مقدمة:
الأسطورة العربية التي تعرف بـ”أسطورة عاد” أو “أسطورة إرم” أسطورة عربية شعبية عريقة جرت على الألسنة، وذُكرت في القرآن الكريم، وظهرت في كتب التاريخ للمؤرخين الكبار من أمثال الطبري، والمسعودي، والحموي، وابن كثير، وقد تناول هذه الأسطورة في العصر الراهن الدكتور جواد علي الذي قدم بحثا موسوعيا وجهودا مشكورة في تاريخ العرب القديم في عشرة أجزاء، وكذلك تكلم عن عاد وإرم بكل دقة العلامة السيد سليمان الندوي في كتابه الشهير “تاريخ أرض القرآن”. وقبل أن نخوض في دراسة هذه الأسطورة يحسن بنا أن نعرف ما هي الأسطورة في الحقيقة.
ما هي الأسطورة؟
الأسطورة لغة -كما في المعجم الوسيط- خرافة أو حكاية ليس لها أصل[1].
وفي الاصطلاح –كما يقول د. أنس داؤد -“الأسطورة مجموعة من الحكايات الطريفة المتوارثة من أقدم العهود، الحافلة بضروب من الخوارق والمعجزات التي يختلط فيها الخيال بالواقع. ويمتزج عالم الظواهر بما فيه من إنسان وحيوان ونبات ومظاهر طبيعية، بعالم ما فوق الطبيعة من قوى غيبية اعتقد الإنسان بألوهيتها، فتعددت في نظره الآلهة تبعا لتعدد مظاهرها المختلفة.[2]” نجد أن جذور أساطير الأمم المختلفة ضاربة عميقا في ثقافتها، وحضارتها، وعقيدتها، وفي كثير من الأحيان تختلط بالتاريخ، والمؤرخون في محاولة بحث التاريخ القديم لأمة ما يعتمدون إلى أساطيرها ويعرضون عصارتها كتاريخها كما نجد في تاريخ الهند، و مصر، والصين، وجزيرة العرب القديم.
هذه الأسطورة لدى الشعراء والكتاب العرب:
استقطبت أسطورة عاد وإرم عددا من الشعراء والكتاب المعاصرين الذين سعوا إلى توظيف التراث في إنتاجاتهم وحاولوا أن يوجدوا رابطا بين الحال والماضي، فاستوحوها في شعرهم و كتاباتهم الأدبية. و لعل أول من توجه إلى هذه الأسطورة من الشعراء المعاصرين هو الشاعر نسيب العريضة (1887-1946) الذي نظم قصيدة في هذه الأسطورة ونشرها في ديوانه “الأرواح الحائرة” في عام 1946.
والشاعر العراقي الشهير بدر شاكر السياب (1926-1964) الذي عرف باستخدامه الأساطير المختلفة في شعره، وظف هذه الأسطورة في قصيدة سماها “إرم ذات العماد”، وأعطاها دلالة معاصرة وبعدا إنسانيا يجمع بين ما هو ذاتي وتاريخي، و يظهر فيها حنينه للماضي في صورة قوية. يقص السياب عن جنة إرم على لسان جده الذي رأى هذه الجنة الضائعة بعينيه في صباه وهو كان يتيح صائدا في الرميلة ثم اختفت عن عيونه فظل يبحث عنها ويوصي ابناءه قائلا “فإن رأى إرم واحدكم فليطرق الباب ولا ينم”. وحسب اعتقاده تبقي هذه الجنة مستورة في الأرض ولا يراها الإنسان إلا مرة في كل أربعين عاما، فلينتظر خروج جنة إرم إلى حيز الوجود للمرة الثانية.
