+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

ريادة غسان كنفاني في دراسة أدب المقاومة، والأدب الصهيوني في ضوء دراساته
د. محسن عتيق خان

في العقد السابع من القرن العشرين، أصدر غسان كنفاني دراستين اكتشف فيهما لأول مرة الإنتاجات الأدبية المتواجدة في الأرض المحتلة التي كانت صلتها بالعالم العربي قد انقطعت بعد الاحتلال الصهيوني. فإنه، عن طريق هاتين الدراستين، فتح للعرب نافذة على الأدب العربي الفلسطيني الذي مليئ بالحيوية والأفكار الثورية، و رغم كل أسباب القمع لا يخلو عن الأمل والإيمان بالنجاة.

أدب المقاومة:

أما الدراسة الأولى، فقد صدرت من دار الآداب بـ”بيروت” عام 1966م بعنوان “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966″، و هي تحتوي على ثلاثة فصول، الفصل الأول يتناول الإنتاجات الأدبية الفلسطينية بعد النكبة، والثاني يدرس البطل العربي في الرواية الصهيونية مقابل الأدب العربي الفلسطيني، والثالث يعرض نماذج من الشعر الفلسطيني.

و هذه الدراسة تعطي غسان مكان الريادة من ناحيتين، في ناحية إنه وضع مصطلحا خاصا للانتاجات الأدبية الثورية التي وجدت في فلسطين المحتلة لأول مرة، و هو مصطلح “أدب المقاومة” كما يبدو من عنوان دراسته. فقد عبر غسان عن الأدب الفلسطيني بـ”أدب المقاومة” لأن هذا الأدب يقوم ضد جميع أسباب القمع، و يشجع على الوقوف في وجه الاحتلال، و يحرض على الثورة، والمشي في سبيل الحرية رغم أن الطريقة شائكة. و هذا المصلطح الخاص لم يقتصر على الأدب العربي، بل سرعان ما سرى إلى الآداب العالمية الأخرى و تلقي بالقبول في الدول المحتلة من العالم. و قد اعترف بريادة غسان في هذا المجال النقاد الكثيرون، بل لا أبالغ إذا قلت أنه لا تخلو أية دراسة من دراسات أدب المقاومة عن ذكر غسان، فهو يمثل اللبنة الأولى التي قام عليها القصر الشامخ لأدب المقاومة.

و من ناحية أخرى، إنه عرض الأدب العربي الفلسطيني أمام العالم العربي لأول مرة و أتاح الفرصة لقراء العربية أن يتعرفوا على هذا الأدب الفلسطيني الذي أكثر مقاوما من الأدب العربي في أي مكان آخر.

كان غسان قد كتب هذه الدراسة قبل نكسة 1967 التي انهزمت فيها القوات العربية على يدى إسرائيل و أتاحت لها الفرصة أن تحتل غزة، و نهر الأردن، و الضفة الغربية. و بما أن المصادر لم تكن متوفرة بسبب الحدود الإسرائيلية المغلقة على العرب، والقمع الإسرائيلي للعرب في داخل إسرائيل، إنه سمى الأوضاع التي كان الفلسطينيون يعيشون فيها في الأرض المحتلة بـ”الحصار الثقافي”، و في الحقيقة دراسته هذه تبدو كأنها نقب في هذا الحصار إذ حاول أن تكون دراسته هذه وثيقة أكثر من أن تكون تحليلا نقديا للنص الوارد فيها.

لم يختر غسان منهجا أكاديميا في هذه الدراسة بل سلك سبيله في جمع المواد و حفظها بصورة تكون وثيقة للأجيال القادمة التي قد تفقد هذا التراث القيم بسبب الظروف القاسية التي كان يمر بها الأدباء والكتاب والشعراء الفلسطينيون.

و لم يقصر كنفاني “مصطلح أدب المقاومة” على الأدب العربي الفصيح فقط بل أطلقه على الشعر الشعبي أيضا الذي يمثل عنده قلعة المقاومة التي لا تهدم، فقد تناقلته الأجيال عن طريق الحفظ، و تغنت بها الأمهات لأبنائها الناشئين، والفتيات لإخوانها الصغار.

