+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

أفق التلقي و مسارب التأويل الجمالي: قراءة في رواية “شعلة المايدة” لمحمد مفلاح
قوادري عيشوش فاطمة زهراء

الملخص:

     يعد توظيف التاريخ في الرواية الجزائرية المعاصرة معلما جماليا و ثقافيا،  بحيث يوظف الرواي  وقائع حدثت في الماضي، لتستأهل المدارسة باعتبارها ملمحا مثيرا لتداعيات تأثيرية على انتباه القارئ، سخرها الروائي لطرح قضايا راهنة تمس المجتمع و الروح الإنسانية وفق  طرائق فنية لعملية تراسلية بين النص و التاريخ بفعل التأثر و التأثير، و استنادا على هذا توم ورقتنا البحثية  قراءة الأبعاد التاريخية للمقامة الجزائرية في رواية شعلة المايدة و دينامية تلقي و فهم المعاصر لهذه الأحداث

الكلمات المفتاحية: التاريخ، التلقي، الفهم، التأثر، القراءة الواقع .

  تشكل رواية ” شعلة المايدة لمحمد مفلاح آلية تجريبية معتمدة في ذلك على تخييل وقائع الاحتلال،  و الاستعمار لمحاولة لقراءة التاريخ،  و فهم الواقع بآليات معاصرة ما أهلها أن تكون نموذجا خصبا تنفتح فيه القراءة على عدد لا متناهي من المدلولات و الهدف من قراءة التاريخ ، و الواقع معا وفق رؤى فنية تنسجم مع روح الخطاب الروائي.

   شهدنا مع بدايات النصف الآخر من القرن اتجاها نقديا مؤثرا يقوم على سلطة القارئ، و يستند إلى استجابته للنص الإبداعي، و تفاعله معه من خلال آفاق من التوقعات،  إذا كانت هذه قد ارتبطت بدايتها بجامعة كونستانس بجنوب ألمانيا فإن أبرز ممثليها و أشهرهم فلفجانج إيزر هانز روبرت ياوس، حيث شكلوا وحدة فكرية تعبر عن اهتمامات منهجية[1].

   و في ظل هذه المعطيات ” تعتبر الفلسفة الظاهرتية من أهم الفلسفات التي شيدت معمار هذه النظرية، و ذلك بالاستناد لأفكار و تصورات إدموند هوسرل و تلميذه رومان إنغاردن، التي كان لها تأثير فاعل في الفلسفة و النقد الألمانيان خصوصا حول تصور فكرة المعنى في أصوله و كيفية إدراكه، فهو أكثر عمق و يفرض جملة من الشروط، فالمعنى الموضوعي عند هوسرل ينشأ بعد أن تكون الظاهرة معنى محضا في الشعور أي بعد الارتداد من عالم المحسوسات الخارجية إلى عالم الشعور الداخلي و يعني هذا أن إدراك معنى الظاهرة قائم على الفهم”[2].

    تتجلى أهمية نظرية التلقي في تأسيسها منطلقا أساسيا يتجسد في التركيز على الجانب التواصلي في نظرية الأدب، و إذا كان ياوس  قد انطلق في نقد الوضعية و التاريخ، الذي وجد بهما الأدب في ألمانيا، فإنه قد راعى المسألة التاريخية في قراءة النص، إذ إن الذات القارئة تمتلك في كل مرة رؤى جمالية يكشف عنها من خلال قراءة العمل، و من هنا تبدو كل عمل فني من خلال القراءة[3]،   و عليه تستند عملية الفهم خلالها إلى عمليات تأويل المعاني و إنتاج عدد لا متناهي من التدلال،  و ينطبق هذا على نظرية التلقي التي عبرت مسلكا جديدا في النقد الأدبي خاصة التلقي للمعنى و محاولة إدراكه.

و بناء عليه فإن احتمالية العمل الأدبي تولد ديناميته كشرط أساسي لإحداث الوقع و التأثير، و إشباع اللذة الجمالية ليخلق هامشا من التلقي المغاير بمعنى أن النص لا يوجد إلا بفعل تحققه بواسطة القراءة[4]، المنتجة و التي تقوى على إعادة بلورة النص و منحه ولادة جديدة في خضم تناسل الدلالات و المعاني.

