+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

رحلة الذهاب والإياب
محمد بو سلام-المغرب

رأى “عيسى الملاخ ” ذات ليلة، فيما يراه كل نائم في المنام ، أنه يمتطي صحبة المرحوم والده “أحمد الملاخ ” سيارة أجرةٍ كانت تُقِلـُّهما لعيادة أحد المرضى من أقارب العائلة[1].

   وفي طريق عودتهما، انقلبت بهما السيارة رأسا على عقب عند منعرج خطير، وتدحرجت عدة مرات قبل أن تسقط في منحدر سحيق فتطايرت أشلاؤها وتفككت في رمشة عين كأنها لعبة أطفال.

    رأى وهو ما يزال غارقا في المنام أنه استفاق من غيبوبته بعد الحادثة، فوجد نفسه مُنبطحا أسفل الوادي، وبجانبه رأس والده منفصلا عن جثته، يده اليسرى مبتورة من مطلع كتفه إلى أطراف فخده. أما هو فقد نجا من الموت ولم يصب جسمه إلا ببعض الرضوض.

    صاح “عيسى الملاخ” مرعبا منزعجا من هول ما رأى وهو غارق في النوم حتى كادت حبال أوتاره الصوتية أن تنفرط من مكانها. ولما استيقظ مذعورا في منتصف الليل، وجد العرق يتصبب من جبينه والدموع تنهمر مدرارا على خديه كطفل صغير.

   وفي صباح ذات الليلة، أخبر زوجته بما رأى واستأذنها في السفر إلى مسقط رأسه بعدما كلف أحد العاملين معه بالنيابة عنه في تسيير ورشة الصباغة التي كان يملكها ويشرف على أشغالها. ودون أخذ حقيبة ولا أدوات ، لأنه كان لا يتحمل السفر مثقلا بالأغراض والأمتعة ويحب أن يكون خفيف الروح والجسم أثناء تنقله، سار بخطى وئيدة نحو محطة نقل المسافرين ليحجز مقعدا في إحدى حافلات الربط بين المدن.

    بسرعة اقتنى عيسى تذكرة السفر وأخذ مكانه في الحافلة التي انطلقت دون لـَأْي تطوي الأميال في الوقت المحدد لها. وما أن استوت في المسير حتى فتح كتابا يحمله في جيبه، لأنه كان من عشاق التعبد في محراب القراءة، ومن طلاب المتعة الذهنية، ومن المتبرمين من الفذلكة ولوك الحديث كما يتبرم من الجري وراء أمِّ الأدران[2].

    لكن ما أن قطعت الحافلة بضعة أميال على الطريق حتى اضطر سريعا إلى إعادة إغلاق الكتاب قبل أن ينتهي من قراءة صفحته الأولى. ذلك أن تَهوُّر سائق الحافلة المثير للانتباه ، وَتَّر أعصابه مثلما أزعج باقي الركاب، فكان ذلك كافيا لتغيير مزاجه فلم تعد لديه أي قابلية للقراءة. فالمتعة الذهنية تتطلب شروطا من الهدوء والدعة والسكينة لم تكن متوفرة في هذه الرحلة مع الأسف.

    فعلى طول المسار، كان سائقها الأرعن مثالا حيا للاستهتار، وأنموذجا لاحتراف سياقة الأخطار. لم يتَّقِ الله فيمن رافقه من الركاب،  فتجاوز الحدود والحواجز والأعتاب، وضرب بعرض الحائط قانون السير، ورام كل سلوك خطير. لم يرفق بالمسافرين، فأذاقهم مالا يحصى من أصناف التشنج والأتعاب، فـاستحق منهم اللوم على فعله الرديء وأدائه الدنيء. وفي آخر المطاف انتهت الرحلة التي اكتنفها كل شين بوصول الركاب سالمين، لكن “ما كل مرة قد تسلم الجرة”.

