+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

دلالة المباني الاسمية في شعر المتنبي: قراءة في مشتقات قصيدة”وا حرّ قلباه” نموذجا
د. جميلة روقاب ود. محمد حاج هنّي

ملخص البحث:

     يضمّ هذا المقال أنواع المشتقات على غرار: اسم الفاعل، واسم المفعول، وصيغ المبالغة، الصفة المشبّهة، واسما الزمان والمكان، واسم الآلة، والمصادر وأبنيتها، وما جاء منها في قصيدة من ديوان المتنبي تحمل عنوان: وا حرّ قلباه، وهدفنا في ذلك هو كشف الصيغ الصرفية، وملاحظة معانيها في ثنايا القصيدة كاملة، ورصد دلالاتها المتنوّعة، وإظهار علاقتها بمضمونها، ولسان حالنا يقول: كيف تجلّت المباني الاسمية في قصيدة وا حرّ قلباه للمتنبي؟ وما حمولتها الدلالية خارج السياق وداخله؟

الكلمات المفتاحية: الدلالة؛ المشتقات؛ الشعر العربي؛ المتنبي؛ الصيغ الصرفية.

مقدمة:

       تعرف اللغة العربيّة بأنّها لغة اشتقاقية، وهي الميزة التي تنماز بها عن غيرها من اللغات، حيث يسهم الاشتقاق إسهاما فعّالا في توسيع آفاق اللغة، وتنويع الأداء اللغوي بمختلف الألفاظ والأبنية الدالة على المعاني المكنونة فيها.

       وفي هذه الورقة البحثية سنحاول الوقوف بداية على مفهوم الاشتقاق لغة واصطلاحا، وأنواع المشتقات التي تتوافر عليها لغتنا العربية، ومن ثمّ ربط النص الشعري العربي القديم للمتنبي في واحدة من قصائده الشهيرة التي خصّها لسيف الدولة الحمداني؛ ألا وهي قصيدة “وا حرّ قلباه”، وتشريحها تشريحا صرفيّا برصد دلالة المباني الاسمية التي تشتمل عليها القصيدة، وعقد علاقة علمية بين علمي الصرف والدلالة في نسيج النص الشعري، منتهجين في ذلك المنهج الوصفي، واعتماد التحليل والإحصاء أداتين إجرائيتين في البحث.

  • مفهوم الاشتقاق:

اتفق اللغويون قديما وحديثا على أنّ الاشتقاق هو نزع لفظ من آخر بشرط مناسبتهما معنى وتركيبا، ليدلّ بالثاني على معنى الأصل بزيادة مفيدة[1]، يقصد بالتركيب الحروف الأصول وترتيبها، أمّا مناسبتها في المعنى فإنّ المشتق يكون أوسع في المعنى من المشتق منه، وكلّما تنوّعت الصيغ المشتقة تنوّعت المعاني.

  • أنواع المشتقات:

       إنّ المشتقات في اللغة العربية أنواع، أهمّها:

  • اسم الفاعل: قال النحاة في دلالته، أنّه ما دلّ على الحدث والحدوث وفاعله، والدلالة في اسم الفاعل مبنية على ربطه بالفعل من حيث الدلالة والعمل، فهو يشارك الفعل في الدلالة على الحدث وفي العمل تعدية ولزوما[2].

ويقصد بالحدوث ما يقابل الثبوت، فـ(قائم) مثل؛ اسم فاعل يدلّ على القيام وهو الحدث، وعلى الحدوث؛ أي التغيّر، ويدلّ على ذات الفاعل؛ أي صاحب القيام[3]. وقد يأتي اسم الفاعل دالاّ على الثبوت، فعبد القاهر الجرجاني (ت474ه) يرى:” أنّ موضوع الاسم يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدّده شيئا بعد شيء، مثل: زيد منطلق؛ فقد أثبت الانطلاق له فعلا من غير أن تجعله يتجدّد، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في: زيد طويل”[4]؛ أي انّه يجعل دلالة اسم الفاعل كدلالة الصفة المشبهة على الثبوت، وقد فصّل فاضل السامرائي في دلالة اسم الفاعل أهي للثبوت أم للحدوث؟ بأنّ اسم الفاعل أدوم أثبت من الفعل، ولكنّه لا يرقى إلى ثبوت الصفة المشبّهة فمثلا: قائم أدوم وأثبت من قام، لكن ليس كثبوت طويل[5].