ورأى الشاعر السوري علي سعيد إسير المعروف بـ”أدونيس”(1930م) في “إرم” رمزا لمدينة الثورة والرفض، وفي عاد رمزا للثوار والمقاومين، وفي عودة شداد إشارة للرفض والتمرد. إنه استلهم هذه الأسطورة في قصيدة “إرم ذات العماد” التي تعد من إحدى القصائد البارزة في شعره. و يقول الدكتور عايش الحسن “تتشكل ملامح إرم (عند أدونيس) عبر مناخ أسطوري، إذ يتآلف في تشكيلها عنصرا الماء والنار و تجمع في رحمها جثتا الأرض والسماء، ودلالة الأرض دلالة مائية ودلالة السماء دلالة نارية، ويجتمع في كليهما عنصرا التذكير والتانيث، لتصبح ملامح إرم مزدوجة التركيب تذكيرا وتأنيثا، تتخلق إرم عبر تصاعد الدخان، وتقلب الرياح. والدخان عنصر ناري، علامة للإحراق، والرياح عنصر مائي علامة للتقلب والتبدل، يثير لقاحا جنسيا بين الأشياء أو تشكلا ماطرا، وفي ضوء هذا المناخ تدخل إرم الأسطورية دورة الموت والحياة.”[3]
ونرى سميح القاسم الشاعرى الفلسطيني الرائد يقوم بتوظيف هذه الأسطورة في قصيدة مطولة معنونة بـ “إرم الفاضلة” للتعبير عن ماسأة وطنه المحتل فلسطين في صورة حزينة وللتعبير عن حلمه لبناء وطن جديد أمثل. سميح القاسم يشارك غسان كنفاني –الذي استلهم هذه الأسطورة في مسرحية- في الوطن والقضية، والماسأة، ولكن هناك فرق كبير بينهما فغسان فلسطينني مهاجر يسكن في لبنان حينما سميح القاسم فلسطيني لم يغادر وطنه وممسك به، وكذلك نرى فرقا كبيرا بينهما في توظيف هذه الأسطورة ورؤيتهما تجاهها. حينما يرى غسان في عاد، وشداد، ومرثد رمزا للمقاومة والصمود، يراهم سميح القاسم رمزا للطغي والعصيان، فعنده طغى شداد وتجبر فأرهق كواهل أبناء شعبه بالضرائب، و نهب ممتلكاتهم، و أموالهم ليبني إرم، الجنة الأرضية مقابل الجنية الأبدية، و كفر بالله و عاث في الأرض فسادا فخسف الله به و سلط على أهله العذاب و أحرق إرم و جعلها عبرة للأجيال التالية، ولذلك نجده يتكلم عن إرم الآثمة الأسطورية ويعرض حلمه ورؤيته لإرم الفاضلة الجديدة. وتقول السامية عليوي وهي تتكلم عن رؤية سميح القاسم لإرم الفاضلة “فقد جعل الشاعر إرم تبنى على أرض أخرى، أرض سعيدة، تكون فيها –خلافا لإرم الأسطورة التي استحقت العذاب-فاضلة، يلبي أهلها ويسجدون طاعة لله، لا ثورة عليه ولا تحدي لقدرته…فالجنة التي يتحدث عنها الشاعر في قصيدته المطولة هي جنة أرضية، ويمكن لهذا الحلم أن يتحقق بالعمل والتضامن وحب الخير للآخر حيث تسود العدالة الاجتماعية.[4]” فيرمز سميح القاسم بإرم الآثمة إلى حكومة إسرائيل المحتلة الغاصبة التي تقوم على أساس العرقية ولا علاقة لها بالعدالة الاجتماعية، ويرمز بإرم الفاضلة إلى بناء دولة فلسطينية حرة مسلمة تسود فيها العدالة والحب والتضامن.
