إن للمدارس العربية والإسلامية دور كبير في ترويج اللغة العربية في الهند، وتوجد آلاف من المدارس الإسلامية والمعاهد الدينية على طول البلاد وعرضها، وأنجبت هذه المدارس والمعاهد العلماء والدعاة والأدباء والمفكرين الذين وضعوا المناهج التعليمية، والمقررات الدراسية في العصور المختلفة. واللغة العربية هي من أهم اللغات العالمية في العصر الحديث وهي لغة القرآن والحديث ولغة العرب المسلمين ولغة المصادر والمراجع للعلوم الإسلامية. ولا يزال المسلمون يعتنون بهده اللغة نطقا وكتابة وقراءة وخطابة مهما اختلفت أمصارهم وتفرقت بلدانهم وتباينت لغاتهم بسبب كونهم في أنحاء مختلفة من العالم. وكما نعلم أن الهند تنقسم إلى ولايات، وكل ولاية تختلف عن الولايات الأخرى لغة وثقافة ورواية، وتوجد في كل ولاية المدارس الإسلامية والعربية التي قامت بخدمات جليلة وأنجبت كوكبة من العلماء ونخبة من المفكرين، ولا تغمض عين عن إسهاماتهم وخدماتهم في اللغة العربية وآدابها. وتاريخ الهند حافل بإنجازاتهم القيمة. ولكن الآن أصبح مقررات مدارس العربية والإسلامية محل نقاش حاد ما بين العلماء والمثقفين الهنود، حول كيفية إصلاح المناهج التعليمية لكي يتسنى لأبناء المسلمين التسلح بالعلوم الإسلامية وكذلك الإلمام بالعلوم الحديثة في آن واحد.
والمقررات الدراسية وبرامجها ومناهج تدريسها وتعليمها خاضعة للحاجات المتطورة، ومسايرة للمقتضيات المتجددة، لأن المقررات الدراسية إن كانت منفصلة عنها لا يمكن لها أن تترك آثارا بعيدة على الحياة الراقية الجديدة. والمناهج والبرامج التعليمية ليست كأداة واحدة لا مرونة فيها بل هي كأداة قابلة للنمو والتطور تخضع لحاجة كل عصر ومقتضاه، وتتدفق بالقوة والحيوية. والمقررات الدراسية السائدة في المدارس العربية والإسلامية في حاجة إلى أن تحذف بعض المواد التقليدية التي لا حاجة لها الآن. وأن تضاف فيها بعض العلوم العصرية الضرورية، مثل العلوم، والعلوم الاجتماعية، والتكنولوجية، والإقتصادية والسياسة والتاريخية والجغرافية والرياضيات بالإضافة إلى تدريس اللغة الإنجليزية. والجدير بالذكر أن تعديل المقررات الدراسية لا يجلب الأموال والمنال والسمعة والحصول على الوظائف الحكومية فحسب، بل إنها تساعد لتسديد المقتضيات المطلوبة والمتطلبات المعاصرة، وفيما يتعلق بإدخال اللغة الإنجليزية بالمقررات الدراسية فإنها لا تتبنى على إعداد المثقفين المحدثين بل تنوي لإعداد المبلغين والدعاة الصالحين للطبقة المثقفة من المجتمع البشري. وأتناول في هذا البحث عرضا شاملا للمدارس الإسلامية الكبيرة الواقعة في شمال الهند وجنوبها بالتركيز الخاص على الجامعة الإسلامية/ دارالعلوم ديوبند، ودارالعلوم ندوة العلماء لكناؤ بولاية أترابراديش، وجامعة دارالهدى الإسلامية بكيرلا،وهذا الموضوع واسع المجال لا يمكن حصره في أطروحة وجيزة،
لقد ظل الصراع محتدما في شبه القارة الهندية خلال آواخر الثمانينات من القرن المنصرم ولايزال حتى الآن حول كيفية إصلاح المناهج التعليمية لكي يتسنى لآبناء المسلمين التسلح بالعلوم القديمة والإلمام بالعلوم الحديثة في آن واحد. وللمدارس الإسلامية والعربية علاقة وثيقة باللغة العربية وآدابها، لإن اللغة العربية هي لغة الدين الإسلامي منذ بزوغ فجر الإسلام، ومازال ولايزال المدارس الإسلامية يخدمون هذه اللغة التي نزل بها القرآن وتحدث بها خاتم المرسلين. وفي بلاد الهند برز رجالا الذين قاموا بإسداء الخدمة العظيمة لهذه اللغة العربية ولم يتركوا فيها ثغرة ولا فراغاإلا وقد سدوها بذكاتهم وعبقريتهم وبعكوفهم على أداء المسؤلية تجاه اللغة العربية. وأنشئت المدارس العربية والإسلامية في الهند في عهد الحكومات الإسلامية المختلفة كالغزنوية والغورية والخلجية والتغلقية والمغولية وغيرها، وجاء في هذه المدة الطويلة العلماء الكبار والمحدثون العظام والأدباء البارعون إلى الهند، وواستوطنوا مختلف أصقاعها وأرجائها وتركوا أثارا واضحا في مجالات شتى.
وأولوا المسلمين اهتمامهم بنشر العلوم الدينية والتراث الإسلامي في هذه البلاد، ولكن ما كانت المباني والمراكز موجودة للدرس والتدريس كما توجد الآن في أرجاء الهند، وبهذا الصدد يقول أبو الحسنات الندوي: في الزمن القديم ما كانت المدارس موجودة مثل المدارس اليوم وليست لها مباني خاصة بل تستخدم المساجد وفناءها لأجل التدريس والتعليم فالمسجد القديمة كانت مركز العلم والمعرفة ولا يوجد أي مسجد كبير لا يؤدي خدمة المدرسة، وخلال زمن المسلمين كانت تتغير عاصمة الحكومة وتتنقل من مكان إلى مكان آخر، فالمدن الشهيرة مثل دلهي وآغره ولاهور وجونفور وأحمد آباد أصبحت عاصمة الهند في العصور المختلفة، وبدون شك أقيمت مساجد عديدة في المدن المشهورة وزينت فيها مجالس العلم والأدب، وإذ أنها مفقودة اليوم ولكن آثارها ما زالت باقية اليوم وخاصة عمارتها تتكلم عن مجالس التدريس وزينتها، ونحن نرى كثيرا من الغرافات والحجرات على جميع جوانب المسجد القديمة، وهي في الحقيقة كانت تستخدم لإقامة الطلاب والمعلمين فالمسجد فتحبوري، ومسجد اكبر آبادي قد تم بناءها في دلهي مع الحجرات في جميع الجوانب مع الساحة الواسعة، ولا شك مثل هذه المساجد اليوم أيضا مراكز العلم والعرفان، ويقصد إليها الطلاب ويحصلون فيها العلوم الإسلامية والأدبية مع الفنون الأخرى، وكذلك نحن نرى كثيرا من المقابر مع الحجرات هذه المقابر للعلماء الكبار والسلاطين كانت تؤدي خدمات التدريس، وأن هيئة المقابر الواقعة في دلهي مثل مقبرة همايون، وكذلك المقابر الواقعة في مدينة آغرة وأحمد آباد تشير بأنها كانت تستعمل للتدريس والتعليم”[1]. فظهرت وزهرت ثم تقلب بها الرياح فأصابها اعصار من نار الفقر فاحترقت. ويقول أبوالحسن على الندوي في كتابه “المسلمون في الهند” :قد أنجبت الهند رجالا شهد لهم علماء العرب بالفضل وعكفوا على كتبهم ومؤلفاتهم ينقلون ويقتبسون ويستدلون ويحتجون، وقد أنجبت كذلك علماء يندر نظيرهم في الذكاء وخصوبة الفكر والابتكار العلمي، وأنجبت كذلك فضلاء لا يضارعون في كثرة المؤلفات والانتاج، وقد أنجبت من الملوك رجالا ينفردون في حسن سياستهم وتنظيمهم للدولة وسن القوانين العادلة وفي فضائلهم الخلقية والعلمية والجمع بين الدين والدنيا[2]
مناهج دارالعلوم ديوبند
