+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

سلامة موسى ومحاولة التقريب بين الفصحى والعامية
محمد شفيق عالم

تمهيد المقال:

أثبتت اللغة العربية لغة القرآن ولغة الشعر والأدب والثقافة والعلم جدارتها عبر تاريخها الطويل حيث حققت العظمة الفريدة على مستوى العالم في العصر الذهبي خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين[1].

يوجد الناطقون بها في العصر الراهن في جميع أنحاء المعمورة حيث اصبحت بإمكانها أن تُعد إحدى اللغات الستة العالمية المعتمدة من قبل الأمم المتحدة. ومن الناحية القومية كانت اللغة العربية أقوى رابطة تربط بين الشعوب الناطقة بها، وإنما هي رمز للوحدة القومية العربية وسجل لأمجاد الأسلاف، كما كانت أكبر مؤسسة اجتماعية للشعوب العربية قاطبة. وهي لغة تفتخر بوضوحها وفصاحتها قد اشتركت في إثرائها الشعوب العربية وغير العربية، والشعوب الإسلامية وغير الإسلامية. وثروة اللغة العربية الفصحى وحيويتها حتى في القرن الحادي والعشرين تدل على صلاحيتها وجدارتها بمكافحة الحركات المعادية مهما كانت عنيفة. فبدأت اللغة العربية تعاني بالمؤامرة وأخذ يتراجع دورها منذ أواخر الحكم العثماني، نتيجة لعوامل حضارية وسياسية، فظهرت حركة التمصير والتجديد وهي دعوة اتخاذ اللغة العامية وإحلالها محل اللغة الفصحى، بإدعاء جمودها وصعوبة تعلمها وعجزها عن تأدية الأغراض الأدبية والعلمية[2].

وخاض الكتاب والمثقفون في المعارك حول الفصحى والعامية بعضهم يتخذ الفصحى لانتاجاتهم ويؤيدها لغة رسمية، ويرى بعضهم بوجوب اتخاذ العامية للسير مع متطلبات العصر، في حين قام بعضهم الآخر بمحاولة التقريب بين الفصحى والعامية، ولاتزال المحاولات جارية الآن في التعامل مع العاميات في العالم العربي. ولا ريب في أن الرائد سلامة موسى كان في القلب من هذه الحركة التجديدية ومحاولات التقريب بين الفصحى والعامية. سأتناول في هذا المقال بعض آراء سلامة موسى ومواقفه التقدمية تجاه تجديد اللغة العربية بالعرض والبحث.

وإن الصراع حول الفصحى والعامية يتخذ ثلاث اتجاهات منذ بداية عصر النهضة الحديثة في منتصف القرن التاسع عشر، وسوف يستمر محتدماً في المستقبل القريب.

الاتجاه الأول يدعو إلى اتخاذ العامية لغة قومية محل الفصحى، واتخاذ حروف غير عربية لرسمها.

والاتجاه الثاني يدعو إلى الحفاظ على الفصحى والإبقاء على رسمها، والتقريب بينها وبين العامية وفق نموذج لغوي غربي.

والاتجاه الثالث يدعو إلى الحفاظ على الفصحى والاعتداد بتغير معجمها وبعض أساليبها، والإبقاء على رسمها، وتطورها لملاءمة العصر التكنولوجي وفق مخطط لغوي قومي[3].

نبذة عن شخصية سلامة موسى:  

يعد سلامة موسى (1887-1958م) كاتبا نهضويا بارعا وصحفيا بارزا من جيل التنويريين المصريين، الذين عاشوا في النصف الأول من القرن العشرين، بكل أحداثه الهائلة، والمؤثرة في مسارات حياتهم وتشكلاتهم الفكرية، بما فيها الانبعاثات الفكرية والعلمية والثقافية، والابداعات والاختراعات في مجالات الفكر والسياسة والمعرفة، مثل: نظرية التطور والارتقاء (النظرية الداروينية)، ونزعات الاشتراكية والقومية، إضافة إلى اندلاع الحربين العالميتين.

