+91 98 999 407 04
aqlamalhind@gmail.com

القائمة‎

في أحضان ملكة الجبال “مَسُورِي”
د. محسن عتيق خان

عندما وضعنا أقدامنا في ماء كهف السارقين البارد، بدا تعبنا كأنه غاب تماما فالبرودة سرت في أجسامنا وجرت في عروقنا، ونشاطنا عاد من جديد، فكان سفر البارحة متعبا إذ تأخر قطارنا “مسوري ايكسبريس” حوالى ثلاث ساعات وأخذ أكثر من اثنى عشر ساعة في قطع السفر بين مدينة دهلي ومدينة “ديهرادون” عاصة ولاية “اتراكهندا”. عندما نزلنا من القطار على محطة “ديهرادون” كانت الساعة العاشرة والنصف صباحا، كنا نشعر بالجوع والتعب معا ولكن أردنا أن نزور أول مكان سياحي لنا في ديهرادون و نأكل الفطور هناك. فخرجنا من المحطة ومشينا على أقدامنا إلى اليسار قليلا فعلى بعد حوالى مئة متر هناك محطة سيارات الأجرة، تكلمت أحدهم بعد أن أخبرته عن خطتي لزيارة كهف السارق (Robbers’ cave) ، وبحيرة مسوري (Mussorie Lake) في الطريق إلى مسوري، فأخبرني بأن السيارة ستكلفني سبع عشرة مئة، ولا يؤذن لي أن أبقى في المكانين أكثر من ساعتين، فتراجعت عن اكتراء التاكسي من المحطة إذ لم أرد أن أتقيد بالوقت في زيارة الأمكنة السياحية. وحجزت في النهاية سيارة أجرة لشركة أولا عن طريق “الإيب” ووصلنا “روبرس كيو”، وقد تكلمت في الطريق مع صاحب السيارة أن يوصلنا إلى مسوري فرضي على أربع عشرة مئة ربية.

نزلنا في موقف السيارات فأول ما فعلنا هو استعارة شباشب الحمام لجميعنا، ثم تقدمنا إلى الأمام فوجدنا أمامنا طريقا في يساره سلسلة للمطاعم ودكاكين أنواع من المأكولات حتى مدخل الكهف، وفي يمناه يسيل الماء الذي يخرج من الكهف في شكل نهر صغير يوفر للذين يجلسون للأكل أمام الدكاكين منظرا جميلا، وتضيف إلى هذا المنظر الخضرة عبر النهر إذ بدا كأنها غابة. وبعد رؤية ماء الكهف كان عبدالله و أعيان قد نسيا تعبهما وجوعهما و جريا إلى مدخل الكهف.

كان هناك عدد من الأطفال يلعبون بالمياه الضحلة التي تخرج  من انشقاق جبلي طويل وتجري بسهولة ولا تبلغ إلا الساق أو الركبة. فشمرنا أثوابنا ونزلنا في الماء ثم بدأنا نوغل في الكهف الذي كان ضيقا حالكا في بعض الأماكن، وكان عريضا منورا في الأخرى، وبعد حوالى خمس دقائق وصلنا الفتحة التي ينزل منها الماء في الكهف، ولكن وجدنا بعض الناس يصعدون إلى الفتحة ففعلنا كذلك ووجدنا أنفسنا أمام مدخل كهف آخر يدخل الناس فيه ولكننا أردنا أن نرجع فكانت أم عبدالله قد تخلفت كثيرا وممكن أن تكون قلقة لابنيها، أما فاطمة الصغيرة التي خرجت في رحلتها السياحية الأولى فكانت بقيت في حضن أمها. جلسنا على حجر كبير عند المدخل بينما كان عبد الله وأعيان يلعبان بالماء البارد حتى ابتلت ملابسهما، وظهر الملل وآثار الجوع على وجوههما، فخرجنا إلى أحد المطاعم وجلسنا للفطور في جنب مجرى الماء.