      فاسم الفاعل إذن، يقع وسطا في الدلالة بين دلالة الفعل على الحدوث، ودلالة الصفة المشبّهة على الثبوت.

لقد حضر اسم الفاعل في قصيدة وا حرّ قلباه للمتنبي حضورا واضحا، إذ بلغ تواتره ثماني مرّات (8) وهو كالآتي:

  • بناء فاعل: تكرّر هذا البناء في سبعة مواضع (7) ذكرها على النحو التالي:
  • (ناظر): اسم فاعل مشتق من الفعل الثلاثي (نظر) تمظهر في قول المتنبي[6]:

وَمَا انْتِفاَعُ أَخِي الدُّنيَا بِنَاظِرِه                 إِذَا اسْتَوَت عِنْدَهُ الأَنْوَارُ وَالظُّلَمُ

      وهي تعني في هذا البيت الشعري عين الإنسان أو نظره، لكنّ المتنبي عدل عن التعبير بالعين إلى الناظر؛ لأنّ العين عين وإن كانت لا تبصر، ولا تسمّى ناظرة إلاّ إذا أبصرت، فالعين الناظرة هي فقط التي تنفع صاحبها في التمييز بين النور والظلام، وبين الخير والشرّ؛ أي صاحب البصيرة فالشاعر يريد استخدامه لكلمة (ناظر) أن يوجّه نظر سيف الدولة إليه لكي يفرق بينه وبين حسّاده، فهو النور وهم الظلم، إلاّ أنّ سيف الدولة لم يدرك ما وجّه نظره إليه، يقول: “أنّ الفرق بينه وبين غيره ظاهر كالفرق بين النور والظلمة، فينبغي ألاّ يستويا في عين البصيرة”[7].

  • (جاهل) في قوله[8]:

وجَاهِلٍ مَدَّهُ فِي جَهْلِهِ ضَحِ لي          حَتَّى أَتَتْهُ يَدُ فراسَة وفَمُ.

  ناب اسم الفاعل (جاهل) المشتق من الفعل الثلاثي (جهل) عن المنعوت بعد حذفه، فاستعمل استعمال الأسماء، والواو هنا واو ربّ التي تدلّ على التكثير، وأتى اسم الفاعل للدلالة على التغير والتطوّر والتحديث لأنّه وصف عدوّه بالجهل المتغيّر والمتزايد تزايدا سلبيّا، لأنّ أصل التركيب وربّ جاهلين كثيرين؛ أي الذي اغترّ بضحكي واستخفافي فاسترسل في جهله حتّى بطشت به[9].

  • الشوارد: جمع لاسم الفاعل شاردة، وهذا في قول الشاعر:

أنامُ مِلْءَ جُفُونِي عن شَوَارِدِها           وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرَّاهَا وَيَخْتَصِمُ[10].

فالشوارد تعني سوائر الأشعار من قولهم: شرد البعير إذا نفر[11]؛ أي سار بسرعة منفلتا من صاحبه، وتوظيف المتنبي لاسم الفاعل في هذا البيت الشعري على شكل جمع تكسير لوصف شعره بالحكمة السائرة والمتنقلة بين الأقوام، وكلامه هنا في معرض الفخر بشعره يريد المتنبي أنّ شعره من الشهرة بمكان، فهو منتشر في كلّ مكان بقوّة، ويشغل النّاس في الحديث عن معناه.

وأغلب الظنّ أنّ اختيار المعنى للفظة الشوارد من غير القصائد مثلا؛ هو رغبته الدفينة والمعلنة في استمالة سيف الدولة، وكسب ودّه فمصيره هو التشرّد والضياع، ممّا يشي بأنّ المتنبي يشعر وهو في أشدّ المواقف فخرا بنفسه بالحاجة الماسّة لوصال سيف الدولة[12].