تأسست الجامعة الإسلامية/دارالعلوم ديوبند في عام 1283ه/ 1866 م إثر انتهاء الثورة الهندية ضد الحكم الإنجليزي الغاشم. وكما نعلم أن الغزو الإنكليزي للهند كان غزوا سياسيا وثقافيا ودينيا يستهدف التقاليد القومية الهندية بصفة عامة والتراث الثقافي الديني الاسلامي بصفة خاصة لتمهيد غرس الثقافة المسيحية ونشرها وترويجها بين أهالي الهند، وبعد تأسيس الحكم البريطاني اغلقت المعاهد التعلمية الإسلامية في مدينة دلهي ولاهور وآكره وجونبور وغيرها من المدن. وتوقفت التبرعات من الأمراء والأثرياء التي تعتمد عليها المدارس الإسلامية بقائها ونشاطاطها، وصارت الأوقاف والمؤسسات الخيرية ملكا للقوة المستعمرة. واتجهت الحكومة البريطانية عنايتها إلى طمس هوية المسلمين. وتوقفت تعيين القضاة المسلمين، وقامت جمعيات تبشيرية ومراكز الدعوة المسيحية بنشاطات هائلة في مختلف انحاء البلاد، وكان من الأهداف الرئيسية توجيه هجمات مركزة ضدالاسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وبعد تصفية كبار العلماء المسلمين وابادة معاهدهم التعلمية، شن دعاة المسيحية حملة شعواء لتشويه العقيدة الاسلامية وتمثيلها بكل طريقة ممكنة وابراز المسيحية بكل ما فيها من مغزيات مادية تنفيذا لخطتهم لاستهواء جماهير الشعب الهندي لاعتناق الدين المسيجي. وكان هذاجزء لسياسة الإنكليز للاستيلاء على البلاد عن طريق الغزو الديني والثقافي. وهذه الأوضاع خلقت بالطبع تحديدا خطيرا للإسلام والمسلمين حيث لم يعد من الأيسر ابقاء البسطاء والضعفاء من المجموعة المسلمة على دينهم وعقيدتهم في وجه الاعاصير المسيحية. وشعرت العلماء خطوته فنهضت لكي تكافح الاستعمار الانكليزي وخطتها الشنيعة الخبيثة الرامية إلى محو آثار الإسلام والمسلمين من هذه البقعة من العالم بعد أن حكموها لقرون عديدة فاجتمع العلماء من منطلق ايمانهم بالدين الاسلامي الحنيف وغيرتهم الدينية في بلدة تهانه بهون بمحافظة مظفر ناجر لاستعراض الموقف وماكان فيه من اخطار للأمة المسلمة وثقافتها وهويتها المميزة. فاستقر الرأي على اختيار زعيمهم الحاج امداد الله (1231 – 1317ه /1815- 1899م) قائدا لهم في نضالهم من أجل المحافظة على الشعلة المتضائلة للعقيدة والايمان وحماية المجموعة المسلمة من غزو الالحاد والمسيحية. وشارك هؤلاء العلماء في معركة التحرير المعروفة لعام 1274ه/ 1857م وحاربوا الجيش البريطاني في بلدة شاملي ولكن توقفوا عن القتال حين بلغهم الخبر عن سقوط دلهي واعتقال بهادر شاه ظفر وأصبحوا يركزون عنايتهم على ايجاد سبل ووسائل كفيلة بحفظ العقيدة الاسلامية من ارجاس الحضارة الغربية. وبدأ العالم الجليل مولانا محمد قاسم النانوتوي (1248 – 1297ه /1832 – 1897م) وزملاءه ورفاقه يتأملون في النواحي الشتى للأوضاع الراهنة واجتمعوا على اقامة سلسلة من المعاهد التعليمية الدينية في مختلف المناطق في آن واحد، وقرروا انشاء أول معهد من هذا النوع في بلدة ديوبند بولاية أترابراديش، وتنفيذا لقرارهم وضع حجر أساس لمدرسة في ديوبند في 15 محرم 1283ه/ 11 مايو 1866م معروفة اليوم بأم المدارس في مشارق الأرض ومغاربها، وبإقامة هذه المدرسة رد هؤلاء العلماء ردا مسكتا على الخطة التعليمية التي رسمها الاستعمار الانكليزي بهدف انشاء جيل في الهند يكون هندي النسل واللون وأوربي الفكر والذهن حيث كان غرضهم من التعليم ايجاد جيل يكون بلونه وعنصره هنديا ويتنور قلبه وعقله بنورالإسلام ويموج نفسه بالعواطف الاسلامية ثقافة وحضارة وسياسة. ثم اقيمت مدارس أخرى عديدة على غرار مدرسة ديوبند في مختلف المناطق. ولولا دارالعلوم وعلماؤها المخلصون وجهودهم المتفانية للحفاظ على دينهم شكلا وروحا لكانت تلك الحركات نجحت في تشوية الاسلام والنيل من عقيدة المسلمين.
ومما يدل على مدى الخدمات الجليلة التي كانت ولا تزال تقوم بها دارالعلوم بوصفها حصنا منيعا للاسلام بدون أن تتباهى باعمالها أوتتفاخر بخدماتها أو تتورط في الدعاية من أي نوع. أن عدد من تخرجوا فيها حتى الآن 100000 أو يزيد في مختلف المراحل والأقسام التعليمية والتربوية، و منهم من اقبلوا على هذا المنهل العلمي من البلدان الخارجية مثل افغانستان وروسيا والصين واستراليا وجنوب أمريكا وانجلترا وبورما وماليسيا واندونيسيا والعراق وايران وجنوب أفريقيا وسري لنكا و زامبيا والعربية السعودية واليمن ونيبال. ويضاف على هذا عدد كبير ممن لم يكملوا دراسة المنهاج الدراسي للدار بل اكتفوا بقراءة القرآن والمنهج الابتدائي للغة الفارسية واللغة العربية ويربوا عددهم على500، 3. أما المؤلفات التي صدرت عن الدار في العلوم المختلفة من التفسير والحديث والفقه والأدب باللغتين العربية والأردوية فيبلغ عددها عدة آلاف.
المنهج الدراسي: ويشتمل المنهج التعليمي للمدرسة على معظم ما يدرس من مواد عديدة في المدارس العربية والكليات الشرعية الإسلامية وكليات أصول الدين والدراسات العليا في الجامعات العربية ومما يدل على اعتناء هذه المدرسة بتدريس الأدب العربي أنه تدرس مختارات منه نثرا ونظما من المرحلة الإبتدائية إلى المرحلة العليا، وقد قام علماء هذه الدار بتصنيف آلاف من الكتب على موضوعات التفسير والحديث وأصول الفقه والفرائض وفلسفة التوحيد والكلام ومجموعات ضخمة من الفتاوى، وهذه هي الحقيقة أنه لا تقل آثارهم الأدبية المتمثلة في النثر والنظم والمقالات والتراجم والحواشي والتقاريظ والمعاجم وكتب الصرف والنحو[3]. ومن الهدف الأصلي للمنهج الدراسي من دارالعلوم ديوبند هو أن يكون المتخرجون منها علماء متقنين ماهرين في العلوم والفنون، فوضع القائمون عليها في المنهج الدراسي كتبا من كل علم وفن من التفسير الحديث وما يتعلق به، والفقه وأصول الفقه والعقائد والكلام والصرف والنحو والبلاغة والأدب والمنطق والفلسفة والرياضي وما إلى ذلك. ففي التفسير تدرس في الجامعة تفسير الجلالين وفي أصول التفسير الفوز الكبير لشاه ولي الله الدهلوي وفي الحديث مشكواة المصابيح والكتب الستة والشمائل للترمذي وسنن ابن ماجة ومؤطا الإمام محمد وشرح معاني الآثار. وفي أصول الحديث نخبة الفكر،وفي العقائد شرح العقائد النسفية وفي الفرائض مختصر السراجي وما إلى ذلك. ويشتمل المنهج الدراسي للجامعة على جميع المراحل الدراسية الإبتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية.
قررت الجامعة منذ بدايتها تدريس تفسير الجلالين الذي قام بتأليفه كل من الشيخ جلال الدين أحمد بن محمد المحلي وعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ويجري تدريس من أوله إلى آخره قبل البدء في تدريس دواوين الحديث. ويلزم على كل طالب أن يدرس الصرف والنحو والبلاغة بإتقان وإمعان حتى يتمكن من أن يدرك إشارات المفسرين ويعلم مافي القرآن الكريم من النواحي البلاغية، ثم زاد في المنهج الدراسي كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير للشاه ولي الله الدهلوي. ويلتحق الطلبة في هذا القسم بعد إكمال مرحلة الجامعية من نفس الجامعة، وأنشئ هذا القسم في العام 1350ه.