     استنادا على هذه الأسس الأولية،  لا ينظر في جماليات التجاوب عند آيزر إلى النصوص بما هي بنيات تقدم المعنى جاهزا للقارئ، إنما تغلف النص بمداليل معتمة لتوليد معاني محتملة، و مكيّيفة لإدماج القارئ ليعيد هندستها وفق أفق مغايرة، انطلاقا من فعاليته الذهنية الخاصة، و كل معنى ناتج عن عن التجاوب التفاعلي هو حصيلة استجابة جمالية لمعطيات البنية الذهنية المتواشجة مع بنية النص[5].

    يعد النص دينامية التلقي و الإنتاج من لموضوعات تصطبغ بمعالم السحر و الجمال يكون المتلقي فيها عنصرا هاما كون ” التلقي حلقة سابقة للتأثير و التأثر و هي ليست حلقة ثانوية بل حلقة أساسية يكون فيها المتلقي طرفا فاعلا و إيجابيا و ديناميكيا”[6]، و ذلك أن ” القارئ يمارس عملية التلقي و الكشف عن الدلالات و المعاني و الأبنية التي يحتويها النص الإبداعي في إطار التشابك و التفاعل بين القارئ و النص إن النص لا يمكنه أن يقدم قراءة أحادية، بل نراه يملك آفاقا مفتوحة في كل زمان و مكان داخل سياقات معرفية و حضارية”[7].

الرواية التاريخية: يقول جورج لوكاتش بأن الرواية التاريخية ما هي إلا رواية تثير الحاضر و يعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق بالذات[8]،  و لنا أن نتصور الموضوع على و ما يهم  ليست ”  إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبرى بل الإيقاظ الشعري للذين برزوا في تلك الأحداث و ما يهم أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية و الإنسانية التي أدت بهم أن يفكروا و يشعروا و يتصرفوا كما فعلوا ذلك تماما في الواقع التاريخي”[9].

الرواية الجزائرية التاريخية :

    ” منذ مطلع التسعينات بات الحديث عن نوع روائي ينخرط في الرواية التسجيلية بما في ذلك النبش في جسد التاريخ لإعادة إنتاجه و قراءته و إقحام وقائع منه ، أمرا مشروعا في الحقل الروائي الجزائري نظرا لانخراط عدد من النصوص الروائية في التعامل مع المتغير التاريخي الجزائري بمستوييه الذاتي و العام على أساس تجريبي حداثي”[10].

   و تعد الرواية التاريخية بنية لغوية تتواشج فيها أحداث و وقائع حقيقية مجسدة للواقع حيث”  كان لها الدور الأسمى في الكشف عن الجانب المهمش من تاريخ الجزائر، و من بين الروائيين الذين أفلحوا في النهوض بهذا الفن محمد مفلاح و ذلك من خلال حديثه عن الجانب المخفي من تراث الأمة”[11].

  أدركت الرواية الجزائرية حس التجريب و أوغلت فيه لتقدم للقارئ نماذج روائية تتخذ من المادة التاريخية دعامة لها فلا يمكن أن نتناول عملا أدبيا إلا و فيه حضور الذاكرة”[12]، يعتمد فيه الروائي على التخييل المضافة إلى المادة الوثائقية تندغم وفق رؤية تخييلية تعيد صهر الواقع بالتاريخ.

      يقول سعيد يقطين” الرواية التاريخية عمل سردي يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيلية حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع شخصيات متخيلة”[13] ، و يستمد هذا الطرح وجاهته كون ” العمل الروائي، موازاة إبداعية فنية تخيلية للواقع و التاريخ، موازاة فاعلة بمعنى أنها لا تقتصر على النقل الواقعي التسجيلي للحوادث، و إنما تنزع إضافة إلى ذلك إلى البحث في مأزق الكائن في المكان”[14].

    و مما يدل على براعة الروائي و عمق نضجه الفكري تخييل التاريخ الذي يمثل نوعا من امتداد الماضي إلى الحاضر ، ” فالمتخيل يتموقع في المادة الحكائية أو الخطابية كمدرك ذهني نلتقطه من الواقع في تجلياته أما المستوى الثاني من التمضهر هو النص أو الخطاب لأن النص الأدبي يتكون من مجموعة من العلامات ( الرموز اللغوية ) تنتظمها بنية فنية و ذلك للتعبير عن واقع معين”[15].

