+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

قصة قصيرة: صحوة بعد موت
محمود عاصم

كان مانوج ينتظر نوبته في محرقة الجثمان من أرض الشماشان المكتظة بجثث الموتى تحضيراً لحرق جثة أمه التي توفيت مثل الآلاف بسبب إصابتها بفيروس كورونا. وكانت بعض الوجوه الكئيبة الموجودة في ذلك المكان المهيب معروفة لديه بمن فيهم صديقه أميت  الذي عانى صدمة وفاة أبيه.

وكانت المدينة خارج الشمشان صامتة ساكنة لا يسمع إلا دوي سيارات الإسعاف والشرطة ونباح الكلاب والفزع والخوف كان يغيم في الفضاء ولكن المنظر داخل الشمشان يسرد قصة مختلفة تماما عن الخارج. موقف الشمشان يشبه موقف الساعة حيث لم يراع أحد أحداً و الدموع تتقطر من وجوه وجمدت في عيون بعضها والأفواه التي فقدت الأحباء كانت عاجزة عن البوح عما في داخلها ولغة الصمت داخل الشمشان كانت سائدة تخبر عن أحوال الجميع الذين غاب عنهم رمق الحياة مثل غياب الألوان عن الصور.

كان مانوج جالسا جامد المشاعر جاف النظرة إذ جاء رجل من إدارة الشماشان ليخبر بأن موعده سوف يأتي بعد اثنتي عشرة ساعة وكادت الساعة في تلك الحظة تقارب الحادية عشر ليلا. بدأ يحس بأن فراق الأم لا يشعر إلا من عاش فيه وذكرياته مع أمه تراوده وتمنى أن يكون رحيلها مجرد كابوس مؤلم انتهى وأدرك أن سعادة الحياة لا توجد إلا بوجودها.

 أنهكه التعب فجلس ليستريح ساعة ولكن ذبذبات الخيال حالت دون استراحته ولفت به من كل جهة ويرى حوله فلم يجد مجموعة أصدقاءه الذين معهم يجول ويتمتع في الساعات الأخيرة من الليالي وأمه كانت تنتظره مفتوح الباب وتصر على تناول بضع لقمات من الطعام من أجلها. لم يعتني بها مانوج خلال أيام مرضها حق العناية. بدأت موجات النشاطات التي كان منغمسا فيها خلال هذه الأيام تلطمه من كل جانب. لم يدر سبب هيجان هذه الأفكار في تلك اللحظة.

فأطلق عنان خياله واستسلم نفسه لفترة وجيزة في تصارع بين شوشرة الأفكار والخواطر فبدأ يفكر في علاقاته الوطيدة وقربته مع أكبر زعيم سياسي في مدينته وانتماءه بنفسه بالحزب الحاكم حيث يحترم رأيه ويسمع موقفه لدى رئيس الشرطة ومسؤولين آخرين في نظام الحكومة ولم يذهب اتصاله بهم أدراج الرياح بل ينفذون رغبته بكل فرح وسرور. ولكن ما فائدة كل هذا الإجلال حينما لم يستطع رسوخه في نظام الحكومة إنقاذ حياة أمه التي عانت من نقص في الأكسجين ووافتها المنية في إحدى المستشفيات الكبرى في المدينة.

خطر على باله الهتاف ودعاية الزعماء السياسيين التي من أجلها هو يجادل الآخرين بأن بلادنا لا بد أن تكون معتمدة على نفسها في كل مجال من مجالات الحياة. ولكن هل جلب هذا الدعوى أي نفع له والذي في ترويجه أفنى أحلى أوقات حياته ووهب له أجمل لحظات شبابه. وهل وصل إلى نتيجة بأن أي شيئ من هذا النوع يوجد على أرض الواقع في ضوء تجاربه الشخصية لتلقى العلاج لأمه المريضة؟ هل من العدل أن نحابي الآخرين وندعي بقيادة القارة ونتقلد وسام صيدلية العالم ولن يتمكن رجل مثلي الذي له شأن في المجتمع، أن ينقذ حياة أعظم شخصية عنده التي سبب وجوده في هذه الدنيا. فما بال عامة الناس؟

أراد أن يفر من هذا الوادي من الخيال والهيجان ويلجأ إلى جبل الآمال والرؤى التي قضى فيها معظم أوقاته من الماضي. فكر بأن هذه المحنة لن تبقى للأبد وسنكون في المستقبل القريب أعظم قوة على المستوى الدولي حيث لن تجرأ الدول المجاورة أن تنظر إلينا بنظر طامع في خضوعنا. نحن في الأغلبية ونملك سواد هذه البلاد وبياضها التي تبدو الحين رهينة لأتباع الديانات الأخرى ونكون في نهاية المطاف مواطنين أصليين وحاكمين على بلادنا ويخضع كل من يعيش في هذه البلاد لسطوتنا.

مرت عليه خلال هذا التفكير ثماني ساعات ولم يأت أحد من زعماء حزبه وأصدقاءه وأعيان مدينته ليواسيه ويقدم له بعض الكلمات التي تندمل بها جروح قلبه. وكان يتأسف في لحظة عن كل ما قام به من نشاطات سياسية ودينية متعصبة، وفي لحظة آخرى، يحاول تقديم مبررات جاهدا لانشراح صدره في أمل مستقبل باسم لأتباع دينه وأجياله القادمة.

