+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

محمد البشير الابراهيمي: حامل لواء الدفاع عن اللغة العربية
محب الدين إيمان*

إن العلماء هم سادة الناس وقادتهم الأجلّاء، وهم منارات الأرض، وورثة الأنبياء، ذلك أنهم تميزوا بالعلم الذي فضّل الله به الأنبياء واصطفاهم عن غيرهم، لأن العلم أجلُّ الفضائل، وأشرف المزايا، وأعزُّ ما يتحلى به الإنسان، فهو أساس الحضارة، ومصدر أمجاد الأمم، وعنوان سموها وتفوقها في الحياة، ورائدها إلى السعادة الأبدية، والعلماء بعد الأنبياء  كانوا هم حملته وخزنته. من أجل هذا جاءت الآيات والأخبار لتكريم العلم والعلماء، والإشادة بمقامهم الرفيع، وتوقيرهم لتحليهم بالعلم، وجهادهم في الحفاظ على ثوابت الأمم  وتعزيزها، ودأبهم على إصلاح المجتمع وإرشاده. قال الله تعالى : ﴿ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.[1]

ومن العلماء من اجتمع فيهم شرف العلم، وشرف التصدي لمخططات الاستعمار والأعداء في طمس الثوابت الوطنية و اللغوية والدينية لبلدانهم، وجاهدوا المستعمر بكل ما أوتوا من علم وقوة وعزم. ويأتي الشيخ العلامة محمد البشير الابراهيمي في مقدمة هؤلاء العلماء الأفذاذ، الذين حملوا لواء الإصلاح و التغيير في مجتمعاتهم، ونبذوا أي مشروع تدميري أجنبي ، يهدد الحفاظ على ثقافة ولغة ودين أوطانهم .

إن فراسة وموهبة الشيخ محمد البشير الابراهيمي في التنبه للأخطار المحيطة ببلده وأمته ، مكّنته من تبوّأ مكانة مرموقة بين علماء عصره ، كيف لا وقد حرص رغم كل الصعاب على تنوير أفراد مجتمعه، والدفاع عن قيمهم ودينهم ولغتهم، من سطوة المستعمر الصليبي الذي فرض سيطرته على الجزائر بلد الشيخ البشير الابراهيمي منذ العام 1830م. وحتى نتعرف على جهود الشيخ الابراهيمي الجليلة في الحفاظ على أصالة وتراث الجزائر العلمي والديني ، و إسهاماته في  الدفاع عن اللغة العربية خاصة و الأدب العربي عامة، ومن هنا جاء بحثنا المعنون: محمد البشير الابراهيمي، جهوده في الدفاع عن اللغة العربية و إسهامه في أدبها.

إن مفتاح الدخول إلى معرفة حياة البشير الإبراهيمي وفهمها فهمًا حقيقيًا ليس الاطلاع على حياته فحسب، بل الاطلاع على الحقبة التاريخية في الجزائر في زمن البشير الإبراهيمي، والوقوف على مختلف أبعادها الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وفهم تطور الوعي في المجتمع الجزائري الذي تطورت معه أساليب المقاومة والجهاد من أجل التحرير والاستقلال؛ لأن الذي لا يفهم طبيعة هذه المرحلة فهمًا دقيقًا لا يستطيع أن يفهم الدور الذي قام به البشير الإبراهيمي، ولأجل هذا فقد وضعت نبذة للحقبة التاريخية للجزائر زمن البشير الإبراهيمي، وكيف كانت الأوضاع في تلك الفترة. اتبعت في هذه المادة العلمية المتواضعة البحث التاريخي واستقراء الأحداث التاريخية ومعطياتها الفكرية والسياسية والثقافية خاصة، ووضعها وتحليلها، اذ اقتضت الدراسة تقسيمها الى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة، حيث كان لا بد في المبحث الأول أن نبدأ بنبذة قصيرة عن تاريخ الجزائر باعتبار أن الشيخ محمد البشير الابراهيمي، تأثر كثيرا بتاريخ الجزائر والاحتلال الفرنسي. ثم نتعرف على مراحل حياة الشيخ محمد البشير الابراهيمي، لنصل إلى جهوده في الدفاع عن اللغة العربية و إسهاماته في أدبها.

المبحث الأول: تاريخ الجزائر و الاحتلال الفرنسي

انطلاقا من نظرية الإنسان ابن بيئته وعصره، وكما قال أحمد طالب الابراهيمي: ” إن الحديث عن الابراهيمي هو حديث عن الجزائر: أصالة وحضارة وصموداً ونهضةً وتحرراً، فقد جسد الجزائرفي شخصيته : نشأة وتكوينا وإشعاعاً وقولاً وكتابةً وسلوكاً”.[2]

فلا شك أن مميزات هذه البيئة كان لها الدور البارز في تنشئة وتكوين شخصية وفكر الشيخ محمد البشير الابراهيمي،  كما أن البشير الابراهيمي  بذل نفسه وماله وقلمه خدمة للجزائر والجزائرين طيلة حياته ، فقلد عاش أغلب حياته والجزائر تحت ظلم الاحتلال الفرنسي منذ العام 1830م إلى العام 1962م . ولم ينعم بجزائر حرة مستقلة إلا ثلاث سنين فقط من عمره، هذا الاحتلال الذي أحكم سيطرته على الجزائر قرنا وربع القرن، انتهج خلال هذه المدة الطويلة كل أنواع الإقصاء و التهميش و التجهيل على أفراد الشعب الجزائري، حتى يهدم الجزائر الجزائرية ويقيم مكانها الجزائر الفرنسية.

الجزائر اسم لمدينة عظيمة على البحر الرومي، تعرف قبل مجيء العرب باسم أقسيوم ICOSIUM)). ولم تكن تطلق على وطن مترامي الأطراف إلا منذ العصر العثماني، حيث اتخذ العثمانيون هذه المدينة عاصمة للمملكة ذات حدود مقررة، فاشتق اسم هذا الوطن من اسم عاصمة دولته الجزائر.[3] الجزائر أو ما تسمّى اليوم رسميّاً “الجمهوريّةة الجزائريّة الديموقراطيّة الشعبيّة”، هي إحدى دول المغرب العربيّ وهي أكبر دولة إفريقيّة من حيث المساحة بمساحةة تقدر 2.381.741كم. تقع دولة الجزائر في الشمال الغربيّ لقارّة إفريقيا. تطلّ على البحر الأبيض المتوّسط شمالاً، ويحدّها من الشرق دولة تونس وليبيا، ومن الغرب تحدّها المغرب وموريتانيا، ومن الجنوب مالي و النيجر.  يسود الجزائر مناخ البحر الأبيض المتوسط في الشمال وهو مناخ رطب وممطر شتاء وجاف وحار صيفاً، أما في الجنوب فيسوده المناخ الصحراوي الجاف و الحار. الأمازيغ و الطوارق هم السكان الأصليين في الجزائر، وكباقي الدول العربية، عرف تاريخ الجزائر توافد مجموعات بشرية متنوعة منهم الإغريق و الرومان و الفينيقيين و الوندال و البيزنطيين، ولم يثبت أنه حدث اختلاط كبير بين هذه الشعوب و الأمازيغ، أما بعد الفتح الإسلامي فقد توافد العرب والأندلسيون و العثمانيون. اعتنق مجمل السكان الإسلام بعد الفتوحات الإسلامية. ويقدر عدد سكان الجزائر اليوم ما يقارب الأربعين مليون نسمة. تتميز الجزائر بتنوع تضاريسها الطبيعية الخلابة، وتشكل الصحراء أربعة أخماس مساحتها، ويعد موقعها الجغرافي موقعا استيراتيجيا، لأنها تتوسط  دول المغرب العربي و تمثل جسرا طبيعيا إلى العالم العربي والإسلامي وبما أنها من دول البحر الأبيض المتوسط، فهي أيضا محور تبادل وتعاون مع القارة الأوربية ، فهي هكذا تاريخيا وجغرافيا  واقتصاديا أحد  أهم روافد الحضارة المتوسطية. في القرن السابع عشر كانت الدولة العثمانية قد ضمت الجزائر تحت سيادتها، عبر الأخوان بارباروس: خير الدين وعروج،  اللذان استنجدا بهما الجزائريون بعد المحاولات الاسبانية المتكررة في الهجوم على الاسطول البحري الجزائري، وهكذا جعلا الاخوان بارباروس، من سواحل البلاد الجزائرية، قاعدة لعملياتهم البحرية على الأساطيل المسيحية، بلغت هذه النشاطات ذروتها سنة 1600م، حتى أُطلق على مدينة الجزائر في ذلك الوقت اسم (دار الجهاد).[4]