    و تأسيسا على ما سبق ، فإن ”  قدرتنا على التخييل ليست سوى قدرتنا على التذكر ما مررنا به من قبل و تطبيقه على موقف مختلف فالخيال هو الوجه الآخر من الذاكرة سواء كان في حفظ السور و تنظيمها أو إعادة تركيبها و ابتكارها”[16]، لتتعانق في فضاء أرحب ينصهر فيه الماضي بالحاضر.

      عالج النص الروائي المعاصر بوقائع هندام الثورة و الاستعمار  جسدت فيها مراحل تاريخية وطنية لتحرير وهران من الاحتلال الإسباني في العهد العثماني،  ” و ورواية شعلة المايدة ليست تاريخا خالصا لكنها تحوي بعض الحقائق و الشواهد و النصوص التاريخية و تتكئ الرواية المغاربية على التاريخ و سجلات الذكريات جاعلة منها بؤرة لها “[17].

    نهل الروائي المعاصر من شخصيات و أماكن لمح فيها علاقة تشابه في تجربته الروائية و من أجل ذلك ” يمكن من خلال شفافية الكتابة أن نرى النص الأول طي النص الثاني و بذلك تغدو عملية القراءة مزدوجة يظهر فيها النص القديم من وراء أستار النص الجديد”[18].

   و من المشاهد الروائية البارزة حماسة طلبة العلم   راشد و محمد الشلفي للنضال و الدفاع عن الوطن بقوله:

” شعر أن اللحظة التاريخية التي انتظرها قد حانت سيغتنم الفرصة ليشارك في صد العدوان على مدينة الجزائر”[19]

   يجسد هذا المشهد الروائي واقعة تاريخية تحمل مدلولا ضمنيا يحمل رمزا للنضال  الذي ينافح عن تحرير الوطن، دفاعا عن الذات و الحق الشرعي في الحياة، و على الشاكلة نفسها يؤسس القارئ المعاصر دلالات يقارن بها وضعه  “إذ يعبر عن فهم  / رأي/ موقف فإن خطابه يأتي في الغالب معبرا عن رؤية منسجمة تذوب داخلها مصادر متنوعة للإنتاج الفهم، هي مرجعيات و خلفيات تتجلى من خلال طبيعة المنزع الفكري و الثقافي و الاجتماعي للقارئ”[20].

    و تبادر في ذهن القارئ هذه الواقعة التاريخية  الشرف الجهادي مقابل  الخذلان و التبعية للشباب الراهن، و طرح إشكالية رؤيوية الانفصام الذي يتخبط فيه الشباب في المنظومة المجتمعية الجزائرية،  تتأطر في نسق موضوعاتي يخصب خيال المتلقي.

       فعودة الراوي إلى التاريخ تتجاوز الواقع حاضرا و ماضيا ” كلما تضاعفت أزمة الهوية لدى المجتمع و تعمق الإحساس بضياع الوطن بتعزز ارتباطهم بالشخصية و يتكاثف جهدهم في بناء مدن متخيلة باللغة أو تصوير أوطان حلمية من خلال التاريخ”[21].

   و تعد معركة الحراش واقعة تاريخية لطرد المحتل الإسباني الذي حاول غزو مدينة الجزائر في معركة الحراش :

” يوم الحراش الذي عاشه راشد و جنود الجزائر لحظة بلحظة انهزم العدو الإسباني مخلفا800 قتيل و انتظر الإسبان قدوم الليل ليفروا إلى مراكبهم مخلفين عتادهم الحربي الضخم”[22].

   و ما يلاحظ على هذا المقطع السردي أن وصف معركة الحراش التاريخية الوفاء للوطن و النضال من أجل الحرية  و تحريرها من المغتصب،  و الإصرار على الانتصار لتشكل رباطا بالقارئ المعاصر ينفتح فيه التأويل  ليتجاوز التاريخ دلالته الزمنية حاضرا و ماضيا إلى نهايات مفتوحة،  و القارئ يدرك بحسه القرائي هذا الارتباط المتناهي  و مسوغات التوظيف لهذا الحدث مختزلا للهوية الجزائرية،  و اندفاع  الحس الوطني في سبيل الوطن و الدفاع عن قيمه،  و مبادئه ضد الآخر الأجنبي، حتى يبقى  القارئ معتزا بتاريخه،  و حافزا على التمسك بهذه القيم في الوقت الحاضر.