    وبما أن “عيسى الملاخ” انتابه في رحلة الذهاب، ما لا يعد من أصناف الخوف والارتياب، فقد كان أعز ما يتمناه بعد النجاة من مصائب  الرحلة السابقة، ألا يكتب له سفرُ الإياب، مع مثل ذلك السائق الرعديد ذي العقل المصاب. لذلك آلى على نفسه، أن يبذل كل جهده ، ليمتطي حافلة تناسبه ،  فيعود على متنها في سلم وسلام، ويحفظه الله من رفقة كل سائق شرير، لا يحترم قانون السير، ولا يقيم اعتبارا للمسافرين، ويخرق علانية علامات التشوير.

      وبعدما قضى عيسى وطره، وقام بالمتعين عليه في زيارة أهله، بعد الترحم على أبيه وأمه ، وتوديع رفاقه وذويه ، قصد متوجسا محطة الركاب، باحثا عن حافلة قد تكون ملائمة لسفر الأياب.

    دخل عيسى إلى المحطة ليقتنى تذكرة السفر، وهو على أهبة وحذر، يُقَدِّم رجلا ويؤخر أخرى، ويحوقل ويبسمل، ويذكر الله ويهلل،  ويقرأ اللطيف ويطلب التلطيف، متمنيا أن تكون رحلة العودة، في أحسن عهدة، رفقة سائق شريف ، ظريف وعفيف.

    وعلى عكس ما توقعه ، فقد زال عنه كل شك وارتياب بعد ثوان قليلة من انطلاق الحافلة. ومن فرط روعة سلوك سائقها، الذي كان يباشر القيادة كربان طائرة رائد، منفردا هذه المرة دون أي مساعد، تَحوَّل توجسه إلى إعجاب، فاستبدل متعة قراءة الكتاب، بتدوين محاولة نثرية شبه شعرية احتفاء بسلوك سائقها الشاب.

     أخذ القلم الذي لا يفارقه، والورق الذي كان دوما يحمله، وشرع في تدوين حسن أدائه، لتدوين متعة اللحظة، تحية له ولأمثاله من سائقي الجودة. وبوصوله إلى منزله، شنَّف مسامع زوجته “الغالية” وبعضا من أصدقائه وذويه من عشاق القراءة والكتابة بما دوَّنه، فطربوا لدقة وصفه وجمال أسلوبه وحضور بداهته، واقترحوا عليه أن يعيد النظر في بعض فقراته، ويراجع بعض أوصاف السائق ومواصفاته، وينشر ما جادت به قريحته النثرية، على أعمدة إحدى الصحف الوطنية.     فقد تفيد شهادته الحية، في محاربة ما تشهده الطرق من نزيف، فيتخذها كل ذي عقل خفيف، وكل سائق أخرق عبرة، فيـُجنب نفسه ومرافقيه كل عثرة، ويحافظ على رقاب الناس، ويعفيهم من سياقة الويل والباس.

    وكلوحة صاغها فنان، وجد عيسى نفسه يتحول بسبب إشعاع الإبداع الذي كان يعترية ويتولد بداخله، من فرط تمازج الإحساس بالخوف الذي اكتنفه  في سفر الذهاب، بالإعجاب الذي عَوَّضه في رحلة الإياب، يكتب كلاما ما ألفه يشبه شعرا يخترق البحور، ويسبح فوق كل الموازين ويتجاوز المقامات الموسيقية.

   وبأسلوب دقيق ورقيق، والحرص على البحث والتحقيق، وبأفكار من بنات اللحظة، وعبارات عذبة سلسة، وصف ” الملاخ” ما شاهده بأم عينيه من اختلاف صارخ، وفرق شامخ، بين فنون السياقة، مقارنة بقيادة الزندقة ، التي عانى منها في رحلة الذهاب فقال :

” لقد ساقتني ظروف الإجبار، وإكراهات الأشواق والأقدار، ودوافع  الحنين إلى الأوكار، إلى زيارة الأهل والديار،  لكنني ابتليتُ أثناء الذهاب،  بامتطاء حافلة  للركاب، يُذَكـرِّ سلوك الشخصين الواقفين على أمرها ، بخروقات ما باد، من أساليب السياقة وغاب.