إنه يميز في هذه الدراسة بين الأدب الذي كتب في الأرض المحتلة و سماه “أدب الاحتلال”، و الأدب الذي كتب في أرض الشتات و في المنافي و المخيمات و سماه بـ”أدب المنفى”، و عنده أدب الأرض المحتلة أدب الإشراق، والثورة، والأمل حينما أدب المنفى عبارة عن النواح والبكاء، و اليأس والحنين إلى الوطن. و تقول باربارا هارلو “هذا التمييز يدل على علاقة أناس الخاصة بالأرض المشتركة، وبالهوية المشتركة، و بالقضية المشتركة بينهم، و على أساس هذا الاشتراك، يمكن الفصل بين شكلين من الوجود التاريخي والسياسي، و هما الاحتلال والمنفى. و هذا التمييز يدل على قوة محتلة أخضعت شعبا أو نفتهم، و بالإضافة إلى ذلك، إنها تدخلت في التطور الأدبي والثقافي للذين سلبت أراضيهم، و احتلت مناطقهم. و في ألفاظ أخرى، إن الناقد (غسان كنفاني) قد عرض الأدب كمجال للكفاح.”[1]

في عام 1966 عندما كتب كنفاني دراسته هذه، كان أدب الأرض المحتلة مجهولا في العالم العربي و غير معروف خارج الحدود الإسرائيلية بسبب القيود الرسمية و القمعية. و لذلك ركز كنفاني عمله و جهوده على توثيق الانتاجات الأدبية الفلسطينية التي ولدت تحت السلطة الإسرائيلية التي أطلق عليها غسان مصطلح “الحصار الثقافي”. و نفس الأوضاع السياسية التي قامت بتحديد الانتاجات الأدبية في إسرائيل، أدت دورا مهما في تحديد الموازين و والمناهج في الكتابة النقدية الأدبية الفلسطينية في المنفى.

الأدب الفلسطيي المقاوم:

أما دراسته الثانية التي صدرت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، لأول مرة عام 1968 بعنوان “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968″، فكانت خطوة ثانية في هذا المجال كما يوضح ذلك غسان في مقدمتها “لا بد من الإشارة إلى أن البحث التالي ليس طبعة جديدة أو منقحة لكتابي الذي أصدرته دار الآداب باسم أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، بل يمكن اعتباره إلى حد بعيد دراسة مكملة، خطوة ثانية في هذا النطاق، ولا يسعني إلا أن أشير إلى أن الكتاب الأول يعتبر مقدمة ضرورية لهذا الكتاب، سواء من حيث التحليل أو من حيث النماذج.”[2]

كتب غسان هذه الدراسة بعد الدراسة الأولى بسنتين، و استفاد من الحدود الإسرائيلية المفتوحة حديثا بين إسرائيل والضفة الغربية، و أكد على العلاقة المتكاملة بين المقاومة المسلحة و المقاومة الأدبية،[3] و ادعى على أنه “ليست المقاومة المسلحة قشرة، هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقا في الأرض.” إنه يضع الخصوصية التاريخية لحركة المقاومة ضمن النضال الأكبر الجماعية في جميع أنحاء العالم، و يؤكد على أهمية الأشكال المعينة للمقاومة الثقافية في تحديد الاستراتيجيات العامة للمنظمة المقاومة كما يقول “إذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فإن البندقية ذاتها تنبع من إرادة التحرير، و إرادة التحرير ليست سوى النتاج الطبيعي والمنطقي والحتمي للمقاومة في معناها الواسع: المقاومة على صعيد الرفض، وعلى صعيد التمسك الصلب بالجذور والمواقف.” ولدى كنفاني “إن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبدا أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها.”[4]

و حاول كنفاني أن تكون نماذجها غير النماذج التي كانت قد أصبحت متوفرة إثر النكسة كما يقول بنفسه “إن معظم النماذج التي اخترناها في هذه المجموعة حرصنا على أن تكون من خارج نطاق النماذج التي باتت متوفرة الآن، والتي ستطبع في مجموعات شعرية منفصلة خلال الفترة الوجيزة القادمة.”[5]