دراسة الحديث: الحديث شرح لقرآن الكريم، ومصدر أصيل للتشريع الإسلامي، واعتنت الجامعة بعلوم الحديث الشريف عناية خاصة، وأصبحت دراسة الحديث من حيث الجامعية بين الرواية والدراية والتفقه بأسلوب يستوعب جميع النواحي العلمية في شرح الحديث والتطبيق بين الروايات المتضاربة فيما بينها. وعلماء الجامعة بذلوا جهودهم القيمة في تدريس علوم الحديث ونشرها في العالم. وأسس دارالحديث للجامعة في 20 من شهر ربيع الآخر عام 1330ه بإعانات الشباب المسلم الهندي وعلى أيدي العلماء الكبار أمثال الشيخ محمود حسن الديوبندي المعروف بــــ”شيخ الهند” وحكيم الأمة الشخ أشرف على التهانوي، والمحدث الجليل خليل أحمد السهارنفوري المهاجر المدني والشيخ عبد الرحيم الرائفوري رحمهم الله تعالى. واعتنى ببنائها الشيخ أشرف على التهانوي والشيخ محمد أحمد نجل حجة الإسلام محمد قاسم النانوتوي رحمهم الله تعالى. ومنذ ذلك بدء تدريس دواوين الحديث فيها ومازال يتخرج منها عدد كبير من طلاب الحديث([4]). وزاد عدد الطلاب يوما فيوما حتى بلغ عدد المتخرجين كل سنة مابين أربعة مائة إلى خمسة مائة.
إن دراسة الحديث وعلومه في دارالعلوم أصبجت الميزة الأولى الرئسية من بين مزاياها الكثيرة. يقول الشيخ أبوالحسن على الحسني الندوي: “وقد ظهرت لدارالعلوم ميزة خاصة وهي العناية بتدريس الحديث الشريف بتعمق واهتمام ولذلك لما زار العلامة السيد رشيد رضا المصري[5] صاحب مجلة الغراء الصادرة من القاهرة دارالعلوم ديوبند وحضر دروس العلامة السيد أنور شاه الكشميري شيخ الحديث بدارالعلوم قال:”مارأيت مثل هذا الأستاذ الجليل قط” [6]. ولما زار دارالعلوم واطلع على حلقات تدريسها قال:”لولا رأيتها لرجعت من الهند حزينا”[7] وقد قال في تقديمه لكتاب “مفتاح كنوز السنة”: “لولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر، لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت في مصر، والشام، والعراق، والحجاز منذ القرن العاشر للهجرة، حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل القرن الرابع عشر”[8] ونجد في الدار عناية زائدة بتدريس الحديث الشريف مع أدب واحترام، ودراسة مقارنة، ومحاكمة استدلالية، وإثبات المذهب الحنفي وترجيحه. وأن الدروس تلقى في غاية التدقيق والتحقيق مع الاهتمام الزائد ببيان أسماء الرجال، وتحديد الرواة، والبحث عن متون الأحاديث وأسانيدها، وبيان المذاهب الأربعة المتبعة مع أدلتها في غاية التحقيق والتفصيل من غير تعسف، ترى في حلقة الحديث طلابا تختلف مذاهبهم وآراءهم إلا أنه لا يجرح شعورهم في بيان الأدلة وعرض المذاهب والمناقشة فيها.
ومن أجل الخصائص التي عرفت بها دارالعلوم في دراسة الحديث مايلي:
- إلقاء الضؤء على غرض الشارع من النصوص التي يعتصم بعراها أهل كل مذهب من المذاهب الأربعة، وإن كان هناك فيه شئ من الغموض فيشرحونه شرحا يرتاح له القلب.
- إنهم يعتنون أشد اعتناء بإفصاح منشأ ما وقع بين الأمة من الاختلاف البين في الأعمال التي جرى التعامل بها- مأثورا- في الأمة كرفع اليدين، وتعيين مواضعه، والوتر وتعيين ركعاته، وصلاة الجمعة وشروط أدائها، وما شاكلها من المسائل الأخرى التي تباينت فيها الأقوال يعتنون – في الدرس- كثيرا بهذه الناحية ويقربون هذا الاختلاف إلى أذهان الطلبة، حتى يعرفوا أنه لم يكن بد من هذا الاختلاف، وأن أصحاب المذاهب معذورون فيه، وهذا أمر مهم جدا وأن الإهمال لهذ الجانب يفضى إلى سؤء الظن بالتعامل والنقل، وإنه أقوى حجة في الباب.
- إنهم لايتعصبون لأقوال الأحناف بل يحرصون دائما على الأخذ بالكتاب والسنة، والعمل بما يوافق السنة الصحيحة، وإن كان يخالف ذلك آراء الأحناف، عملا بما روي عن الإمام الأعظم من أنه ما صح عن الرسول صلي الله عليه وسلم فهو مذهبي.
- إنهم يوجهون الطلاب إلى ما في الأحاديث من نواحي خلقية، لتكون حياتهم طاهرة نقية متحلية بالأسرة النبوية.
- وذلك مع كمال التأدب مع الأئمة والأعلام والاحترام لآرائهم فلا يصدر من أحد – من قول أو فعل- ما يمس كرامة الائمة وعلماء الأمة السابقين، بل جميع الطلبة والأساتذة يخضعون لمكانتهم العلمية الكبيرة السامية، ويشكرون لجهودهم الجميلة المشكورة، وأعمالهم الرائعة في نشر الدين وحفظه.
- وانهم يفضلون بين ما تعارض من الروايات قدرما أمكن، وإذا رجحوا مذهبا ومالوا إلى العمل بحديث لم يهجروا ما عارضه أيضا ولا التجأوا إلى تضعيفه، بل جعلوا له محملا يرتاح له القلب وتطمئن به النفس[9].
بيد أن حالة العلوم العربية الاسلامية وعلمائها في عصر الحكم الانكليزي بدأت تتدهور بصفة منذرة بالسوء من جراء الخطة التعليمية التي وضعها المستعمرون للقضاء على روح الدين الاسلامي الحنيف انطلاقا من شعورهم بأنها تجسد أكبر قوة صامدة تعترض سبيلهم لاستبعاد الشعب الهندي واستغلاله جسدا وروحا وذلك عن طريق إبادة تراثه الثقافي والعلمي والأخلاقي. ويقول السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي: “إن أكبر معهد ديني في الهند يستحق أن يسمى أزهر الهند هو معهد ديوبند الكبير، بدأهذا المعهد كمدرسة صغيرة لا تسترعي الاهتمام ثم لم تزل تتوسع وتتضخم بفضل جهود أساتذتها والقائمين عليها وإخلاصهم وزهدهم في حطام الدنيا حتى أصبحت جامعة دينية كبيرة بل كبرى المدارس الدينية في قارة آسيا”[10]. وبعد تأسيس دارالعلوم ديوبند أنشئت معاهد عربية إسلامية بعدد كبير في الهند من أمثال مدرسة مظاهر العلوم، ومدرسة شاهي إمام بمراد آباد بولاية أترابراديش، والمدرسة الإمدادية في دربهنكا بولاية بيهار ومدرسة مفتاح العلوم ودارالعلوم و فيض عام في مئو، والمدرسة العالية النظامية لكناؤ، والمدرسة العالية في رامفور، والجامعة العربية والإسلامية في سورت بولاية غجرات، والباقيات الصالحات في ويلور في شانئ وكذلك تأثرت جميع المراكز الإسلامية بمنهج ديوبند الإسلامية فراجت مقرراتها الدراسية وعمت أساليبها التعليمية ودعوتها الإصلاحية، حتى لم تنجح من أثر ديوبند تلك المدارس الإسلامية التي أسست لمعارضة الأفكار الديوبندية و طريقها التعليمي والتي حاولت أن تسلك في إعداد مناهجها الدراسية مسلكا يختلف تماما عن المناهج الدراسية الديوبندية، وذلك بإدخال بعض الإصلاجات في المقررات الدراسية النظامية وعلماءها القائمين بها لم ينالوا نجاحا تاما في هذا، وجذبت هذه المدرسة عددا من خيرة البلاد وأنجبت رجالا هم محاسن الدنيا ونجوم الأرض ومفاخر المسلمين، وأخرجت عددا كبيرا من العلماء الصالحين والرجال العاملين والمصلحين المحتسبين في ميادين العلم والدين الذين انتشروا في جميع أنحاءالهند لنشر الإسلام وتعاليم القرآن والدعوة والتبليغ.