والحاصل باختصار، أن طاقمها كان مثالا للاستهتار، فلم يتقن الأدوار. فعلى وتيرة السرعة المفرطة سار، مسلطا على من رافقه في السفر سيف سياقة الأخطار. وبسلوك الجُفاة الأشرار، نشر الرعب في صفوف الكبار والصغار ، دون اختلاف في الأعمار. فلا هو فكر في  ذوي العلل والأضرار، ولا أخذ حقوق المسافرين  بعين الاعتبار، ولا احتاط من مراقبة  الأخفار، ولا همته أبدا تسجيلات الموشار[3].

وبعد حل وترحال، وقيلٍ وقال، وجذب وجدال، وتوتر أحوال، انتهت رحلة  الذهاب معه في أمان ، والوصول بسلام ،  فكان جزائي على هول المصاب، أثناء الذهاب ، السفر رفقة سائقٍ نقيضٍ له في رحلة الإياب.

فحين عزمتُ على العودة من حيث أتيت، ونلتُ غايتي من ضيافة أهلي وانتهيت ، اتجهتُ إلى محطة السفر،  طالبا لطف القدر ، وأنا أُبَرِّق بعينيَّ وأدقِّق النظر ، متوجسا  من آفة السفر، على متن حافلات الخطر. لكن الله سلَّم فكانت لي ولمن رافقني هذه المفاجأة، التي اقتضت دعوتكم إلى الاستمتاع والمشاركة .

وقصدي باختصار من هذه التحية المباركة، أن أسجل حجم المفارقة، بين السياقة والحماقة ، وأتقدم بالتحية والامتنان، بروية واتزان، إلى سائق وسيم، وشاب شهم عظيم ، يستحق كل تبجيل وتقدير وتكريم.

فبوصولي إلى شبابيك محطة الركاب، وأنا في أمري متهيب مرتاب،  بين تقدم وتأخر، وإقبال وإدبار، ومن سياقة المخاطر في حالة استنفار ، رمقتْ عيني من بعيد، ذلك الشاب النحرير، الرِّبْعَة الوسيم الذي ليس بالطويل ولا بالقصير، على مرمى السهم من شباك التذاكر، يرتشف فنجان قهوة فاتر، ولا يستنشق معها سموم السجائر.

تقدمتُ نحوه متوجسا وسألتُه بحذر، عن موعد انطلاق الحافلة ، والمسار المُفترض لتلك الراحلة، فأجابني والبسمةُ تغمر وجنتيه، وملامح الاستبشار والهدوء ترتسمُ على شفتيه، حتى أشعرني من فرط لطفه وأدبه، كأنني كنتُ من ذويه أو من المقربين إليه ، بأن انطلاقها وشيك، وسيرها على الطريق، مُسَطَّر مدروس ودقيق. أما وصولها فمعروف ومعتمد، ووقتها مضبوط ومحدد، لا ينقص ولا يزيد ، ولا يختصر أو يُمَدَّد .

وما هي إلا دقائقُ معدودات ، لوضع آخر الترتيبات، ومباشرة ما يقتضيه مقامُ الاحتياط من اللوازم واللمسات، حتى أخذ الشاب مكانه المعهود ، بعدما تفقد حضور كافة الوفود، وتأكد أن كل راكب في مكانه موجود، ثم أحكم إغلاق أبواب النزول والصعود، وانطلق في السير على بركة الله في طريق العودة المحمود.