ومن الكتاب الذين استهوتهم هذه الأسطورة القاص والروائي الفلسطيني غسان كنفاني(1936-1972)، والكاتب والروائي السوري خليل هنداوي (1906-1976). كتب غسان كنفاني مسرحية بـعنوان “الباب” في نفس الفترة التي كتب فيها روايته الشهيرة “رجال في الشمس” ولذلك نرى الموت الذي يشكل أكبر مظاهر القضية الفلسطينية في الرواية يظهر في المسرحية أيضا في أشد صورة مأساوية، ولكن لا نجد في المسرحية الخصوع والاستلام الذين نراهما في الرواية بل عكس ذلك، نشاهد عاطفة المقاومة والصمود في سبيل الحرية. وهذه المسرحية التي عبارة عن إرادة الحياة، وفلسفة التحدي، والواقع الفلسطيني المعاش، تخفي في داخلها رموزا كثيرة، وحقائق متعددة. وأراد غسان من خلال هذه الرواية أن يربط بالجذور الثفاقية والتراثية، و حاول أن يؤكد على أهمية أقدار الثقافة الكونية عن حرية الرائ، و خيار الثورة ضد الدوغماتية أي الحزمية.[5]
أما الكاتب والروائي السوري خليل هنداوي فقد أنتج رواية بإسم “إرم ذات العماد” التي نشرت عام 1943 في مدينة حلب. وقد بحثت عن هذه الرواية ولكن لم أعثر عليىها و كذلك لم يقع بيدي اي مقال نقدي عنها، فلا يمكن لي أن احكم عليها أو اتكلم عن كيفية استخدامه لهذه الأسطورة.
وقد عثرت على ترجمة أردية بعنوان “بهشتِ شداد” لرواية لكاتب عربي سليمان شكري، وفي هذه الرواية إنه بنى أحداث الرواية على وقائع عهد الخليفة الأموي الأول، وجاء بذكر جنة شداد في هذه الرواية كشاهد عيان.[6] وليس بالعربية فقط، بل نرى عددا من القصائد عن هذه الأسطورة في الشعر الأردوي ولكن هذه الأسطورة ليست هناك عبارة عن الصمود والحرية والاستقلال، بل هي تذكر ليأخذ الناس عنها عبرة ويطيعون الله ورسوله فقد طغى شداد وعصى الله وكفر به واجترأ أن يبنى جنة على الأرض فاستحق أن ينزل عليه عذاب الله.
دوافع استخدام الأسطورة:
علاقة الأسطورة بالشعر والأدب علاقة حميمة قائمة منذ أقدم العصور بل منذ ميلاد التاريخ الحضاري، وفي كثير من الأحيان نجد أن أول ما دونته أمة من الأمم هي أساطيرها التي تناقلها الناس جيلا عن جيل على تراكم الأزمنة. وفي العصر الراهن، وبداية من نهاية القرن التاسع عشر الميلادي على التحديد، نجد لدى الكتاب والشعراء رغبة جديدة واهتماما زائدا بالأساطير الشعبية كثورة ضد المذهب الطبيعي والمذهب الواقعي وفي محاولة للحصول على التغير الاجتماعي، والبحث عن الرابط بالتراث القديم، فنرى ذلك في الغرب لدى الكتاب والمخرجين المسرحيين من أمثال أنتونين أرتود Antonin Artaud(1896-1948)، وبرتولد بريختBertolt Brecht(1898-1956)، وجيرزي غوروتوسكيJerzy Growtowski(1933-1999)، وبيتر بروك Peter Brook (1925)، وروبرت ولسن Robert Wilson(1941).[7] أما في الأدب العربي فنرى استخدام الأسطورة في المسرحيات عند رواد الأدب المسرحي من أمثال توفيق الحكيم و علي أحمد باكثير، فقد أنتج توفيق الحكيم مسرحية “بيجماليون” عام 1942، و مسرحية “الملك أوديب” عام 1949 و استلهم فيهما الأساطير اليوناية، و كذلك انتج علي أحمد باكثير في عام 1949 مسرحية “مأساة أوديب” حول أسطورة يونانية.[8]
ذكر إرم وعاد في القرآن الكيريم:
قد جاء ذكر إرم وعاد مرارا وتكرارا في الكتاب المنزل الأخير القرآن الكريم، فـ”عاد” قوم أورثهم الله الأرض بعد قوم نوح عليه السلام فسكنوا بالأحقاف. وأنعم الله عليهم فأمدهم بأنعام وبنين وجنات وعيون، وأعطاهم حكمة وقوة عظيمة، فكانوا يبنون المصانع العظيمة والمباني الشامخة. ولكنهم كفروا بالله فأرسل إليهم هودا عليه السلام الذي دعاهم إلى الصراط المستقيم ولكن عاد لم يؤمنوا به وكفروا بالله وأفسدوا في الأرض فهلكهم الله بريح صرصر عاتية. كما تظهر بالآيات المذكورة التالية:
قال الله تعالى:” أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (الفجر)” و قال تعالى:” وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ۖ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ۖ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) (الأعراف)” و قال تعالى: ” كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَٰذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) ( الشعراء) ” و قال تعالى: ” وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) (الحاقة)” وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ.(هود).