كان مانوج شارداً في تفكيره إذ لمح له وجه معروف فحدق النظر فيه فإذا هو جاره فيروز الذي جاء إليه مباشرة بعد دفن أخيه الكبير في مقبرة بجنب الشمشان. أعرب فيروز عن تعازيه وأكد له بتقديم كل مساعدة ممكنة في هذه اللحظة الصعبة ثم غادر قائلا بأن أسرته وأهله ينتظرونه خارج الشمشان.

فكر عن زعيمه الذي كان مشغولا في عقد المسيرات الانتخابية الحاشدة بدون مراعاة التدابير الاحترازية حيث يدعو إليها خلال خطابه للشعب مرة بعد أخرى ولكنه لم يطبق نفسه هذه التدابير خلال مسيراته. لاحظ بأن أجندة زعيمه تتمحور حول التمييز بين المقابر والشمشان  ولكن مانوج أدرك جيداً اليوم على أن مكانين يواجهان مشكلة واحدة تتمثل في  اكتظاظ الموتى وصفوف الجثث بسبب نقص حاد في  التسهيلات الطبية للشعب وعدم كفاءة الحكومة للتخطيط المناسب لمواجهة الوباء بعد انتشار سريع له في جميع أنحاء البلاد.

ألقى نظرة عابرة على طابور الجثث أمامه فوجد أن نوبته تكاد تأتي وموعد التوديع الأخير لأمه قد اقترب إذ برق في خاطره قصة  قصتها أمه له في زمن طفولته. قصة غيرت مجرى حياة أمه. قصة التعايش بين أتباع ديانات مختلفة.  قصة تغلب الحب على الكراهية و سيادة الأمن والسلام على التعصب والفوضى. قصة صداقة خاله مع رجل مسلم قضى نحبه في محاولة إنقاذ حياة خاله من الإعتداء من قبل أتباع ديانته.

وكان مانوج شارداً في أفكاره ويتمتم مع نفسه فنبه بإعلان إسمه عند موعده ولكنه سمع في نفس الوقت ضجة فالتفت إلى الأصوات إذ رأى أن زعيم حزبه يأتي إليه. وقف الزعيم هنيهة عنده بدون أن ينبس كلمة. بدلا من تقديم كلمات المواساة له  استغل المكان الأعلى الذي يستخدم لحرق الجثث وجعله منصة له وبدأ يخاطب الناس الموجودين هناك.

“أصدقائي! إن كل هذه الآلام والمحن ليست إلا لأيام قليلة وخططنا بشكل جيد لمواجهة وباء كورونا الذي خلق أزمة في حياتنا وسوف تسمعون عن مشاريعنا الرفاهية لكم. وأضاف قائلا إن كنتم تصوتون لحزبنا في الانتخابات الآتية فلنوفرنكم تسهيلات حديثة لحرق جثث موتاكم في الشمشان. والأهم من ذلك، سنحرم الآخرين من مقابرهم بجواركم ونجعل في  ذلك المكان تمثالا أكبر في العالم لإلهكم لكي تفتخرون به في كل مكان.”

مانوج استغرب أول مرة من كلام زعيم حزبه ففكر بأن خطاب الكراهية والتحريض أدى بنا إلى أوضاع نحن فيها وتذكر بأن ليس هناك أي سبب للغضب والاستياء عندما انفجر البالون في وجهنا فنحن من نفخناه وأعطانا أكبر من حجمه.  وتأمل عن عدد كبير من الموتى وفقدان الأحباء بسبب كورونا ولكنه شعر بأننا لسنا في أوضاع نسئل الطيور لماذا غادرت أوطانها بل حتى لسنا في وضع أن نسئل الظروف التي أجبرتها على الرحيل لأنه يعرف جيداً عن مصير كل من يفعل هذا بوصفه معادي للوطن ووضعه داخل السجون.

ولكنه حينما نظر إلى سجل فوز زعيمه في الانتخابات الماضية فأدرك أن هذه الأجندة نفسها التي كافح من أجلها طول حياته. تاريخ زعيمه مليئ بمثل هذه “الأعمال الجليلة ” والشعب يفضله وينتخبه لأنه لا يعد لهم بتزويد المشتفيات والأكسجين وتسهيلات الحياة الأساسية بل يعلن في وثيقته الانتخابية عن توفير المعابد والتماثيل من جانب والإهانة والذل لأتباع الديانات الأخرى من جانب آخر.

ندم مانوج على ما سبق منه من نشاطات تافهة ومتعصبة وقرر بعدم تقديم أي نوع من تأييد له في المستقبل لأنه عرف بأن زعيمه في الحقيقة ملك الشمشان وليس ملك المقابر وأنه زعيم يضمن حفاظ المعابد ولكنه يسمح بتدمير المساجد ويستغل جميع الوسائل الحكومية للحفاظ على حياة البقر لأنها تعتبر مقدسة حسب اعتقاداته ولكن لايطبق قانون العقاب على المتطرفين الذين يرتكبون جريمة قتل جماعي للمسلمين والمنتمين إلى ديانات أخرى بحجة حماية البقر.

صحا ضميره من غفوته بعد موت أمه فكره أن يكون مع المتطرفين والمتعصبين لديانة خاصة، بل وصل إلى قرار حتمي وطمأنينة قلبية بأن التعايش السلمي واحترام جميع الأديان هو الحل الوحيد في بلدنا الديموقراطي وأن بلاده يحتاج إلى زعيم يضمن المواساة والعدل والحرية لكافة المجتمعات والشعوب.

الباحث في الدكتوراه، مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهرلال نهرو، نيودلهي، الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of