+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

سَفْرَة إلى ما وراء البحار
أ.م. د. مخلص الرحمن

منذ الصبا كنت أسمع مثلا سائرا في قريتي وهو “وراء سبعة بحار” للدلالة على بعد كبير ومسافة شائعة، خاصة على البلدان الأمريكية النائية. فكنت أتمنى منذ ذلك الحين لأن أسافر إلى تلك الدول، وأزور ما فيها من الحجر والشجر وما لها من القرى والحضر، وأشاهد آلاء الله عزوجل. ولكن ما كنت أدري أيساعدني في ذلك القضاءُ والقدرُ إذ كان يبدو حُلْما لن يتحقق. ثم أتى عليّ زمانٌ لم يبق له في ذهني ذكرٌ، ولم يمرَّ بلساني عنه كلامٌ حتى وصلتُ إلى مرحلة الدكتوراه. ثم بدا لذلك آثار عندما وصلني خبرٌ بأن برنامج الأثر الأكاديمي للأمم المتحدة بالتعاون مع منظمة إي. إيل. إيس (ELS) يجري مسابقة دولية لكتابة مقال تحت شعار “لغات متعددة وعالم واحد” في ست لغات رسمية أممية. فلا أطيل الكلام في وصف المسابقة وأهدافها إذ يمكن الوصول إليها من خلال تصفح المواقع الرسمية المعنية. باختصار، تم اختياري في تلك المسابقة وحصلت على الرسالة بالإيميل مؤكدة نجاحي في تلك المسابقة وبأن يتم سفري إلى مدينة نيويورك الأميركية على تكلفة المنظمة المعنية.

يا لها من مفاجأة سارة خلّفت في نفسي البهجة وانبسطتْ أسارير وجهي في تلك اللحظة. ثم بدأت الاستعداد للرحلة وحصلت على التأشيرة والتذكرة. وتم تحديد اليوم الـ20 من مايو عام 2015م للسفر السعيد إلى ذلك المكان البعيد. وكنا خمسة من جامعة جواهر لال نهرو الذين اختيروا من أصل عشرة طلاب من أنحاء العالم كله في فئة اللغة العربية. كنا اتفقنا جميعا أن نسافر إلى ذلك البلد الغريب معا. فاكترينا سيارة أجرة ووصلنا إلى “مطار إنديرا غاندي الدولي” مساء. وعندما ودّعت زوجتي وابني الأكبر في رحاب الجامعة، تعلق ابني بحقيبتي وانفجر بالبكاء والتنهيدات. فحزن قلبي وتألّمت نفسي وما كنت أدري هل يؤلمني هذا الفراق، فراق الأسرة أو يسرني ذاك الشوق، شوق السفر إلى ما وراء البحار.

       كنت غارقا في الفكر بين هذا وذاك حتى أخبرني السائق بلسان حاله أن لا أتأخر، فأسرعت في الجلوس في السيارة ووصلنا إلى بوابة الدخول في المطار. دخلت في المطار وجلست مع بقية الزملاء وانتظرنا قليلا ثم وقفنا في الطابور لتسجيل الوصول للرحلة بالخطوط الهندية وكانت مغادرةً ليلا. وعندما جاءت نوبتي لتسجيل الوصول حدّق مؤظف الشباك في وجهي تارة وفي جواز سفري تارة أخرى لأن الصورة في جواز السفر كانت قديمة وكان وجهي قد تغير قليلا في المظهر وشكل اللحية. فأوجست في نفسي خيفة إذ كنت سمعت من قبل أن السفر إلى أمريكا صعب لكون إجراءات الفحص والتحقيق أكثر صرامة. بعد قليل من التأمل والتحديق أرسلني الموظف إلى شباك آخر للتحريات الإضافية. فتوجهت إلى ذلك الشباك الخاص في داخل المطار متثاقلا وكانت تدور في ذهني تساؤلات واستفهامات. وعندما وصلت إلى ذلك الشباك وجدت شرطيا، هو أخذ جواز سفري ووجّه إليَّ بعض الأسئلة البسيطة عن شخصيتي وعما في حقيبتي، ثم أمرني بالرجوع إلى نفس الشباك. فتنفست الصعداء وحصلت على بطاقة الصعود وأكملت بقية الإجراءات إلى أن وصلت إلى صالة المغادرة. اجتمعنا الزملاء وجلسنا معا متجاذبين أطراف الحديث ومتبادلين الآراء والأفكار والمشاعر والعواطف. بعد قليل ركبنا الطائرة وأخذنا مقاعدنا التي كانت متباعدة.