الاحتلال الفرنسي للجزائر:  فرنسا، التي كانت تنوي احتلال الجزائر منذ عهد نابليون بونابرت، استعملت حادثة المروحة[5]، كذريعة لاحتلال للجزائر، هاجمت الجزائر بحملة بلغ قوامها 37600 جندياً،  في 14 يونيو 1830م، واستطاعت إحكام سيطرتها على كامل البلاد بعد انهيار المقاومة في العاصمة الجزائر.  لم تحتل فرنسا الجزائر بسهولة بل كانت هناك ثورات شعبية عديدة في كل إقليم وقفت في وجهها وقد عرقلت تقدم الاحتلال منذ دخوله. لقد كان الشعب الجزائري رافضا الاستعمار الفرنسي جملة و تفصيلا،  حيث واجهت فرنسا ثورات شعبية عديدة،  و ما كانت تخمد واحدة حتي تثور الأخرى إلى غاية القرن العشرين . ثم اندلعت  ثورة التحرير الجزائرية في عام 1954 م التي حررت الجزائر من  قرن و ربع القرن من الاستعمار  في الخامس من جويلية سنة 1962 م.

واقع الثقافة و التعليم في الجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي وقبله :

لقد كانت الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي عام 1830م، تشهد ازدهارا ثقافيا ونشاطا فكريا عبر كل مدنها في الشمال والجنوب، وما انتشار المدارس والمعاهد والزوايا في مختلف نواحي الجزائر خلال تلك الفترة،  إلا دليلاً على أن الحياة الفكرية والثقافية كانت بأفضل حال. وكان من نتائج هذا الانتشار الواسع لمراكز التربية والتعليم، أن أصبحت نسبة المتعلمين في الجزائر تفوق نسبة المتعلمين في فرنسا، فقد كتب الجنرال فالز سنة 1834م: “بأن كل العربب الجزائريين تقريًبا يعرفون القراءة والكتابة، حيث إن هناك مدرستين في كل قرية”[6]. أما الأستاذ ديميري، الذيي درس طويًلا الحياة الجزائرية في القرن التاسع عشر، فقد أشار إلى أنه قد كان في قسنطينة وحدها قبل الاحتلال، خمسةة وثلاثون مسجًدا كانت تستعمل كمراكز للتعليم، كما كان هناك سبع مدارس ابتدائية وثانوية، يحضرها بين ستمائة وتسعمائة طالب، ويدّرس فيها أساتذة محترمون لهم أجور عالية. وقد أحصيت المدارس في الجزائر سنة 1830م، بأكثر من ألفي مدرسة ما بين ابتدائية وثانوية وعالية. وكتب الرحالة الألماني فيلهلم شيمبرا حين زار الجزائر في شهرر ديسمبر 1831م، يقول: ” لقد بحثُت قصًدا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه،، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا، فقلما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب”. وخير المثال ما شهد به الأعداء.  وقد برز في هذه الفترة في الجزائر، علماء في كثير من العلوم النقلية والعقلية، زخرت بمؤلفاتهم المكتبات العامة والخاصة في الجزائر، غير أن يد الاستعمار الغاشم عبثت بها سلًبا وحرًقا، في همجية لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيًلا.  يقول أحد الغربيين واصًفا ذلك: “إن الفرنسيين عندما فتحوا مدينة قسنطينة في شمالي أفريقيا، أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم، كأنهم من صميم الهمج.” يظهر مما ذكرنا، أنه كان للجزائر مكانها المرموق بين الدول في خدمة علوم العربية والإسلام، كما قدّمت للميدان أعلامًا من رجالها، حملوا الأمانة، وكانت تُشدُّ إليهم الرحال في طلب العلم. و من ثمرات الازدهار التعليمي والثقافي الذي كان قبل الاستعمار الفرنسي، أن أربعين بالمائـة (40%) مـن السـكان الذكور، كانوا يحسنون الكتابة والقراءة، و احتواء كل قبيلة وحي عصري على مدرسة.   أما بعد الاحتلال،  فقد انقلبت الموازين و تغيرت الأوضـاع ، إذ تـم انتهـاج سياسـة  تعليمية، تعتمد على التجهيل و الفرنسة والإدماج و التغريب. ونجـاح هـذه السياسـة: يكمن في العزل القسري الذي انتهجه الاستعمار، للمقومات الحضارية للتراث العربي الإسلامي في الجزائر وتغييـر الهوية الثقافية السائدة، ومن ثم على الجزائر أن تكون فرنسية في كل شـيء، وأن تنسـى  ذاكرتها و جسور اتصالها بالماضي دفعة واحدة و إلى الأبـد و في هذا السياق،  تم الاستيلاء على مراكز الثقافة العربية و الإسـلامية مـن مسـاجد و مدارس و زوايا، و تحويلها إلى مراكز للثقافة الفرنسية و للهيئـات التبشـيرية المسـيحية، أو إلى ثكنات و إسطبلات و متاجر، لأن هذه المراكز هي التي كانت تحتضن التعليم التقليـدي في الجزائر. إن هذا الهجوم الاستعماري الشرس على الثقافة العربية الإسلامية، كان ينبع من إدراك قادة الاحتلال الفرنسي، أن هذه الثقافة هي العائق الرئيس، الذي يمكن أن يقاوم ما كانت تسعى إليه من مسخ و تشويه، و من ثم وجب تجريد الشعب الجزائري منها،  فكانت القرارات و المراسيم التي تخرج بها دوائر القرار في الحكومة الفرنسية في هذا الصدد، تتهاطل بلا انقطـاع،  وما أكثر معلمي اللغة العربية، الذين حوكموا أو غرموا و سجنوا مع اللصوص و المجـرمين على حد سواء،  بحقد و كراهية كبيرين : (( فلقد شهدت المحاكم في الجزائر مناظر مخجلة يساق فيها معلمو اللغة العربية في موكب اللصوص و القتلة و المجرمين لمحاكمتهم على صعيد واحد، و قد تنال رحمة القضاة الفرنسيين بعض القتلة و اللصوص و لكن ما جربت يومـا أن  تنال معلم اللغة العربية أبدا))[7]. وعلى سبيل المثال ؛ فقد بلغ سنة 1948م وحدها ، عـدد  المعلمين الذين حوكموا بتهمة التعليم ” الحر ” ، حوالي ثلاثين معلما و مديرا. وسعيا أيضا إلى فرنسة الألسنة والعقول، تم إبعاد اللغـة العربيـة مـن الإدارة و فرضت اللغة الفرنسية كلغة لغة رسمية في جميع الميادين، و تم تشجيع استعمال اللغة العاميـة  في الكتابة و المدارس.