    يلزمنا الفهم أن الأحداث التاريخية وسيطا بين القارئ و النص حيث ” تحيل على ما يبنيه النص من افتراضات و توقعات و حيل تعبيرية قبلية، و الثانية تحيل على دور القارئ و الطريقة التي يتقدم بها إلى النص في مضمار الإستراتيجية نفسها و في هذا الإطار يفترض القارئ حيازة مجموعة من الوسائط للتحرك تأويليا بنفس الصيرورة التي تحرك بها المنتج توليديا “[23].

    و شكلت حوار الشخصيات التاريخية مصدرا سخيا من مصادر الإلهام الذي تجلى في عرضها لمعاناتها في عصرها  و واقعها الذي عاشته، و نلمسه في حوار محمد الشلفي:

-أمزلت مهتما بالتاريخ؟

– أنا لا أهتم بالتاريخ كما يفعل بعض الناس و ركز نظره الحاد في عيني راشد ثم أضاف قائلا بقوة:

– يبدأ التاريخ الحقيقي حين يستعد الإنسان لصنعه ، فقال له راشد متسائلا في حيرة:

– أ لست راضيا عن الباي؟

أطرق محمد الشلفي لحظة ثم قال:

بشخص الباي فقط أنا غير راض عن أعضاء ديوان الجزائر الذين لم يعودوا مهتمين بمصير وهران، لقد أصبحت علاقتهم بأرضنا ضعيفة حقا..لقد قاوموا معنا الحملات الصليبية و لكن الآن أصبح همهم الوحيد جمع المال باستعمال القوة”[24].

   يحاول هذا المقطع الحواري إيقاظ ضمير المتلقي الجزائري من خلال دمج التاريخ بقضايا سياسية فتتفاعل الدلالات بما ما يحمله من شحنة عاطفية،  و دلالة رامزة في نفس الوقت لتقديم صورة مشبهة للوضع الراهن من خلال” البحث عن الهوية الضائعة بين نظام هجين لم يفلح في إقامة مشروع مجتمعي متماسك و حركات تنمو وسط الفساد “[25].

      تتعاطى الأحداث التاريخية القضايا الجزائرية الراهنة الاجتماعية و السياسية و سلوكات المسؤولين الوطنيين  التي تمارسها أنظمتهم باسم الثورة، و من خلال صور التاريخ يقيم القارئ و يتضح الهدف للقارئ كسر قمع السلطة،  و فضح الواقع السياسي،  و رصد ظواهر الخيبة فيه،  يستند فيها القارئ على محمولات مرجعية تستثمر فيها آليات تاريخية في سبيل تغيير هذا الواقع المظلم.

     توحي هذه الفرضية الاستناد إلى المتلقي الجماعي ” يقول إيزر إنني فقط عندما أقرأ أصبح تلك الذات التي يجب أن تنطبق معتقداتها مع معتقدات المؤلف بغض النظر عن معتقداتي و ممارساتي يجب أن أضع ذهني و قلبي للكاتب إن أرت الاستمتاع الكامل به و باختصار يخلق المؤلف صورة لنفسه و صورة أخرى لقارئه، إنه يصنع قارئه كما يصنع ذاته الثانية و القراءة الأكثر نجاحا هي القراءة التي يمكن فيها لذاتين..المؤلف و القارئ أن يتوصلا للاتفاق التام”[26].

    استنادا على ذلك يصبو محمد مفلاح بحثا عن حل جماعي للواقع المعيش لتجسد حوارا حيويا يتشارك فيه المبدع مشاكله مع متلقيه من أجل توليد دلالات تساير واقعنا المعاصر.

   تأسيسا على ما سبق ، يقول ميشال بيتور إن للأشياء تاريخا مرتبطا بتاريخ الأشخاص، لأن الإنسان لا يشكل وحدة بنفسه فالشخص،  و شخص الرواية،  و نحن أنفسنا لا نشكل فردا بحد ذاتنا، جسدا فقط، بل جسدا مكسوا بالثياب، مسلحا مجهزا”[27].

    و يفسر الأمر  بمبدأ  هموم الماضي   الذي ” يصور مشاكل الحياة الشعبية التي تؤدي إلى الأزمة التاريخية التي مثلها، و حين يكون قد خلق  منا مشاركين في هذه الأزمة متعاطفين و متفهمين”[28]، لقضايا راهنة .