ليس كان ذلك السفر أول سفر بالنسبة لي بالرحلة الدولية ولكن كانت أطول سفر إلى أبعد مكان في العالم. دام السفر 15 ساعة و10 دقيقة، وفعلنا ما فعلنا لقضاء هذا الوقت الطويل المرهق حتى وصلنا إلى مطار نيويورك صباحا في اليوم العشرين من يوليو، ثم وقفنا في الطابور لعملية  تسجيل الخروج من المطار. وكان هذا أصعب عملية للدخول في أمريكا، فكنا ندعو الله عز وجل من أعماق قلوبنا أن يوفقنا لتجاوز جميع العقبات والعراقيل التي تعترض سبيلنا لأننا كنا سمعنا ما سمعنا عما حدث لرئيس الجمهورية الهندي الأسبق إي. بي. جي. عبد الكلام، والممثلين الهنود مثل شاه رخ خان  وعامر خان وعرفان خان وغيرهم في المطارات الأمريكية المختلفة. وكنت أكثرهم خوفا لأنني كنت ذا لحية والصورة في جواز السفر كانت تبدو أكثر غرابة. ولكن أكملت جميع الإجراءات بسهولة بفضل الله وتوفيقه غير أن اثنين منا تم نقلهما إلى غرفة خاصة لمزيد من التحقيق والتحري ما أقلَقَنا قليلا ولكن تم ذلك أيضا بسهولة.

ثم خرجنا من المطار بعد ساعتين من الانتظار الممل لأن نجتمع جميعا. وركبنا سيارة فاخرة كانت تنتظر لنا خارج المطار، سارت ووصلت بنا إلى “جامعة اديلفي” حيث أقمنا أسبوعا كاملا في إحدى سكناتها. رحّبَنا المسؤولون الكبار للمسابقة ترحيبا حارا على باب الجامعة. ثم وصلنا إلى غرفنا الخاصة. وبعد الاغتسال بدأ جميع الوافدين يجتمعون في صالة حيث كان الفطور جاهزا في أشكال مختلفة من الشوكولاتة والبسكويت  والكعك وألوان أخرى لا أعرف أسماءها. تبادلنا التسليمات والتهانئ مع الطلاب الوافدين من أنحاء العالم المختلفة. وكنا سبعين طالبا الذين كتبوا مقالاتهم في ست لغات رسمية للأمم المتحدة. كنا تمتعنا كثيرا باللقاء الأول والاحتكاك البدائي وتبادلِ الخبرات أكثر من تناولنا الفطور اللذيذ بنكهات عالمية متلونة. هكذا بدأنا أول يوم من الاحتكاك ثم طوّرْناه إلى الصداقة والمودة، وأمضينا بقية الأيام بسرور وفرح حتى لم نستطع أن ندرك كيف ومتى انتهى الوقت.

قمنا هناك بنشاطات مختلفة سواء كانت علمية أو ثقافية أو سياحية أو تفاعلية، فلا أستطيع أن أسجلّها جميعا دقيقة فدقيقة أو ساعة فساعة إذ يطول الكلام وتسودّ عشرات الصفحات ويمل القاريء ولا أريد أيا من ذلك. فأنوي سرد أبرز الفعاليات والأنشطة فقط. أول ما كان مخططا هو المشاركة في “منتدى الشباب الدولي” للمناقشة حول الموضوع “التنمية المستدامة ودور التعدد اللغوي فيها” تحت إشراف الباحثين المحنكين. فشاركت في النقاش الجاد والحاد واستفدت أكثر مما أفدت وتعلمت أكثر مما أسهمت إذ وجدت فرصة التفاعل مع الأساتذة البارعين والمسؤولين الكبار. وأهم الأشياء التي أثّرت في نفسي تأثيرا بالغا هي البساطة وحسن الخلق والتصرف ولين الجانب والتواضع من اؤلئك الأساتذة والمسؤولين الكبار. وخير شاهد على ذلك أنهم كانوا يقفون على باب القاعة ويمسكون بمصراعه لندخل فيها أو نخرج منها نحن الطلاب أولا. فهذا التواضع في مثل هذه المواقع جعَلَنا نحاكيه بدءا من اليوم التالي الذي قلما نجده في الأوساط العلمية في بلادنا.