وبكل لباقة وأناقة وإتقان، أطلق صاحبنا لحافلته العنان، فكان السفر رفقته والشهادة لله، الذي أتوسل إليه أن يصونه  ويرعاه، نزهة ومتعة، وأيم الله أكبر نعمة ، أنستني ما كابدته  من محنة، فيما سبق لي من رحلة.  فإليكم ُ الوصف الدقيق ، لما عاينتُ على الطريق، من سياقة الإتقان والجودة، رفقة هذا الشاب الأنيق.

فالرجاءُ في هذا الوصف ألا أُلام، فإنني من شدة ما قاسيتُ، في غير هذا المقام، كنتُ كالمذعور، أرقبُ  بهلع واهتمام ، من أول مقعد امتطيته ، كل حركات هذا السائق الهمام، بعدما سوى مرايا اليمين واليسار ، وضبط أضواء الخلف والأمام، وربط الحزام ، وانطلق إلى الأمام.

لكنني والله ما رأيت هذا الشاب الحكيم ، ذي المحتد الرفيع الكريم ، إلا منهمكا في أداء الواجب،  حسبما يشتهي الطالب والراغب ،  بحنكة واستبصار، وهدوء واقتدار.

فقد كان يراعي الحدود ، ويحترم السدود ، ويتجاوز حسبما تقتضيه شروط التجاوز، ويتحاشى  اللـِّجاج  والتنابز، ويتأنى حيث ينبغي التأني، ويتقنُ فن التقدم والتدني. لا يسرع إلا حيث يُسْمَح بالسرعة وبدون إفراط ، مراعيا واجبات الانضباط ودواعي السلامة والاحتياط ، وما يبعث  في النفوس الانشراح والاغتباط .

يوحي إلى الناظر تدبيره الراقي  لشأن تلك الراحلة، واستقامته الأنيقة  خلف المقود الضخم للحافلة ، ونظراتُه  ذات الجلال والوقار، والتفاتاته التي يتخللها  التفهم والاستبصار، أنه كان  دون أدنى شك في الكلام، في خدمة  نخبة العلية من الأقوام ، ومن منصبه  السامي وفد على التمام، تَوًّا إلي هذا المقام، أو أنه كان يمسك المقود، وعلى سياقة الرزانة تَعَوَّد، في عالم الدبلوماسية والرياسة والسياسة، بما يقتضيه مقامه العالي من حيطة ولباقة وعفة وكياسة.

كان شابنا خبيرا في تقدير المسافات والأبعاد ، متسامحا  بشكل كبير مع  المتهورين  وبعض السائقين الأوغاد ، محافظا دوما على الأناقة والابتسام، مُقِلا في الكلام ، هادئ الأعصاب، وفير الآداب والصواب، لا حديث له مع الركاب ، ولو كان بعضهم من أقرب المعارف والأصحاب .

كان وهو يقطع الأميال، مترفعا عن تأنيب المخالفين، من السائقين والراجلين، ولو أن بعضهم يستحق العتاب. أما الحافلة  فكانت تبدو بين يديه ، وآلياتها أسفل رجليه ، رغم كبر حجمها ، واتساع  طولها وعرضها، كآلة موسيقية في يد عازف ماهر، أو فنان مبدع أو شاعر، تنساب الأنغام والألحان والكلمات والمعاني من فمه، ومن بين أنامله، بما يُتحِف ويمتِع ويُطرب ، ويستدعي التذوق الرفيع ويُعجب.

كان هدفه  الأول والأخير، هو صيانة حق  الصغير والكبير ، وكل من كان في رفقته يسير ، بإتقان فنون السياقة، ومراعاة التؤدة واللياقة ، وتقديم عروض الجودة ، في مسار الذهاب والعودة .

