركا، وظل على هذا المنصب حتى عام 2016م، وفي الخامس من شهر ديسمبر عام 2016م صار أستاذًا في القسم، وظل يعمل كأستاذ بارع بكل إخلاص وتفان حتى الآن.
وقد رزقه الله حظا وافرا من الإدارة والتنظيم، فهو يدير الآن عددا من المناصب بكل لباقة، مما أبرز مؤهلاته الإدارية الفائقة، فهو يشغل الآن من المناصب ما يأتي:
- رئيس قسم اللغة العربية بجامعة دلهي
- عضو لجنة البحوث الجامعية بالقسم(DRC) بجامعة دلهي
- عضو لجنة الدراسات الجامعية العامة(BRS) بجامعة دلهي
- عضو لجنة المقررات الدراسية في قسم اللغة العربية بجامعة دلهي
- نائب الأمين العام لاتحاد أساتذة وعلماء اللغة العربية لعموم الهند سابقًا
عُرف الأستاذ بحضوره المشهود في الندوات والمؤتمرات وورش العمل والدورات التدريبية، فقد شارك في عشرات منها، وفي معظمها قرأ مقالاته وبحوثه، مما حصد إعجاب الحضور، ونال استحسان المساهمين.
وقد صدر له كتابان هامان: “مآثر أبي الوفاء في علوم التفسير” و”التبيان دراسة تحليلية لتفسير القرآن بكلام الرحمن”(نشرتهما مكتبة الكتاب العالمية بنيودلهي، عام 2013)، وقد حصدا إعجاب القراء والمعنيين بالعربية في الهند.
عاداته وأوصافه:
منذ أربعة أعوام ماضية إني ملتحق بقسم اللغة العربية بجامعة دلهي طالبا وباحثا، فقد شاهدتُ الأستاذ عن قرب، فوجدته سمحا كريما، طيب الخلق، حلو المزاج، كبير الاحترام للكبار، كثير الشفقة على الصغار، دائم الانشغال بأمور علمية، كثير الحرص على تكوين جو علمي وبحثي في القسم، تنطلق فيه نشاطات ثقافية متنوعة، وتتحكم فيه الآداب المرعية والأخلاق السَّنِيَّة، وتتوفر فيه فرص بحثية وإمكانات المشاريع العلمية.
اشتهر الأستاذ بشفقته على الطلبة، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في سبيل العلم والدراسة، والوقوف بجانبهم إذا اعترت لهم مشكلة، فهو رجل علم وأدب، العلمُ صِناعتُه، والتدريس هوايته، والبحث العلمي نشاطه، وإعداد الرجال حُلمُه، وخدمة العربية أمنيته، ولايهمه غير الأشغال العلمية.
بارك الله في حياته، ونفع به وبهذا الكتاب وتقبل منه ما قدَّم ويقدم من خدمات علمية ودينية وأدبية، آمين.
رأي المحكم: البحث صالح للنشر مع ضرورة إدخال التعديلات الملاحظة عليه.
هوامش المقال:
([1]) الأثري، البروفيسور نعيم الحسن، فيوض الخاطر(دلهي: مكتبة البلاغ، ط1، 2020م)ص5.
*الباحث في الدكتوراه، في قسم اللغة العربية، جامعة دلهي، الهند.
Leave a Reply