  مثلت هذه الأحداث وسيطا فكريا بلور خلالها رؤى المجتمع باعتبار أن   ” مفهوم رؤية العالم يشير في ملابساته الدقيقة إلى أن هناك علاقة عضوية بين الفرد المبدع و وعي المجموعة تتمظهر بصفة ضمنية في شكل بنية اجتماعية تعتري بطريقة غير مباشرة بنية الأثر الأدبي و تحيل على تواجد نسق فكري أو أدبي هو متصل بفكر و بوعي الفئة المجتمعية التي يرتبط بها الكاتب اجتماعيا و ثقافيا و حتى اقتصاديا في زمن تاريخي”[29].

   فالمبدع الروائي قام بصوغ رؤى تاريخية مؤطرا إياها بمشاكل عصره و عليه يتبدى لنا أن ” الحقائق وحدها لا ترضي العقل و لكن الفن يتدخل في هذه الحقائق فيغيرها و يؤولها جماليا فتصير حقيقة جمالية بعدما كانت حقيقة تاريخية” [30].

و في مقطع سردي آخر :

” ترجع جنود العدو إلى غاية أسوار المدينة ( وهران) و حين تأكدوا من نفاذ رصاص الطلبة و رأوا أنهم لجؤوا إلى رميهم بالحجارة، استغلوا الفرصة فهاجموا على الطلبة و قتلوا منهم ثلاثة و كان بينهم عيسى الخلوقي حامل الراية، و علم الشيخ الطاهر بن حواء بالحادثة في حينها فجرى نحو جثمان الطالب الشهيد و هو يسدد بندقيته نحو العدو، و لكنه أصيب برصاصة نفذت إلى جوفه فسقط على بعد أمتار من جثمان الطالب”[31].

     يتبدى لنا أن هذا المطع ” في إطار تحرير آليات الذاكرة من أجل إثارة أحداث مهمة من تاريخ الجزائر في مواجهة قوى العدوان حيث يشكل حدث تحرير مدينة وهران من الاحتلال الإسباني 1972، بقيادة الباي محمد الكبير فصلا من فصولها المشرقة”[32].

   قدم محمد مفلاح في المقطع تقديما متكامل الأبعاد سهل على المتلقي فهم حدودها،  و مقاصدها حيث أدرك تفاصيل الحادثة و ملابساتها، ليسوق بنا إلى شهادة الاعتزاز بالنضال البطولي و إلى ضرورة بذل الدماء و تقديم التضحيات في سبيل الحرية.

   و يسوقنا هذا الطرح إلى أنه ” من البديهي أن الإنسان لا يرث في المكان ما يمثل من ظرف فقط، بل يرث أيضا هذا التاريخ الذي يلفه، و لا تتساوى في هذا الإرث كل أقسام المكان بل تتفاوت و تتفاضل على أساس ما اضطلعت به من مهمات و ما شهدته من أحداث تختلف قدرا و قيمة” [33].

    و تجد الظاهرة تفسيرها من خلال محاكاة الهمة و القيم المتأصلة في الجزائري ماضيا و حاضرا ، لتمنح الرؤية السردية لدى القارئ نوعا من التكامل مسوغه أن ” العوالم الممكنة باعتبارها أبنية ثقافية و ذلك للإشارة إلى الصلات المحتملة بين العوالم التاريخية و العوالم الواقعية فيقرر أن أي عالم مكاني لا يسعه أن يكون مستقلا استقلالا ناجزا عن العالم الواقعي بل أنهما يتداخلان و يأخذان معناهما من الخزين الثقافي للقارئ الذي يمنحه تأويلا ممكنا وفق مرجعية تاريخية”[34].