وكذلك نرى ذكر قوم عاد في صورة مختلفة في الآيات القرآنية الأخرى، وقال ابن كثير بعد ان أورد الآيات المختلفة في تاريخه “البداية والنهاية” في قصة هود عليه السلام، “والمقصود أن عادا كانوا عربا جفاة كافرين، عتاة متمردين في عبادة الأصنام، فأرسل الله فيهم رجلا منهم يدعوهم إلى الله وإلى إفراده بالعبادة والإخلاص له، فكذبوه و تنقصوه، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.[9]“
و قد ذهب المفسرون في تفسير قوم عاد و إرم مذاهب مختلفة و ذكروا روايات متناقضة مستفيدين بما كان شائعا عن عاد في العصر الجاهلي و بالروايات الإسرائيليات كما يقول الدكتور جواد علي “يرجع قسط من أخبار عاد إلى الجاهليين، فهو من القصص الشعبي القديم الموروث عنهم و يعود قسط آخر منه إلى الإسلاميين، وهو القسط الذي جاء شرحا لما جاء موجزا في القرآن الكريم، ويرجع بعضه إلى الحارث بن حسان البكري، والحارث بن يزيد البكري، ويرجع بعض آخر إلى كعب الأحبار، وإلى وهب بن منبه وهما من مسلمة يهود، وإلى السدي، وإلى الأشخاص الآخرين تجد ذكرهم في سند الروايات المذكورة عند محمد بن اسحاق، وعند الطبري، وعند الآخرين من أهل الأخبار والتواريخ”[10] فلا حاجة إلى أن نعيد هناك كل رتب و يابس عن عاد فنكتفي بذكر خلاصته ملخصا كما يلي:
قوم عاد من الأقوام العربية، و قد وضعها المؤرخون في الطبقة الأولى من العرب وهم عرب البائدة، و كانت قصة هلاكهم شائعة بين العرب في الجاهلية فكانوا يتناولون حديثهم في شعرهم و أنديتهم، فنجد ذكر عاد في شعر طرفة، و نابغة، وزهير، و في شعر الهذليين، و متمم بن نويرة، و في شعر أمية ان أبي الصلت، و في حسب الطبري “أمرهم عند العرب في الشهرة في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم و قومه.”[11] فكان العرب في كثير من الأحيان يشبهون القدم بكلمة عاد، فيقولون “شئ عادي” إذا أرادوا أن يبالغوا في قدامة شيئ.
