+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

قصة قصيرة: قطار خاص
د. محسن عتيق خان

“أبي، كل شيئ مغلق هناك، كل شيئ! المدينة لم تبدو كما كانت قبل بضعة أيام، مقفرة تماما، كأنها خالية عن الناس، وعن كل ذي حي، ولا تسمع إلا صوت سيارات الشرطة، وقد نفد كل ما كان لدينا من المآكل، فلم يبق لدينا إلا أن نسافر إلى موطننا إذا أردنا أن لا نموت جوعا” قال ذلك ثم أجهش بالبكاء. وحاول الشيخ على الطرف الآخر من الهاتف أن يحتفظ برصانة صوته ولكن رغم كل محاولاته انهمرت الدموع على خديه، وتغير صوته قليلا، فقال:

كيف ستسافر يا بني؟ هناك إقفال تام في البلد، وخدمات القطار والباصات معطلة تماما.

-ماشيا على الأقدام يا أبي.

-“نعم، يا بني، تعال هنا، لدينا ما يكفي للأكل.”

-أنا، وأخي، وابن عمي، وابن جارنا العزيز، كلنا سنغادر على الأقدام مبكرا في الصباح.

-تأكد من شحن بطاريات هواتفكم جيدا، وفيما أظن، لو تمشون خمسين كيلومترا في يوم على الأقل ستصلون البيت في حوالى خمسة عشر يوما.

وعندما انقطع الكلام، توجه الشيخ إلى زوجته التي كانت قد أصغت إليه وفهمت من كلامه أن فلذتي كبدها سيخرجان إلى القرية، وستحظى عيناها برؤيتهما بعد مدة طويلة، فكم اشتاقت أن تراهما، وقد مضت على غيابهما سنة كاملة، كانا قد وعدا بأنهما سيبذلان كل جهدهما وسيرجعان هذه المرة بالمال الكافي ليبنيان البيت من جديد، فسيكون له سقف من الإسمنت لا يقلق أبويهما تقاطره في موسم المطر، وستكون الجدران من الطوب الأحمر، وبعد ذلك لن يكونا في حاجة إلى أن يضعا عليها القش لحمايتها من المطر في كل سنة. تذكرت كل كلامهما فشعرت بعينيها قد دمعتا. كان زوجها قد شد النظر إليها، وحاول أن يفهم ما يدور بخاطرها، وعندما رأى عينيها قد اغرورقتا، قال لها الشيخ:

-“لماذا تبكين، سيصل ابنانا بيتنا قريبا إن شاء الله، دعيني أرى ما لدينا من ذخائر القمح والرز فسأذهب بها إلى الرحى. أتمنى أن لا يقلقهما هم الطعام لشهور، فيما أظن، ليس علينا إلا أن نشتري بعض العدس فقط.

-“نعم، ليس إلا العدس، والتوابل، وبعض الأشياء التافهة الأخرى”.

ثم فتحت له الغرفة، وبينما كان زوجها يخمن الذخائر ويفكر فيما كيف سيدير البيت خلال شهور قادمة فهناك أشياء ما عدا القمح والرز، هي فتحت صندوقها الخشبي-ربما شعرت بتقلص تجاعيد جبينه ما كان يجول بخاطره – وبدأت تبحث عن شيئ وبعد قليل أخرجت صرة كانت مليئة بالنقود التي بعثها إليها ابناها للإنفاق بعد وصولهما إلى المدينة خلال سنة ماضية، ولكنها وضعت كل قرش وكل ورقة في الصرة بدون أن تبذل منها شيئا. فكانت لديها خطة تشغل بالها كل وقت منذ زمن. توجهت إليه مبتسمة، ومدت يدها قائلة:

-خذ هذه الصرة، ستكفي لرفع الغم عن بالك.

– “ألم تبذلي شيئا؟”

“كنت أريد أن أحفظها لزواجهما، فقد بلغا الرشد، ويكسبان أيضا، ألم ترى أني قد ضعفت، ولا أستطيع أن أجلس طويلا أمام هذا الوقود وأنفخ فيه لإشعاله، وكم اشتقت أن يسعد بيتنا بعروس.”

-كنت أنا بنفسي أتمنى نفس الشيئ، ممكن أن نزوج ابننا الأكبر، هل رأيت له فتاة مناسبة.”

-نعم، قد اتصلت بي أختي قبل أيام بهذا الصدد، ابنتها في نفس العمر، وهي فتاة طيبة تواظب على الصلاة، وتعرف الطبخ جيدا.

-سنفكر في هذا الأمر إذا تحسنت الأحوال من جديد بعد غياب هذه الجائجة التي تسببت في إقفال بلدنا تماما.”

وبعدما خرجا من الغرفة، بدأت هي تكنس الفناء وتجمع الأواني لغسلها، أما زوجها فبدأ يتهيأ لنقل القمح إلى الرحى. كان القمح قد مر من عملية تنظيف أولية على أيديها، وقد كانت ذخرتها بعد إزالة الشوائب عنها وتجفيفها في الشمس. فنقل الشيخ حمولات القمح على ظهره إلى الرحى عدة مرات ليتم طحنه، وكذلك حمولات الرز، وعندما استلقى على فراشه في المساء شعر كأن كل عضلاته تتوجع، وحينما قال ذلك لزوجته وطلب منها أن تكبس قدميه قالت مازحة، “قد أصبحت شيخا عجوزا، فقد كنت تنقل الحمولات إلى الرحى التي كانت تقع على بعد عشر كيلو متر بدون أي تعب، أما الآن  فالرحى موجودة في قريتنا ولكنك تعبت.” ثم جلست بجنبه وبدآ يتحدثان عن ابنيهما.