يُعتبر سلامة موسى من أبرز الكُتّاب والصحفيين، ومن رواد الثقافة والفكر بما قدمه من رؤى وأفكار التي شملت الكثير من ميادين الفكر والثقافة والمعرفة في عصر النهضة الحديثة، حيث كان كاتبًا شعبيا ومثقفًا موسوعيًا، اتخذ مواقف تقدمية وتناول فى مقالاته ومؤلفاته الكثير من الموضوعات المستجدة وناقش العديد من القضايا والأفكار حول الحضارة والنهضة واللغة والأدب، ليسهم – مع غيره – فى إثراء الفكر المصري[4]. فقد آمن بضرورة الـوصول إلى الرأي العام، ومخاطبته وتنويره، حيث خدم فى الصحافة والتأليف نحو خمسين عامًا. وكان كاتبا ثائرا متمردا ومازال حربا على قديم اللغة والتاريخ والأديان والشرق، وهو يرى أن الشرق لايمكن أن يصل إلى المكانة المرموقة إلا إذا استغرب استغرابا كاملا[5].

كان يوجد لسلامة موسى نشاط فكري وثقافي واسع، خاصة أنه تأثر بعدد من الأدباء والمفكرين وعلماء الغرب منهم: هنريك إبسن وفرويد ودستوفسكى وكارل ماركس وفولتير وداروين وبرنارد شو، وحيث من المفكرين المصريين تأثر سلامة برفاعة الطهطاوى ومحمد عبده، كما تأثر فى تكوين شخصيته الثقافية بثلاثة مفكرين؛ يعقوب صروف الذى وجهه إلى طريق العلم، وفرح أنطون الذى بسط له الآفاق الأوروبية للأدب، وأحمد لطفى السيد الذى جعل من المستطاع أمامه- بوصفه غير مسلم- أن يكون وطنيًا فى مصر يعتز بوطنيته المصرية[6].

سافر سلامة إلى أوروبا عام 1907م وعاد إلى مصر عام 1913م، وأمضى هذه الفترة بين باريس ولندن. وغلب الأدب الإنجليزي والحضارة الغربية في نفسه. وفي لندن عرف إبسن و نيتشة، واستفاد كثيرا من صحبة برنارد شو وجورج ويلز وقرأ عن مهاتما غاندي وفولتير وكارل ماركس. ولما عاد إلى مصر اشتغل بالصحافة وكتب  في الهلال والبلاغ وأنشأ مجلة المستقبل عام 1914م و المجلة الجديدة عام 1929م. كان قد ظهر في أول الأمر بكتابه في الدفاع عن نظريتى التطور والاشتراكية التين درسهما أثناء إقامته في إنجلترا.  ومع تميزه عن زملائه بتطرف آرائه، فهو يتوخى في كتاباته الرنة العربية المألوفة. وهو يشبه سلفه جورجي زيدان في أسلوبه العلمي أكثر مما هوأدبي[7].

يمكن تلخيص أفكار سلامة موسى بثلاث اتجهات:

أولا: العقلانية والحداثة والتمثل بالغرب،

ثانيا: إيمانه بالاشتراكية كسبيل لتحقيق العدالة الاجتماعية،

وثالثا: البحث عن أصول الشخصية المصرية في جذورها الفرعونية،

إضافة إلى المطالبة بديمقراطية ليبرالية والعلمنة وحرية المرأة ومساواتها مع الرجل[8].