اسم الفاعل (بارزة) وفي قوله:

إِذَا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَةً            فَلاَ تَظُنَّنَ أنَّ اللَّيْثَ يبتَسِمُ[13].

       استعمل المتنبي اسم الفاعل (بارزة) على زنة (فاعلة)، لأنّها تدلّ على حالة متغيّرة، وهذه الحالة هي البروز والظهور، وأراد بها الغضب فأتى باسم الفاعل ونصبه على الحال، لأنّ نيوبَ الليث ليست بارزة طوال الوقت، بل تنتقل من حال إلى حال.

       وتوظيفه لهذا البناء أكسب الشاعر حالته التي يريد تصويرها بعدا ماديّا من خلال ربطها بالأسد الذي يكشّر عن أنيابه، إذا قصد الافتراس، وكأنّه يبتسم.

ومن أمثلة اسم الفاعل في القصيدة نجد كلمة (صاحب)، حين ذكر:

ومهجة مهجتي من هم صاحبها              أدركتها بجواد ظهره حرم[14].

هي كلمة مشتقة من الفعل الثلاثي (صَحِبَ)، وقد خرجت هنا عن معنى المصاحبة، ودلّت على معنى التسمية، “المهجة تعني الروح، والهمّ ما اهتممت به”[15]؛ أي أنّ الصاحب بمعنى المالك ودلّت على الذي همّ بقتله.

(حاسد): حين استعطف المتنبي سيف الدولة بالقول:

إِنْ كَانَ سَرَّكُم ما قال حاسِدنا          فما لجرح إذا أرضاكم ألمُ[16].

اسم الفاعل حاسد المصاغ من الفعل الثلاثي (حسد)؛ أي الذي يقع منه فعل الحسد، ودلّ في هذا البيت من القصيدة على حسّاد المتنبي الذين وشوا به عند سيف الدولة، وقد تحتمل دلالة الثبوت لأنّ المتنبي يثبت صفة الحسد في خصمه.

(الراحلون) وفيها جاء قوله:

إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا      أن لا نفارقهم فالرّاحلون هُمُ[17].

  ورد اسم الفاعل هنا بصيغة الجمع من الفعل الثلاثي (رحل)، وتعني الارتحال والمضيّ، ودلّت في هذا البيت على عدم اكتراث المتنبي بما اختاره سيف الدولة وهو الفراق والارتحال، وكأنّه يقول له أنّ الخسارة لحقت بك يا سيف الدولة، نظرا لأنّك أجبرتني على الارتحال وكنت قادرا على إكرامي والمحافظة على ودّي.

اسم الفاعل (مُنْفَرِدًا)

صحبت الوحش في الفَلواَتِ مُنفَرِدًا         حتّى تعجّب منِّي القُورُ والأَكَم[18].

اشتقّ اسم الفاعل (منفردا) من الفعل غير الثلاثي (انفرد)، ودلّ على معنى التفرّد، ودلالته متغيّرة لأنّه يحكي عن الفترات التي صحب فيها الوحوش وكان يسافر وحده، دون أن يكون معه أحد، واستعماله لهذا البناء يدلّ على أنّه كان يجد نوعا من الاستئناس بهذه الوحوش، ويريد أن يقول في معرض الفخر بنفسه بأنّه لا نظير له بهذا الصنيع.

ومن خلال هذا التحليل تبيّن أنّ المتنبي أكثر من استخدام صيغة اسم الفاعل الثلاثي في قصيدته، واستثمار إمكاناته الدلالية في توظيف عرض العتاب لأنّ اسم الفاعل يتيح للشاعر حرية كبيرة في التعبير عن امتداد الأحداث وتنامي الصفات وتغيّرها، وهذه السمة تتناسب كثيرا مع غرض العتاب، الأمر الذي يفسّر كثرة وروده في القصيدة. وكذلك سهولة نطق اسم الفاعل الثلاثي وتناغم أصواته المشكلة له، جعلت المتنبي يكثر من استعماله، في حين أنّه لم يوظّف اسم الفاعل من غير الثلاثي إلاّ مرّة واحدة، وبالتالي فإنّ صيغ اسم الفاعل وافقت دلالتها على الحدوث كما ورد عن اللغويين، وإن اختلف هذا التغيّر من صيغة لأخرى حسب السياق الواردة فيه، وذلك لأنّ اسم الفاعل يقع وسطا بين الدلالة على الحدوث والثبوت.