جرت سيارتتنا على طريق مسوري فأشار لنا السائق إلى قمة جبل بدت للوهلة الأولى كأنها أمامنا وسنصلها في عدة دقائق، وقال لنا “هذه هي مدينة مسوري على هذا الجبل، وهذه ليست بقريبة كما تبدو بل تقع على بعد حوالى خمس وثلاثين كم من مدينة ديهرادون، وذلك بسبب الطريق المنعرج.” و أضاف قائلا بأنه قام بتأسيسها فريدريك يونغ من شركة الهند الشرقية الذي دُهش بجمال هذا المكان، ومناخه اللطيف الموافق للإنجليز، أما إسم هذه المدينة فينبع من شجيرة متواجدة هناك بإسم “منسوري”، وهذه تقع على ارتفاع 1880 متر من سطح البحر. ورغم أنني كنت على علم بهذه الأشياء ولكنني لم أقاطع كلامه، فكنت أرغب في أن أسمع عنه كل ما لديه من علم بهذه المنطقة، وبما أنه ينتمي إلى هنا، فممكن أن يوفر لنا بعض المعلومات القيمة التي لا تتوفر على الانترنت أو في كتب السياحة.

ومدينة مسوري وجهة سياحية محببة للسائحين، وتعتبر من أرقى الأماكن لقضاء عطلة صيفية فهي تجمع بين روعة الطقس، ومناظر الفطرة، وفخامة الفنادق، وتسهيلات المنتجعات الراقية، ولها خصائص وميزات بما فيها الرفاهية والتميز، والهدوء لمن يريد السكينة، والازدحام لمن يحب اختلاط الناس. تقع مسوري في خاصرة جبال همالايا في ولاية “أتراكهندا” على بعد خمسة وثلاثين كم من ديهرادون، و مئتين وتسعين كم من مدينة دهلي، وهي من المدن التي أسسها الإنجليز خلال حكمهم في الهند للاصطياف فرارا من شدة الحر في المناطق السهلة.

زيارة بحيرة مسوري:

وقفنا في طريقنا إلى مسوري عند بحيرة مسوري (Mussorie Lake) وهي تقع على بعد حوالى ستة كم من مدينة مسوري. وهي ليست بحيرة طبيعية مثل بحيرة “نينيتال” بل بحيرة صغيرة تم إنشاؤها حديثا كبقعة نزهة من قبل مجلس مدينة مسوري، وهيئة تنمية مدينة دهرادون بجمع الماء من عين. وجدنا هناك قوارب الدواسة فتمتع ابناى بركوبها وكذلك أطلقا الرصاصات من البندقية على البالونات. ثم أكلنا بعض الوجبات الخفيفة. وعندما بدأنا نخرج من البحيرة وقعت نظرة عبد الله على زاوية من زوايا هذه البحيرة، فكانت هناك تماثيل لعدد من شخصيات كاريكاتورية لبعض مسلسلات الأطفال. فتكلم عبدالله و أعيان مع دوريمون، ونوبتا، وموتو بتلو. وبما أنني كنت أشعر بالعطش، جاء صاحب التذاكر لهذه الزاوية بالماء لي من عين يتقاطر هناك، فقال لي إنه يشرب ماء هذا العين، وهو أصفى من ماء “بيسلري”. وهذا المكان يوفر إطلالة ممتعة على وادي دون حيث تقع مدينة دهرادون. ومنظر المبنى الجميل لجمعية بيوت الشباب الهندية هناك يضيف في جمال المنطقة ويجعلها مكانا مثاليا لالتقاط الصور.

في مدينة “مسوري”:

عندما وصلنا “مسوري”، كانت الساعة حوالى الرابعة ظهرا، نزلنا من السيارة عند بكجر بليس (Picture Place) من حيث يبدأ مول رود، فسيارات الأجرة لا تدخل في مولرود وإنما تتوقف خارجه بسبب الازدحام الكثير هناك، فترجلنا على الأقدام حوالى عشر دقائق تقريبا لنكمل الطريق إلى فندقنا “هوتل ويلي ويو” (Hotel Valley View)، وكنا تعبانين فاستلقينا على فراشنا، أما عبدالله و أعيان فاشتغلا بالتلفاز.

لم يطمئن قلبي على الفراش، فبعد استراحة حوالى ساعة، جلست في شرفة الغرفة المطلة على مول رود، كانت الشمس تغيب عن الأنظار رويدا رويدا، و كانت أشعتها تحول الأفق من الاصفرار إلى الأحمرار، وتخلق لنا منظرا جميلا يروق للعين ويبعث في النفس السرور والراحة. درت بنظري إلى اليمين على مول رود فشاهدت على بعد مئة متر تقريبا عربات التلفريك لا تزال تصعد بالأناس المتنزهين إلى الجبل، فقررت بأن أول ما نفعل في الصباح التالي هو ركوب التلفريك.