قضية الفصحى والعامية:

إن الدعوة إلى العامية ليست فكرة حديثة ولا حركة جديدة، بل كانت منذ بداية القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي، بدوافع دينية وسياسية، وبقيت حاضرة منذ ذلك التاريخ، تظهر صداها حيناً وتختفي أخرى، إلى أن عادت بشكل جديد في نهاية القرن التاسع عشر، على يد بعض المفكرين والمثقفين الذين نادوا باتخاذ العامية لغة رسمية وأداة للتفاعل الجماهيري والتعبير الأدبي والثقافي وإحلالها محل العربية الفصحى كما حلت الإيطالية الحديثة محل اللاتينية[9]. وتعَد هذه الدعوة من أخطر الدعوات التي تعرّض لها اللسان العربي خلال تاريخه الطويل؛ وتعرض فيها الأدباء من المسلمين وغير المسلمين لأعنف معارك أدبية ونقدية وثقافية، حيث ظلت هذه الدعوة تتردد بين الكتاب والناقدين.

ولقد كثرت الدراسات فى هذا المجال بين مؤيّد للعامية، معارض لها بدعوى التبسيط والسهولة واليُسر، وبين متمسكٍ بالفصحى لا يرضى بها بديلا. والحقيقة التى أثبتتها العصور من المعارك الأدبية والسياسة حولها أن الغلبة كانت للفصحى على الرغم من هذه الدعوات والمحاولات، فكم من كاتب نادى وتحمّس للعاميّة وعمل على نشرها وتعميمها، ثمّ عاد يكتب بفصحى ناصعة. فهذا أبو القصة القصيرة أديبنا محمد تيمور الذي كان قد تحوّل عن الفصحى إلى العامية في فترة من فترات حياته حتى إنه كتب قصصاً بها غير أنه سرعان ما عاد كاتباً عربياً مبيناً، بل ومتحمّساً كبيراً للفصحى ومدافعاً عن لوائها[10]. وكذلك نجد الكاتب الكبير والمفكر النهضوي سلامة موسى يكتب جميع مؤلفاته بالعربية الفصحى، على الرغم من أنه كان من أكبر الدعاة إلى العامية وازدواجها بالفصحى.

يرى أستاذ العروبة أحمد أمين الجهل والفقر في الأمة العربية من أهم اسباب غلبة العامية على الفصحى وهو يقول عن هذه القضية داعيا المثقفين وقادة الإصلاح لإيجاد الحل الأمثل: ” لعل من أهم المشاكل التي تواجه العالم العربي الآن، استخدامه لغتين: عامية وفصيحة، والفرق بينهما كبير جدا، حيث يستعمل إحداهما في البيت و في الشوارع والمجالس ويُستعمل الأخرى في الكتابة والقراءة وانجاز الدراسات المختلفة. ولم تنجح أية محاولة في التقريب بينهما حتى الآن. وهذا الأمر قد أضعف اللغة العربية الفصحى لأنها لم تكتسب الحيوية التي تأتي من طريق الاستعمال اليومي، وأضعف اللغة العامية أيضا لأنها لم تستفد مما ينتجه الأدباء والشعراء والصحفيون. ولاتزال المشكلة عويصة تتطلب الحل من قادة الإصلاح والتجديد”[11].

ويتفق الروائي العالمي الشهير نجيب محفوظ معه على رأيه وهو يكتب في مذكراته: “إن العامية من جملة الأمراض التي يعانيها الشعب العربي والتي سيتخلص منها حين يرتقي. وأنا أعد العامية من عيوب مجتمعنا مثل الجهل والمرض والفقر تماما، والعامية مرض أساسه الأمية وعدم الدراسة وبسبب عدم انتشار الدراسة في البلاد العربية”[12].

إن الاهتمام بالعامية لا يجب أن يكون على حساب اللغة العربية الفصحى، ولا أن يكون بهدف إضعافها والقضاء عليها أو بقصد إحلالها محل الفصحى، لأن الأمر مستحيل، كما يرى الكاتب الناشيء عبدالمطلب “أن الخصومة بين الفصحى والعامية متوهمة، فالعامية تؤدي وظيفتها الاجتماعية والثقافية دون صدام مع الفصحى، إذ تتردد على أسماعنا وأبصارنا فنون العامية المختلفة وفنون الفصيحة المتنوعة، والمجتمع يستقبلهما بوصفهما أداتي اتصال مشتركتين، مع مراعاة أن لكل منهما وظيفتها الحياتية والجمالية”[13].