كل هذا من أجل تحطيم اللغة العربية، التي كانت بالنسبة للفرنسية بمثابة الصخرة الغيور،  والعدو الحقود اللدود، على حد تعبير الدكتور ” عبد المالـك  مرتاض. و لم يقف الأمر عند هذا الحد،  بل تم الاستيلاء حتى على المكتبات العمومية، ونهـب مخطوطاتها و كتبها وإحراقها، وهذا منذ أيام الأولى للاحتلال، مثل ما حدث لمكتبة ” الأميرعبد القادر ” ( 1807م-1883م)  الذي كان يقتفي آثار الجيش الفرنسي في الصحراء ، بأوراق  كتب مكتبته المبعثرة.  وفي مظهر آخر من مظاهر الظلم الذي تعرض إليه أبناء الجزائر ثقافيا، ذهب المستشرقون الفرنسيون في الاستهانة باللغة العربية إلى حد كتابتها للجزائريين بالحرف اللاتيني، بدعوى وصولها السريع إلى الأفهام، وإذا كتبوها بالحرف العربي فهي بعيدة عن العربية الأصيلة، إذ يبدو فيها الضعف وسوء التركيب واضحين، ناهيك عن الأخطاء التي تعمدوا إدراجها رغم معرفتهم الجيدة للغة العربية، وقسموا العربية بناء على ذلك إلى قسمين هما : اللغة الكلاسيكية، ويعنون بها الفصحى، واللغة الحديثة التي يعنون بها المستحدثة والمختلطة بالعامية. وهكذا لم تُبق يد الاستعمار الفرنسي الهمجية أي وسيلة أو أسلوب لطمس الشخصية الجزائرية العربية الاسلامية، بل اقتلاعها من جذورها من نفسية هذا الشعب المضطهد، حتى يصير الإنسان الجزائري لا يعرف أن يكون لا أمازيغيا ولا عربيا ولا مسلما ولا حتى فرنسيا، لا يبقى من مشاعر الإنسانية عنده، إلا الخضوع والانصياع لهذا المستعمر. لكن لله الحمد و المنة، قيض لهذا الشعب المضطهد، رجالا حملوا لواء الحرية و الجهاد، وعقدوا العزم على أن تحيا الجزائر.[8]

بهذا العرض المتواضع، تتضح لنا طبيعة الوسط الثقافي والفكري الذي تربى وترعرع في عصره الشيخ محمد البشير الابراهيمي، ويبقى أن نتعرف على شخصية الشيخ وأسرته ونشأته، ورحلاته، وشيوخه، ومكانته العلمية.

المبحث الثاني: محمد البشير الابراهيمي، حياته و آثاره.

 اسمه و نسبه هو: محمد البشير بن محمد السعدي بن عمر بن محمد السعدي بن عبد الله بن عمر الإبراهيمي. و(الإبراهيمي) نسبة إلى قبيلة عربية ذات أفخاذ وبطون تعرف بـ “أولاد إبراهيم”، وهي إحدى قبائل سبع متجاورة في سفوح الأطلس الأكبر الشمالية المتصلة بقمم جبال أوراس من الجهة الغربية، وكل ذلك واقع في مقاطعة قسنطينة من القطر الجزائري، ويرتفع نسب القبيلة إلى إدريس بن عبدالله الجذم الأول للأشراف الأدارسة، وإدريس هذا- يُعرف بإدريس الأكبر- هو الذي خلص إلى المغرب الأقصى بعد “وقعة فخ” بين العلويين والعباسيين، وإليه ترجع أنساب الأشراف الحسنيين في المغربين: الأقصى والأوسط.[9]

مولده ونشأته: ولد البشير الإبراهيمي عند طلوع الشمس من يوم الخميس، الرابع عشر من شوال، عام 1306هـ، الموافق للثالث عشر من يونيو 1889م، في دائرة سطيف، قبيلة “ريغة” الشهيرة بأولاد إبراهيم. أما نشأته: فقد نشأ على ما نشأ عليه أبناء البيوتات العلمية الريفية من طرائق الحياة التي تقوم في الغالب على البساطة في المعيشة، والطهارة في السلوك، والمتانة في الأخلاق، والاعتدال في الصحة البدنية. وما إن جاوز الثالثة من عمره حتى أخذ في تعلم الكتابة وحفظ القرآن الكريم، وكان الذي يعلمه ويلقنه جماعة من أقاربه من حُفَّاظ القرآن، وبإشراف عمه الشيخ محمد المكّي الإبراهيمي، عالم الإقليم بوطن “ريغة”، وكان من أبرز علماء الجزائر في ذلك الزمان، وكان متقنًا لعلوم اللسان العربي. تعلم البشير الإبراهيمي على يدي عمه الشيخ محمد المكي الإبراهيمي على الطريقة التقليدية الموروثة في ذلك الوقت، والتي كانت تتمثل في أن الأسر العلمية يأوي إليها المنقطعون لطلب العلم، وتتكفل الأسرة بإطعام الغرباء منهم مهما كان عددهم، ويقوم عالم الأسرة، أو علماؤها بتعليمهم دروسًا منظمة على ساعات اليوم. واستمر في التعلم على يدي عمه، فحفظ القرآن، وحفظ كثيرًا من المتون، ودرس كثيرًا من الكتب الشرعية واللغوية وسائر علوم الآلة إلى أن مات عمه -رحمه الله-.  لما بلغ البشير الإبراهيمي التاسعة من عمره أصيبت رجله اليسرى بمرض، وكان بعيدًا عن المشافي ومراكز التطبيب، فأصيب بعاهة العرج، ولكن تلك العاهة لم تعِقْه من تكميل مشروعه العلمي، فقد واصل في طلب العلم، وأنساه ما كان يُحصِّله عاهتَه.

زواجه وأولاده: تزوج في السن التاسعة والعشرين من عمره بدمشق من فتاة تونسية من أصل تركي كانت أسرتها قد خرجت من المدينة زمن خروج البشير الإبراهيمي وأسرته، وأنجب منها ولدًا ذكرًا لم يلبث أن مات، وقد أنجب في الجزائر بعدما عاد إليها أربعة أولاد: ابنان وبنتان، فالابنان أكبرهما محمد، وكان يعين والده على نفقات الأسرة، وهو الذي جمع آثار والده فجاءت في خمس مجلدات، سماها “آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي. عاش البشير الإبراهيمي في ظل الاحتلال الفرنسي الذي أحكم سيطرته على الجزائر منذ سنة 1830م،  لم يغادر منها إلا سنة 1962م،  بعد ثورة مسلحة دامت سبع سنوات ونصف،  أما ما عاشه  البشير الابراهيمي بعد الاحتلال فقد كانت فترة قصيرة، لم تزد عن ثلاث سنين، كانت فيها الجزائر في مرحلة انتقالية، لم يقم خلالها إلا بنشاطات محدودة بسبب تقدمه في السن، واعتلال صحته، ووضعه في الإقامة الجبرية إلى غاية وفاته في مايو 1965م.[10]

 تكوينه العلمي و الفكري : تربى البشير الإبراهيمي منذ نعومة أظفاره على العلم، ثم رحل من أجله في البلدان العربية، والتقى المفكرين والأدباء، وكان هذا دأبه حتى أصبح عالمًا مجتهدًا، وأديبًا بارعًا، وخطيبًا مصقعًا، وسياسيًا محنكًا، وموسوعةً في التفسير والحديث والفقه واللغة والأدب. وهذا التحصيل مر بمراحل:

المرحلة الأولى: بعد أن بلغ الثالثة من عمره أخذ في تعلم الكتابة وحِفْظِ القرآن الكريم على جماعة من أقاربه من حفاظ القرآن، وبإشراف عمه الشيخ محمد المكّي الإبراهيمي عالم الإقليم وحامل لواء الفنون العربية من نحوها وصرفها واشتقاقها ولغتها.