  • دلالة أبنية اسم المفعول في القصيدة

       لم يكن للمشتق اسم المفعول حظّ الورود في القصيدة مقارنة مع بقية المشتقات، إذ ذكر في موضعين اثنين فقط، وفي كليهما أتى على زنة (مُفْعَل) لأنّه صيغ من فعل غير ثلاثي، وذلك على النحو التالي:

(مُغمدة) على وزن مفعلة، وهي اسم مفعول صيغ من الفعل الثلاثي المزيد (أغمد) حين ذكر المتنبي:

قد زرته وسيوف الهند مُغمَدة       وقد نظرت إليه والسيوف دم[19].

وردت كلمة مغمدة اسم مفعول لأنّ فعل الإغماد وقع على السيوف؛ أي أنّ هناك من أغمد هذه السيوف، وهي في هذا البيت من القصيدة كناية عن حالة السلم، لأّنه قابلها في الشطر الثاني بحالة الحرب وعبّر عنها بالسيوف دم[20]، ودلّ على حالة متغيّرة.

(مُرهَف): كلمة مشتقة من الفعل المزيد (أرهف) حين قال:

حَتّى ضَرَبتُ وَمَوجُ المَوتِ يَلتَطِوجُ المَوتِ يَلتَطِمُ

حَتّى ضَرَبتُ وَمَوجُ المَوتِ يَلتَطِمُ

ومُرْهَفٍ سِرْتُ بَيْن الجَحْفَلَين بِه          حَتَّى ضَربتُ وَمَوْجُ المَوتِ يَلْتَطِمُ[21]

       والمراد بالمرهف السيف الرقيق الشفرتين[22]، حيث حذف الشاعر المنعوت وهو السيف، وأقام النعت مقامه وهو دقيق حادّ الطرف، ودلالته ثابتة لأنّه وصف للسيف، والملاحظ أنّ الشاعر استعمل اسم المفعول لحاجة السياق إلى ذلك خاصة في تدقيق الوصف وتثبيته.

  • دلالة أبنية الصفة المشبّهة:

وردت أبنية الصفة المشبّهة في القصيدة في سبعة مواضع، أتت على أشكال مختلفة نجملها على النحو التالي:

  • بناء فَعِل: إنّ هذا البناء في الصفة المشبهة كما يرد في صيغة المبالغة، ويتمّ التمييز بينهما بالرجوع إلى السياق الذي يعدّ فيصلا بين الدلالات.

(شبم): على وزن فعل هي صفة مشبهة في قول الشاعر:

وَا حرَّ قَلباهُ مِمَّن قلبُه شَبِمُ         ومنْ بجسمِي وحالِي عندَهُ سَقَمُ[23]

جاء في لسان العرب:”شبم؛ الشبم بالتحريك: البرد، يقال ماء شبم ومطر شبم وعداة ذات شبم، وقد شبم الماء بالكسر فهو شبم”[24]. ويقول أحمد مختار عمر:” شبم صفة مشبهة تدلّ على الثبوت من شبم”[25]، واستشهد ببيت المتنبي هذا.

       إذن شبم هي صفة مشبهة من الفعل المجرّد الثلاثي المكسور العين اللازم (شبم) تدلّ على حالة ثابتة ، وهي أنّ البرود صفة ملازمة لقلب سيف الدولة وليست متغيّرة، وأنّه لا يبالي به- المتنبي- أيّا كان حاله  حتّى لو كان الشاعر سقيما وصاحب القلب البارد لا يعبأ بشكوى الآخرين، لذلك يشكو المتنبي من ذلك القلب الذي لا يلتفت إلى تأوّهه ومعاناته وهو يكنّ له  كلّ الحب فيقول قلبي حار وقلبه بارد لا اعتناء له بي، “والعرب تكنّي بحرارة القلب عن الاعتناء وببرده عن الإعراض والترك”[26].