في الصباح الباكر استيقظا برنين الهاتف، وأخبرهما ابنهما عن خروجه مع أخيه، وابن عمه، وابن جاره في السفر، ثم انقطع الاتصال فقرر الشيخ بأنه سيتصل بهم كل يوم صباحا ومساء حتى يبلغ القرية. وفي المساء عندما اتصل به عرف بأنهم قد مشوا أكثر من خمسين كلم على السكة الحديدية فلم يسافروا من قبل إلا بالقطار، ولهم معرفة بالمدن التي تتوقف عندها القطار خلال سفرهم. والآن توقفوا في الطريق بعد أن أرهقهم السفر في شمس لافحة. وشعر في صوت ابنه شوقا وحنينا إلى القرية، وكأنه يريد أن يصل إليها في أسرع وقت ممكن، ولذا قطع اليوم أكثر مما كان يتوقع، وفي اليوم التالي يعزم على أن لا يختار القيام إلا بعد قطع مسافة حوالي مئة كيلومتر. كانا قلقا لابنيهما، فسيقضيان الليل تحت سماء مفتوحة، بدون أي ظل على رأسيهما، وبدون أي وقاية عن الحشرات المؤذية.

في صباح اليوم التالي، حاول الشيخ الاتصال بابنه ولكن بدون جدوى، ففكر ربما نفدت بطارية هاتفه المحمول، ولم يتمكن من شحنها من جديد في الطريق، ثم حاول الاتصال على هاتف ابن أخيه ولكن بدون فائدة، فطلب من جاره رقم هاتف ابنه، فوجد هو أيضا يحاول منذ ساعة، هاتفه يرن ولكنه لا يقبل الاتصال. قد حاول لنصف ساعة تقريبا، وأخيرا تلقى شخص ما الاتصال في جانب آخر، فسأل الشيخ بسرعة، “أين وصلت يا بني؟” ولكن صوت المستلم ادهشه، فسمع رجلا يقول: “قد وصل ابنك نهاية مطاف حياته، لا أرى إلا أشلاء مبعثرة لأربعة رجال على المساحة الكبيرة من السكة الحديدية، ربما كانوا ناموا عليها بعد أن أرهقهم السفر” وما إن سمع قوله حتى أغمي عليه، وسرعان ما ثارت ضجة في القرية واجتمع الناس حوله. حاول الناس شتى الطرق لأن يفيق وعندما نجحوا رأوا عيينه قد فقدتا الأمل في الحياة كأنهما تطيران في سماء بدون غرض مثل طائرين هائمين أو تنظران ولكن لا تريان شيئا. وبينما كان أهالي القرية يواسونه، صاح فتى وهو كان غارقا في شاشة هاتفه الجوال ويشاهد قناة على الفيسبوك “ربما هذا الصحفي يتكلم عن نفس الحادث، ها هو ذا السكة الحديدية، والأشلاء المبعثرة، وقطع الخبز هنا وهناك.” فأسرع إلى الشيخ وعندما قدم إليه الهاتف سمع الشيخ أحد مسؤولي الحكومة يقول “سنرسل أشلاء هؤلاء الرجال إلى بيوتهم عن طريق قطار خاص.” لم يستطع الشيخ أن يحدق مزيدا في الهاتف، فمشهد مقتلهم المروع صدمه صدمة عنيفة، وملأت ذهنه بأسئلة كثيرة، يجول بخاطره واحد تلو آخر، إذا كانت خدمات القطار معطلة تماما بسبب الإغلاق العام فمن أين جاء  هذا القطار؟ لماذا قطار خاص الآن؟ هل أفراد الحزب الحاكم لا يشعرون بهموم الناس؟ هل انتخبناهم ليخذلونا في المأزق؟ لو وفرت الجهات الحكومية المعنية القطارات لنقل العمال إلى أوطانهم قبل الإغلاق التام للبلد أو بعده لما أُضطر مئآت آلاف من الناس للسير على الأقدام لقطع المسافات الطويلة، ولما حدثت هذه الحادثة الفاجعة، ولما قُتل ابناي، ومئآت من الناس مثلهما في الطريق. هل يستطيع أن ينتظر لقطار خاص ليأتيه بأشلاء ابنيه، ليرى الأجسام المقطوعة للشباب. وبينما كانت أسئلة كثيرة عميقة وحزينة تستولي عليه وهو يحاول مهموما أن يجد أجوبته في مكان من رأسه، جمع كل قوته ليقوم وذهب إلى بيته ليرى حال زوجته، وعندما دخل في باب البيت، وجدها قد لبت نداء ربها، ربما لم تستطع أن تتحمل خبر هذه الفاجعة، شعر الشيخ كأن قواه قد خارت وروحه تسعى أن تلتقي بأرواح زوجته وابنيه.

*كاتب وقاص هندي

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of