المرحلة الثانية: لما بلغ البشير سبع سنين فرض عليه عمُّه برنامجًا صارمًا في التعليم، فكان لا يفارقه حتى في ساعات النوم، فهو من يأمره به، ويوقظه منه، وما إن وصل إلى التاسعة حتى حفظ القرآن الكريم كاملًا حفظًا متقنًا، وحفظ معه ألفية ابن مالك، وتلخيص المفتاح، وما بلغ الرابعة عشرة حتى حفظ أَلْفِيَتي العراقي: في الأثر والسير، ونظم الدول لابن الخطيب ومعظم رسائله المجموعة في كتابه: ريحانة الكُتَّاب، ومعظم رسائل فحول كُتَّاب الأندلس: كابن شهيد، وابن أبي الخصال، وأبي المطرف ابن أبي عميرة، ومعظم رسائل فحول كُتَّاب المشرق: كالصابي، والبديع، مع حفظ: المعلقات، والمفضليات، وشعر المتنبي كله، وكثير من شعر الرضي، وابن الرومي، وأبي تمام، والبحتري، وأبي نواس، كما استظهر كثيرًا من شعر الثلاثة: جرير، والأخطل، والفرزدق، وحفظ كثيرًا من كتب اللغة كاملة: كالإصلاح، والفصيح، ومن كتب الأدب: كالكامل، والبيان، وأدب الكاتب، وحفظ -في تلك السن- أسماء الرجال الذين ترجم لهم صاحب نفح الطيب، وأخبارهم، وكثيرًا من أشعارهم.  ولم يزل عمه يتدرّج به من كتاب إلى كتاب تلقينًا وحفظًا، ومدارسة للمتون والكتب التي حفظها، فكان يقرئه الدروس مع الطلاب، ويقرئه وحده، ويقرئه وهو يماشيه في المزارع، ويقرئه على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت وفي الظلمة، حتى يغلبه النوم، ولم يكن شيء من ذلك يرهق ذلك الغلام، لأن اللّه تعالى وهبه حافظة خارقة، وقريحة نيّرة. ولما بلغ أربع عشرة سنة، مرض عمه مرض الموت، ومع ذلك كان لا يخليه من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت، فختم الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه. وهو على تلك الحالة. فلما مات عمه شرع في تدريس العلوم التي دَرَسَها على عمه، وأجازه بتدريسِها، وعمره أربع عشرة سنة، فجلس لتدريس زملائه الذين كانوا طلبة عند عمه، ثم جاء طلبة العلم من البلدان القريبة منه لأخذ العلم، والتزم والداه بإطعام الطلبة، والقيام عليهم كالعادة التي كانت في حياة عمه، وكان في بعض السنين يتنقل بين المدارس القريبة يُدرِّس فيها لسعتها، وتيسر السكنى بها، ودام على تلك الحال إلى أن جاوز العشرين من عمره، ثم جاءت رحلته إلى الشرق.[11]

المرحلة الثالثة: رحلته إلى الشرق: كان والد الشيخ البشير قد هاجر إلى المدينة المنورة سنة 1908م، واستقر بها فرارا من ظلم فرنسا، وأرسل إلى ولده يستحثه أن يلحق به، فتاقت نفس الولد إلى المدينة المنورة ، وما أن أتى أواخر سنة 1911م، إلا وتخلص الولد من الخناق الذي كان قد فُرض عليه من قبل الفرنسيين بعد هجرة أبيه، ولحق بوالده إلى هناك ، وكان عمره حينئذٍ قد جاوز العشرين. وفي طريقه إليها مر بالقاهرة، فأقام بها ثلاثة أشهر، والتقى فيها بزعماء النهضة الفكرية والأدبية، وأخذ عنهم بعض العلوم، ومن هؤلاء: الشيخ سليم البشري، والشيخ محمد بخيت، والشيخ رشيد رضا، كما زار أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وأسمعهما بعض أشعارهما. في أواخر سنة 1911م. بعد وصوله المدينة المنورة أخذ يطوف بالعلماء، فوجد الشيخ العزيز الوزير التونسي، والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، فأُعجِب بهما، فلازمهما ملازمة الظل. ويقول البشير الإبراهيمي عن هذين الشيخين: “ولم أجد علمًا صحيحًا إلا عند رجلين هما شيخاي: الشيخ العزيز الوزير التونسي، والشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، فهما- والحق يقال- عالمان محققان، واسعا أفق الإدراك في علوم الحديث وفقه السنة، ولم أكن راغبًا إلا في الاستزادة من علم الحديث، رواية ودراية، ومن علم التفسير، فلازمتهما ملازمة الظلّ، وأخذت عن الأول الموطأ دراية، ثم أدهشني تحقيقه في بقية العلوم الإسلامية، فلازمت درسه في فقه مالك، ودرسه في التوضيح لابن هشام، ولازمت الثاني في درسه لصحيح مسلم، وأشهد أني لم أَرَ لهذين الشيخين نظيرًا من علماء الإسلام إلى الآن، وقد علا سني، واستحكمت التجربة، وتكاملت الملكة في بعض العلوم، ولقيت من المشايخ ما شاء الله أن ألقى، ولكنني لم أَرَ مثل الشيخين في: فصاحة التعبير، ودقة الملاحظة، والغوص عن المعاني، واستنارة الفكر، والتوضيح للغوامض، والتقريب للمعاني القصية. ولقد كنت لكثرة مطالعاتي لكتب التراجم والطبقات قد كوّنت صورة للعالم المبرز في العلوم الإسلامية، منتزعة مما يصف به كُتَّاب التراجم بعض مترجميهم، وكنت أعتقد أن تلك الصورة الذهنية لم تتحقق في الوجود الخارجي منذ أزمان، ولكنني وجدتها محقّقة في هذين العالمين الجليلين”[12]. ثم أخذ  علم الجرح والتعديل وأسماء الرجال وأنساب العرب وأدبهم الجاهلي والسيرة النبوية عن الشيخ محمد عبد الله زيدان الشنقيطي، وعلم المنطق عن الشيخ عبد الباقي الأفغاني. أما ما تبقى له من أوقات فكان يقضيها في إلقاء الدروس في العلوم التي لا يحتاج فيها إلى مزيد كالنحو والصرف والعقائد والأدب، والتردد على المكتبات الجامعة، كما أنه كان يستعير كثيرًا من المخطوطات النادرة من أصدقائه وتلامذته الشناقطة، فيقرأها ويستوعب ما فيها ويردها إلى أصحابها.

اللقاء بشيخ الجزائر (ابن باديس): أثناء إقامة البشير الإبراهيمي في المدينة تعرف على الشيخ عبد الحميد بن باديس عندما قدم لأداء فريضة الحج عام 1913م، ولم يكن قد قابله من قبل، بل سمع عنه. يقول البشير الإبراهيمي: “كنا نؤدّي فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي، ونخرج إلى منزلي، فنسْمُر مع الشيخ ابن باديس، منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها بالمدينة المنوّرة. كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيرًا للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصّلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورًا ذهنية تتراءى في مخيلتينا، وصحبها من حسن النيّة وتوفيق الله ما حقّقها في الخارج بعد بضع عشرة سنة، وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931م”[13]. بعد هذه الرحلة العلمية -التي استمرت سنوات طويلة أخذ خلالها البشير الإبراهيمي علومًا كثيرة واكتسب فيها معارف متنوعة- حدثت ثورة الشريف حسين؛ فترك المدينة المنورة ورحل إلى دمشق.