       كما وردت في النص صيغتا (فَعْل وفَعَل) نحو قوله (الخصم) و(الحكَم) هما صفتان مشبهتان من الفعلين خصم وحكم، أنشد المتنبي:

يَا أَعْدَلَ النَّاسِ إِلاَّ في مُعامَلَتِي            فِيكَ الخِصَامُ وَأَنْتَ الخَصْمُ وَالحَكَمُ[27].

حيث نعت المتنبي سيف الدولة الحمداني بالخصم والحكم، ولم ينعته بمشتق اسم الفاعل؛ ليكسب المعنى الثبوت.

وفي قوله:

أعيدُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقة           أن تحسَبَ الشَّحم فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ[28].

       وبناء (صادقة) على وزن فاعلة، دلالتها ليست للحدوث والتغيير وإنّما للثبوت، لأنّ الشاعر يصف سيف الدولة بأنّ نظراته صائبة دوما في التمييز بين حقائق الأمور.

  • دلالة أبنية صيغ المبالغة في النص الشعري:

  من الواضح البيّن أنّ صيغ المبالغة تشبه اسم الفاعل في الدلالة، غير أنّها تزيد عنه في القوّة أو التكرار لكثرة اتصاف الفاعل بالفعل أو الصفة، وعليه لم يكن لصيغ المبالغة حضور قوي في النص الشعري حيث وردت في ثلاثة مواضع، وهي:

  • بناء فعيل: (شديد الخوف) صيغة مبالغة مركبة تجلت في قوله:

قد نابَ عَنكَ شَديدُ الخَوفِ وَاصطَنَعَت         لَكَ المَهَابَةَ ما لا تَصنَعُ البُهَمُ[29].

دلت الصيغة على المبالغة والتكثير، وهي تركيب بالإضافة ملازمة أكثر من الصفة للموصوف، فعبّر الشاعر بهذا البناء عن أقصى درجات خوف العدوّ من سيف الدولة.

  • بناء فعال: مؤنثه فعّالة تكرر هذا البناء مرتين في القصيدة، نحو قوله فرّاسة؛ وهي مشتقة من الفعل افترس حين قال المتنبي:

وَجَاهِلٍ مَدَّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكِي         حَتَّى أَتَتْهُ يَدٌ فَرَّاسَةٌ وَفَمُ[30].

يصف المتنبي شدّة بطشه بعدوّه، ومن جهة أخرى فإنّ الافتراس يكون للحيوان واستعماله لهذه الصيغة ليدل بها على مدى شجاعته.

ج- (الوخّادة): تمثلت في قوله:

أَرَى النَّوى تقتضيني كُلَّ مَرحَلَةٍ        لاَ تَستَقِلُّ بِها الَوخَّادَةُ الرُّسُمُ[31].

فاللفظة مشتقة من الفعل وخذ، وخذ البعير يخذ وخدا ووخيدا ووخدانا، أسرع وتوسّع الخطو فهو وخّاد ووخود[32].

والمراد بها في هذا البيت الشعري الإبل السريعة السير، وظفها الشاعر ليدل بها على معاناته ومرارة بعده عن سيف الدولة حتّى لكأنّ هذا النوّى ؛ أي البعد لا تطيق شدة أهواله الناقة السريعة السير.

       وبالتالي نقول عن هذه الصيغ الثلاث للمبالغة جاءت لتزيد القصيدة وضوحا وتقوية للمعنى ومبالغة فيه، ممّا أتاح للسياق الانفتاح على عدّة صور ودلالات شخصت الأشياء المعنوية في هيئة حسيّة.