التقريب بين الفصحى والعامية

لم يطرق سلامة موسى أبواب الفكر للحصول على العلم فقط، بل كان يسعى إلى تحويل العلم إلى ثقافة، وأن تكون هذه الثقافة جماهرية. فإنه دعا في كتاباته إلى نبذ العربية الفصحى[14] وإحلال العامية محلها كما حلت اللغة الإيطالية الحديثة محل اللغة اللاتينية، حتى إنه طالب بكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية كما فعل الاتراك مع لغتهم التركية. وطالب بأن تكون اللغة متطورة متمدنة تسع العلوم والفنون التي لم يعرفها العرب، معتقدا بأن الفصحى عاجزة عن تأدية أغراضها الأدبية والعلمية، كما رأى أنها لا تخدم الأدب المصري ولا تنهض به[15].

كان سلامة موسى في مقدمة الذين دعوا إلى التقريب بين الفصحى والعامية مرحليا، حين أدرك أن العامية في عصره لا يمكنها أن تحل محل الفصحى للتعبير عن العلوم والآداب، ولذا دعا إلى ما يسميه “التسوية” بينهما وحدد مجال التقريب. وظهرت الدعوة إلى التقريب في إطار حركة التمصير التي تزعمها أحمد لطفي السيد ودعا إلى ما أسماه بـالتسامح اللغوي، وهو يعني به إصلاح الفصحى باستعمال ألفاظ من العامية، والألفاظ المستعارة من اللغات الأخرى في الكتابة[16].

وحديث سلامة موسى عن اللغة العربية ينطلق من الشك في جدارتها. فالقرآن الكريم عنده أول الكتب التي يجب أن يقرأها المسلم والمسيحي واليهودي وغيرهم. لكن وجوب قراءته لايأتي من دلالته الإلهية، بل لأنه مصدر لمعرفة بنيان المجتمع العربي. كما أنه لايوافق على تفوق اللغة العربية على بقية لغات العالم، ولا على رأي الذين يعدون اللغة العربية والقرآن وحدة لاتنقسم[17]. وإذا كانت اللغة العربية المصدر الأول لدى المسلمين لهويتهم وانتمائهم القومي والديني، كانت عناية سلامة موسى مقتصرة على كونها وسيلة للتفكير والتخاطب والتواصل كما هو حال اللغات لشعوبها. وتتركز عيوب اللغة العربية عند سلامة موسى في الجمود والمثالية والصحراوية والخصائص الطبقية. فيقول إنها: “لغة بدوية تحفل بآلاف الكلمات عن الصحارى والإبل والخيل والغزو والخيام. ولذا لاتكاد تكفل الأداء إذا تعرضت لحالة مدنية راقية”[18].

ويرى سلامة موسى أن مسرح الحضارة البشرية قد شهد تغيرا جسيما، أهمه توسع المعارف و تنوعها وتعمقها. لذا يؤكد أن هذا الزمن هو زمن العلم والصناعة الآلية فيجب أن نقبل عليها. فيحتاج الانسان العصري إلى لغة تليق بالحضارة العصرية المادية، لأن اللغة أكبر أداة للتفكير والفهم والابتكار، وللاستعداد للمستجدات المرتقبة في الحياة. إلا أن اللغة العربية التي تتسم بارتباط اللغة بالدين والتقاليد، أداة ناقصة لأنها تغرس في نفس الناطقين بها حب الماضي والاستقرار[19]. بل أصبحت عائقة تحول دون التطور. وذلك أننا نعالج موضوعات عصرية بلغة غير عصرية[20]. وفي مقال له في مجلة الهلال بعنوان “اللغة الفصحى واللغة العامية”، تظهر أول مرة نزعته الوطنية المصرية وميله إلى العامية[21]. يقول فيه إن اللغة العربية حتى بعد تعلم قواعدها بصعوبة، لا تفي بالموضوعات الأدبية ولا العلمية. ثم اللغة العربية لاتفيق مصلحة مصر، لأن المتعمق في اللغة الفصحى، يشرب روح العرب ويعجت بأبطال بغداد بدلا من أن يشرب الروح المصرية ويدرس تاريخ مصر[22].