و حصلت لعاد قوة عظيمة ما يضاهيهم أحد، و حسب بحث العلامة السيد سليمان الندوي، إنهم انتشروا في الأرض و أقاموا دولا عظيمة ، و بنوا قصورا ناطحة، و أسسوا ثقافة أولى في مصر و عراق و جزيرة العرب، و وصلوا إلى بلدان أوربا تجارا و أقاموا في يونان و غيرها. و حسب تحديد العلامة الندوي يبدأ عهد عاد في 2200 قبل المسيح و ينتهي في 1500 قبل المسيح، وبلغوا خلالها أوج الرقى والازدهار[12] . ولكن عاد إثر قوتهم العظيمة بدءوا يفسدون في الأرض فسادا، و تجاوزوا كل الحدود في طغيانهم، و أوجدوا أصناما للعبادة كما في تاريخ الطبري “كانوا أهل أوثان ثلاثة يعبدونها، يقال لإحداها: صداء، وللآخر صمود، وللثالث الهباء.[13]” فأرسل الله إليهم رسولا اسمه هود -عليه السلام- الذي دعاهم إلى ترك الأصنام و عبادة الله وحده و لكنهم جادلوا معه و لم يؤمنوا به ولم يكفوا عن الكفر بالله و عبادة الأصنام فحبس عنهم المطر ثلاث سنين فبعث عاد وفدا في قيادة قيل بن عتر لاستسقاء آلهة مكة. وكان هذا الوفد يتشكل من سبعين أشخاصا بمن فيهم لقيم بن هزال، ومرثد بن سعد – وكان مسلما يكتم إسلامه- وجلهمة بن الخبيري خال معاوية بن بكر، و لحق بهم لقمان بن عاد فيما بعد. نزل هذا الوفد بمكة على معاوية بن بكر وهو من أخوالهم، و سكنوا عنده شهرا يلهون فيشربون الخمر و يتمتعون بغناء الجاريتين لمعاوية بن بكر يقال لهما الجرادتان. و عندما مضى شهر، رأى معاوية بن بكر أنه قد شغلهم الخمر والغناء عن مهمتهم و نسوا البلاء الذي حل على قومهم، ولم يرى من آداب الضيافة أن يامرهم بالخروج لما بعثوا، فقال أبياتا على إشارة الجرادتين لتذكير مهمتهم، وعندما غنت الجرادتان بهذه الأبيات أفاقوا و تذكروا لما جاء بهم هناك، و حين ذلك أظهر مرثد إسلامه، و طلبهم أن يستسقو الله بدلا من آلهة مكة، و لكنهم تركوا مرثد بمنزل معاوية و خرجوا ليستسقوا آلهة مكة، ولكن مرثد لحق بهم و بدأ يستسقي الله فقال قيل بن عتر و هو يدعو “إن كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله سحائب ثلاثا: بيضاء وحمراء، وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل، اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب فقال: قد اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء، فناداه مناد: اخترت رمادا رمادا، لا تبقي من عاد أحدا، لا والدا تترك ولا ولدا “فساق الله هذه السحابة السوداء إلى عاد و ظهرت عليهم في واديهم يعرف بمغيث، فاستبشروا بها كما في قوله تعالي «هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» ولكن الله قال «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها» ثم هبت عليهم ريح صرصر عاتية لسبع ليال وثمانية أيام حسوما فهلكهم جميعا و جعلهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية إلا هود –عليه السلام- والذين آمنوا معه فقد كان اعتزل مع المؤمنين في حظيرة في أمان الله، و عُمِر هود -عليه السلام- مئة و خمسين سنة. أما مرثد و لقمان و قيل فأعطاهم الله الخيار فيما يريدون، فاختار مرثد برا و صدقة و اختار لقمان عمرا طويلا فعمر اعمار سبع نسور و هي تساوي خمسة مئة و ستين سنة، و اختار قيل أن يصيبه ما أصاب قومه فهلك[14]. و كذلك نجا من العذاب بنوا اللوذية الذين لم يكونوا مع عاد في أرضهم بل كانوا يسكنون بمكة مع أخوالهم[15]. فهؤلاء هم الذين نجاهم الله من العذاب، و عرفوا بعاد الثانية و أقاموا دولة قوية تمتد من حضرموت إلى سواحل الخليج الفارسي و إلى العراق، و قد ذكرهم اليونانيون في أهالي حضرموت و يمن[16]. وخلال الحفر الأثري في عدن، تم العثور على كتبة لعاد الثانية و وجد إسم هود عليه السلام مكتوبا فيها. و يقال عن وجود قبر هود عليه السلام عند جبل في حضرموت الذي يزوره الناس كثيرا.[17]
مشاهير قوم عاد:
ما عدا هود عليه السلام والذين مضى ذكرهم هناك رجال من قومه اشتهروا في التاريخ ونسبت إليهم الروايات الخرافية والأساطير ومن أشهرهم شداد ولقمان.