دلالة اسم المكان:

       أحصي لاسم المكان أربعة أسماء من القصيدة، وهي: (مُعترَك)[33]للدلالة على مكان أو ملتقى الحرب، و(مجلِس)[34]دل على مكان الجلوس والاجتماع، وإضافته إلى الضمير الجمعي دليل ذلك – في أغلب الظن- أنّه كان يقصد الأشراف والسادة المجتمعون في المجلس. وفي كلمتي (مرحَلة)[35]الدالة على الانتقال من مكان لمكان، وكلمة (مكَان)[36]الدالة على المكان الذي لا يوجد به صديق مؤنس.

الوصف بالمصدر:

       كشفت الدراسة عن اعتماد بعض المصادر بمعنى المشتقات من خلال التراكيب في أسلوب خاصّ سمّاه النحاة (الوصف بالمصدر)، لذا نلفي المتنبي يوظف المصادر للوصف بدلا من الوصف بالمشتق، وفي هذا يقول ابن جنّي (ت392هـ):” إنّما انصرفت العرب للوصف بالمصدر لأمرين أحدهما صناعيّ؛ الذي يزيدك أنسا بشبه المصدر للصفة التي أوقعته موقعها، كما أوقعت الصفة موقع المصدر في قولك: أقائما والناس قعةد؛ أي تقوم قياما والناس قعود. والآخر معنوي؛ أي حين يوصف الموصوف بالمصدر يكون كأنّه مخلوق من ذلك الفعل لكثرة تعاطيه له واعتياده إيّاه”[37].

       فابن جنّي يقول كما تحلّ الوصف محل المصدر، كذلك يحلّ المصدر محلّ الوصف، ومن المصادر التي جاءت بمعنى المشتقات للوصف في القصيدة، ما يلي:

(سقم) على زنة (شبم) وهذا من أجل إظهار المبالغة في الوصف، ومدى معاناة الشاعر من الحال التي آل إليها.

وفي قوله:

فوّت العدوّ الذي يمّمته ظَفْرٌ       في طيّه أسف في طيّه نعم[38].

       عبّر الشاعر بالمصدر (ظفر) لأنّ المسألة هنا لابد لها من ظافر ومظفور به، فاستعان المتنبي بالمصدر للوصف بغرض تثبيته والمبالغة فيه من جهة درجة أنّ سيف الدولة بات معتادا على هذا الظفر، ومن جهة أخرى لملائمة الوزن العروضي.

       وفي البيت:

أَكُلَّمَا رُمتَ جَيْشًا فَاِنثَنى هَرَبًا       تَصَرَّفَت بِكَ في آثارِهِ الهِمَمُ[39].

      وفّق الشاعر حين عبّر بالمصدر (هربا) ولم يستعمل اسم الفاعل (هاربا)، فوصف هرب العدوّ بالمصدر بدلا من اسم الفاعل هارب للمبالغة في الوصف، وللدلالة على أنّه اعتاد الهروب وأكثر من تعاطيه له؛ أي أنّ الأعداء يخافون سيف الدولة بمجرد أنّهم يعلمون بنيته وقصده، ولم يستخدمه المتنبي لمجرّد وزن البيت.

وجاء في النص الشعري قوله:

يَا مَنْ يَعِزُّ عَلينَا أَنْ نُفَارِقَهُم       وِجْدَانُنَا كُلُّ شَيْءٍ بَعْدَكُمْ (عَدَمُ)[40]

       وظّف المصدر (عَدَمُ) بدلا من الوصف بالمشتق (معدوم)، لأنّه يريد كلّ شيء يصير معدوما بعد مفارقته لسيف الدولة، فدلّ المصدر على مشكلة النتيجة الحتمية للفراق، فكان أقوى في وصفه باعتباره يحمل في طيّاته كلّ معاني الفناء والخسارة، وكان أيضا مناسبا للبنية العروضية.

       هذه المباني الاسمية التي تمّ رصدها على اختلاف أصنافها، أسهمت إسهاما فعّالا في توهّج الدلالات المناسبة للغرض الذي كان يبتغيه الشاعر من وراء القصد.