ويستطرد قائلا إن “النهضة لايمكن أن تتحقق إلا باتخاذ اللغة المصرية العامية أو بايجاد مايشبه التسوية بينها وبين اللغة الفصحى بحيث تتمصر هذه اللغة”[23]. وعلى الرغم من موافقته على فكرة اتخاذ العامية من حيث المبدأن فهو يرى أن وضع العامية لا يسمح بهذه الطفرة. ولإصلاح حال العربية يدعو إلى التقريب بين العامية والفصحى، ويشير إلى مرحلة انتقالية، فيقول : “ولست أشك في أن اللغة العامية تفضل اللغة الفصحى وتؤدي أغراضنا الأدبية أكثر منها. ولكننا لم نبلغ بعد الطور الذي يمكننا أن نطفر هذه الطفرة إلا أن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من إيجاد تسوية بين الفصحى والعامية”[24].

ومما يلفت النظر أنه يقدم في تلك المقالة أوجه التسوية في سبع نقاط، هي:

  1. إلغاء الألف والنون من المثنى والواو والنون من جمع المذكر السالم.
  2. إلغاء التصغير.
  3. إلغاء جمع التكسير كله والاكتفاء بالألف والتاء لغير المذكر السالم.
  4. إلغاء الإعراب والاكتفاء بتسكين آخر الكلمات.
  5. إيجاد حرف كبير عند ابتداء الجمل.
  6. استعمال جميع الألفاظ العامية مثل حمار بدلا من مكارى، وفلاح بدلا من أكار.
  7. عدم ترجمة الألفاظ الأوروبية والاكتفاء بتعريبها كأن نقول بسكليت بدلا من دراجة[25].

و إذا نظرنا إلى كتاباته بعد هذا المقال، وجدنا أن أساسه الفكري للدعوة إلى ترك اللغة الفصحى يقوم على الوطنية المصرية. فهو يرى في اللغة دورا كبيرا في الحياة الاجتماعية والسياسية، فيعتقد أن هجرة الفصحى ستكون خطوة حاسمة لقطع صلة مصر بالشرق والعرب، كي تتجه إلى الحضارة الغربية المتقدمة دون أية عقد نفسية. وفي مقال آخر يبدي سلامة موسى تفاؤله بانتصار الوطنية المصرية والعامية المصرية على القومية العربية واللغة الفصحى[26].

ولكن سلامة موسى يعترف بأن اتخاذ العامية ليس أمرا بسيطا. فيقول إن الأداء عن طريق العامية أشق من الأداء عن طريق الفصحى. والعامية قبل أن تصلح للكتابة تحتاج إلى تهذيب طويل ينقلها إلى مصف اللغة الفصيحة. وهذا مجهود قد لايستحق المخاطرة”[27]. يتنبأ سلامة موسى بأن اللغة العربية ستتغير، فهي “ستأخذ شيئا كبيرا من ألفاظ الشعب وتعابيره. ولن يكون هذا هجرانا للغة القديمة بل تسوية بين القديم والحديث”[28].