أنجبت هذه المدرسة عددا كبيرا من النوابغ وأئمة الفنون الإسلامية وأصحاب الإبداع والابتكار والاصالة العلمية، وكانوا فاتحي آفاق جديدة ليس في العلوم الدينية كالتفسير والحديث والفقه والعقائد فحسب بل في علوم اللغة والأدب العربي، وأقرلهم علماء العرب بإمامة الزعامة فيها، وعدت كتبهم من المراجع الرئيسية في هذه العلوم، وبعضها فريد لا نظيرله في المكتبات الإسلامية العالمية، وأمدت هذه المدرسة الحركة العلمية والتأليفية في العالم الإسلامي والعربي في بعض العلوم الإسلامية وعمودا فكريا لكيان اللغة الغربية في الهند.
مناهج دارالعلوم ندوة العلماء لكناؤ
تأسست ندوة العلماء في نهاية القرن التاسع عشرتحت قيادة العالم الرباني السيد محمد علي المونغيري في حفلة عقدها كبار علماء الإسلام للتشاور في ظروف المسلمين السائدة وأوضاعهم الراهنة، حين اشتدت وطأة الاستعمار الإنجليزي عليهم، وأصبحت المدنية الغربية الزاحفة إلى الشرق، تبهر عيون السذج والطبقة المتعلمة منهم، وفي نفس الوقت كان رجال العلوم الدينية في جدال وعراك على خلافاتهم الفقهية، واختلافاتهم المذهبية، غير مبالين بالأخطار المحدقة بالإسلام والأمة الإسلامية. وركزت ندوة العلماء مهمام عملها في إصلاح النظام التربوي والتعليمي وتطويره حسب مقتضيات الحياة الإسلامية الراهنة، وصياغته صياغة جديدة لتتفق مع حاجات الحياة الإسلامية المعاصرة. وتصحيح المفاهيم الدينية الإسلامية وإخضاعها لما ثبت من الكتاب والسنة، ودعم الفكر الإسلامي الصحيح عن طريق الكتابة والتأليف والترجمة والنشر والدعوة الإسلامية. فمن أعظم الأهداف وأهمها هو القيام بإصلاح النظام التعليمي والتربوي وتطويره وصياغته صياغة تتفق مع حاجة الحياة الإسلامية المعاصرة ومقتضياتها كمايقول مؤسس ندوة العلماء مولانا محمد علي المونغيري:” قد تغيرت الظروف والأحوال في هذا العصر، إن الاعتراضات التي شغلت العقول وحلقات الدرس قديما قد فقدت أهميتها وقيمتها، وانقرضت الفرق التي كانت تثيرها وتتشبَّث بها، وأصبح العكوف على دراستها وتفهمها إضاعة للوقت وجهادا في غير عدو، وقد نشأ عالم جديد وتجددت حاجاته، وقد أثار أعداء الإسلام وخصومه أسئلة جديدة في هذا العصر لم تكن تخطر على بال، وذلك في ضوء الفلسفة الجديدة، ولا يمكن إشباع الرد عليه والاقتناع العلمي بالاعتماد على الفلسفة القديمة فقط. وإن زعم زاعم، والسبب في ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يحل الشبهة ويفحم الخصم إلا إذا عرف ما يؤول إليه الاعتراضات وعرف الدوافع”[11] وكما رفض العلامة شبلي النعماني المنهج القديم والعلوم العقلية الرائجة آنذاك رفضا شديدا وأوصى بالتعديلات اللازمة حسب متطلاب العصر فهو يقول:”إن هذه العلوم اليونانية ليست علومنا الدينية ولا يتوقف عليها فهم ديننا ومعرفته، إن الإمام الغزالي في عصره قد ضم هذه المواد الدراسية إلى مناهج التعليم في عصره لكي يطلع العلماء على الأساليب الجدلية اليونانية التي نشطت في نشرها الفرقة الباطنية في ذلك العصر ويقاوموا بذلك حركة الإلحاد المتفشى في ذلك العصر، ولكن الآن لا وجود لأولئك الملاحدة ولا لتك العلوم اليونانية، ولا يعتقد صدقها وصحتها المتنوّرون ولا من يدعي الفطنة، لذلك فقدت تأثيرها ولا خطر على الإسلام اليوم منها، وقد احتلت مكانها علوم حديثة وقضاياه جديدة ودراسات وأبحاث جديدة، وقد أصبح من الضروري أن يطلع علماءنا على الأبحاث الجديدة والعلوم العصرية المفيدة ليقدموا حلولا للمعضلات الحديثة وليردوا على الشبهات ردا علميا مؤسسا على الدراسة والتحقيق[12]“
يقول سماحة الأستاذ السيد أبوالحسن علي الحسني الندوي عن حركة ندوة العلماء:”وكانت حركة ندوة العلماء فكرة ومدرسة فكرية، أكثر من حركة إصلاح مناهج التعليم فحسب، وكانت – لوقدرالله- خطوة مباركة وفتحا جديدا يستحق التقليد في الأقطار والمجتمعات الإسلامية التي خاضت في ذلك العهد معركة الصراع بين القديم والجديد، ولكن هذه الحركة لم تحظ بالتعاون الواسع المتحمس الذي كانت تستحقه من كلتا الطبقتين، القديمة والجديدة، لاتساع الفجوة بينهما، ولوجود التطرف والمغالاة فيهما، وبعض الخلافات التي حدثت في صفوف العاملين لهذه الفكرة، وأخيرا لا آخرا لعدم وجود طبقة من الأساتذة والموجهين الذين قد تبحروا في الثقافتين، وقد أحسنوا هضمها وكونوا من هذه المواد- التي قد تبدو متناقضة- رحيقا صافيا نافعا، كما تعمل النحلة من الأزهار والأشجار، وبقى معظم الشعب يتأرجح بين طبقتين، طبقة ترى العدول عن القديم ونظمه التعليمية والانحراف عنها قيد شعرة ضربا من التحريف، أو نوعا من البدع، وطبقة تقدس كل ما جاء من الغرب وتبرئه من كل عيب ونقص، وتعتقد بأصحابه العظمة والعبقرية، في جميع الآراء والمذاهب الفكرية”[13]
وركزت دارالعلوم ندوة العلماء جهودها توثيق الصلة باللغة العربية العصرية ورجالها، واستخدمت في ذلك جمع الوسائل الكفيلة بتطوير الذوق العربي الحديث، وإحداث ملكة الكتابة والخطابة بهذه اللغة بدون تضحية الذوق والكفاءة لفهم العربية القديمة لكيلا تضعف قوة فهم الكتب القديمة، ومراجع العلوم الإسلامية، وكان هذا العمل المنشود عملا خطيرا وصعبا، لأن الجمع بين الذوقين الذوق الكلاسيكي والذوق العصري قد يبدو مستحيلا، لكن الجامعة وفقت إلى أكبر حد بوجود شخصيات عملية عربية وهندية مخلصة كالدكتور تقي الدين الهلالي المراكشي (م 1407) والشيخ خليل بن محمد العربي اليماني وبفضل جهود هذين العالمين أنجبت ندوة العلماء الجيل الأول من المتذوقين باللغة العربية العصرية، وعلى رأسهم العلامة الشيخ أبو الحسن على الحسني والشيخ مسعود عالم الندوي وناظم الندوي.
لم يوجد الاهتمام البالغ باللغة العربية وآدابها في المنهج النظامي وكان يكتفي على تدريس في الأدب العربي نفحة اليمن والمعلقات السبع ومقامات الحريري وديوان المتنبي والحماسة، والأدب في نظر واضعي ذلك المنهج كان مجموعة الألفاظ المأثورة وليس تعبيرا عن الحياة وتصويرا لها، فكان الاهتمام في أدب هذا المنهج هو حل اللغات وشرح مواضع الاستشهاد في النحو والصرف، بغض النظر عن مواضع الجمال والتطبيق العلمي، والنقد، فلم يحدث ذوقا أدبيا ولا قدرة كتابة وخطابة بالأسلوب المعاصر، مما أدى إلى جمود فكري وانغلاق. والمنهج الدراسي لتعليم اللغة العربية الذي وضعه أبناء ندوة العلماء ومقر تدريسه فيها وفي كثير من المدارس الأخرى لجدير بأن يحتذى ويطبق، فقد اثبت جدواه، وخرج فعلا الكثير من المتمكنين من العربية، القديرين عليها نطقا وخطابة وتأليفا وتصنيفا، وقد اعترف بفضلهم وتميزهم المتخصصون من أهل البلاد وغيرهم من فضلاء العرب. قام خريجوا ندوة العلماء بإعداد كتب دراسية في كثير من العلوم والفنون كالتفسير والحديث والفقه واللغة والأدب والنقد والتاريخ والجغرافية والنحو والصرف والبلاغة والفكر وتوعية الدارسين للعلوم الإسلامية بالتيارات الفكرية المعاندة للإسلام والحركات الهدامة، ونقل الفنون العربية البدائية التي كانت تدرس حتى الآن باللغة الفارسية، خاصة في النحو والصرف والبلاغة إلى اللغة الأردية، وتسهيل بعض الكتب العربية، فأعدوا سلسلة من المؤلفات في هذه الفنون حسب مستوى الطالب والمراحل التعلمية، فنشأت بجهودهم العلمية مكتبة قيمة لتغذية الفكر الإسلامي ودعمه للتصدي أمام الغزو الفكري وحملة المستشرقين وتضليلهم.