جولة في مول رود:

عندما غربت الشمس، نزلت إلى مول رود واصطحبني ابني الأصغر، بدأت أمشي إلى اليسار، إلى “بكجر بليس” ناظرا إلى الدكاكين المختلفة فوجدنا أن هذا الطريق حفر من الجبل ويطل على وادي دون، وتصطف على طولها الدكاكين والفنادق والمطاعم والمقاهي والمخابز ودكاكين الحلويات وما إلى ذلك. وعندما مررنا بمكتبة كامبريدج “Cambridge Book Shop”، ذكرني أعيان أن استفسر عن مجئ راسكين بوند كاتب الأطفال الشهير إذ كنت قد وعدت ابنىي بأنهما سيلتقيان في مسوري بـ”راسكين بوند”، وكانا متحمسا لذلك، وكان عبدالله قد قرأ بعض قصصه، وأعجب بها. أخبرنا صاحب المكتبة بأنه يجئ مرة في كل أسبوع وذلك في يوم السبت في الساعة الثالثة والنصف ظهرا، وغدا يوم السبت، و من الممكن أن يجئ ولكن لا يمكن التأكد من ذلك بسبب صحته المتدهورة إلا بعد الساعة العاشرة صباحا، ثم أعطاني بطاقته لأتصل به في اليوم التالي للتأكد من ذلك. بعد ذلك تقدمت إلى الأمام واشتريت ساعة يد لي و تلسكوبين لابني إذ كان يصران على اشترائه منذ رآه في دكان عند بحيرة مسوري. واصلت المشي حتى وصلت بكجر بليس ثم عدت واشتريت بيزا من دومينوز لنتعشى به.

زيارة تل البندقية “Gun Hill“:

استيقظنا في الصباح، فوجدنا عقرب الساعة قد بلغ الساعة التاسعة وأدركنا أننا قد أخذنا قسطا وافرا من النوم، تأسفنا قليلا للاستيقاظ المتأخر في مثل هذا المكان الرائع، ثم أسرعنا في الاستعداد للخروج. وصلنا نقطة التلفريك المعروفة بـ”جهولا غر” في مول رود فوجدنا أحد الموظفين يفتح شباك التذاكر، والآخر لايزال يكنس غرفة العربات فكنا من الأولين. كان ثمن التذكرة مئة ربية، فاشتريت ثلاث تذاكر ثم ركبنا عربة التلفريك التي شرعت في الصعود إلى الجبل ببطء، وقطعت مسافة أربع مئة متر في سبع دقائق، تمتعنا في خلالها بإطلالة بانورامية مثيرة على مدينة مسوري، ووادي دون، وما حولها. والجبل الذي صعدنا قمته بالتلفريك يعرف بـ”غَن هيل” أى تل البندقية وهو ثاني أعلى جبل في مسوري، ويقع على ارتفاع 2024 متر، ويقال، إثر حرب غوركها في عام 1823، تم نصب بندقية على قمة هذا الجبل لتُطلق مرة في كل يوم في الساعة الثانية عشر لإعلان الوقت لكى يملأ الناس ساعاتهم، ومنذ ذلك الحين عُرف هذا الجبل بإسم “غَن هيل”. وهناك أدركت بعد ما أخبرنا صاحب المطعم الذي أكلنا الفطور فيه بأننا نقف على سطح مخزن للماء بناه الإنجليز لتوفير الماء في المدينة، وذلك على ثاني أعلى جبل في مسوري. توجد على هذه القمة، الدكاكين والمطاعم، والألعاب، وهناك نقاط أخرى مختلفة، فهناك نقطة لرؤية قمم الهمالايا المغطاة بالثلج، ونقطة التليسكوب تعرض لك رؤية بعض الأمكنة البعيدة ذات الجمال الخلاب. قضينا على هذا الجبل حوالى ساعة ثم نزلنا إلى مولرود بنفس التلفريك.