غير أن موقف سلامة موسى الدفاعي بدأ يتغير مرة أخرى في الأربعينات، عندما يبرز أن طريقة التسوية هي أن “نأخذ للكتابة من العامية أكثر ما نستطيع، ونأخذ من الفصحى للكلام أكثر مانستطيع، حتى نصل إلى توحيدهما”[29]. إلا أن في فترة الخمسينات تغير موقف سلامة موسى من العامية بصورة جذرية. إذ إنه أخذ يدافع عن العربية الفصحى وينكر واقعة أنه قد دعا إلى اتخاذ العامية والكتابة بها، بقوله: “إن هناك من الكتاب من افتروا عليّ وزعموا أني دعوت في وقت ما إلى اللغة العامية مع أني لم أفعل هذا قط”[30].

خاتمة المقال:

ويلاحظ مما سبق أن تصور سلامة موسى لطبيعة لغة الشعب- كما يرى الدكتور بارك جاي- يرتكز على محوري اليسر والتأنق، أو الشعبية والفنية. وأن لغة الشعب لديه لا تعني العامية الحالية، ولا الفصحى الصافية. إذن هي مستوى ثالث من اللغة، إما العامية المهذبة، وإما الفصحى الحديثة الميسرة. والأخيرة هي الأرجح لأنه ينكر جدارة العامية بالأدب الراقي[31].وبهذا يعترف سلامة موسى بأن الفصحى أشمل وأدق وأعمق وأكثر إمكانية فنية من العامية[32].

ومن خلال ما تقدم يلاحظ أن عناية سلامة موسى بصدد قضية العامية ترتكز في إصلاح الحياة اللغوية في مصر. و إذا لبست قضية إصلاح اللغة العربية عند سلامة موسى ثوب الاعتبارات اللغوية والأدبية والفنية والاجتماعية والفكرية الخ، فهي من حيث الباطن فكرة سياسية. فعلى الرغم من إكثاره الحديث لإبراز الدوافع المتعددة المستويات في سبيل الدفاع عن اتخاذ العامية، إلا مصيرها كان مرهونا بالفكر السياسي، أي مابين الوطنية المصرية والقومية العربية. وواضح أن سلامة موسى غير موقفه من اللغة العربية الفصحى، في المرحلة الأخيرة، حيث اعتبرها رمزا للهوية العربية، أي أهم الوسائل وأكبر المؤثرات لتكوين الوعي القومي العربي.

هوامش المقال: 

[1] – أنور الجندى، الفصحى لغة القرآن، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ص: 188

[2] – نفوسة زكريا، تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، الطبعة الثانية 1980، دار الثقافة، الاسكندرية، ص: 208

[3] – اللغة العربية في القرن الحادي والعشرين في المؤسسات التعليمية، موقع منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية، http://www.m-a-arabia.com/vb/archive/index.php/t-22448.html، تاريخ الاطلاع: 27/3/2020

[4] – رامي عطا صديق، المنهج التاريخي في البحوث الصحفية، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2009، ص: 27

[5] – أيوب ابو دية، سلامة موسى من رواد الفكر العلمي العربي المعاصر، الطبعة الأولى 2006، دار ورد للطباعة والنشر، عمان، ص: 156

[6] – سلامة موسى، تربية سلامة موسى، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012، ص: 34

[7] – أنور الجندي، من أعلام الفكر والأدب، ص: 182

[8] – مجدي عبدالحافظ، سلامة موسى بين النهضة والتطور، الطبعة الأولى 1992، مكتبة المعارف، بيروت، ص: 132

[9] – عبدالعزيز فهمي، تيسير الكتابة العربية، مجمع اللغة العربية، القاهرة، ص:42

[10] – أحمد مختار، تاريخ اللغة العربية في مصر، الهيئة المصرية للطباعة، طبعة 1970، ص: 120

[11] – أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، القاهرة (2017)، ص: 417

[12] – محمد السعد، الفصحى في أدب نجيب محفوظ، نقلا من موقع جريدة الوطن: https://www.alwatan.com.sa/article/339202، تاريخ النشر: 22 ابريل 2017، تاريخ الاطلاع: 26 مارس 2020