ركزت خريجوا دارالعلوم لندوة العلماء عنايتها إلى إعداد مواد دراسية لتسد حاحة العصر، وتملأ الفراغ، وتلائم الذوق الأدبي المتطور من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة العليا، فنالت الكتب الدراسية القبول العام، وأدخلت في المقررات الدراسية في المدارس الدينية والعربية والجامعات والكليات الرسمية، ومن ناحية أخرى أولت مؤسسة ندوة العلماء من أول يومها العناية الخاصة باللغة العربية والإتقان فيها واستخدامها كلغة حية راقية، لأنها لغة مفتاح كنوز الكتاب والسنة، وإنها تعد من أعظم اللغات وأوسعها انتشارا. وعلم بأن هناك محاولات تبذل من قبل المستشرقين وتلاميذهم لتحطيم اللغة العربية ومسخها تحت مظلات وأسماء براقة من التجديد والتحديث والتقدم والتطور.
تأسست ندوة العلماء على مبدأ التغيير والإصلاح في نظام التعليم الديني وفي منهاج الدرس الغربي، فحذفت وزادت وغيرت وأصلحت في منهاج التعليم، وحذفت المقدار الزائد من كتب المنطق والفلسفة اليونانية، وأعطت القرآن حقه من العناية وألزمت تدريس القرآن والحديث، وزادت مقدار دراسة اللغة العربية وآدابها، لأن اللغة العربية والأدب العربي مفتاح كنوز الكتاب والسنة، والرابطة الأدبية مع الشعوب الإسلامية. وأضافت العلوم العصرية كالجغرافيا والتاريخ والعلوم الرياضية والسياسية والاقتصادية ليطلع العلماء على مقتضيات العصر، وأنست بين ما كان من أهل المذهب والطوائف الفقهية كالحنفية وأهل الحديث من مشاجرات عصبية. يقول الأستاذ الكبير سيد أبو الحسن علي الحسني الندوي وهو يتحدث عما وجدت اللغة العربية والعلوم العصرية من الاعتناء إثر تأسيس دارالعلوم لندوة العلماء: ” عنيت دارالعلوم بصفة خاصة بالقرآن الكريم- الرسالة الخالدة – وتدريسه ككتاب كل عصر وجيل، وعنيت باللغة العربية التي هي مفتاح فهمه وأمينة خزائنه، ووجهت عنايتها إلى تعليم هذه اللغة الكريمة كلغة حية من لغات البشر يكتب بها ويخطب، لا كلغة أثرية دارسة لا تجاوز الأحجار أو الأسفار كما كان الشأن في الهند وقللت قسط بعض العلوم القديمة التي لا تفيد كثيرا وأبدلتها ببعض العلوم العصرية التي لا غنى عنها للعالم العصري الذي يريد أن يخدم دينه وأمته، واجتهدت أن تخرج رجالا مبشرين بالدين الإسلامي الخالد لأهل العصر الجديد شارحين للشريعة الإسلامية بلغة يفهما أهل العصر وبأسلوب يستهوي القلوب، أمة وسطا بين طرفي الجمود “[14].
يقول الأستاذ سعيد الأعظمي الندوي عن عناية ندوة العلماء باللغة العربية “قام رجال ندوة العلماء وأبناؤها قبل الجميع بهذه الخطوة الثورية التي كانت تعتبر بدعة لدى كثير من الناس وركزوا على هذه النقطة تركيزا قويا ووضعوا منهاجا جديدا للتعليم وجعلوا اللغة العربية هي لغة تدريس المواد العلمية وبهذا أنقذوا الأدب العربي من ذلك الحصار الضيق الذي كان محبوسا فيه بين المقامات الحريرية، ونفحة اليمن والعرب وديوان المتنبي، إنهم أخرجوه لأول مرة إلى الجو الواسع حيث تنفس الصعداء ونال مجالا واسعا جدا للتطور والتقدم والتوسع، فخرج من أساليب السجع والقوافي والتصنيع المتين إلى أسلوب طبيعي أصلي، ودخل في جميع أصناف العلم والفن، وعرف الناس أن الأدب العربي ليس كما كانوا يزعمون محصورا بين عدة كتب لا يمكن أن يتجاوزها إلى غيرها من الشئون الحيوية والثقافات المتنوعة، وأن اللغة العربية أصعب اللغات لا يمكن التكلم بها والتعبير بها عن ذوات الصدور”[15].
ومن ميزات دارالعلوم لندوة العلماء إدراج الكتب الحديثة واللغة الإنجليزية في مقرراتها إلى جانب المنهج القديم من العلوم الإسلامية والآداب العربية، فأجاد المتخرجون في هذه الدار التحدث باللغة العربية وآدابها، حتى إنهم بعض الأحيان فاقوا أقرانهم المتخرجين في هذه المدارس الدينية الأخرى، وهكذا نال المنهج الدراسي الذي اتخذته ندوة العلماء قبولا واسعا فتبعته معاهد عديدة أخرى في مختلف أنحاء البلاد. واتبعت ندوة العلماء المنهج الجديد بكل إخلاص، وأنقذت الأدب العربي من ذلك الحصار الضيق التي كان محبوسا فيه بين المقامات الحريرية ونفحة اليمن والعرب وديوان المتنبي. يقول الدكتور عبد الحليم الندوي: “كانت أول خطوة قامت بها ندوة العلماء هي التعريف بأهدافها وبرامجها الخاصة بإصلاح التعليم، ونشر بعض التعديلات الضرورية التي رأت من الواجب إدخاله على المنهج الدراسي المتبع آنذاك، وبعد ما لاحظ علماء الندوة أن الجو قد تهيأ لهم وأن الأمة وجميع الأوساط التعليمية والفكرية في البلاد قد رحبت بهذه الفكرة، أسسوا معهدا خاصا في سنة 1310ه بمدينة لكناؤ … ومن مميزات دارالعلوم لندوة العلماء أنها أسست كمعهد وسط بين الجامعات العصرية والمعاهد الدينية الأخرى، إذ أن القائمين بأمر إدارة هذه الدار كانوا يرون أن أصول الدين الحنيف شئ لا يقبل التغير والتبدل، في حين أن العلوم الأخرى شئ يتغير مع تغير الزمن، ولذا أصبح من الضروري تعديل المناهج المدرسية حسب متطلبات العصر[16]. لعبت دارالعلوم لندوة العلماء دورا هامافي ترويج ونشر اللغة العربية وآدابها في الهند من خلال الكتابة والخطابة والصحافة والإنشاء، وشغفت بهذه اللغة أكثر من اللغات، بل وأكثر من اللغة الأم، وعاشت لها وبها وفيها، وتنقلت في جوها، وقاتلت دونها، وحافظت على عرضها وشرفها في هذه البلاد الواسعة التي زخرت باللغات والآداب والثقافات، فأصبحت ساحة عربية خضراء في صحراء قاحلة جرداء، وحملت رايتها، وثبتت قضيتها منذ عهد بعيد، حيث لم تكن لهذه اللغة الكريمة كثير أنصار وأعوان، ولم يكن لها هذا النفوذ والسلطان الذي نجده الآن”[17]. وقد التحق كثير من الطلاب بعد إكمال التعليم في ندوة العلماء في الجامعات الكبرى في الهند وخارجها نال شهادة الماجستير والدكتوراة في مواد مختلفة، ونالت جهودهم العلمية والأدبية والبحثية قبولا واسعا واعترافا علميا عالميا، خاصة في الحديث النبوي الشريف، والفقه الإسلامي، واللغة العربية وأدابها، والتاريخ، والسير، والفلسفة، والتعليم، ويرأس عدة من الندويين المراكز والأقسام المختلفة في الجامعات الهندية الكبرى وخارجها، ويعمل عدد من أبناء الندوة في مراكز علمية ودعوية في خارج الهند.