عاد: هو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. إنه كان رجلا جبارا عظيم الخلقة، يقال إنه أول من ملك في الأرض، و تزوج ألف امرأة، و رأى من صلبه أربعة آلاف ولد، و عاش ألف سنة و مئة سنة ثم مات. كانت بلاده متصلة باليمن بما فيها بلاد الأحقاف، و بلاد صحاري، و بلاد عمان إلى حضرموت[18].
شداد: هو شداد ابن عاد ملك بعد أبيه و كان ملكا قويا شجاعا. كان عرب الجاهلية يتناولون حديثه و ينسبون إلىه أساطير مختلفة و خرافات عديدة. إنه ملك سلطنة مترامية الأطراف و اشتهر ببناء الجنة الأرضية التي عرفت بـ”إرم”. إنه سمع عن الجنة فأراد أن يبني جنته في الأرض، فأرسل عماله بمن فيهم غانم بن علوان و الضحاك بن علوان والوليد بن الريان إلى الآفاق ليجمعوا الذهب والفضة واللآلي والياقوت، و بنى جنته باليمن بين حضرموت و صنعاء ولكنه لم يوفق أن يدخل هذه الجنة إذ أنكر نبوة هود عليه السلام و كفر بالله فهلك في العذاب الذي أصاب عاد[19].
لقمان عليه السلام: هو لقمان بن عاد، شقيق شداد، و قيل في نسبه غير ذلك. كما ذكرنا أعلاه أن لقمان عليه السلام كان من الذين نجاهم الله من العذاب، فأصبح ملكا لعاد الثانية بعد هلاك شداد في العذاب كما في كتاب التيجان “فلما مات شداد بن عاد صار الملك إلى أخيه لقمان بن عاد و كان الله أعطى لقمان ما لم يعط غيره من الناس في زمانه[20]“. و إشتهر لقمان-عليه السلام- بالحكمة، فأصبحت صفة الحكيم جزء من إسمه و عرف بـ”لقمان الحكيم”، و قد وصفه القرآن أيضا بصفة الحكمة كما قال الله تعالى “وَ لَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ”[21]. و قد بالغ الناس في مبلغ حكمته و علمه حتى زعموا أنه كان يدرك الأشياء التي كان يعجز عنها إنسان سوي، و يرى بعض الرواة أنه كان عند عرب الجاهلية مجلة لقمان و فيها الحكمة و العلم و الأمثلة، و قد زعم وهب ابن منبه أنه قرأ من حكمة لقمان نحوا من عشرة آلاف باب[22]، و قد جمع الناس فيما بعد الحكم و الأمثال والقصص التي نسبت إليه، و قد نشرت مجموعة بعنوان “أمثال لقمان الحكيم” من ديرنبورغ، لندن عام 1850.[23] و كان لقمان عليه السلام مؤحدا يؤمن بالله كما في قوله تعالى “وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[24]” و كان لقمان يتبع شريعة هود عليه السلام.[25] و كما ذكرنا أعلاه إنه عمر طويلا فضرب العرب به المثل في طول العمر، وقد ذهب العلامة الندوي إلى أن تأويل امتداد عمره على خمس مئة و ستين سنة، هو امتداد حكومة أسرته[26].
هي أسطورة في الحقيقة أو حقيقة في الأسطورة؟
هذه الأسطورة -حسب ما أوردنا الحقائق والأعلام أعلاه- ليست بأسطورة أو خرافة في الحقيقة بل هي قصة تاريخية صادقة، واتخذت طابع الأسطورة بمرور الزمن وباختلاط الروايات الإسرائيلية بها، وخير دليل على صدقها أنه جاء ذكرها في القرآن مرارا وتكرارا، وقد قام بتصديق هذه القصة في العصر الراهن علماء الاكتشافات الأثرية بعد أن عثروا على آثار عاد وبقاياها[27].