” كان الباي يرغب في الاستماع إلى رجال القبائل الثائرة على نظام الأتراك القائم على التمييز بين القبائل لقد تمردت القبائل الرعية مرارا على البايات الأتراك الذين كانوا يلزمونها بتقديم رسوم الزكاة و العشور، إلى جانب الضرائب الإضافية كالغرامة و المؤونة و اللزمة في حين كانت القبائل المخزونية تستفيد من منافع و مزايا كثيرة”[35]

   يلفت هذا المقطع السردي انتباه القارئ طريقة سرده و يخضب القارئ تفكيره بحقيقة واقعية،  و يجعله يقترب من هذه التجربة، حيث” يبنى النص في انسجامه الأصلي ( أي نص الوثيقة) و من جهة ثانية يفهم آلية سمطقته الروائية   semiotisation romanesque يتعامل مع النص من جهة فعالية شهادته الإثنوغرافية و هنا يجب دراسته في حالة مستقلة و في انسجام مطلق و من جهة تحوله السيميوطيقي الذي يمنحه فضائية و زمانية جديدتين”[36].

يتأبط الروائي  إجراء تخييليا لتوليد المعنى و إتاحة مستويات متعددة للتأويل، و تشكل قوة ضاغطة على مخيلة المتلقي تحفزه على القراءة ، و تتيح التمعن في لتخلق هامشا مغايرا بوصفه انعكاسا لظروف تعيشها أغلب الدول العربية في الوقت الراهن، من خلال الثورة على الأنظمة المستبدة التي تقمع شعبها الضعيف.

    تلاقحت المشاكل التاريخية واقعا فرديا للمعاناة أو انصهار الفردي بالوطن كإستراتيجية لإشراك القارئ في لعبة القراءة، يتم عبرها بناء ” سلسلة من المرجعيات الممكنة التي قد تتطابق مع إمكانية النص بمعنى أنه يتخيل معنى افتراضيا يمكن أن يستوعبه النص هو العالم الممكن الذي هو محصلة الاستنباطات التي تسمح بها تجليات النص …تتراوح بين ما يتخيله القارئ و بحسب ما يجده في النص وفق مساره الخطي و ما تمثله الكائنات و الأشياء التي تؤثثه و التي تبدو محكومة بنفس النظام و مورطة فيه”[37].

     رسمت الرواية التاريخية حدود الإدراك  للواقع المعيشي الحاضر،  ” فالروائي يستدعي الماضي أو التاريخ الذي يقوم على أساس الفن و يقصد به توظيف رموز التاريخ و الماضي و إسقاطهما على ما هو قائم في الحاضر و هي وسيلة تهدف إلى توصيل فكرة بطريقة تعبيرية فنية، فيقول سعيد سلام في هذا الموطن يستحضر التاريخ لهدفين :

1-أما محاولة تقديم التاريخ أو التعريف به على سبيل الإعجاب.

2- إما الاستعانة بالأبعاد الرمزية التي يتوفر عليها التاريخ الإسلامي[38].

” و كل ذلك يعمق التواصل الفكري و الثقافي و السياسي لأن النص يدخل في حوار مع النص السابق عليه رغم اختلافهما في الزمان و تباعدهما في المكان فيستدعي الذاكرة التاريخية و يسلط الأضواء على قضايا مهمة مثل الاستعمار”[39].

    و يتبدى لنا في ضوء ما سبق ” أن محمد مفلاح لم ينفرد بالاحتفاء بالتاريخ الوطني و إنما كان اهتمامه جزءا من نزعة  التجريب السردي في الرواية الجزائرية في بحثها عن الأشياء المفقودة بمستويات تشخيصية لغوية و حكائية أحيانا تبدو متماثلة و في سياقات أخرى تميل تميل إلى الراهن و أسئلته المقلقة حول الهوية و التاريخ و الذات و اللغة و المجتمع الطافح بتناقضاته “[40].

    و تستند عملية إحياء الذاكرة للمتلقي من أجل أن يوهمه أنه المقصود و هو يستشعر انتصارات و خيبات المجتمع  ” فإذا كانت المدونة التاريخية تحكي أحداثا واقعية، فإن المبدع يميل إلى استدعائها و من ثمة تخييل هذا الواقع ليسد فجواته بل ليفتح أفق القراءة و التأويل من أجل دحض المسلمات ” [41].

   ” يخلص بول ريكول أن العمل الأدبي ليس تعليقا مباشرا على الممارسة اللغوية و إنما أداة تقدم تفسيرا للعالم، و الثانية أن النص يكتب ليستثير استجابة ما، فالمؤلف و هو يسيج عمله يحرك إستراتيجية تضع في الحسبان توقعات القارئ النموذجي و طالما أن هذه الإستراتيجية تلبث عالما يتوقع القارئ و يأمل بوجوده فإنها لا تكون متعلقة بالنص و إنما بحالة المؤلف النفسية” [42].