اعتنت بإجراء التعديلات والإصلاحات المعاهد العربية الإسلامية الأخرى المقررات الدراسية التقليدية كــــــــ”مدرسة الإصلاح” في مديرية أعظم جراه، و “الجامعة الإسلامية السلفية ” بمدينة بنارس، وتعتبر هاتان المدرستان من ام المدارس العربية في الهند بعد ندوة العلماء، فبذلت كلتاهما جهودا جبارة في تحرير المسلمين الهنود من المقررات الدراسية العقيمة التي كانت رائجة في البلاد، ومن الخلافات الفقهية التافهة التي كانت شغل شاغلا للطبقة المحافظة التقليدية، وقاوم خريجوا هاتين المدرستين الآثار السلبية للاستعمار الإنجليزي، والإرساليات التبشيرية التي كانت تعمل ليل ونهار ضد المسلمين والثقافة الإسلامية، ومن جانب آخر ركز أصحاب هاتين المدرستين عنايتهما على تعليم اللغة العربية وتعميم الأدب العربي، وقد حظي القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وعلومهما في هاتين المدرستين بمكانة الصدارة، وللمعلم حميدالدين الفراهي في هذا الشأن فضل كبير ودور ريادي، لأنه قد ترك بآثاره الرائعة بصمات عميقة على أفكار العلماء الذين يهتمون بالأدب العربي، وبفنون البلاغة والفصاحة والنقد، وأما الجامعة السلفية فلها دور أكبر في تعميم التعاليم الإسلامية السمحة، وإقلاع البدع والخرافات والتقاليد العمياء التي كانت فاشية في الهند، وسلكت هذه الجامعة جميع السبل والمسالك في تطوير الأدب العربي خطابة وكتابة ودراسة منذ تأسيسها في سنة 1383ه/ 1963م، فأصبحت من أهم المدارس العربية الإسلامية والجامعات العصرية في الهند بعد دارالعلوم لندوة العلماء، ولقيت خدماتها الجليلة في مجال الأدب العربي قيولا واسعا في الأوساط العلمية والأدبية والدينية في الهند وخارجها[18]” المحاولة الأخرى لإصلاح المناهج الدراسية ولتعديل الدرس النظامي بعد ندوة العلماء هي جامعة دارالسلام عمرآباد، تأسست الجامعة 1928م بولاية تاملناد بجنوب الهند، على أساس مبدأ الجمع بين القديم والحديث، وتبلغ مدة الدراسة فيها تسع سنوات، وتهتم المدرسة بالحديث والتفسير والفقه والأدب والتاريخ. وأسس مدارس كثيرة في الهند تتبع منهج ندوة العلماء منها دارالعلوم تاج المساجد ببهوفال وكاشف العلوم في أورنج آباد لولاية مهاراشتر والجامعة الإسلامية بهتكل بولاية كرناتكا، والجامعة الإسلامية بأعظم جراه.
جامعة دار الهدى الإسلامية وخدماتها في تأهيل جيل عربي متكامل
وفي الثمانينات من القرن العشرين بدأت الأوضاع تتغير في جميع المجال، وأخذت العلوم الحديثة والتكنولوجية تتخذ مكانا مرموقا مابين العلوم الأخرى، واحتاج العلماء إلى إجراء التعديلات في المناهج الدراسية، ولنيل هذا الهدف قام رجال لسد هذا الفراغ وبإدخال التعديلات والإصلاحات الأساسية في المنهج الدراسي، وإقامة مدرسة دينية أكثر اعتناءا بالعلوم العصرية الحديثة المنسجمة مع متطلبات العصر. وحدثت فجوة كبيرة مابين العلوم العصرية والعلوم الدينية، وقام أبناء الأمة الإسلامية الهندية لمواجهة هذه التغيرات والفجوة الواسعة التي حالت بين العلوم العصرية والعلوم الدينية فأسسوا المدارس والجامعات لملأ الفراغ الهائل بين النظامين التعليمين. وبدأت المدارس الهندية الدينية تفتح صفحة جديدة في تاريخها، من خلال إدخال جوانب تعليمية حديثة وتكنولوجيا في المناهج التي تقوم بتدريسها، بالاضافة إلى اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم والدراسات الاجتماعية، على تغيير الصورة النمطية لتلك المدارس. وإن عملية التحديث للمدارس الدينية يفيد المجتمع بشكل كبير، وخريج المدارس الدينية التي جرى تطوير وتحديث مناهج التعليم الخاصة بها الالتحاق بكليات الطب والهندسة وإدارة الأعمال أو أي حقل من حقول التعليم الجامعي الأخرى، ومن ثم أصبح من السهل معرفة السبب وراء اكتساب المدارس الدينية لتلك الشعبية في صفوف الطلاب الطموحين الذين يريدون الانخراط في مسيرة تعليمية حديثة. وبدأت عملية التغيير والتحديث تعم غالبية المدارس الإسلامية التقليدية بالهند في الوقت الحالي. وتوجد في جنوب الهند كثير من المدارس الإسلامية الذين يتبعون نظام تعليم مزدوج، وتعطي للطلاب الفرصة القيمة لتلقي العلوم الدينية والعلوم العصرية، و تدرس في هذه المدارس والجامعات الدينية المواد التي يجري تدريسها في المدارس والكليات والجامعات الهندية الرسمية، وفي رأي، هذه ثورة تحديث وتطوير صامتة لتحديث تلك المدارس التي لم تعد تخرج جيوشا من العلماء في الدين الإسلامي فقط، بل تخرج أيضا أطباء ومهندسي برمجيات الكمبيوتر، والكثير من التخصصات الأخرى. وإنها خطوة كبيرة للتعليم الإسلامي، وهذه خطة التحديث ستمكن الطلاب في شتى أنحاء الهند من الحصول على الوظائف التي يرغبون فيها.
من ميزات هذه الجامعة إدخال الكتب الحديثة والعلوم العصرية في مقرراتها إلى جانب المنهج القديم من العلوم الإسلامية واللغة العربية وآدابها، فأجاد المتخرجون في هذه الدار التحدث باللغة العربية، واتبعت المنهج الجديد بكل إخلاص. وإن إنشاء مثل هذه الجامعة حاجة ملحة للعصر الحاضر، وفرض كفاية للمسلمين جميعا حيث توجد حياة إسلامية جاذبة مع وجودجو ديني يشرف عليه أساتذة مدربون ويطلعون على طرق التدريس، لأن مدارسنا اليوم في حاجة إلى الأساتذة الذين يقومون بتدريس العلوم الدينية بمعرفة كاملة لفلسفة التربية ومناهج التدريس حتى يستطيع كشف مواهب الطلبة ثم استخدامها بما ينفع العقيدة الإسلامية. ومن أبرز ميزات الجامعة الجمع بين العلوم الجديدة الصالحة مع العلوم القديمة النافعة، وهذه الميزة لا توجد في المدارس الإسلامية إلا قليلا، وكم من مدرسة اقتدت منهج جامعة وسلكت مسلكها الوسطية واهتدت إلى سواء السبيل. ومن هذه الجامعات والمدارس جامعة دارالهدى الإسلامية في مالابرم كيرالا.