و هذه الدراسة التي تحمل عنوانا تتشابه بالدراسة الأولى، تناولت نفس الموضوع و عرضت الأدب الفلسطيني المقاوم على الطريقة التي عرضت الدراسة الأولى، و هي لا تختلف من الأولى من حيث النقد والتحليل إلا أنها تفرد فصلا لدراسة الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة حينما كانت الدراسة الأولى قد خصت فصلا لدراسة البطل العربي في الرواية الصهيونية مقابل الأدب العربي الفلسطيني. و غسان  قد تكلم عن نوعية هذا البحث في المقدمة فيقول “إن ما يهم هذه الدراسة، في الأساس، هو أنها تحاول تقديم وثيقة أخرى للأدب الفلسطيني المقاوم بعد الوثيقة الأولى التي جاءت قبل ثلاث سنوات في كتاب أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، فإذا حققت ذلك فإنها لا تطمع إلى شيئ آخر.”[6]

فصول الدراسة:

إن هذه الدراسة تتضمن على ثلاثة فصول يتناول أولها الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة، والثاني يدرس أبعاد و ومواقف أدب المقاومة الفلسطيني، والثالث يعرض نماذج من الشعر، والقصة، المسرحية.

الفصل الأول: الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة

كما يبدو من عنوان هذا الفصل، إنه عرض الأوضاع الخطرة التي كان ولا يزال يعيش فيها الشعب العربي الفلسطيني في الأرض المحتلة عرضا مقنعا كباحث عن طريق استخدام المصادر والمراجع بما فيها المجلات والوثائق والتقارير المختلفة. إنه أطلق على هذه الأوضاع مصطلح “النضال الثقافي” و ذكر الدور الذي لعبت هذه الأوضاع في الانتاج الأدبي العربي كما يقول: “إن الحرب النفسية، والاقتصادية، والسياسية، والبدنية التي تشنها السلطات الإسرائيلية على الثقافة العربية والمثقف العربي كان لها الأثر الأكبر في بلورة الانتاج الأدبي العربي في فلسطين المحتلة على الصورة التي سنراها، و من ذلك اللجوء غالبا إلى الرمز.”[7]

و حاولت حسب مقدوري أن أقوم بتحديد أنواع الحرب التي تشنها إسرائيل على الشعب العربي المسلم والتي ذكرها غسان في هذا الفصل، و هي -حسب دراستي لهذا الفصل- كما يلي:

أولا: سياسة التجهيل المتعمد

  • عدم تعليم اللغة العربية في المعاهد والمدارس الرسمية
  • تخفيض مستوى المدارس العربية عن قصد
  • تهديد الطلاب في الجامعات والكليات
  • إغلاق أبواب الكليات والجامعات الإسرائيلية على المسلمين

ثانيا: نسف الجذور الثقافية العربية

  • إلقاء المثقفين العرب خلف القضبان و الإقامة الجبرية.
  • طرد المثقفين العرب عن الوظائف و الرقابة على انتاجاتهم
  • حقن المجتمع العربي بسموم الثقافة الهجينة
  • الدعوة إلى ترك اللغة العربية الفصحى.

ثالثا: نهب الوسائل الاقتصادية

  • إضاقة الخناق على خريجى المدارس و تحريمهم عن الوظائف
  • امتلاك أراضي العرب جبرا
  • طرد المثقفين العرب عن الوظائف

الفصل الثاني: أدب المقاومة الفلسطيني: أبعاد و مواقف

بعد عرض أنواع الحروب التي تشنها إسرائيل على سكانها العرب في الفصل الأول، اتجه غسان إلى تناول الأدب الفلسطيني المقاوم الذي يكافح ضد عمليات إسرائيل الشنيعة، و تكلم في كيفية مواجهته للتحديات الإسرائيلية، و تحدث عن الأبعاد و المواقف لهذا الأدب الفلسطيني المقاوم الذي برز إلى حيز الوجود لالتزام الشعراء والأدباء بقضيتهم رغم كل أسباب القمع كما يقول كنفاني: “الغالبية الساحقة من أدباء المقاومة في فلسطين المحتلة يمدون التزامهم إلى ما هو أبعد من الحدود الفنية، إنهم منتسبون فعلا إلى الحركة الوطنية بصورة أو بأخرى، و يناضلون من خلال تنظيماتها، و يذوقون في سبيلها، نتائج القمع الإسرائيلي، لقد بات معروفا – مثلا – أن الشاعر محمود درويش قد أودع السجن مرارا، و أن الشاعر سميح القاسم قد ذاق بدوره مرارة الأحكام العسكرية. و قد مارست الحكومة الإسرائيلية ضغطا متواصلا على شركة أهلية لتطرد من بين موظفيها الشاعر فوزي الأسمر بسبب شعره، و نضاله السياسي معا.”[8]