 فما أروع حركات هذا السائق  أثناء التجاوز، وتجنبه لكل دواعي  الاندهاس والتمازج ، و تحكُّـَمه في تغيير السرعة ، وتحويل وتائرها  دُفعة  دفعة، والسير في حال  الازدحام ، بما يضمن النجاة والسلام ، واحترام حق الأسبقية، والتزام  مبدإ التُّقية ، وتلقين دروس التعاون والتكافل ، وتبادل حركات التفاهم والتواصل ، والتسامح عند  الاقتضاء،  حتى لا يضيق الفضاء، وتزدحم  الأرجاء ، أثناء السير على الطريق ، الذي  لا يُفرق عند ارتكاب الخطإ فيه بين عدو وصديق، فكان حليفه التوفيق، وانهالت عليه الدعوات بالعشرات والمئات .

فكم  أراح هذا السائق الرائد واستراح . فقد أراح  الحافلة نفسها ، فكأن محركها متوقف عن الدوران ، رغم ما بأحشائها من التهاب وغليان، وهي تطوي المسافات وتسير، ولا تتوقف عن الزفير. كما أراح سائر الركاب ، فأعفاهم من الأتعاب، في  رحلة الإياب، فاستعذب كثيرهم سياقته أثناء المسير، وأسلموا النفس للنوم الوفير.

فطوبى لليوم الذي وُلِدتَ فيه أيها السائق الشاب، وطوبى للبطن الذي حملك، وللوالد الذي أنجبك وأنفق عليك وأطعمك، وتحيةَ تقدير وإجلال لمن وقف على تربيتك وتعليمك ، وللمدرب الذي وضع رخصة السياقة بين يديك. وهنيئا لشركة النقل العريقة ، التي كانت لجل الناس ومازالت  في الحقيقة ، دون انحياز ولا دعاية لجهات معينة دوما رفيقة، فضبطوا عقارب ساعاتهم علي مواعيدها الدقيقة .

لقد أحسَنتْ فيك تلك المؤسسة الاختيار، فأنت تستحق عقبى الدار، لأنك من صنف الرجال الأخيار. وهنيئا لها وللمسافرين الذين رافقوك على جودة خدماتك، وعلى إسنادها السياقة لأمثالك من الشباب، لوضع حد لأسفار المخاوف والأتعاب. فأنت تستحق الأجر الوفير لاقتناء ما لذ وطاب، والرعاية من المكلفين بصناديق الحساب. ومن حقك بما تكسبه بعرق جبينك أن تسعدَ النفس والأسرة والأحباب، كما أطربتَ بسياقتك الرفيعة فلول الركاب”.

بعد مدة قصيرة ، نشر عيسى الملاخ ما جادت به قريحته في جريدة وطنية ناطقة بلغة الضاد، ملتزمة بشروط الموضوعية والحياد، مهتمة ببعض القضايا الساخنة في البلاد. وبعد أيام قليلة، وبعدما تناول عصير ليمون في مقهى قريب من مقر شركة النقل العمومية التي كان يعمل فيها السائق المذكور، وحينما أراد الملاخ دفع ثمن المشروب امتنع النادل عن تحصيل ثمنه ، لأن غيره فعل نيابة عنه. ولما طلب منه أن يدله على الفاعل، أشار إلى شاب وسيم كان يتوسط رفاقه في زاوية مقابلة في ذات المقهى.

توجه عيسى عند الشخص المذكور. ولما وقف أمامه سأله ذلك الشاب : ألا تذكرني ؟ أنا يا سيدي الكريم هو ذلك السائق الذي كتبتَ في حقه أنشودتك الرائعة، وقدمت فيه تلك الشهادة الإبداعية. وبعدما عَّرفه على تلك الثلة من رفاقه من السائقين المحترفين، صافحه ثم عانقه عناقا حارا وقال له: شكرا لك على رفيع ذوقك، وعلى اعترافك بسياقة الاحتراف. وأتمنى أن تتقدم إلى المقر العام للشركة التي تعَمَّدتَ ألا تذكرَ اسمها في مقالتك ، تجنبا للإشهار، فهي ترحبُ بك في أي وقت وتعدك بمفاجأة لا أعلمها. وقد كلفتني بدعوتك حيثما أعثر عليك ، إلى حفل عشاء تكريمي ستقيمه على شرفك ، وسيكون موعده من اختيارك وتحديدك، وأهلا بك وبمن وفد معك إلى هذا التكريم.