خاتمة:

       ومن نافلة القول أنّ ثمة علاقة جدلية بين علم الصرف والدلالة؛ وهي قائمة على محور التأثر والتأثير فيما بينهما، فالأبنية الصرفية عادة تعرف بأنّها قوالب للمعاني، وصيغ للمباني، وأيّ تغيير في البناء الصرفي للكلمة يؤدي ذلك إلى تغيير المعنى، وعليه يمكننا حصر النتائج المتوصل إليها ضمن النقاط التالية:

  • احتلّ اسم الفاعل مكان الصدارة في الحضور ثماني مرّات، فالصفة المشبهة بسبع مرّات، فاسم المكان أربع مرات، ثمّ صيغة المبالغة ثلاث مرات، وأخيرا اسم المفعول الذي ذكر مرتين في القصيدة.

   وما أظهره البحث حول موضوع القصيدة ومضمونها (العتاب، والفخر، والمدح) الشعري كان له بالغ الأثر في تحديد المباني الاسمية المستثمرة في النص والمساهمة في توجيه دلالته توجيها سياقيا متميّزا.

مراجع البحث:

[1]– ينظر: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، جلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أحمد جاد المولى بك وآخرون، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، دط، دت، ج1، ص:346.

[2] – ينظر: المشتقات الدالة على الفاعلية والمفعولية، سيف الدين طه الفقراء، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1، 2005م، ص:109.

[3] – ينظر: معاني الأبنية في العربية، فاضل السمرائي، دار عمار، الأردن، ط2، 2007م، ص:41.

[4] – ينظر: دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، دط، د ت، ص:174.

[5] – معاني الأبنية في العربية، فاضل السمرائي، ص:41.

[6] – الديوان، المتنبي، ص:332.

[7] – العرف الطيّب في شرح ديوان أبي الطيب، ناصف اليازجي، ص:363.

[8] – الديوان، المتنبي، ص:332.

[9] – العرف الطيب في شرح…، ناصف اليازجي، ص:364.

[10] – الديوان، المتنبي، ص:322.

[11] – شرح ديوان المتنبي، العكبري البغدادي، ص:334.

[12] – في التشكيل اللغوي للشعر، مقاربات في النظرية والتطبيق، ص:180

[13] – الديوان، المتنبي، ص:332.

[14] – الديوان، المتنبي، ص:332.

[15] – العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيّب، ص:364.

[16] – الديوان، المتنبي، ص:332.

[17] – الديوان، المتنبي، ص:332.

[18] – المصدر نفسه، ص: نفسها

[19] – المصدر ن، ص: نفسها.

[20] – العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب المتنبي، ص:362.

[21] – م ن، ص:ن.

[22] – م ن، ص:ن

[23] – المتنبي، الديوان، ص:331.

[24] – لسان العرب، ابن منظور، مج4، ص: 189.

[25] – معجم اللغة العربية المعاصر، أحمد مختار عمر، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 2008م، ج2، ص:161.

[26] – شرح ديوان المتنبي، العكبري البغدادي، ص:331.

[27] – الديوان، ص:331.

[28] – الديوان، ص:332.

[29] – الديوان، ص:332.

[30] – الديوان، ص:332.

[31] – الديوان، ص: نفسها

[32] -المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مادة (وخد) ص:1020.

[33] – عَلَيْكَ هَزْمُهم فِي كُلِّ مُعْتَرَكٍ       وَمَا عليْكَ بِهِم عَارٌ إِذَا انْهَزَمُوا.

[34] – سَيَعلَمُ الجَمْعُ مِمَّن ضَمَّ مَجْلِسُنا        بِأَنَّنِي خَيْرُ مَنْ تَسْعَى بِهِ قدَمُ.

[35] – وردت في البيت الثاني والثلاثين، ينظر: الديوان، ص:332.

[36] – وردت في البيت الخامس والثلاثين ، ينظر: الديوان، ص:332.

[37] – الخصائص، ابن جنّي (ت392ه)، ج3، ص: 259.

[38] – ينظر: الديوان، ص:331.

[39] – م ص، ص: نفسها.

[40] -م ص، ص: نفسها.

*جامعة حسيبة بن بوعلي- الشلف/الجزائر

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of