نظرة خاطفة على الجامعة: تُعد الجامعة “دارالهُدى الإسلامية “من صميم الجامعات العربية الهندية التى لها مناهج عربية متميزة، تقع في ولاية كيرالا الهندية الجنوبية،-اكثر الولايات الهندية تعليماً وثقافة- ومن أهدافها غرس حب اللغة العربية في قلوب الطلبة والطالبات منذ الصغار ومن ثم تشجيعهم على المُمارسة الكتابية من خلال عقد جلسات وتنظيم ورشات عربية وندوة أدبية من حين وآخر ، تأسست الجامعة عام 1986 من الميلاد على يد نخبة أساتذة الكرام، أمثال فضيلة الشيخ العلامة ام محمد بشير مسليار( 1941-1987) وهو كان عميد الكلية الأول، وفضيلة الشيخ الاستاذ سي ايش عيدروس مسليار(1930-1994م) والدكتور يو بافوتي حاجي (1929-2003م) والشيخ شريف سيد عمر على شهاب الدين (1941-2008م) وفضيلة الاستاذ محمد (1944-2010م) وفضيلة الشيخ العلامة شرشيري زين الدين مسليار. والآن الدكتور بهاء الدين محمد الندوي يرأس الجامعة ويحاول استرداد التعليم الاسلامي إلى منظره الأصلي حيث تفكرو عن تركيب شامل يحتوى على العلوم الدينية والعصرية الروحية والمادية على حد سواء. ويقع الحرم الجامعي المترامي الأطراف لهذه الجامعة العريقة على مساحة 13فدانًا من الأراضي بمدينة ملافورم، ويضم ما يزيد على 20 كلية عربية من ولايات كيرالا، تعاقدت الاتفاقية مذكرات التفاهم مع كثير من الجامعات الهندية والدولية، وهي تلقى تقديرًا يعادل مكانة كبار الجامعات، مثل جامعة الأزهر بالقاهرة، والجامعة الإسلامية الدولية في كوالالمبور، وجامعة طرابلس، وجامعة أم درمان الإسلامية في السودان، وجامعة العظيم الأزهري في الخرطوم، وجامعة المصطفى الدولية في إيران، وجامعة يلدرم بايزيد في تركيا، وجامعة الفتح في إسطنبول بتركيا، وجامعة الكويت، وجامعة الزيتونة في تونس. علاوة على أن الجامعة عضو في اتحاد جامعات العالم الإسلامي بالمغرب، ورابطة الجامعات الإسلامية بالقاهرة. استأنف كثير من خريجي الجامعة دراستهم ما فوق الجامعية بالخارج، في المؤسسات الكُبرى مثل جامعة كاليفورنيا في بيركيلي، وجامعة الإسلامية الدولية في ماليزا، وجامعة الأزهر بمصر، وجامعةلايدن في هولندا.
وأن المناهج الدراسية الحديثة الغربية مع ما فيها من العلوم الاجتماعية والبشرية والعلوم الطبيعية والنظرية والتطبيقية من العلوم الحديثة، هي تخالف تماما قيم الإسلام لما أنها تعتقد أن الدين وشعور القداسة حاجزا في طريق الترقية والتمنية وذلك أن الغرب يستخدم مؤسساته العلمية للتحريض على إنكار الدين والشعائر المقدسة ولتوسيع الهوة بين الإسلام والمسلمين، فاعترافا بهذه الحالة الخطرة حيث إن العلوم الحديثة المصاغة في قالب الغرب تعجز عن اشتمال القيم الدينية وتنكر وجود القوة الإلهية، وتحاول جامعه دارالهدى الإسلامية تحقيق نصة فكرية في الإسلام والمسلمين، ليس في مسير حياتهم فحسب بل في أساليب التعليم والتربية الحديثة. وأما بالنسبة للكليات الموجودة داخل الجامعة، فتشتمل الجامعة حاليا على 5 كليات: كلية الشريعة وأصول الدين، وكلية الألسن، وكلية الدعوة والثقافة الإسلامية، وكلية التربية والتعاليم الإسلامية. وقام أساتذة الجامعة بتأليف الكتب وترتيب المقررات الدراسية الحديثة للغة العربية العربية من حيث دراسة وقراءة، حيث تجذب إليها عقول الطلاب الناشئين والدارسين في المرحلة الثانية والعالية في الجامعة. والجدير بالذكر أن كثيرا من خريجي هذه الجامعة يخدمون أساتذة ومدرسين في قسم اللغة العربية بالجامعات والكليات والحكومية وغير الحكومية. وقد حصل عديد من الطلاب من الجامعات الهندية وخارجها شهادة ماجستير ما قبل الدكتوراة وشهادة الدكتوراة في اللغة العربية. وقام وخريجها بترجمة الكتب والمقالات العربية إلى لغتهم التي نالت قبولا واسعا بين أهالي مليبار.
منهج الدراسة. تتميز منهج دراسة الجامعة عن المدارس والجامعات الإسلامية الأخرى. بحيث لا تتقيد المنهج الدراسي بالمنهج النظامي أوبــــ “الدرس النظامي” بل قام مؤسسو الجامعة من أول يومها باستعداد منهج تعليمي سليم تلائم العصر والظروف. ومنهج المقررات الدراسية لجامعة دارالهدي الإسلامية مشتملة على العلوم الإسلامية كالتفسير والحديث والفقه والعقيدة واللغة العربية، وكذلك يحمل في طياتها العلوم العصرية مثل العلوم السياسية والجعرافية والرياضية واللغة الإنجليزية والمليبارية والتكنولوجية حسب منهج CBSC.
نهج الجامعة: جامعة دارالهدى الإسلامية ترى في خريجها عالما إسلاميا ذا قدرة على العودة إلى المراجع الدينية الزاخرة في فروع المعارف الإسلامية والتي وضعها علماء موهوبون خلال القرون الماضية، كما أنه يكون واقفا على أوضاع العالم الحديثة وذا مهارة في الأفكار والفلسفة ونحوها من العلوم المختلفة، فيتمكن على الربط بين مبادئ الإسلام وحقائق العصر الحالي، والتعامل مع الفلسفة والأساليب والأنظمة الحديثة للمحتويات التربوية المادية العلمانية، كما يقدر هو على ترجمة الحقائق التراثية للإسلام إلى لغة العصر الحديث دون اندراس روحيتها ومعنويتها ويقوم بإظهار الإطار المعرفي والمفاهيمي للإسلام في أي من الظروف. فهذه المهمة الحرجة بل المقدسة لا يتم تحقيقها إلا إذا كان الطالب مدرعا بالإيمان الراسخ، مخلصا في الإسلام والإحسان والأفكار، غير مشغوف بضجات الحداثة وزخارفها. ومع ذلك ينبغي أن يكون ممن ينظر إلى العالم بمنظار المبادئ الإسلامية، كما ينبغي أن يكون غير مبتلى بشعور الدونيوية الفكرية عندما يواجه الغرب، فعليه أن يجترئ على التمسك والتفاخر بقيم التراث الإسلامي مع ما فيه من ثروات فكرية وروحية ومعان تحتاج إليها الإنسانية، حتى لا يرى الإسلام مجرد دين بسيط خال تماما من المعاني الروحية كما هو الحال عند بعض الجهلاء.يكون الخريج قادرا على دراسة الإسلام كحقيقة حية، مؤكدا على أبدية الحقائق التي شملتها التعاليم الإسلامية حيث يتوفر لديه كل ما يحتاج إليه لتحقيق التفاهم بين الفرق المختلفة داخل الأمة المسلمة نفسها ولإقامة حوار مع سائر الإديان. فهذه الجامعة تقوم بتزويد طلابها بالمواد الحديثة والعلوم العصرية مع الموضوعات الدينية، الإ أنها لا تستهدف وظائف حكومية أو إنتاج مهنيين وفنيين مسلمين، بل كل ما تطمحه وتريده هو إنتاج كتلة من العلماء والدعاة الإسلامية ذوى وعي تام عن العالم المعاصر وعن الإتجاهات والأيدلوجية الحديثة[19]
نالت الجامعة مكانة مرموقة بين العلماء والمثقفين بتوفير العلوم الإسلامية والعصرية في وقت واحد وبصورة كاملة. وبالعكس نرى أن الطلاب الذين يلحتقون في الجامعة الإسلامية/دارالعلوم ديوبند، لا يجدون الفرصة لدراسة العلوم العصرية مثل ما نرى في هذه الجامعة، ولا الطلاب في دارالعلوم ديوبند يملك شهادة سنة العاشر وشهادة سنة اثنتين وعشر وشهادة البكالوريوس، و معظم الطلاب لا يستطيعون قراءة اللغة الإنجليزية بطرق صحيح وبنطق سليم. والمتخرجون من هذا المدارس يواجهون المشاكل العديدة في سبيل الوظائف المتوفرة في هذا العصر لعدم توفر المواد العصرية في المقررات الدراسية الرائجة في المدارس الدينية، وعلى هذا الأساس يحتاج المنهج الدراسي النظامي في المدارس الإسلامية والمعاهد العربية إلى إصلاح وتعديلات كما قامت المدارس الإسلامية في جنوب الهند. ولمثل هذه الجامعات الإسلامية والمعاهد العربية نتائج إيجابي ومثمر، ويزداد عدد الطلاب فيها، وهم يرغبون في الالتحاق بهذه المدارس لأن الدراسة فيها توسع آفاقهم العلمية والثقافية والاقتصادية عن طريق إيجاد الفرص المتنوعة في مجالات شتى، وهكذا تمهد لهم الطرق العديدة في سبيل بناء المستقبل الرائع بسعة مجالات الحياة وتعزيز الحياة الاقتصادية التي يعتمد عليها صلاح المجتمع، وصلاح هذه البلاد. وهذا المنهج التعليمي يمثل دورا رياديا في بناء الجيل الناشئ الصالح والشباب المسلم أرقى أمة من حيث العلم والأدب والثقافة والحضارة. وتم وضع هذا المنهج في ضوء الظروف الراهنة من قبل علماء الدين الكبار الذين لهم خبرة واسعة في شئون التعليم، والمثقفين الذين لهم معرفة كافية في مجال الثقافات وما تقتضيه الظروف والأوضاع الراهنة. وإنشاء مثل هذه الجامعة والمدارس حاجة ماسة في العصر الحاضر، وهذه المدارس والجامعات تقلل الفجوة بين التعليم المدني والتعليم الديني، وبين المتخرجين بين المدارس الدينية والجامعات العصرية.