    استطاع محمد مفلاح أن يصنع من التاريخ تستدعي القارئ إقامة مقارنة ضمنية بين ما يعيشه حاضرا و بين تاريخه المجيد، لتعاطي مع المعنى الذي يقدمه القارئ ، كإستراتيجية يراوغ بها انتباه القارئ.

  و على هذا الأساس فإن  ”  ارتباط الخطاب الروائي الجزائري بالتراث التاريخي و مواجهته للواقع الموضوعي في سياق التحولات السوسيوثقافية الخطيرة، جعل الروائي الجزائري يطل على التاريخ بوجه عام برؤية معاصرة جدلية تفكيكية ترى التاريخ عالما مفتوحا، تكاد تكون ردة للممارسة و التجريب بوعي روائي و إدراك يتأسس التفاعل والتفرد”[43].

   يفضي بنا هذا الفهم إلى أن ”  التاريخ لم يعد يرتبط بالماضي إنما تغيرت أدوات صناعته، و لم يعد التاريخ يعني ما عشناه،  و لكن ما نعيشه حاضرا و ما نصنعه مستقبلا و بهذا المنظر فإن محمد مفلاح يحاول فتح سجلات التاريخ لنمنحها رؤى مغلفة بقضايا الحاضر تعين على محاورة الواقع و تجيب على أسئلته و تحدد ردود أفعالنا حيالها و الاستفادة من تجاربه و من خلال التحلي بقيمه “[44].

   و  يخلص ”  محمد بويجرة إلى أن القراءة الجيدة للتاريخ تفيد ذاكرتنا و هويتنا إذا ما أحسنا قراءتها و مدارسته و أخرجنا الإضافات و حصرنا النقائص و التناقضات و اجتهدنا في معرفة أسبابها” [45].

   و صفوة القول، أن  التسجيل التاريخي نتاج جمالي في الخطاب الروائي معادل موضوعي على وقائع راهنة للمجتمع يتأسس عليها التوظيف المادة التاريخية تصوير الوقائع بآلية فهم جديدة، يتلمسها القارئ في معاناته الذاتية و الوطنية، لتنحو الرواية الجزائرية منحنا مغايرا  مغلفا بآليات تجريب حديثة و فعالة في معالجة القضايا التي تخص المجتمع الجزائري.

قائمة الهوامش :

1- عبد الناصر حسن محمد، نظرية التلقي بين ياوس و إيزر، دار النهضة العربية، جامعة عين الشمس، القاهرة، 2002،        ب ط، ص 3-4

2- بشرى موسى صالح، نظرية التلقي أصول و تطبيقات، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، 2003، ص 34.

3- موسى ربابعة، القيمة و قراءة النص الأدبي، مجلة علامات، ج53، م14، رجب 1425ه، سبتمبر2004، ص 182-183.

4- ينظر: عبد العالي بوطيب، مفهوم الواقع الجمالي عند إيزر، مجلة علامات، ج53،م14، رجب1425ه،سبتمبر2004،    ص 212.

5- ينظر: أسماء خوالدية، تطبيق نظرية التقبل على النص الصوفي، مجلة مخبر اللغة الوظيفية، جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف- الجزائرالعدد الثاني، مارس 2016، ص 87.

6 -عبد الناصر مباركية، درسات تطبيقية في الإبداع الروائي، دار النشر جيطلي، ب ط، بورج بوعريريج، الجزائر، ص 69

7– المرجع نفسه، ص 92.

8- أميرة بوقلمون، أزمة الذات في الرواية التاريخية رواية حوبة و رحلة البحث عن المهدي المنتظر لعز الدين جلاوجي، إشراف سامي الوافي، مذكرة ماستر تخصص أدب عربي حديث و معاصر، جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي، الجزائر، 2017/2018 ص 5/6.

9- المرجع نفسه، ص 6.

10- جمال بولسهام،  الحدثة و آليات التجريب في الخطاب الروائي الجزائري،إشراف: محمد داود، شهادة الماجستير جامعة وهران كلية الآداب و اللغات و الفنون، 2008، 2009 ، ص 247.

11- المرجع نفسه، 11.