هذا، وفي يوم من الأيام خرجنا للسياحة وزيارة مدينة نيويورك. وهي عاصمة اقتصادية، ومدينة الصناعة والتجارة، ، ومركز الثقافة والفن والإعلام، وأكبر المدن في كثافة السكان والحجم. والمدينة مليئة بالمباني العالية والقصور الشامخة، ومكتظة بالتجار والسياح، وعامة الناس وخاصتهم. والشئ الذي لفت نظري أكثر هوالنقاء والنظافة في الشوارع والأحياء السكنية والدكاكين والمطاعم قلما نشاهدها في المدن الهندية. وبالتحديد زرنا بلدة مانهاتن أكثر المناطق كثافة من مناطق نيويورك وهي تقع في جزيرة محاطة بنهري هدسون وهرليم. توجد فيها أفخم الفنادق وأشهر المطاعم وأكبر الشركات وأرفع المباني وناطحات السحاب، وتجولنا في شوارعها الحيوية المزدحمة، وتنزّهْنا بالقرب من “تائمز سكوير” حيث كنا تناولنا العشاء في مطعم “هارد روك كافيه” في النهاية.

وكذلك وجدنا فرصة لزيارة موقع هجمات 11 سبتمبر 2001م، وهو مركزالتجارة العالمي حيث كانت اصطدمت الطائرتان بالبرجين التؤام. وقد تم بناء شلالين كبيرين في مواضعهما. وهناك شريط برونزي عريض على حواف الشلالين ونقشت عليه أسماء الضحايا الذين لقوا حتفهم في الهجمات. وزرنا المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي الواقع في منهاتن في سنترال بارك. وهو من أكبر المتاحف في العالم ويوجد فيه أكثر من 32 مليون عيّنة من الحيوانات والنباتات والصخور والإنسان وغيرها.  قضينا فيه وقتا طويلا متجولين ومشاهدين أغرب الأشياء وأندرها. أغرب ما شاهدنا فيه وأُعجبنا به هي الهياكل الصغيرة والكبيرة للديناصورات العديدة. والتقطنا عشرات الصور مع هذا وذاك. وتعبنا تعبا كثيرا.

وفي يوم، قمنا برحلة بحرية على نهر هدسون على متن سفينة. وهي كانت من أكثر الأنشطة روعة وبهاء. من جانب النهر، شاهدنا منظرا خلابا للمباني الشامخة وناطحات السحاب في منهاتن بما فيها مركز التجارة العالمي ومبنى الامباير ستيت وتمثال ليبرتي الواقع في جزيرة ليبرتي والمراكز الأخرى، التقطنا صورا عديدة وتمتعنا كثيرا بالمناظر الطبيعية والاصطناعية معا، وتناولنا الغداء على متن السفينة، ورقص بعضنا على متنها جماعات وفرادى على أنغام الموسيقى الانجليزية. وفي مساء، ذهبنا إلى مبنى الامباير ستيت، وهو مبنى مرتفع إلى 381 مترا، ويحتوي على 102 طابق وسط منطقة منهاتن في نيويورك. صعدنا أعلى الطابق للمبنى، وشاهدنا من شرفته منظرا رائعا ومشهدا جميلا لمدينة نيويورك ليلا. كانت مدينة نيويورك تلمع وتتلألأ كالنجوم من الأعلى، ولا يملك قلمي ألفاظا وكلمات للتعبير عما كنا نشعر به في تلك اللحظة من ذلك الارتفاع الكبير.

واليوم الرابع والعشرون من يوليو كان من أجمل الأيام في حياتي. مازلت أتذكر ذلك اليوم التاريخي واضحا جليا لن أنساه إلى الأبد، وهو يوم كنت أنتظره منذ بداية السفر. استيقظنا مبكرا واستيقظ جميع الطلاب الدوليين، اغتسلنا وتزيننا بأجمل الملابس وأحسن الأزياء، وتناولنا الفطور، وركبنا الباص، وتوجهنا إلى مقر الأمم المتحدة، وهو مُجَمَّع فريد من نوعه. وللدخول فيه مررنا بإجراءات أمنية صارمة مثل أي مطار دولي إذ يعامل المُجَمَّع معاملةَ منطقةٍ مستقلةٍ دوليةٍ حيث يجري فحص جوازات السفر والوثائق الشخصية بدقة بالغة، وهي لا تخضع للقوانين الأمريكية مع أنها تقع في أرضها بل لها إدارة وقوانين خاصة. وعندما وصلنا إلى ساحة المقر وجدنا أول شئ غريب هو بندقية كبيرة معقّدة الفاه (Knotted Gun) منصوبة أمام المقر إعلانا عن سياسة اللاعنف. ثم دخلنا في المُجَمَّع ووصلنا مباشرة إلى قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة واستقررْنا في مقاعدنا وانتظرنا لنوبتنا لإلقاء محاضرتنا. فجاءت نوبتي واعتليت المنصة الرفيعة، وبدأت ألقي كلماتي. خِفتُ قليلا في أعماق قلبي لِما أحسست بهيبة المكان ورِفعة المقام، وما رأيت من الحضور الكرام رفيعي المراتب والشأن، وتواجد الإعلام والأعلام. ولكن انتهيت من الكلام بتوفيق الله العلّام. واستمعت إلى جميع المحاضرات في ست لغات إذ كانت تترجم فوريا إلى ست لغات رسمية أممية. لكنت أفهم ثلاثا منها مباشرة واستفدت من الباقي بواسطة الترجمة الفورية.