والآن أصبحت الجامعة جامعة نموذجية للمدارس الإسلامية والجامعات الدينية الآخرى المنتشرة في أرجاء الهند، وكما نعلم جيدا أن دارالعلوم ندوة العلماء تأسست للجمع بين القديم الصالح والجديد النافع وللجمع بين العلوم الإسلامية والعصرية ولكن مع مرور الزمن قد فقد أهميتها ونسي رسالتها، وسار على خطواته ومناهحه الجامعة التي تجمع بين مقرراتها الدراسية العلوم الإسلامية والعصرية في آن واحد. وتؤمن الجامعة على مساير ركب الحياة، ومكافحة التخلف في التعليم وكذلك تدريس العلوم الإسلامية ودراستها بنظرية جديدة في ضوء الأوضاع الراهنة، وتدريس العلوم العصرية والفنون الحديثة وبث الوعي التعليمي العصري في المسلمين وتعرفهم على أهمية هذه العلوم الحديثة من ميزاتها، ومؤسسوا هذه الجامعة يرى أن من لم يهتم بهذه العلوم العصرية فيكون خاسرا في الحياة اليومية والاجتماعية والاقتصادية ولا يرى نجاحا من بعد في الحياة الآتية، ولا يكون مستقبلها زاهرا رائعا، وهو يكون متخلفا في جميع مجالات الحياة، فهذه الجامعة تؤدي خدمة جليلة في سبيل تعليم الشعب المسلم الهندي وبناء مستقبل زاهر. وبعد إكمال الدراسة في الكلية معظم الطلاب يواصلون تعليمهم ويلتحقون بالجامعات الهندية وخارجها ويجدون أمامهم آفاقا رحبا من الوظائف والمناصب العالية الحكومية أو غير الحكومية. وقد تخلف المسلمون في الأيام المتأخرة تخلفا في مجالات شتى لم يستطيعوا أن ينهضوا منه حتى الآن، فلا نجد نسبتهم في الوظائف الحكومية والمناصب الجيدة إلا أقل بقليل بالطوائف الأخرى في هذه البلاد، ونظرا لتخلف المسلمين في مجالات السياسة والاقتصاد يجب عليهم أن يهتموا بهذه العلوم العصرية والفنون الحديثة اهتماما بالغا لتعزيز أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، ولرقى المجتمع الإسلامي علما وأدبا وثقافة وحضارة، ولبناء مكانتهم العليا بين الأقوام الآخرين على مستوى البلاد، حتى يكونوا قوما فعالا في بناء المجتمع الصالح ويساهموا في رقي البلاد وازدهارها من النواحي المختلفة. وبعد دراسة المناهج الدراسية لهذه الكلية الإسلامية والجامعات والعربية يمكن لنا أن نصل إلى النتيجة أن الأوضاع والظروف الراهنة التي يمر بها المسلمون، هم في حاجة إلى أن يعتنوا بالعلوم العصرية والفنون الحديثة التي فيها صلاح الفرد والمجتمع ورقي البلاد وازدهارها من النواحي المختلف
الهوامش:
[1] أبو الحسنات الندوي، هندوستان كي قديم درسكاهين، دارالمصنفين أعظم جره بولاية أترابراديش الهندـ سنة الطباعة غير مذكورة، ص 16
[2] أبو الحسن على الحسني الندوي، المسلمون في الهند، دار ابن كثير دمشق بيروت، الطبعة الأولى، ص 10
[3] الدكتور زبير أحمد الفاروقي، مساهمة دارالعلوم ديوبند في الأدب العربي، دارالفاروقي، دلهي الجديدة، الطبعة الأولى 1990م ، ص 21، 22.
[4] مائة وسبعة عشر عاما للجامعة الإسلامية دارالعلوم، ديوبند، ص : 22، 32.
[5] زار الهند على دعوة من المشرفين على منظمة ندوة العلماء، لحضور حفلتها السنوية الثالثة عشرة سنة 1230/ 1912م.
[6] أبو الحسن علي الحسني الندوي، أضواء على الحركات والدعوات الدينية والإصلاجية ومدارسها الفكرية ومراكزها التعلميمة والتربوية في الهند، ص :25
[7] المصدر السابق ص: 24
[8] المصدر السابق ص 25
[9] محمد عبيد الله الأسعدي القاسمي دارالعلوم ديوبند ط أكاديمية شيخ الهند دارالعلوم ديوبند 2000م. ص 184
[10] أبو الحسن على الحسني الندوي، المسلمون في الهند، دار ابن كثير دمشق بيروت، الطبعة الأولى، ص 129
[11] أبوالحسن علي الحسني الندوي،الصراع بين الفكرة الإسلاميةوالفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية”ص 67.
[12] حياة شبلي للعلامة السيد سليمان الندوي، نقلا عن الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية ص 67
[13] أبوالحسن علي الحسني الندوي،ندوة العلماء مدرسة فكرية شاملة ص 6-7
[14] أبو الحسن على الحسني الندوي، المسلمون في الهند، دار ابن كثير دمشق بيروت، الطبعة الأولى، ص 139
[15] البعث الإسلامي، جمادى الأولى 1399هـ ، ص: 69و 70
[16] عبدالحليم الندوي، مراكز المسلمين التعليمية والثقافية والدينية في الهند ص 36-37
[17] البعث الإسلامي : ع/ 5-7 1396ه تصدر من داراالعلوم ندوة العلماء لكناؤ ص 293
[18] نفس المصدر ص 293
[19] تعريف جامعة دارالهدى الإسلامية ص8.
المصادر والمراجع:
- أبوالحسن على الحسني الندوي، المسلمون في الهند، دار ابن كثير دمشق بيروت، الطبعة الأولى
- أبوالحسن علي الحسني الندوي، ندوة العلماء مدرسة فكرية شاملة، المكتبة الندوية، دارالعلوم لندوة العلماء ءلكناؤ
- أبوالحسن علي الحسني الندوي،أضواء على الحركات والدعوات الدينية والإصلاجية ومدارسها الفكرية ومراكزها التعلميمة والتربوية في الهند
- أبوالحسن علي الحسني الندوي،الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، دارالقلم الكويت، الطبعة الرابعة 1403ه- 1983م
- أبوالحسنات الندوي، هندوستان كي قديم درسكاهين، دارالمصنفين أعظم جره بولاية أترابراديش الهندـ سنة الطباعة غير مذكورة،
- البعث الإسلامي : ع/ 5-7 1396ه تصدر من دارالعلوم لندوة العلماء لكناؤ
- تعريف جامعة دارالهدى الإسلامية
- الدكتور زبير أحمد الفاروقي، مساهمة دارالعلوم ديوبند في الأدب العربي، دارالفاروقي، دلهي الجديدة، الطبعة الأولى 1990م
- عبدالحليم الندوي، مراكز المسلمين التعليمية والثقافية والدينية في الهند، مطبعة نوري المحدودة مدراس (الهند)
- محمد عبيد الله الأسعدي القاسمي دارالعلوم ديوبند ط أكاديمية شيخ الهند دارالعلوم ديوبند 2000م
* الباحث في ماقبل الدكتوراة، جامعة جواهرلال نهرو، نيو دلهي
Leave a Reply