زيارة حوض جواهر للأسماك “Jawahar Aquarium“:

عندما خرجنا من عربة التلفريك، بدأنا نمشي إلى لائبريري تشوك في مول رود، وتوقفنا عند حوض الأسماك المعروف بـ”جواهر ايكواريوم” الذي يتكون من طابقين. وكما أخبرني البعض، أنه أول حوض مائي في مسوري، وقد أصبح بالفعل معروفا بين السياح والسكان المحليين على حد سواء. يضم الحوض عددا من الخزانات التي تحتوي على مجموعة مذهلة من الأسماك الاستوائية وأسماك البيرانا الحمراء وأسماك القرش الصغيرة. ويجب زيارة هذا الحوض للذين يزورون مسوري مع أطفالهم الصغار أو لمن هو متحمس للموارد البحرية، أو من يقضي وقت الفراغ على مول رود.

طريق ظهر الجمل “Camel’s back road“:

عندما شبعنا برؤية الأسماك، تقدمنا إلى الأمام وقبل “لائبرير تشوك” بقليل وجدنا تمثالا كبيرا وهو النقطة التي تبدأ من هناك طريق ظهر الجمل “Camel’s back road”  فبدأنا نمشي على هذا الطريق الشهير. هذا طريق طويل حفر في الجانب الآخر من الجبال التي حفر منها مول رود، ففي طرف مول رود وفي طرف آخر كيميلس بيك رود، وخلافا لمولرود هذا الطريق هادئ بدون أي ازدحام ويطل على الوادي الجميل ويعرض رؤية خلابة لسلسلة همالايا.

هذا طريق طويل مشينا ومشينا حتى وصلنا مكانا للاستراحة المعروف بـ”هوا محل” وبعد قليل من الاستراحة هناك، واصلنا المشي حتى نقطة رؤية صخرة الجمل “Camel Rock View” هناك الصخرة التي تشابه تماما مثل الجمل وسميت بإسمها هذا الطريق. كنت أظن أنها صخرة كبيرة ولكن كان هناك صاحب التليسكوب يريها للناس، وهذا من قدرة الله بأنه جعل الصخرة في صورة جمل يأتي الناس من جميع أنحاء البلاد لرؤيتها. بعد ذلك مشينا إلى الأمام فأدركنا أن الطريق لا يزال يبدو طويلا ولا نرى منتهاها، فاستفسرنا بعض الناس عن طريق يصل بنا إلى مولرود فأشار لنا إلى زقة تصل بين مولرود و كيميلس بيك رود، وفي بضع دقائق وجدنا أنفسنا على مولرود عند مكتبة كيمبريج بك شوب، فذكرني عبدالله موعد الكاتب رسكين بوند، ولكن صاحب المكتبة أخبرنا بأنه لا يجئ اليوم بل سيجئ غدا، فقررنا أن نتغدى أولا إذ كان عبدالله وأعيان قد تعبا بكثرة المشي ويشعران بالجوع الشديد، فدرنا بأنظارنا حولنا فوجدنا بالقرب من المكتبة “بيكانو جات كيفى” فدخلناها بدون تفكير ثان. عندما فرغنا عن الغداء وجدنا أن لدينا لا يزال وقت كثير، فلماذا لا نزور مكان السياحة الآخر، فاكترينا التاكسي عند بكجر بليس بسبعة مئة ربية وغادرنا إلى “لال تِبّا”.

زيارة لال تيبا (Lal Tibba):

هذه أعلى قمة في مسوري ويقع عليها معسكر، وهناك صالونان للطعام على سطحهما نصب تيليسكوبان كبيران. وقد كتب على مقهى يقع عند باب تشايلدرس لوج “Lal Tibba” بلون أحمر، وهذا هو ما أراناه صاحب التليسكوب على “غن هيل” وفي كيميلس بيك رود فزادنا اشتياقا إليه بكونه أعلى قمة في المدينة. وصلنا لال تبا فوجدنا أنفسنا أمام تشايلدرس لوج الذي بدا لنا غير معمور إذ لم نرى هناك أحدا. صعدنا سطح المقهى فوجدنا هناك التليسكوب الكبير وصاحبه شيخ نحيل في الستينات، يساعد الناس في المشاهدة بدون أجرة ولكن يعرض مع ذلك التقاط الصور بقيمة غالية بكاميرته، كذلك يعرض ملبوسا محليا على كراء لمن يريد الصور في ملبس محلي في خلفيتها جبال ضخمة. وممكن أن ترى من هناك في يوم بدون ضباب سلسلة جبال همالايا كرهوال، التي تقع بين الهند والتبت وقممها المغطاة بالثلج. وأخبرنا هذا الشيح بأن جمال هذا المكان يظهر بأكمله عند غروب الشمس فعندما يتحول هذا المكان إلى حمرة مثل جمرة تسر الناظرين. مكثنا على سقف المقهى حوالى ساعة التقطنا خلالها بعض الصور المثيرة، تبادلنا الأحاديث مع بعض الزائرين، وتحادثنا مع صاحب التليسكوب في أشياء مختلفة فيما يتعلق بـ”مسوري” ثم نزلنا وغادرنا.