الرحلة إلى دمشق وما فيها من أحداث : لما جاءت سنة 1917م أمرت الحكومة العثمانية بترحيل سكان المدينة المنورة إلى دمشق؛ بسبب استفحال ثورة الشريف حسين بن علي، فكان الشيخ من أوائل المطيعين لذلك الأمر، وخرج مع والديه إلى دمشق في ء سنة 1917م. وعند وصوله استأنف حياته العلمية والعملية في مدارس دمشق وأنديتها وبين علمائها وأدبائها. يقول الشيخ الإبراهيمي: “فاستقررت بدمشق في حالة يرثى لها، واتصل بي إثر وصولي جماعة من أهل العلم والفضل …، واتصل بي كثير من أصحاب المدارس الأهلية العربية، فقبلت التعليم عندهم لأقوم بحاجتي وحاجة والدي وأتباعنا، ثم حملني جمال [باشا] على أن أكون أستاذًا للعربية في “السلطاني” وهو المدرسة الثانوية الأولى بدمشق، وما كدت أباشر عملي فيها حتى ذهب جمال باشا ثم ذهب السلطان التركي بعده بقليل، وأصبح التعليم الرسمي كله عربيًا، فأصبحت بذلك أستاذًا للآداب العربية وتاريخ اللغة وأطوارها وفلسفتها بالمدرسة السلطانية الأولى، واطمأنت بي الدار إذ وقعت على وظيفتي الطبيعية، وتخرج على يدي في ظرف سنة واحدة جماعة من الصفوف الأولى هم اليوم في طليعة الصفوف العاملة في حقل العروبة”[14]. ويقول أيضاً: “ما لبثت شهرًا حتى انهالت عليَّ الرغبات في التعليم بالمدارس الأهلية، فاستجبت لبعضها، ثم حملني إخواني على إلقاء دروس في الوعظ والإرشاد بالجامع الأموي بمناسبة حلول شهر رمضان فامتثلت وألقيت دروسًا -تحت قبة النصر الشهيرة- على طريقة الأمالي، فكنت أجعل عماد الدرس حديثًا أمليه من حفظي بالإسناد إلى أصوله القديمة، ثم أملي تفسيره بما يوافق روح العصر وأحداثه، فسمع الناس شيئًا لم يألفوه ولم  يسمعوه إلا في دروس الشيخ بدر الدين الحَسَنِي، ثم بعد خروج الأتراك من دمشق وقيام حكومة الاستقلال العربي دعتني الحكومة الجديدة إلى تدريس الآداب العربية بالمدرسة السلطانية (وهي المدرسة الثانوية الوحيدة إذ ذاك) مشاركًا للأستاذ اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك، فاضطلعت بما حملت من ذلك، وتلقّى عني التلامذة دروسًا في الأدب العربي الصميم، وكانت الصفوف التي أدرس لها الأدب العربي هي الصفوف النهائية المرشّحة للبكالوريا، وقد تخرّج عني جماعة من الطلبة هم اليوم عماد الأدب العربي في سوريا منهم: الدكتور جميل صليبا، والدكتور أديب الروماني، والدكتور المحايري، والدكتور عدنان الأتاسي”[15]. وأثناء انشغاله بالتدريس انشغل كذلك بلقاء العلماء والأدباء، وشارك علماء دمشق في تأسيس المجمع العلمي الذي كان من غاياته تعريب الإدارات الحكومية. وأثناء تلك الإقامة دخل الأمير فيصل بن الحسين دمشق فاتصل به وعرض على الشيخ الابراهيمي، المبادرة بالرجوع إلى المدينة ليتولّى إدارة المعارف بها، فأبى.

 عودته إلى الجزائر : في أوائل 1920م رجع الابراهيمي على الجزائر، فاستقبله صديقه الشيخ ابن باديس، وابتهج لمقدمه لتحقيق أمله المعلّق عليّه، وزاره الابراهيمي بقسنطينة ليرى بعينيه، النتائج التي حصل عليها أبناء الشعبب الجزائري في بضع سنوات من تعليم ابن باديس، واستقر في ذهن الابراهيمي، بعد ما رأى من ذلك اليوم، أن هذه الحركة العلمية المباركة لها ما بعدها، وأن هذه الخطوة المسدّدة التي خطاها ابن باديس هي حجر الأساس في نهضة عربية في الجزائر، وأن هذه المجموعة من التلاميذ التي تناهز الألف هي الكتيبة الأولى من جند الجزائر التي ستحررها من ربقة الاستعمار الفرنسي، ولمس بيديه آثار الإخلاص في أعمال الرجال، فقد رأى كما قال: شبانًا ممن تخرّجوا على يد هذا الرجل وقد أصبحوا ينظمون الشعر العربي بلغة فصيحة وتركيب عربي حرّ، ومعان بليغة، وموضوعات منتزعة من صميم حياة الأمّة، وأوصاف رائعة في المجتمع الجزائري، وتشريح لأدوائه، ورأى جماعة أخرى من أولئك التلامذة وقد أصبحوا يحبرون المقالات البديعة في الصحف، فلا يقصرون عن أمثالهم من إخوانهم في الشرق العربي، وآخرون يعتلون المنابر فيحاضرون في الموضوعات الدينية والاجتماعية، فيرتجلون القول المؤثّر، والوصف الجامع، ويصفون الدواء الشافي بالقول البليغ. واستقر الابراهيمي بعد قسنطينة في موطنه، عند أهله، وبدأ من أول يوم في العمل الذي يؤازر عمل أخيه ابن باديس. [16]

وفاته و آثاره:  بعد أن حصلت الجزائر على استقلالها في 1962م، لزم الشيخ محمد البشير الابراهيمي بيته، ولم يشارك في الحياة العامة بعد أن كبر سنه وضعفت صحته، توفي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، ظهر يوم الخميس التاسع عشر ماي 1965م الموافق 18 من المحرم 1385هـ، عن عمر يناهز السادسة و السبعين عاما.  ومن الطبيعي أن تثير وفاة الشيخ الإبراهيمي، الحزن و الأسى في الجزائر وفي غيرها مـن الأقطار العربية والإسلامية .  ففي الجزائر اعتبر الأستاذ  محمد الطاهر فضلاء تلميـذ الإبراهيمي، وفاة أستاذه كارثة و مصيبة عظيمتين أصابتا المسلمين، بالنظر إلى مكانته الدينية والأدبية و اللغوية. أما في المشرق العربي ، فقد سارع أقطاب الفكر و الأدب و السياسة، و الهيئات العلمية والثقافية ، إلى إقامة حفلات التأبين، و الحديث عن مناقبه و أدبـه و فكـره عبـر المقـالات الصحفية و الأحاديث الإذاعية ، و مما قالته إحدى الشخصيات : أنه بوفاة الإبراهيمي ، يكـون العرب و المسلمون قد دفنوا مع جسده : ” إدارة معارف لا تعـوض “. أمـا علـى الصـعيد  الرسمي، فقد بادرت الحكومات إلى تنكيس الأعلام عن المباني الرسمية، وإعلان الحداد . وبهذا تتوقف مسيرة علم من أعلام الجزائر المعاصرة ، حفلت بالنضال والمقاومة ضـد الاستعمار الفرنسي، الذي ظل يستغل مقدرات البلاد البشرية والمادية، طيلـة مائـة واثنـين وثلاثين عاما، استعمار سعى لتحويـل البلاد إلى أراضي أوروبية لسانا وروحا، وكاد أن يحقق ذلك لولا ظهور الشيخ محمد البشير الابراهيمي والشيخ ابن باديس و نخبة جزائرية مسلحة بالعلم والوطنية،  تصدت للمشروع الفرنسي، رغـم القمـع والقهـر اللـذان كانـت فرنسـا تجابههم بهما. أما فيما يتعلق بالتأليف، فإن البشير الإبراهيمي لم يوليه اهتماما، لأنه كرس جل أوقاته وحياته، لتربية النشء وتعليمه، وللإشراف على الشؤون الإدارية لجمعية العلماء، التي استلم إدارتها في النصف الثاني من شهر أفريل 1940م، بعد وفاة رئيسها الأول الشيخ ” عبد الحميد  ابن باديس ، وجريدة ” البصائر ” لسان الحال الجمعية ومعهد ابن باديس  وقد أوضح  ذلك قائلا ((: لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلا ولكني أتسلى بأنني الفت للشعب رجالا ، وعملت لتحرير عقوله تمهيدا لتحرير أجساده ، وصححت لـه دينه ولغته فأصبح مسلما عربيا ، وصححت له موازين إدراكه فأصبح إنسانا أبيا ، وحسبي هذا مقربا من رضا الرب والشعب ))[17] ومنه نستخلص أن الإبراهيمي ؛ لم يأسف على عدم اهتمامه بالكتابة والتأليف، رغم أنه كان في إمكانه أن يؤلفف عشرات المؤلفات، في الفقه والأدب واللغة والاجتماع، لأن الوضـع الثقافي والعلمي في الجزائر خلال الفترة الاستعمارية، المتسم بـالجمود والانحطـاط، كـان يقتضي التضحية بالطموحات الشخصية لفائدة المصلحة الوطنية العليا. وفي هذا الإطار، ذكر نجله الدكتور ” أحمد طالب الإبراهيمي “: أن والده كانت له عدة مؤلفات وكتابات مخطوطة، في المجالات الدينية واللغوية والأدبية والاجتماعيـة، لكنهـا ضاعت أثناء الثورة التحريرية لما كان في المشرق العربي، عند بعض تلامذته، أو ببيته الذي اقتحمه الجيش الفرنسي، و استولى على كل ما به من كتب و مخطوطات. يضاف إلى ذلك أن عددا كبيرا من الخطب و الدروس و المحاضرات، التي دأب على إلقائها ارتجالا و لم تسجل وقد أورد الشيخ البشير، عناوين تلك المؤلفات في مقاله : ” خلاصة حياتي العلمية ” الذي كتبه بطلب من مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، لما أنتخب عضوا فيه سنة 1961م ، و هـو يمثل خلاصة شاملة لسيرته الذاتية فحصرها في ستة عشر مؤلفا و رسالة و هي :