12-  بن سعدة هشام، بنية الخطاب السردي في رواية شعلة المايدة، إشراف قريش أحمد، لنيل الماجستير، تخصص النقد الأدبي العربي المعاصر، 2013/2014، ص 55

13 – سعيد يقطين، قضايا الرواية العربية الجديدة،  الوجوه و الحدود رؤية للنشر و التوزيع، ط1، القاهرة، 2010، ص 227

14- لحسن كرومي، جماليات المكان في الرواية المغاربية، إشراف: عبد الملك مرتاض، رسالة دكتوراه في الأدب العربي، جامعة وهران، الجزائر، 2005/2006، ص 64.

15- المرجع السابق،  بن سعدة هشام، ص 58.

16- جابر عصفور، زمن الرواية، د ت، القاهرة، ص 247.[16]

17-زاوي أحمد، بنية اللغة  الحوارية في روايات محمد مفلاح  إشراف: عبد الحليم بن عيسى، أطروحة دكتوراه لغة عربية، جامعة وهران كلية الآداب و الفنون، الجزائر، 2014/2015،ص 17.

18- المرجع  نفسه، 71/72.

19- محمد مفلاح، شعلة المايدة، دار طليطلة للنشر و التوزيع، ط1، الجزائر، 2010، ص 34.

20- أسماء خوالدية تطبيق نظرية التقبل على النص الصوفي، مجلة الغة الوظيفية العدد2، جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف، 2016، ص 101.

21-ينظر: إبراهيم رماني، المدينة في الشعر العربي الجزائري أنموذجا، الهيئة العامة للكتاب، ط1، مصر، 1997، ص 31

22- محمد مفلاح، شعلة المايدة،ص 46.

23- محمد بشير بويجرة، دينامية و جمالية التلقي في الرواية الجزائرية المعاصرة، إشراف: بوسكين مجاهد، لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي، جامعة وهران كلية الآداب و الفنون، 2015/2016، ، ص 76.

24- محمد فلاح، شعلة المايدة، ص 105.

25- المرجع السابق،بن سعدة هشام،  ص 60.

26- إيزر فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب في الأدب، تر: حميد لحميداني و الجيلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، فاس 1994، ص 31.

27- جمال بولسهام، الحداثة و آليات التجريب الروائي، ص 258.

28- قاسم عبد قاسم، إعادة قراءة التاريخ، كتاب العربي 78، ط1، وزارة الإعلام، الكويت، 2009، ص 76.

29- المرجع السابق، محمد بشير، الدينامية و التلقي، ص 89/90.

30-المرجع السابق، جمال بولسهام، آليات التجريب الروائي، ص 252.

31- محمد مفلاح ، شعلة المايدة،، ص 109.

32- المرجع السابق، بن سعدة هشام، ص 64.

33- عبد الصمد زايد، المكان في الرواية العربية، الصورة و الدلالة، دار محمد علي للنشر، ط1، تونس، 2003، ص 133

34- عبد الله إبراهيم، التلقي و السياقات الثقافية، منشورات الإختلاف، الجزائر، ط2، 2005، ص 12.

35- محمد مفلاح، شعلة المايدة، ، ص 87.

36- المرجع السابق، جمال بولسهام، الحداثة و آليات التجريب، ص 262.

37- محمد خرماش، فعل القراءة و إشكالية التلقي، مجلة علامات، عدد 100، المغرب، 1998، ص 55.

38- إيمان شهروري، شعلة المايدة و قصص أخرى لمحمد مفلاح، إشراف دايري مسكين، تحضير لنيل شهادة الماستر في النقد العربي القديم، جامعة مولاي الطاهر سعيدة، كلية الآداب و الفنون، 2017/2018، ص 116.

39- زاوي أحمد، بنية اللغة الحوارية في روايات محمد مفلاح، ص 71.

40- المرجع السابق، بن سعدة هشام،  ص 61.

41- نفسه، بن سعدة هشام، ص 57.

42- االمرجع السابق، محمد بشير، لدينامية و التلقي، ص 80.

43- المرجع السابق، جمال بولسهام، الحداثة و آليات التجريب، ص 259.

44- المرجع السابق، محمد بشير، الدينامية و التلقي، ص 133.

45- المرجع نفسه، نفسه، ص 135.

*طالبة دكتوراه- جامعة الجیلالي بونعامة خمیس ملیانة – خميس مليانة-الجزائر

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of