وافق عيسى والفرحة تغمره ، ليس من أجل الدعوة، بل لأن البعض من الناس ما زالوا يقرأون ويتذوقون جمال الكتابة ورونقها. وقبل أن يودعه السائق الشاب قال له: لقد كلفني المسؤولون أن أخبرك أن الشركة لا تريد غير شكرك فقط ، لأنها تعرف حق المعرفة من تكون. وفي اليوم المحدد، حضر عيسى الملاخ إلى عين المكان كعادته في احترام المواعيد. وفي نهاية حفل الغذاء الذي تناوله مع أطر الشركة وسائقيها ، نودي على مديرها العام، فعانقه بحرارة واحترام، وقال فيه كلمة شكر مختصرة ، ثم منحه باقة من الزهور، ولوحة زيتية وبطاقة تنقلات مفتوحة الأجل تمنحه حق السفر بالمجان، رفقة شخص ثانٍ ،حيثما كان، على متن حافلات الشركة داخل البلاد وخارجها.

     بأدب وعفاف ، شكر “الملاخ” المسؤول على حسن صنيعه، واحتفظ باللوحة، وطلب منه أن لا يرفض له حق منح تلك البطاقة المفتوحة لأول قادم يصل إلى محطة السفر، وتمنى أن يكون من الفقراء والمحتاجين. وما هي إلا ثوان معدودات، حتى ولج المحطة الطرقية مارا قرب مكان الاحتفاء، رجل شاحب الوجه متجهم المحيا يغلب عليه الحياء، يجر حقيبة سفر صحبة زوجته وطفليه ، متجها صوب الشباك لاقتناء تذاكر السفر.

     نادى عيسى على الرجل وسلم عليه وشرح له النازلة ليفهم الحدث والسياق ثم منحه تلك البطاقة ولم يقبل تعففه في أخذها. عانقه الرجل وانهمرت دموعه من فرط الفرح وقال أمام الجميع : ولو أن الشرور سادت في البلاد، فلن ينقطع الخير من العباد، ولن أقطع الرجاء من بني جلدتي للسير بنا نحو الغد الأفضل…صفق الحاضرون لعناقهما حتى اهتزت أركان القاعة ثم شكر عيسى الملاخ من احتفى به وغادر المكان. وظل  كغيره من الركاب كلما عزم على السفر إلا واقتني تذكرته وتذاكر من يرافقه، ويقف في طابور الانتظار بأدب وانتظام في انتظار الوصول إلى شباك التذاكر مثل سائر المواطنين…

[1] الملاخ اسم عائلي. والملخة القطعة من جلد النعل الموالية للأرض، تسمى أيضا الرقعة. يسمى الصانع الذي يقوم بتحضيرها ودفعها للخرازين ليخيطوها مع الأجزاء العلوية من المنتعلات “الملاخ” . وفي العربية ملخ يملخ ملخا الشيء نزعه واقتلعه،  وتملخ الشيءُ فسد.

[2] . أم الأدران في اللغة العربية تعني الدنيا ، الدرن جمع أدران وهي الأوساخ.

[3] . الأخفار جمع خفير وأهل الخفر هم المكلفون بمراقبة الطرق. والموشار كلمة فرنسية Le mouchard وهي تعني الواشي أي من يبلغ الأخبار ، وهي أسطوانة صغيرة يضعها كل سائق حافلة تربط بين المدن وكل شاحنة تحمل البضائع في قمطر السياقة ليقدمها لمن يطلبها عند الاقتضاء لرجال المراقبة من أمن ودرك ومفتشي وزارة النقل لمعرفة مستوى السرعة  وظروف الرحلة وغيرها.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of