  • ” عيون البصائر ” : تشمل المقالات التي كتبها في جريدة البصائر في سلسلتها الثانية ، و هو المؤلف الوحيد الذي طبع في حياته بعد الإستقلال ، و قد ظهرت الطبعة الأولـى منـه سـنة 1963م بالقاهرة ، ثم في الجزائر سنة 1971م.
  • ” بقايا النقايات و النفايات في لغة العرب ” : كتاب جمع فيه كل ما جاء على وزن فعالـة  من مختار الشيء أو مرذوله.
  •  ” بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية في الجزائر ” : كتاب تناول فيـه بالدراسـة أصـول اللهجة السائدة في مواطن ” بني هلال بني عامر.
  • ” أسرار الضمائر في العربية ” .
  • ” التسمية بالمصدر “
  • ” الصفات التي جاءت على وزن فعل “
  • ” الإطراء و الشذوذ في اللغة العربية “
  • ” نظم العربية في موازين كلماتها “
  • ” ما أخلت به كتب الأمثال من الأمثال السائرة “
  • رواية ” كاهنة أوراس “
  • ” شعب الإيمان ” : كتاب جمع فيه الفضائل و الأخلاق الإسلامية .
  • رسالة في ” الفرق بين لفظ المطرد و الكثير عن ابن مالك.
  • رسالة في ” ترجيح أن الأصل في بناء الكلمات العربية ثلاثة أحرف لا إثنان ” رسالة في : ” مخارج الحروف و صفاتها بين العربية الفصيحة و العامية ” .
  • ملحمة رجزية “، تبلغ ستة و ثلاثين ألف بيت ، من الرجز السلس اللزومي في كـل بيـت منه ، ألفها في المنفى.[18]

ولا شك أن هذه المؤلفات، ذات قيمة أدبية و لغوية كبيرة،  كان من شـأنها أن تثـري المكتبة العربية، لو لم تمتد إليها يد الإتلاف والضياع . أما المقالات و الخطب والدروس و المحاضرات، التي أمكن جمعها و طبعهـا علـى فترات، فمصدرها بشكل خاص جريدة ” البصائر ” الثانية ، التي كان يكتب فيها أسبوعيا، قبـل أن يرحل إلى مصر سنة 1952م في رحلته الثانية إلى المشرق العربي، عالج فيها مواضيع دينية و سياسية واجتماعية و إصلاحية و أدبية، اعتمـد فيها على توظيف القرآن الكريم و خاصة القصص منه،  والأمثال العربية و أسـلوب الـتهكم و السخرية، وتوظيف قواعد اللغة العربية توظيفا فنيا،  والجرس و الإيقاع الموسيقيين. ويرى الدكتور”عبد المالك مرتاض” أن أسلوب الإبراهيمـي أدبـي كلاسـيكي متين، بليغ و مبدع، و العلة في ذلك حسبه أنه من أحفـظ أهـل زمانـه للقـرآن الكـريم ، وللأحاديث النبوية الشريفة، و للأدب العربي القديم شعره و نثره، و هي خاصية تجعله أكبر أديب في الجزائر خلال النصف الأول من القرن العشرين  ومن  ناحية أخرى ، فقد أتاح الإطلاع على كتابات كتابة الشيخ البشير، اكتشاف أنـه  كان ملما بثقافة و أفكار عصره،  وهو ما أكده نجله الدكتور” أحمد طالب”، الذي أورد أن والده كان يملك ثقافة عصرية وقف عليها بنفسه، وحتى في تخصصات كانت فـي ذلـك الوقت حكرا على فئة قليلة جدا من الجزائريين، ممن درس في المعاهد و الجامعات الفرنسية ، و منهـا علـم الـنفس، حيـث كـان لـه إطـلاع واسـع علـى آراء ” وليـام جـيمس ” CHARLES DARWIN “دارويـن تشـارلز ” و  WILIAM JAMES  و ” جون ستيوارت ميل ” JOHN  STEWART MILL  وغيرهم. وتجدر الإشارة ، إلى أننا اعتمدنا في دراستنا هاته بشكل خاص، على آثار الإبراهيمي التي جمعها و قدمها نجله الدكتور” أحمد طالب ” تحت عنوان:” آثار الإمـام محمـد البشـير الإبراهيمي”، في طبعة جديدة صدرت عن دار الغرب الإسلامي ببيروت سنة 1997م. وجاءت في خمسة أجزاء ، ضمنها كتابات و دروس و محاضرات و أحاديث الشيخ من سـنة 1929م و إلى غاية 1965 م . و قد تميزت هاته الطبعة عن سابقاتها ، كونها تضـمنت آثـارا نشرت لأول مرة من جهة ، بالإضافة إلى مراعاة الجانب المنهجي فيها من جهة ثانية ، فاختص كل جزء بمرحلة زمنية محددة وضع لكل منها سياقها التاريخي ، مع إحالات و تعـاليق عنـد الضرورة . و في الأخير نصل إلى أن الإبراهيمي ؛ لم يشتغل بالكتابة و التأليف.[19]

المبحث الثالث: جهوده في الدفاع عن اللغة العربية و إسهامه في أدبها.

إن الدَّارس لشخصية البشير الإبراهيمي لا يستطيع أن يعرف حقيقة الدور الذي قام به في الجزائر إلا إذا عرف دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وما قامت به من جهود للنهوض بالشعب الجزائري الذي كان قد أمات الاستعمارُ فيه حياتَه الدينية والدنيوية. ومن خلال معرفتنا بجمعية العلماء المسلمين كيف تأسست وتكوَّنت وعملت؛ سيتجلى لنا جهود البشير الإبراهيمي الدعوية والفكرية في الجزائر، وكيف دافع عن اللغة العربية ضد مخططات الاستعمار الفرنسي التي كانت ترمي إلى طمسها و تشويهها،و أحب أن أؤكد هنا كما رأينا سابقا،  أن حياة البشير الابراهيمي و رحلاته التعليمية و العلمية ، لم تكن إلا جهودا منه في سبيل ترقية اللغة العربية أينما حل و ذهب. إذن فنحن بحاجة إلى معرفة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وما قامت به من جهود في نهضة شعب الجزائر. وترجع الفكرة الأولى لتأسيسها، إلى لقاءات البشير الإبراهيمي بالشيخ عبد الحميد بن باديس في المدينة المنورة، ففي سنة 1913م،  كان البشير الإبراهيمي يجتمع في منزله مع ابن باديس ويتسامران لبحث وسائل النهوض بالجزائر، ويقترحان البرامج التي تنهض بشعب الجزائر، لتظل هذه البرامج صورًا ذهنية،  إلى أن تبلورت وتحققت على الميدانن مع رجوع ابن باديس إلى الجزائر، بعد أن أقنعه البشير أنه سيلحق به، لم يضيع ابن باديس وقتا،فقام بتنفيذ الخطوة الأولى من البرنامج الذي اتفق مع البشير، ففتح صفوفًا لتعليم العلم، وجلس في مسجدٍ جامعٍ من مساجد قسنطينة لإمامة الناس وإلقاء الدروس، فتسامع الناس به، وانهال عليه طلاب العلم من السهول والجبال، وتكاثر أتباعه وطلابه. ولما كان عام 1920م عاد البشير الإبراهيمي إلى الجزائر، فزار صديقه ابن باديس في قسنطينة؛ فاطلع على ما قام به من مجهود في التعليم، ونشر الوعي، وتربية الشباب، ثم رجع إلى بلده سطيف ليبدأ هو كذلك، دعوته إلى الإصلاح ونشر العلم، فأسس مدرسة يعلم الشباب فيها ويدربهم على الخطابة والكتابة، وقيادة الجماهير، ولم تنقطع صلته بصديقه ابن باديس، في تلك الفترة فكانا يلتقيان -رحمهما الله- كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر. وفي عام 1924م،  فكر الشّيخ ابن باديس في أن يخطو خطوة عملية تكون تمهيدًا مباشرًا للشروع في التحضير لتأسيس جمعيّة، فطلب من الشّيخ محمّد البشير الإبراهيميّ وضع القانون الأساسي لجمعيّة باسم “الإخاء العلمي.[20]