الهوامش:
[1] المعجم الوسيط، الجزء الأول، المكتبة الإسلامية للطباعة و النشر و التوزيع، إستانبول، صـ 17.
[2] د. أنس داؤد، الأسطورة في الشعر المعاصر، مكتبة عين شمس، القاهرة، سنة 1975، صـ 19، نقلا عن الدكتورة سامية عليوي، التناص الأسطوري في شعر سميح القاسم، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية والإجتماعية، العدد السابع، جوان 2010، صـ4-5.
[3] الدكتور عايش الحسن، صورة إرم بين أدونيس و سميح القاسم، مجلة جامعة دمشق، المجلد 24، العدد الأول والثاني، سنة 2008، صـ 146
[4] الدكتورة سامية عليوي، التناص الأسطوري في شعر سميح القاسم، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية والإجتماعية، العدد السابع، جوان 2010، صـ26
[5] Areeg Ibrahim, Social Change through Myth and Ritual in Palestinian andNigerian Drama: A Phenomenological Hermeneutical Analysis of Kanafānī’s Door and Soyinka’s Death and The King’s Horseman, P no. 19
[6] https://www.rekhta.org/ebooks/bahisht-e-shaddad-sulaiman-shakri-ebooks?lang=ur
[7] Areeg Ibrahim, Social Change through Myth and Ritual in Palestinian andNigerian Drama: A Phenomenological Hermeneutical Analysis of Kanafānī’s Door and Soyinka’s Death and The King’s Horseman, P no. 1.
[8] أحمد شعث، الأسطورة والخطاب الأيديولوجي في مسرحية الباب لغسان كنفاني، مجلة جامعةالخليل للبحوث ، المجلد5، العدد 1،سنة 2010، ص169
[9] ابن كثير، البداية والنهاية، المجلد الأول، هجر للطباعة والنشر، جيزة، سنة 1997، صـ288.
[10] جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الأول، ط2، جامعة بغداد، بغداد، سنة 1993، صـ302-321
[11] الطبربي، 1/232 نقلا عن جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الأول، ط2، جامعة بغداد، بغداد، سنة 1993، صـ 298
[12] الندوي، العلامة السيد سليمان، تأريخ أرض القرآن، صـ 119.
[13] الطبري، ابن جرير، تاريخ الرسل والملوك، دار التراث، بيروت، ط2، سنة1387ه، 216.
[14] الطبري، ابن جرير، تاريخ الرسل والملوك، دار التراث، بيروت، ط2، سنة1387ه، 216-224.
[15] نفس المصدر، صـ 219.
[16] الندوي، العلامة السيد سليمان، تأريخ أرض القرآن، صـ 119
[17] نفس المصدر، صـ 162.
[18] المسعودي، الإمام أبوالحسن بن علي، مروج الذهب و معادن الجوهر، الجزء الثاني، المكتبة العصرية، بيروت، 2005م، صـ 31-32
[19] جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الأول، ط2، جامعة بغداد، بغداد، سنة 1993، صـ 303-307
[20] ابن اسحاق، كتاب التيجان، نسخة مكتبة بانكي بور، صـ 74، نقلا عن الندوي، العلامة السيد سليمان، تأريخ أرض القرآن، صـ165.
[21] سورة لقمان، الآية 12.
[22] جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الأول، ط2، جامعة بغداد، بغداد، سنة 1993، صـ318.
[23] نفس المصدر، صـ 318
[24] سورة لقمان، الآية 14.
[25] الندوي، العلامة السيد سليمان، تأريخ أرض القرآن، صـ166.
[26] الندوي، العلامة السيد سليمان، تأريخ أرض القرآن، صـ166
[27] http://www.alriyadh.com/80310
Leave a Reply