و قد ذكر غسان عدة أبعادا لهذا الأدب المكافح في مقدمتها كما يلي:

  • البعدلاجتماعي
  • البعد العربي
  • البعد العالمي

البعد الاجتماعي: يقصد غسان بالبعد الاجتماعي تناول الأديب الفلسطيني قضايا التقاليد الكابحة داخل المؤسسة الاجتماعية العربية، و رفضها في سبيل تجديد دماء المجتع العربي ليكون قادرا على مواصلة مسؤوليات المقاومة، والمضي فيها إلى مداها، و ذلك في مقاومة و مكافحة للمحاولات الإسرائيلية في تفتيت المجتمع العربي في الأرض المحتلة و تأليبه على بعضه. و قد أورد غسان في هذا المجال شعر سميح القاسم، و محمود درويش، وراشد حسن ثم قال:

“في الخمسينات سنقرأ شعرا كثيرا، في الأرض المحتلة، يركز تركيزا متواصلا على قطاع ضيق من الإشكال الاجتماعي، و في هذا النطاق ترد أسماء القاسم و الدرويش، و حسين، و كذلك فهد أبو خضرة (و هو شاعر موهوب و صاعد لم نعد نسمع عنه)، و أحمد حسين، و عصام عباس، و إبراهيم مؤيد، و غيرهم كثيرون.

و لكن بعد ذلك بعدة سنوات سيأخذ ذلك التنبه الجزئي آفاقه الأبعد، و أبعاده الأعمق، و ففي ذلك الوقت المبكر كانت الكارثة الفلسطينية ما تزال حارة، و كان الغضب المجرد، بصورة فاجعة و مذهلة، يطفو إلى السطح، شأنه في ذلك شأن ما حدث في أعقاب 5 حزيران 1967 في البلاد العربية حين مضى عدد من الكتاب والشعراء يصبون غضبهم على جبهة جزئية، إلا أن ذلك الغضب ما لبث أن تبلور في صيغة موقف، و مما لا شك فيه أن محمود درويش، و سميح القاسم هما طليعة لافتة للنظر في هذا الشأن.”[9]

البعد العالمي: هو تناول الشعراء الفلسطينيين لقضايا الاحتلال خارج بلدهم، و تأثرهم بالثورات التي قامت في البلدان المحتلة الأخرى في العالم، و انسجامهم مع أولئك الثائرين، كما يقول غسان: “عالميا يدرك شعر المقاومة التزامه بحركة الثورة في العالم، التي هي في نهاية المطاف المناخ الذي تنمو داخله الحركة الثورية المحلية، تؤثر به و تتأثر منه.”[10] و نجد قصائد كثيرة لدى شعراء الأرض المحتلة في هذا الشأن، فلمحمود درويش قصائد في ثورات كوبا منها “أناشيد كوبية”، و ديوانه الأول “عصافير بلا أجنحة” في معظمه غناء لثورات إفريقيا، و لفوزي الأسمر قصائد بهذا المعنى، أبرزها، “أنا عبد” موجهة لشعب إفريقيا، و لسميح القاسم عدة قصائد عن باتريس لومومبا، و إفريقيا، و زنوج أميركا، و له أيضا في قصيدته الطويلة “ارم” مقطع أسمه “بطاقات إلى ميادين المعركة” و هي سلسلة من القصائد القصيرة الموجهة إلى المغني الزنجي بول روبنسون، و فيدل كاسترو، و كريستوف غبانيا، و ثوار الفيتكونغ. و في هذا النطاق نجد قصيدة لراشد حسين عن آسيا “”بلد الرجال الثائرين على مماطلة الزمان” و قصيدة أخرى لإبراهيم مؤيد إسمها “أنشودة زنجي”، و نجد عددا كبيرا من القصائد، في نفس النطاق، لمحمود دسوقي، و قصائد ذا أهمية قصوى لحنا أبو حنا عن كوبا و عن إفريقيا المشرقة.[11]

