ليال مضت على هذه الزاوية، وأنا أهوم فى عالم تغيمه صفحة السماء المظلمة المدلهمّة وأتصفّح صفحات حياتى تسودها ذكرياتي الأليمة العنيفة، فقد دجا ليل الحوادث وأظلمت الحياة أمام عينيّ كأنّ روحي المسجونة تعذّب مثلما يتعذّب الطائر في قضبان قفصه عندما ينظر أسراب الطيور تسبح حرّة فى الخلاء الواسع.
نعم، أنا في زنزانة أمريكيا، أتسكّع في سلاسل الشقاوة والغربة، والسجن وظلمته، والقيد ووطأته، لا أدرى هل يشرق عليّ شمس فأتنسّم بالنسيم العليل، ويعود ماء إلى مجاريه فأروي به فؤادى، أم أُنعَى فأُطرح في مستنقع كدر تزورها الحشرات الأنانيّة كصديقى، الشبح الأوّل الّذى علّمنى الحبّ بأشعّته السحريّة وأوّل من أنشد على مسمعى قصيدة الحياة المعنويّة.
كنت فى التاسعة عشرة من عمري عندما حظيت بالدخول فى جامعة بالهند، لا أكاد أعي ما حولي من الفرح والسرور، فقد تعانيت فى سبيل وصولي هنا معاناة شديدة منذ أن مات أبي قبل عهد بعيد ولا أملك من متاع الدنيا شيئا، فكلّفنى عمّي فكان خير الأعمام وأكرمهم وأوسعهم برّا وإحسانا.
وما أن وصلت هذه الجامعة الجديدة حتّى أكببت على طلب العلوم بكلّ جدّ وتشوّق، وبعد كلّ هذا لعب الزمان لعبها، ما رأت أيّامى بعض لياليها إلّا وقد لقيت “راهول”، وهو كان طالبا فى نفس الجامعة، نعم، طلع عليّ كالبدر المنير تبشّر بِعِيد مفرح فكان بديعا فى خلقه و هو الّذى علّمني عبادة الجمال بجماله وأيقظنى من أحلامى بلطفه العذب، فكان ربيع حياتي الّذى قلّب انفرادى معنى شعريّا وبدّل وحشة أيّامي بالأنس والليالي بالأنغام المريحة.
طال الزمان وقد علّق الحبّ قلبين،كنّا حبيبين، معا نتجالس ومعا نتسامر، تبادلنا الحبّ بالحبّ والشغف الممتزج بكلّ الولع والوئام، فكنّا قلبين ممتزجين وروحين تتلاقى كلّ أحيان وجسمين متلاصقين. وما كنت أقضى أيّامى إلّا وهو معي دائما فكنت أنا شبحا وهو مرآي، وقلَما وهو دفتري، وصفرا وهو عشرتي، فما كان هو يغبّ عن نظرى إلّا وهو يتردّد عليّ صباح مساء، هكذا توالت الأيّام ومعيّته الناضرة جعل دنياي بهاء وجمالا، حتّى تعاهدنا أن لا نفارق أبدا، وألّا نبتعد أبدا كيفما دارت بنا الحياة.
ولكن، ما طال الزمان إلّا كلمحة طائر جلست فيها على شجن يترنّم فطار مع أسرابه، نعم، عبث بي الدهر ما عبث، وحقّقت الأيّام مخاوفنا، إذ أتى موعد التخرّج من الجامعة، فتخرّجنا معا بوافر الحبور والسرور، وكان راهول أكثر من نفسى فضلا بل أسرته العالية المشبعة بالثروات الضخمة والأموال الغزار ما استطاعت أن تتحمّل هذه العلاقة، فحان زمان الفراق كما خفنا، أرسله أبوه إلى أميركا للدراسة وكنت أنا متحيّرا يابسا، أصبحت الدنيا ضيّقة مع وسعتها، والأوقات بطيئة بعد سرعتها، كأنّما ذهب بصري فادلهمّت الأجواء بل ما استطعت على يوسف صبرا.
نويت الذهاب إثره، وما كاد عمّي يمنع بل ما استطعت عليه صبرا فما أنتجت نصائحه المثمرة ثمرة، فكنت قد علمت إسم مدينته وشقته بواسطة اتّصالاتنا فى الهواتف – وما كنت أملك هاتفا أيضا- وأردت الوصول إليه بلا علم منه حتّى أُدهشه بالدهشة العظمى السارّة، فجلست على الطائرة بعد كلّ عناء وجهد للملاقاة مع صديقى، مع رفيقى، وما بعده كان ما كان. وصلت شقته مسارقةً، أمام شبح توارت فيه أماني وانزوت فيه أفراحي وأدهشنى أشدّ الدهشة، رأيت يداه مخضلتان بالدماء الغزار وامرأة قتيلة أمامه تلعب فى ميدان الحياة والموت، حتّى أسرعتُ إلى الرجوع أنحدر من سقف إلى سقف، فانتهيت إلى الشارع وما جرت خطايا أقداما حتّى رأيت الشرطة تعقّبني وقيدونى بالسلاسل يجرّوني إلى السجن!!
لا أدرى ما السبب؟ وما الّذى أتى بي إلى هذه الزاوية؟ إلّا أنّى المسلم الوحيد الّذى نزل فى المطار، متّهما على قذف القنابل مسارقة، ولا أعلم سواه. كأنّما كان أحلام! ما فهمت ما الّذى حدث بي؟ وللصديق الّذى غادرتُ له وطنى، ومن تلك القتلى؟ من قتلها ولما؟؟ … أسئلة تقلقنى بل كان صديقى صدوقا أمينا رحيما… لا أعلم ماذا فعل به الزمان أم ماذا كان هو يفعل به؟؟
*جامعة دار الهدى الإسلامية، بنغال الغربية، الهند
❤️