تأسيس جمعية العلماس المسلمين الجزائريين ودور الإبراهيمي : بعد عام من الاحتفال الذي قامت به سلطات الاحتلال بمناسبة مضي قرن على احتلال الفرنسيين للجزائر، تأسست “جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين” وذلك يوم الثلاثاء 17/ ذي الحجة/ 1349ﻫ، الموافق 5/ مايو/ 1931م، في اجتماع لاثنين وسبعين من علماء القطر الجزائري، ومن شتى الاتجاهات الدينية والمذهبية، ومن الأعيان وطلبة العلم. وكان لابن باديس والبشير الإبراهيمي الدور الأكبر في جمع هؤلاء، وفي هذا الاجتماع تم تأسيس الجمعية، وتشكل مجلسها الإداري المنبثق على النحو التالي : عبد الحميد بن باديس رئيسًا، محمّد البشير الإبراهيميّ نائبًا عنه. وكلف المجلس الإداري الإبراهيمي بإعداد لائحة داخلية يشرح فيها أعمال الجمعية للحكومة حتى لا يتخوفوا منها، فقام بإعداد تلك اللائحة، وتُليت على المجلس الإداري لمناقشتها، وعند إكمال مناقشتها وإقرارها بالإجماع خطب رئيس الجمعية ابن باديس خطبة مؤثّرة أثنى فيها على الإبراهيمي، وكان مما قال: “عجبت لشعب أنجب مثل الشيخ الإبراهيمي أن يضلّ في دين أو يخزى في دنيا، أو يذلّ لاستعمار”[21] . منن هنا بدأ جهاد الشيخ البشير الابراهيمي في الدفاع عن اللغة العربية وترقيتها و الإسهام في أدبها، فبدأت الجمعية فيي رسالتها في السنة الأولى بالدعوة والإصلاح، وبناء المساجد والمدارس،  وفي هذه الفترة كلف الشّيخُ ابن باديس محمّدَ البشير الإبراهيميّ بأن يتولى العمل الذي يجري بالجهة الغربية من البلاد، انطلاقًا من تلمسان، وأبقى قسنطينة وما جاورها تحت إشرافه شخصيًا، وهكذا تقاسم الثلاثة العمل في القطر كله مع رفيقهم الشيخ العقبي.  يقول البشير الإبراهيمي: “وخصصوني بمقاطعة وهران وعاصمتها العلمية القديمة تلمسان، وكانت هي إحدى العواصم العلمية التاريخية التي أخنى عليها الدهر فانتقلت إليها بأهلي، وأحييت بها رسوم العلم، ونظمت دروسًا للتلامذة الوافدين على حسب درجاتهم، وما لبثت إلّا قليلًا حتى أنشأت فيها مدرسة دار الحديث، وتبارى كرام التلمسانيين في البذل لها حتى برزت للوجود تحفة فنية من الطراز الأندلسي، وتحتوي على مسجد وقاعة محاضرات، وأقسام لطلبة العلم، واخترت لها نخبة من المعلمين الأكفاء للصغار، وتوليت بنفسي تعليم الطلبة الكبار من الوافدين وأهل البلد، فكنت ألقي عشرة دروس في اليوم، أبدأها بدرس في الحديث بعد صلاة الصبح، وأختمها بدرس في التفسير بين المغرب والعشاء وبعد صلاة العتمة أنصرف إلى أحد النوادي فألقي محاضرة في التاريخ الإسلامي، فألقيت في  الحقبة الموالية لظهور الإسلام من العصر الجاهلي إلى مبدأ الخلافة العباسية بضع مئات من المحاضرات. وفي فترة العطلة الصيفية أختم الدروس كلها وأخرج من يومي للجولان في الإقليم الوهراني مدينة مدينة وقرية قرية، فألقي في كل مدينة درسًا أو درسين في الوعظ والإرشاد، وأتفقد شُعَبَها ومدارسها، … فإذا انقضت العطلة اجتمعنا في الجزائر العاصمة، وعقدنا الاجتماع العام، وفي أثره الاجتماع الإداري، وقدم كل منا حسابه، ونظمنا شؤون السنة الجديدة، ثم انصرفنا إلى مراكزنا”[22]. وقد أثار نشاط البشير حفيظة الفرنسيين كما أثار قلقهم ومخاوفهم، فأسرعوا باعتقاله ونفيه إلى صحراء وهران سنة 1940م، وبعد أسبوع من اعتقاله توفي ابن باديس. بعد دفن ابن باديس اجتمعت اللجنة الإدارية لجمعية العلماء ورؤساء الشعب واختاروا البشير الإبراهيمي رئيسًا لها، وأبلغوه الخبر، وكان في المنفى، فأصبح يدير الجمعية ويُصرِّف أعمالها وهو في المنفى. ولم يُفرج عنه إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1943م. وعند خروج الشيخ البشير الإبراهيمي من المعتقل كانت فاتحة أعماله تنشيط حركة إنشاء المدارس، فأنشأ في سنة واحدة ثلاثًا وسبعين مدرسة، وقام بإلقاء الدروس العلمية للطلبة والعامة، فزادت الحركة الإصلاحية اتساعًا ورسوخًا، فلما رأت سلطات الاحتلال ذلك الأثر قامت باعتقاله سنة 1945م، فلبث في السجن سنة إلّا قليلًا، ثم أخرجوه بدعوى صدور عفو عام عن مدبري الثورة. يقول البشير الإبراهيمي: “ولما خرجت من السجن عدت إلى أعمالي أقوى عزيمة مما كنت، وأصلب عودًا وأقوى عنادًا، وعادت المدارس التي عطلتها الحكومة زمن الحرب، وأحييت جميع الاجتماعات التي كانت معطلة بسبب الحرب، ومنها الاجتماع السنوي العام، وأحييت جريدة «البصائر» التي عطلناها من أول الحرب باختيارنا باتفاق بيني وبين ابن باديس لحكمة… ولما قررنا إحياء جريدة «البصائر» ألزمني إخواني أن أتولى إدارتها ورئاسة تحريرها فقبلت مكرهًا، وتضاعفت المسؤوليات، وثقلت الأعباء، فرئاسة الجمعية وما تستلزم من رحلات وما يتبع الرحلات من دروس ومحاضرات، كل ذلك كان يستنزف جهدي، فكيف إذا زادت عليها أعباء الجريدة وتحريرها؟ ولكن عون الله إذا صاحب امْرأً خفت عليه الأثقال”[23]. ويقول كذلك: “كنت أقوم للجمعية بكل واجباتها، وأقوم للجريدة بكل شيء حتى تصحيح النماذج، وأكتب الافتتاحيات بقلمي، وقد تمر الليالي ذوات العدد من غير أن أطعم النوم، وقد أقطع الألف ميل بالسيارة في الليلة الواحدة، وما من مدرسة تفتح إلّا وأحضر افتتاحها وأخطب فيها، وما من عداوة تقع بين قبيلتين أو فردين إلّا وأحضر بنفسي وأبرم الصلح بينهما، وأرغم الاستعمار الذي من همه بث الفتن، وإغراء العداوة والبغضاء بين الناس، فكنت معطلًا لتدبيراته في جميع الميادين”[24]. استمرت جمعية العلماء بقيادة البشير الابراهيمي بالقيام بواجباتها فكثرت المدارس حتى زادت على الأربعمئة، وكثر طلابها حتى زادوا على المئة ألف، بين بنين وبنات، وعندما بلغ الخريجون في تلك المدارس عشرات الآلاف، قرر البشير فتح معهد ثانوية بمدينة قسنطينة، ونسب هذا المعهد إلى ابن باديس، تخليدًا لذكره واعترافًا بفضله. وفي سنة 1952م زار البشير الإبراهيمي باريس حين عقدت منظمة الأمم المتحدة اجتماعها، لعرض قضية الشعب الجزائري على منظمة الأمم، فاجتمع بوفود الدور العربية والإسلامية، وأقام على شرفهم حفل عشاء شرح فيه المطالب الجزائرية فأعجبت الوفود بما قاله وعرضوا عليه أن يستضيفوه في بلادهم ليشرح قضية بلاده للشعوب، فلما عاد إلى الجزائر عرض الأمر على الجمعية، فرأى أعضاؤها أن يكون هو اللسان الناطق بشؤونهم ومطالبهم للشعوب العربية والإسلامية[25].