و يقول غسان عن هذا البعد: “إن الالتزام بالبعد العالمي للمعركة كان دائما من ميزات شعر المقاومة، و مع ذلك فإن هذا الالتزام لم يؤد إلى تمييع الالتزام بالصيغة المباشرة للنزال، ولكنه أغناه و أعطاه معنى و عمقا و حافزا.” و يضيف قائلا: “إن وعي الالتزام بحركة الثورة في العالم يكتسب قيمته مما يؤديه إلى وعي الالتزام بالثورة المحية، و ليس من كونه صيغة رومانطيكية ذات طابع تنصلي عن طريق المزايدة، و هذا الإدراك الذي عبر عنه أدب المقاومة العربي بوضوح و مباشرة و حسم يضع البعد الإنساني في المقاومة في مكانه الصحيح، الذي يشكل حافزا و مسؤولية، في آن واحد.”[12]

البعد العربي: أما البعد العربي فهو عناية أدباء الأرض المحتلة البالغة بالثورات و التحولات و القضايا في العالم العربي كما يقول غسان “الأمر يختلف من حيث الكم و النوع، حين يتعامل أدب المقاومة مع واحد من أبعاده الأساسية، و هو البعد العربي. إن طبيعة القضية الفلسطينية تضعها في مركز الوسط من التفاعلات العربية، وبالتالي فإن شعر المقاومة في فلسطين المحتلة يمكن أن يوصف بأنه الناطق بلسان تلك التفاعلات والمؤرخ لها.”

في ديوان شعر المقاومة ليس بالإمكان مرور أي حدث عربي دن أن يؤرخ في ذلك الشعر، بل إن عدوان 1956 على مصر كان نقطة تحول أساسية في تاريخ ذلك الشعر، و كذلك كانت ثورة الجزائر، و ثورة اليمن، و بناء السد العالي، و في هذا النطاق بالذات تبدو ولاءات المقاومة العربية والاجتماعية ممتزجة بصورة عضوية لا تحتمل الفكاك.”[13]

قد ساق غسان في هذا السياق قصائد عديدة تتعلق بالعدوان الثلاثي على مصر(1958)، و بالثورة الجزائرية، وثورة العراق(1956) للشعرءا البارزين من أمثال محمود درويش، سميح القاسم، و عصام عباسي، و حبيب قهوجي، محمود دسوقي.  و بعد ذكر هذه القصائد، والبحث في بنائها الفني يقول كنفاني: “و في الحقيقة، فإن البعد العربي في الأدب الفلسطيني كان دائما ظاهرة أساسية. و ليس ارتباط أدب المقاومة الفلسطيني الراهن بهذا البعد، و تعميقه و وعيه، إلا استمرارا لتلك الظاهرة تاريخيا.”[14]

و توصلا إلى النتيجة يقول غسان عن هذه الأبعاد الثلاثة: “إن هذه الارتباطات الثلاثة، في إطارها من الالتزام الفني المسؤول، تظل تدور حول محور أساسي هو التصدي الشجاع للمعركة المباشرة، اليومية والقاسية، والباهظة الثمن، مع العدو المحتل الذي يجثم بثقل مباشر على صدر الوجود العربي، في فلسطين المحتلة.”[15] ثم يقول غسان عن هذه المقاومة المباشرة “وقف شعر المقاومة العربي في فلسطين المحتلة مؤرخا ليوميات المقاومة الجماهيرية، جاعلا من انتكاساتها و عذابها وقودا لتجديد توق ملتهب.”[16] و قد ساق غسان في هذا السياق قصائد لحبيب قهوجي و راشد حسين و محمود درويش الذين سجلوا مجزرة كفرقاسم التي جزرت فيها القوات الصهيونية خمسين عرب عشية العدوان الثلاثي، والتي شكلت نقطة انعطاف أساسية في الموقف المقاوم لشعراء المحتلة العرب، إذ من النادر أن لا يأتي ذكر كفر قاسم كشهادة دائمة على المقاومة. و كذلك ذكر قصيدة لسميح القاسم بعنوان “كرمئيل” و هو إسم المدينة التي ابتناها الإسرائيليون في الجليل، فوق أراض سلبوها من عرب قرى “دير الأسد”، و “البعثة”، و “نحف”، ضمن خطتهم لتهويد الجليل. و قد أطلق القاسم على هذه المدينة إسم “مدينة الحقد و الجوع والجماجم”. للشعراء المذكورين أعلاه آنفا قصائد عن الحكم العسكري كقضية يومية يعاني عرب الأرض المحتلة منها، و عن الجواسيس الذين يندسون في التجمعات العربية، و عن سلب الأراضي من الفلاحين العرب، و إلى آخر ما هنالك من قضايا يومية.[17]