[13] – أحمد رجب، الأدب بين الفصحى والعامية، موقع ميدل ايست اونلاين، https://middle-east-online.com، تاريخ النشر: 2018/12/15، تاريخ الاطلاع: 27/03/2020م

[14] – سلامة موسى، اللغة الفصحى واللغة العامية، مجلة الهلال، سنة 34، ج 10، ص: 107

[15] – سلامة موسى، البلاغة العصرية واللغة العربية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012، ص: 54

[16] – نفوسة زكريا، تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، ص: 126

[17] – سلامة موسى، التثفيف الذاتي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012، ص: 155

[18] – سلامة موسى، البلاغة العصرية واللغة العربية، ص: 77، اليوم والغد، ص: 237

[19] – سلامة موسى، البلاغة العصرية واللغة العربية، ص: 83

[20] – سلامة موسى، مقالات ممنوعة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012، ص: 180

[21] – سلامة موسى، اللغة الفصحى واللغة العامية، مجلة الهلال، ج 7، ص: 1074

[22] – نفس المصدر، ص: 1075

[23] – نفس المصدر، ص: 1074

[24] – نفس المصدر، ص: 1075

[25] – المصدر السابق، ص: 1075

[26] – سلامة موسى، تحقيق القومية المصرية، المجلة الجديدة، عدد 5، 1931م، ص: 789

[27] – سلامة موسى، الدنيا بعد ثلاثين سنة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012م، ص: 38

[28] – نفس المصدر، ص: 39

[29] – سلامة موسى، البلاغة العصرية واللغة العربية، ص: 44

[30] – سلامة موسى، اللغة العامية، جريدة الأخبار، ج24، 1954م، ص: 8

[31] – بارك جاي وون، نظرية الأدب واللغة عند سلامة موسى، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأول 2007م، ص:329

[32] – سلامة موسى، الأدب للشعب، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012، ص: 203

المصادر والمراجع

  1. أنور الجندى، الفصحى لغة القرآن، دار الكتاب اللبناني، بيروت
  2. نفوسة زكريا، تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، الطبعة الثانية 1980م، دار الثقافة، الاسكندرية
  3. رامي عطا صديق، المنهج التاريخي في البحوث الصحفية، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2009م
  4. أيوب ابو دية، سلامة موسى من رواد الفكر العلمي العربي المعاصر، الطبعة الأولى 2006م، دار ورد للطباعة والنشر، عمان
  5. سلامة موسى، تربية سلامة موسى، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012م
  6. مجدي عبدالحافظ، سلامة موسى بين النهضة والتطور، الطبعة الأولى 1992م، مكتبة المعارف، بيروت
  7. عبدالعزيز فهمي، تيسير الكتابة العربية، مجمع اللغة العربية، القاهرة
  8. أحمد مختار، تاريخ اللغة العربية في مصر، الهيئة المصرية للطباعة، طبعة 1970م
  9. أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، القاهرة (2017م)
  10. سلامة موسى، البلاغة العصرية واللغة العربية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012م
  11. سلامة موسى، التثفيف الذاتي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012م
  12. سلامة موسى، مقالات ممنوعة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012م
  13. سلامة موسى، الدنيا بعد ثلاثين سنة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012م
  14. سلامة موسى، الأدب للشعب، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الكترونية 2012م
  15. بارك جاي وون، نظرية الأدب واللغة عند سلامة موسى، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأول 2007م
  16. جريدة الأخبار، ج24، 1954م
  17. المجلة الجديدة، عدد 5، 1931م
  18. مجلة الهلال، سنة 34، ج 10
  19. اللغة العربية في القرن الحادي والعشرين في المؤسسات التعليمية، منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية
  20. موقع جريدة الوطن: https://www.alwatan.com.sa/article/339202
  21. موقع ميدل ايست اونلاين، https://middle-east-online.com

*الباحث في الدكتوراه، مركز الدراسات العربية والأفريقية، جامعة جواهرلال نهرو، نيودلهي، الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of