خاتمة البحث:

 كانت اللغة العربية هي المادة الأساسية التي ركز عليها محمد البشير الابراهيمي وأعضاء جمعية العلماء، باعتبارها المدخل الذي لابد منه لتربية الأجيال، وتعريفها بتاريخها وبأمور دينها وتراثها. ولم يكن الهدف من جعل اللغة العربية محور البرنامج الإصلاحي هو تمكين الأجيال الصاعدة من معرفة لغتها وامتلاك مهارة التعبير بها فحسب، ولكن كانت إلى جانب ذلك أهداف تربوية أخرى لم تنص البرامج حرفيا عليها، ولكنها مستوحاة من توجيهات الإمامين: ابن باديس والبشير الإبراهيمي في أكثر من مناسبة، وهذه الأهداف هي:

–  غرس حب اللغة العربية في نفوس المتعلمين وجعلهم يتذوقون خصائص التعبير بها ويدركون أسرارها.

–  اعتماد النصوص اللغوية مصدرا حيا لتربية الأجيال وتوسيع آفاقهم وصقل أذواقهم وتهذيب مشاعرهم .

–  ترقية أساليب تعليم اللغة العربية وتطوير مضامين المناهج ودفع المعلمين والمتعلمين إلى استخدام الأساليب الصحيحة والراقية .

من النتائج البارزة التي يمكن استخلاصها من نشاط  محمد البشير الابراهيمي و دفاعه عن اللغة العربية،  ضمن أعمال جمعية العلماء، أنها بعثت روحا جديدة في أوساط المجتمع فتخلى المجتمع بفضلها عن كثير من الخرافات والفهم غير السليم للدين والتاريخ والحضارة. ماكان يقوم به البشير الإبراهيمي حين كان رئيسا للجمعية، كان عملا نبيلا و جبارا، فقد ظل يجوب أنحاء الوطن مدينة مدينة وقرية قرية ليطلع من خلال ذلك على نتائج جهود الجمعية وليوسع نشاطها بالسهر على تكوين جمعيات محلية تسند إليها مهمة بناء المدارس، وتشييد المساجد، والتكفل بالمديرين والمعلمين الذين تنتدبهم الجمعية للقيام بالرسالة التعليمية والتوعية الدينية. وكان حريصا على تزويد المدارس بالتوجيهات وبالمناهج والكتب، التي تشرح الأسلوب الذي يجب اتباعه في مجال تنشئة الأجيال، في الأخير نقول نجح الشيخ محمد البشير الابراهيمي في مهمته وفي تبليغ رسالته بفضل منهجه في التعليم الذي كان يشدد على أن يكون مبينياً على خاصيتين:

 الأولى : أن يكون تعليماً عربياً في لغته وأهدافه ومضامينه ، بحيث ينسجم مع مقومات الأمة وموروثها الحضاري .
الثانية : أن يكون وطنياً وليس مستورداً ، ولا تسهم في صنعه أفكار أجنبية ، فلا بدّ أن يكون  نابعاً من عبقرية الأمة ، وعليه طابعها وخصوصياتها ، بحيث تصنعه بنفسها ووفق إرادتها ، وتضمنه الروح التي تعيش في أعماق كل فرد من أفرادها .

فرحم الله العلامة الشيخ محمد البشير الابراهيمي و جزاه الله عن دفاعه عن اللغة العربية في أصعب الظروف، جنة عرضها السماوات و الأرض.

مراجع البحث:

[1] . سورة آل عمران الآية(18)

[2] . أحمد طالب الابراهيمي : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ، ج 5، جمـع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي ، ط 1 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت : 1997 م ، ص06.

[3] . مبارك بن محمد الميلي: تاريخ الجزائر في الحديث و القديم، ، تقديم و تصحيح محمد الميلي، المؤسسة الوطنية للكتاب،ج1، ط1 ، 1986م،ص 45.

[4] . مدونة الدكتورة بوزيفي وهيبة وهي أستاذة محاضرة في جامعة الجزائر. تقدم في مدونة محاضرات في تاريخ الجزائر. اعتمدت على اختصارها لمراحل في التاريخ الجزائري، لأنها ترجع دائما لمصادر كتب التاريخ الجزائري. http://bouzifiwahiba.blogspot.in/

[5] . حادثة المروحة: 29 أفريل 1827م ، جرت الحادثة في قصر الداي حسين عندما جاء القنصل الفرنسي بيار دوفال إلى القصر يوم عيد الفطر، وهناك طالب الداي بدفع الديون المقدرة ب 24 مليون فرنك فرنسي، عندما ساعدت الجزائر فرنسا حين أعلنت الدول الأوروبية حصارا عليها بسبب إعلان فرنسا الثورة الفرنسية. فرد القنصل على الداي بطريقة غير لائقة بمكانته إضافة إلى أن الداي صاحب حق، فرد الداي حسين بطرده ولوح بالمروحة. فبعث شارل العاشر بجيشه بحجة استرجاع مكانة وشرف فرنسا. وهذه الذريعة كانت السبب في الحصار على الجزائر سنة 1828 لمدة 66 أشهر وبعدها الاحتلال ودخول السواحل الجزائرية. 

[6] . بشير فايد، قضايا العرب والمسلمين في آثار الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ شكيب أرسلان، دراسة تاريخية وفكرية مقارنة، رسالة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه العلوم في التاريخ الحديث و المعاصرن سنة المناقشة 2010 ص69.

[7] . نفس المصدر ص 70.

[8] . رمضان حينوني: مقال واقع الثقافة في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي، مدونة الدكتور رمضان حينوني.hinouni.blogspot.com. 

[9] . أحمد طالب الابراهيمي : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ، ج 5، جمـع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي ، ط 1 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت : 1997 م ، ص163.

[10]. انظر: المصدر السابق (5/163- 164). 

[11] . أحمد طالب الابراهيمي : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ، ج 5، جمـع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي ، ط 1 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت : 1997 م ،  ص 274.

[12] .  المصدر السابق (5/ 274).

[13] .  المصدر السابق (5/  278.).

[14] . أحمد طالب الابراهيمي : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ، ج 5، جمـع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي ، ط 1 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت : 1997 م ،  ص 166.

[15] .المصدر السابق (5/ 277).

[16] . أحمد طالب الابراهيمي : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ، ج 5، جمـع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي ، ط 1 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت : 1997 م ،  ص 280.

[17] . المصدرالسابق (5/ 288).

[18] . المصدرالسابق (5/289).

[19] . بشير فايد، قضايا العرب والمسلمين في آثار الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ شكيب أرسلان، دراسة تاريخية وفكرية مقارنة، رسالة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه العلوم في التاريخ الحديث و المعاصرن سنة المناقشة 2010ص169.

[20] . أحمد طالب الابراهيمي : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ، ج 1، جمـع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي ، ط 1 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت : 1997 م ،  ص 185.

[21] . السابق (5/ 281).

[22] . أحمد طالب الابراهيمي : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ، ج 5، جمـع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي ، ط 1 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت : 1997 م ،  ص 281.

[23] .  المصدرالسابق (5/ 285).

[24] . أحمد طالب الابراهيمي : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ، ج 5، جمـع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي ، ط 1 ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت : 1997 م ،  ص 286.

[25] . عظماء منسيون، محمد بن موسى الشريف، دار الأندلس الخضراء، السعودية، 1431هـ -2010م، الطبعة الأولى، (2/ 107).

*الباحثة في قسم اللغة العربية، الجامعة الملية الإسلامية، نيودلهي، الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of