الفصل الثالث: نماذج من الشعر والأقصوصة، والمسرحية

إن هذا الفصل بمثابة وثيقة، فقد قدم غسان قصائد لثماني شعراء، مع تعريفاتهم المؤجزة، وهم حنا أبو حنا، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، فوزي الأسمر، نزيه خير، راشد حسين، محمود دسوق. و بعد ذكر قصائد هؤلاء الشعراء، إنه أورد غسان أقصوصة بعنوان “و أخيرا: نور اللوز” لـ”أبو سلام”، وبعد هذه الأقصوصة، قدم غسان نموذجا لمسرحية بعنوان “بيت الجنون”، للكاتب توفيق فياض.

و جملة القول، في هذا البحث القيم، درس غسان أولا الحروب التي تشنها إسرائيل لتهويد المجتمع العربي، و المجازر التي تقام لإبادة العرب، والمؤامرات التي تتبناها السلطات الإسرائيلية لدفع العرب إلى التخلف، و نهب أراضيهم، هدم قراهم، و سلب ممتلكاتهم، و التعذيب الذي يلقى المثقفون العرب. ثم درس الأدب المقاوم الذي تصدى لتفويت مؤامرات الصهاينة، و صرخ في وجه السلطات الظالمة رغم كل القيود، والمصائب، والمشكلات. أما الفصل الثالث فليس إلا امتدادا للفصل الثاني، تثبيتا أكثر لدور المقاومة في الصمود والرفض لكل أشكال القمع الإسرائيلي.

في الأدب الصهيوني:

هذه الدراسة التي صدرت لأول مرة عام 1967 بعنوان “في الأدب الصهيوني”، في بيروت، تأتي بين الدراستين المذكورتين أعلاه، فنشرت بعد الدراسة الأولى بسنة، و قبل الدراسة الثانية بسنة، و يبدو أن هذه الدراسة جاءت مكملة أو امتدادا للفصل الثاني من الدراسة الأولى، الذي تناول “البطل العربي في الرواية الصهيونية مقابل الأدب العربي الفلسطيني”، و كذلك يبدو أن غسان كان يدرس الأدب الصهيوني أيضا بالإضافة إلى دراسته للأدب الفلسطيني المقاوم، كما يقول محمود درويش في مقدمته للمجلد الرابع من الأعمال الكاملة المحتوية على دراسات غسان كنفاني: “في الوقت الذي كان يكشف فيه غسان كنفاني غطاء السر عما يكتبه كتاب الأرض المحتلة العرب، كان يدرس نقيض هذه الكتابة و إحدى مواد محاوراتها: الكتابة الصهيونية، و دورها في تشكيل الوعي والكيان، الصهيونيين. و بكلمات أخرى كان يدرس فاعلية الكتابة لدى العدو، فقدم بذلك أول دراسة عربية عن واحد من أخطر الموضوعات الصهيونية.”[18]

فكان غسان كنفاني في كتابته عن الأدب الصهيوني أيضا كاشفا و رائدا مثلما كان في كتابته عن الأدب المقاوم، وقد نعته عادل الأسطة أيضا بالريادة في الدراسة عن الأدب الصهيوني كما نعته محمود درويش فيما سقت آنفا من قوله، فيقول عادل أسطة: “قد كان كنفاني أول من كتب دراسة باللغة العربية حول الأدب الصهيوني.”[19] و في الحقيقة، كان غسان قد بدأ دراسة الأدب لدى العدو قبل أن يبدأ دراسة الأدب المقاوم في الأرض المحتلة، و يدل على ذلك بحثه الذي أعده بعنوان “العرق والدين في الأدب الصهيوني” عندما كان طالبا بجامعة دمشق في وقت مبكر من حياته.