في الطريق، توقفنا عند الدكاكين الأربعة المعروفة بـ”تشار دوكان” وفي الحقيقة ليست هناك أربعة دكاكين فقط بل أكثر من ذلك. شربنا شاي المساء مع “موموز”، وكان سائقنا قد أوقف السياة عند كنيسة بالقرب من تشار دوكان، فعندما فرغنا من الشاي و ألقينا نظرة عليها، أدركنا بأنها كنيسة قديمة تم بناؤها خلال العهد الإنكليزي، وكانت تجذبنا إليها بهندستها الاستعمارية العريقة، و تسحرنا بسحرها الريفي وتشهد بالحكام الأجلاء الذين حكموا الهند وبنوها في مكان منعزل بجنب قمة عالية للعبادة والرياضة، ولكن الباب كان مغلقا واخبرنا بعض الناس بأنها لا تفتح إلا في يوم الأحد. عند العودة إلى مول رود عندما مررنا بسوق لَندور شاهدنا برج الساعة، وأشار لنا السائق إلى بيت رسكين بوند، وأضاف قائلا بأنه رجل بسيط ولكن لا يلتقي احدا هذه الأيام بسبب صحته المتدهورة. أنزلنا السائق عند مولرود، فتسوقنا أولا ثم تعشينا في مطعم كان يملكه رجل من بنجاب ذو عمامة سيكية. كان المطعم نظيفا، وكان الطعام لذيذا، ولكن كان غاليا جدا.

كان تجوال اليوم قد أرهقنا كثيرا فعدنا إلى فندقنا، وسرعان ما بدأ عبدالله وأعيان وأمهما يغطون في النوم ولكنني لم أكن أشبع بالتجوال في مول رود فنزلت من الفندق مرة أخرى، وكان ابني الأصغر أعيان الذي رآني أفتح باب الغرفة تبعني، فبدأنا نمشي حتى وصلنا لائبريري تشوك. رأينا هناك نوعا من الازدحام في المكان المفتوح الذي يطل على وادي دون. وكانت مدينة دهرادون أمامنا بأضوائها المتلألئة الساطعة ذات الألوان المختلفة وبدت كأنها تريد أن تضاهي السماء ذات النجوم المتباثرة في النور والإضاءة، وفي الحقيقة بدت لنا أجمل من السماء فكان الازدحام هناك ليس لمشاهدة السماء بل لرؤية منظر وادي دون. وخُيلت لي أثناء تجوالي في مول رود خلال اليومين الماضيين أن الهند قد زاد فجأة جمالا و رونقا و بهاء بصورة دراميتيكية، فلم أر هناك إلا الفتيات الجميلات، وربما كان ذلك بأثر المكان الجميل أو بسبب الأضواء الضيئلة في هذا الطريق المزدحم. تجولنا وتجولنا حتى انتصف الليل وكان الشارع لا يزال يكتظ بالزائرين، ولكن النوم بدأ يلعب برأس أعيان فعدنا وخلدنا إلى نوم عميق مريح بعد كل التعب.

زيارة شلالة “كيمبتي فال”:

استيقطت مبكرا في الصباح، وكنت قد جمعت بعض المعلومات عن خدمات الباص لزيارة كيمبتي فال إذ وجدت التاكسي غاليا جدا، فذهبت إلى موقف الباصات عند لائبريري تشوك وهناك حجزت المقاعد لأول رحلة الباص إلى “كيمبتي فال” التي تبدأ في الساعة العاشرة صباحا، كان الوقت لايزال الساعة السابعة والنصف، فاكتريت دراجة وبدأت أسوقها إلى “جهولا كهر” ولكن لم أكن أقطع خمسين مترا حتى أوقفني شرطي قائلا “ابق هناك حتى تمر المادام” فلم أفهم عن أي مادام هو يتكلم، ولكن عندما مرت بي بصحبة بعض المسؤولين الكبار عرفتها بأنها المرأة الشهيرة “ِكرَن بيدي” التي كانت مرشحة لمنصب كبير الوزراء في ولاية دهلي من جانب حزب بهارتي جنتا ضد أروند كيجريوال، ولكنها لم تنجح في الانتخابات، ثم تم تعينها كنائب حاكم ولاية بودوتشيري (Poducherry). وقرأت فيما بعد في صحيفة بأنها أظهرت قلقها عن تواجد السيارات على مول رود بعد جولتها في ذلك الصباح. عندما عدت إلى الفندق، كان عقرب الساعة قد وصل الرقم التاسع، فقمنا بتسجيل الخروج من الفندق  وغادرنا لناخذ الباص.

وصلنا شلالة “كيمتي فال” في الساعة العاشرة والنصف ولم يُتح لنا أكثر من ساعتين للتنزه هناك. كانت الشلالة في خاصرة جبل، وكانت هناك سلالم طويلة ذات أدراج كثيرة تصل بك إلي الشلالة، وفي جانبي السلالم تجد الدكاكين تبيع أشساء كثيرة فيما يتعلق بالفتيات وغيرها. لدى مدخل السلالم هناك التلفريك الذي يصل بك إلى الشلالة بدون تعب في مئة روبية، ففضلنا التلفريك إذ لم نجرأ أن نقطع السلالم حاملين ابنتي فاطمة في أحضاننا بالنوبة.

كان ماء الشلالة ماء شفافا يبدو كأنه لبن بسب بياضه، وكان هناك أناس يغتسلون تحتها ويحاولون السباحة في حوض يحيط الشلالة من ثلاثة جوانب ويجمع فيه ماءها وعمقه لا يتجاوز نصف متر. وحول الحوض مبنى نصف مدور ذي طابقين، في الطابق الأسفل هناك دكاكين تعرض للسائحين ملابس الغسل، ولوكرا لوضع الملابس، وأنابيب السباحة المنتفخة على كراء، وفي الطابق الأعلى مقاهي ومطاعم تعرض أنواعا من الطعام السريع، والشائ الحار. اكتريت أنبوبا ودخلت في الحوض، كان عبد الله جريئا فدخل في الماء وبدأ يلهو ويلعب فيه حينما أعيان كان خائفا فأخذته في حضني ووضعته في الأنبوب، ثم جعلته يغوص مرتين وعندما بدأ يبكي أخرجته واعطيته لأمه، أما عبد الله فاقترب مهبط الشلالة وبدأ يغستل بالماء الذي كان ينزل بشدة. لم ندرك متى مضت ساعة في الترفيه المائي تحت هذه الشلالة وفي حوضها، وعندما ذكرتنا أم عبدالله بأنه لم يبقى لدينا سوى نصف ساعة والمسافة بين الشلالة وموقف السيارات تستغرق قرابة نصف ساعة. فخرجنا من الحوض و أسرعنا إلى الباص. كانت زيارة هذا الشلالة فريدا من نوعها، وتجربة رائعة لا تُنسى، فهذه الشلالة تجمع بين صفاء الماء، وروعة المكان، وجمال المنظر وتترك أثرا عميقا في نفس كل زائر.

لقاء مع الكاتب الانجليزي الشهير راسكين بوند:

عندما وصلنا لائبريري تشوك عائدين من الشلالة، كانت الساعة الاولى والنصف ظهرا، فأول ما فعلنا هو تناول الغداء في مطعم “راج كمل ريستورانت”، ثم بدأنا نتجول على مولرود ننظر من خلال نوافذ المحلات التجارية والدكاكين تمريرا للوقت واستمتاعا بالطقس الجميل رغم كون وقت الظهيرة. وهكذا كنا نتقدم ببطء حتى وصلنا مكتبة كيمبريدج، فكان اليوم موعد لقاء الكاتب راسكين بود وكنت قد تأكدت من ذلك عن طريق الاتصال الهاتفي بصاحب المكتبة. ويدير هذه المكتبة أخوان اسمهما “سوريندرا أرورا” و “سونيل أرورا”، وكان أسس هذه المكتبة العريقة ابوهما “لكشمن داس أرورا” في عام 1952م، وبمرور الوقت أصحبت مكانا جاذبا لزوار مسوري. ويعود الرابط بين “لكشمن داس” و”رسكين بوند” إلى أواخر الستينات، عندما كان بوند يزور مكتبته كل يوم لتصفح وشراء الكتب، وتوطدت العلاقة بينهما حتى أصبحت المكتبة مثل ثاني منزل لبوند، وقد تعود أن يزور هذه المكتبة مرة في كل أسبوع يوم السبت في الساعة الثالثة والنصف.