ثم انتهت الجلسة وحان وقت الغداء، فرُحْنا إلى قاعة كبيرة لتناول الطعام، وهو كان كانتينا كبيرا للأمم المتحدة، وكان الغداء جاهزا وحاضرا في شكل أطباق متلونة ونكهات متعددة. فجلسنا على المائدة، وجلس معنا بعض كبار المسؤولين للأمم المتحدة ومنظمة إي. إيل. إيس، احتككنا بهم وتحدثنا معهم والتقطنا الصور قبل تناول الطعام وبعده. وساحة الكانتين تُطلّ على نهر هدسون ماجعل المنظر جميلا ورائعا. وبعد قضاء بعض الوقت هناك بدأنا نتجول في المُجَمَّع الأممي نكتشف خفاياه وأسراره، وشاهدنا أشياء كثيرة بدءا من المعلومات للدول العالمية والتقارير والمشاريع المختلفة وصولا إلى الصور والرسوم والآثار والفنون. وفي النهاية حصلنا على الختم الأممي على جواز سفري اعتزازا بـ”المواطنة العالمية” وهو كان موضوعا وتيمة للمسابقة. ثم رجعنا مساء إلى غرفتنا.

وفي اليوم الأخير عُقد اجتماع غير رسمي وأتيحت الفرصة لكل طالب أن يعبر عن مشاعره وعواطفه، ويقدم آرائه وأفكاره فيما يخص المسابقة والأنشطة الثقافية والعلمية والتفاعلية. وقضينا بقية الوقت في التجول في رحاب جامعة أديلفي وزيارة أقسامها المخلتفة. وفي المساء، أقيمت أمسية ثقافية حيث رقص الطلاب جماعات وفرادى على الأغاني العالمية. وفي النهاية، تمتعنا بعَشاء لذيذ. وفي الليل بدأنا الاستعداد للعودة إلى وطننا صباحا. استيقظت في الصباح مبكراً وكان الطلاب قد بدؤوا يغادرون منذ الصباح في اليوم السادس والعشرين من يوليو واحدا فواحدا وحسب موعدهم للرحلة. فكان اليوم يوم الفراق والوداع، يودّع بعضنا البعض بقلوب حزينة وعيون دامعة مع المصافحة والمعانقة. كنا أصبحنا أصدقاء وأخلاء في فترة قصيرة، كان الفراق يُحزننا ويؤلمنا. ولكن صدق الشاعر أبو العتاهية حينما قال:

وكل له مدة تنقضي           وكل له أثر يُكتب

ثم آن أوان مغادرتنا، فخرجنا الزملاء الهنود معا متجهين إلى المطار. ركبنا الطائرة بالخطوط الهندية التي أخذت 13 ساعة و45 دقيقة إيابا. فانقضت تلك المدة وذلك السفر ولكن بقي أثره في ذهني ويبقى إلى الأبد، وخير دليل على ذلك أنني جلست لتسجيل تلك اللحظات الجميلة التذكارية بعد خمس سنوات كاملة ولكنها بادرت إلى ذهني كما لو جرّبتُها غدا، ووقفت أمام قلمي كأنما تتسابق لترى النور وتصبح زينة للصفحات، فانتخبت منها ما طاب لي وتركت الباقي. يا لها من رحلة، رحلة إلى ما وراء البحار…

*رئيس قسم اللغة العربية بكلية ايتش بي التابعة لجامعة بردوان، بنغال الغربية، الهند

 

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of