قد ساعد غسان في دراسته للأدب الصهيوني إلمامه باللغة الانجليزية، فقد كان تعلم في مدرسة في يافا كانت تركز على الانجليزية. و خلال دراسته للأدب الصهيوني المكتوب أو المترجم بالإنجليزية، أدرك غسان الدور الهام لهذا الأدب الذي استخدمه الصهاينة في حملاتهم الدعوية، و نشر رؤيتهم في العالم، وإقناع دول أوربا في إقامة دولة لهم، فالأدب الصهيوني -بغض النظر عن لغة الكاتب، وبلده، ودينه، وعرقه- ليس إلا السلاح الذي خدم حركة الصهاينة لاستعمار فلسطين كما يقول كنفاني “ربما كانت تجربة الأدب الصهيوني هي التجربة الأولى من نوعها في التاريخ حيث يستخدم الفن في جميع أشكاله ومستوياته للقيام بأكبر وأوسع عملية تضليل وتزوير تتأتى عنها نتائج في منتهى الخطورة.”[20] و ذهب غسان في هذا الكتاب إلى “أن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية، وما لبثت أن استولدتها وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليلعب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة التي نُظمت لتخدم هدفاً واحداً.“[21]

خلاصة القول:

من خلال دراساته المذكورة أعلاه، قام غسان كنفاني بتجسيد حكمتين: أولا “اعرف نفسك”، و ثانيا “إعرف عدوك”. فعن طريق دراستيه “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966″، و “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968″، إنه جسد الحكمة الأولى أى “اعرف نفسك”، حينما عن طريق الدراسة الثالثة “في الأدب الصهيوني” إنه قام بتجسيد الحكمة الثانية يعني “إعرف عدوك”، كما يقول بنفسه: “وكل ما تطمح إليه هذه الدراسة هو أن تلقي ضوءاً آخر على الشعار الصعب اعرف عدوك.”[22] و ذلك ليس للمعرفة الباردة أو التأملية فقط، بل للرصد، والاستعداد، والصراع. و يقول أنيس صائغ الذي عرف غسان طويلا و كتب مقدمة لهذا الكتاب فيما بعد “جمعت بيني و بين غسان أسباب كثيرة، أولها و أكثرها أهمية شعار إعرف عدوك…كان غسان مهجوسا بمعرفة كل ما له علاقة بالعدو الصهيوني، بل إنه قرأ تاريخ فلسطين الحديث من وجهة نظر الدمار الذي ألحقه الصهيونيون به[23]” و كان غسان في كل ذلك رائدا و مكتشفا منفردا.

مراجع الفصل:

[1]  Harlow Barbara (1987), Resistance Literature, New York, Methuen, Page no.02.

[2]  كنفاني، غسان، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، عام 1968، صـ 10.

[3]  Harlow Barbara (1987), Resistance Literature, New York, Methuen, Page no.10.

[4]  كنفاني، غسان، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، عام 1968، صـ 9.

[5]  نفس المصدر، صـ 11

[6]  نفس المصدر، صـ 11

[7]  نفس المصدر، صـ 19

[8]  نفس المصدر، صـ 45-46

[9]  نفس المصدر، صـ 50-51

[10]  نفس المصدر، صـ 63

[11]  نفس المصدر، صـ 64 و 66.

[12]  نفس المصدر، صـ 67.

[13]  نفس المصدر، صـ 68.

[14]  نفس المصدر، صـ 72.

[15]  نفس المصدر، صـ 75.

[16]  نفس المصدر، صـ 76.

[17]  نفس المصدر، صـ 84.

[18]  عادل الأسطة، استقبال شعر المقاومة في النقد الأدبي في العالم العربي، مقال قرئ في مؤتمر “ثقافة المقاومة”، في جامعة فلاديلفيا، الأردن، في نيسان عام 2005، صـ 2.

[19]  عادل الأسطة، الأديب الفلسطيني والأديب الصهيوني، منشورات شمس في فلسطين، 1993، صـ 10.

[20]  كنفاني، غسان، في الأدب الصهيوني، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1967.

[21]  نفس المصدر، صـ

[22]  نفس المصدر، صـ 28.

[23]  فيصل دراج، مجموعة برقوق نيسان والقميس المسروق و قصص أخرى، وزارة الثقافة والفنون والتراث، قطر، صـ 69

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of