يجئ لقاء الكاتب الشهير راسكين بوند (ٌRuskin Bond) مكملا لهذه الرحلة الترفيهية. وهو كاتب إنجليزي محبب لدى الأطفال في الهند وخارجها، ويسكن في مسوري منذ أكثر من خمسين عاما، وكتب للأطفال والشبان سويا. إنه قام بتصوير الحياة في جبال همالايا وتلال شيوالك عن طريق قصصه ورواياته، ومن ميزاته تحويل الوقائع العادية اليومية إلى قصص ممتعة، وله أكثر من مئة كتب. ولقارئ متعطش للأدب -بأي لغة كان-لا يمكن أن يزور مسوري بدون أن يتمنى لقائه. فكنت أشتاق إلى لقائه مثل ابني عبدالله الذي كان قرأ عديدا من قصصه، وأعجب به إعجابا، وكنت قد وعدته مرارا بأنني سأذهب به إلى مسوري للقاء الكاتب رَسكين بوند، فكان متحمسا جدا. وكان هذا واحدة من دوافع زيارة مسوري، فلم أرد أن يتحسر ابني على عدم لقائه كما يتحسر بين حين وآخر على عدم لقاء شخصيته المثالية “ابي الفاخر زين العابدين عبد الكلام” الذي يعرف كرجل الصاروخ في الهند، وكان رئيس جمهورية الهند.

وعندما وصلنا المكتبة كانت الساعة الثالثة إلا الربع، ولم يكن هناك ازدحام كثير، فدخلنا المكتبة وتصفحنا بعض الكتب واشترينا بعضا آخر، وخلال نصف ساعة قادمة وجدنا الناس يصطفون أمام المكتبة بينهم أطفال، وشبان، وشيوخ للقاء الكاتب، وكنا في مقدمة الصف. جاء الكاتب قبل الموعد بقليل وجلس في داخل المكتبة على كرسي ثم بدأ في التفاعل مع محبيه والمعجبين به، وتوقيع كتبهم، التقاط الصور معهم. وفي اجتماع قصير معه، وجدته شخصا متواضعا يتمتع بروح الدعابة الممتازة. تحدث عبد الله معه كل ما جال بخاطره و سأله عن نفسه، ولكن نظرا إلى الصف الطويل التمس منا صاحب المكتب أن نخلي المكان للآخرين، وهكذا تحقق حلم ابني في لقاء كاتب اعجب به.

والآن كل همنا هو أن نصل “ديهرادون” قبل الموعد المحدد لقطارنا إلى دهلي. فأخذت حقائبي من الفندق ووصلت مع أسرتي محطة الباصات عند بكتشر بليس،  كان هناك صف طويل لشراء التذاكر، وكنت في مؤخرة الصف، فنفدت التذاكر لباص الساعة الخامسة، والباص التالي كان متوقعا في الساعة السادسة، فانفض الناس إلا عدة رجال حتى اصبحت في مقدمة الصف. والقيام في الصف لمدة ساعة لم يكن خاليا عن النفع والمعلومات المهمة. فكان خلفي شاب ينتمي إلى ديهرادون، وقد جاء مسوري للقاء بأحد أصدقائه. إنه أخبرني عن بعض تجارب حياته في ديهرادون، والأمكنة السياحية المهمة. قبل الساعة السادسة بقليل فُتحت نافذة التذاكر فكنت أول من باع التذاكر. وكان سفرنا من مسوري إلى ديهرادون سفرا مرهقا إذ كان الباص يجري على منحدرات متتالية. وصلنا ديهرادون في الوقت المحدد ومن هنا ركبنا قطارنا إلى دهلي بذكريات جميلة ستبقى مدى الحياة في أذهاننا.

*****

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of