+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

دراسة تحليلية لمسرحيات علي أحمد باكثير الشعرية
الأستاذ محفوظ الرحمن

مسرحية شعرية لباكثير

يعد فن المسرحية من أجمل الفنون الأدبية، وأجود الوسائل التعبيرية، ويستطيع الإنسان أن يبلغ رسالته عن طريق تقديم المسرحية، وكانت المسرحية في بداية الأمر وسيلة لتقريب الناس إلى الدين وتهذيبهم وتعليمهم، وكانت تقدم التمييز بين الخير والشر والحق والباطل، حتى صارت فنا مستقلا مثل الفنون الأدبية الأخرى مثل الشعر والقصة بما فيها الرواية و القصة القصيرة ،واحتلت مكانة مرموقة بين الأوساط العلمية و الثقافية و أخذها الكتاب في كتابتهم، بل فاقت الفنون الأدبية الأخرى فيكتبها الكتاب، ويغنيها المغنييون ويمثلها الممثلون ويقرءها القراء ويشاهدها المشاهدون على المسارح المختلفة بينما الفنون الأخرى تقتصر على الكتابة والقراءة فقط.
ويوجد فن المسرحية عند جميع شعوب العالم منذ قديم الزمان، ونشأ هذا الفن أولا في اليونان وتطور فيها وعين أصحابها شروط المسرحية، ثم انتشر في البلدان الأوربية ومن هناك أخذت البلدان الغربية وقلدتها وسلكت على الطور الذي وضعه الإغريق وكان موضوع المسرحية في البداية على الألهات والطقوس الدينية والأصنام، ثم ازدهرت في قصور الملوك والأمراء، وكان الملوك والأمراء يتمتعون بها.
ونشأ هذا الفن في اللغة العربية بعد أن ارتبطت الروابط بين العرب وأهل الغرب في العصر الحديث، وحاول مارون النقاش أولا لهذا الفن محاولة جدية بعد أن شاهد المسرح والمسرحيات في إيطاليا وتأثر بها كثيرا وحينما رجع إلى بيروت جمع نخبة من أصدقائه وعلمهم التمثيل وألف مسرحية “البخيل” وهى أول مسرحية ألفت في اللغة العربية ,ومثلت في سنة 1847ه ثم قدم النقاش مسرحيتين في اللغة العربية. ثم بدأ كتاب اللغة العربية كتابة المسرحية وتطورت تطورا كثيرا ونالت مكانة مرموقة بين الأوساط العلمية والثقافية.وكتب بعض الأدباء مسرحياتهم في النثر وبعضهم في الشعرمثل اللغات الأخرى، ويعد أحمد شوقي رائد المسرحية الشعرية وسار على طوره عزيز أباظة والآخرون وتطورت المسرحية الشعرية على أيدي الكتاب الآخرين من أمثال صلاح عبدالصبور وعبدالرحمن الشرقاوي وعلي أحمد باكثير.
ويعد علي أحمد باكثير واحدا من أبرز أدباء العرب والمسلمين في القرن العشرين، وهو الأديب الذي تفرد بإنتاج كثير في الفنون الأدبية المختلفة، مثل الشعر والرواية والمسرحية. ولد في مدينة سورابايا (إندونيشيا) عام 1910مـ من أبوين عربيين من حضرموت باليمن.
ويعتبر باكثير من رواد الأدب المسرحي الذين قاموا بدور كبير في تطور هذا الفن، وقد تأثر بمسرحيات شوقي عندما قرأها عند وقوفه في الحجاز، وعلم كيف يمكن للشعر أن يكون ذا مجال واسع في الحياة، وكيف يعبر الشاعر عما في نفسه من التاريخ، أو قضية من القضايا التي تعانيها أمتٍه أو عالمه، أو حدث من الأحداث. وكان باكثير متألما على تخلف قومه الحضرمي في كل ميدان من ميادين الحياة، وغضبانا على الأوضاع الاجتماعية السائدة هناك. وكانت زوجته الأولى قد توفيت في بواكير الشباب، فرثاها في قصائد عديدة، ونظم عديدا من القصائد على أوضاع بلده. وحينما رأى مسرحيات شوقي أراد أن يحاكيه في هذا اللون الجديد، ويعبر بما في نفسه من الآلام على فراق زوجته، وعلى حالة بلاده، فكتب مسرحية شعرية، سماها “همام في بلاد الأحقاف”، أثناء إقامته في مدينة الطائف، حيث كان باكثير يقضي فترة الصيف بين أدباء الحجاز، وشجعه صديقه الاستأذ محمد حسن كتبي حين عرف بهذا الأمر .و كتب باكثير هذه المسرحية دون إلمام بفن المسرحية وأصولها، ولذلك لم يعتبرها باكثير مسرحية، بل سماها قصيدة تشتمل على موضوع واحد وعلى إطار واحد، ولا تستوفي شروط المسرحية بما فيها بناء وحركة ورسم وشخصيات. ولكن هذه المسرحية قد فتحت بابا جديدا لباكثير، و أخرج بعد ذلك عدة مسرحيات. نشر باكثير هذه المسرحية أول مرة في مجلة “المقتطف” مجلد (85) أول اكتوبر 1934مـ، أي بعد وفاة أحمد شوقي بعامين فقط، وكتب مسرحيته الثانية “إخناتون ونفرتيتي” في 1938مـ، ونشرت في مجلة المقتطف مجلد (97) نوفمبر 1940مـ، ومسرحيته الثالثة “قصر الهودج” فقد نشرها عام 1944مـ من مطبعة مصر.
يمكن لنا القول إن باكثير كتب مسرحياته الشعرية خلال 1934- 1944مـ. وكتب مسرحيته الأولى “همام في بلادالأحقاف” على النمط التقليدي السائد الذي يوجد فيه الوزن والقافية. ثم وصل باكثير إلى مصر والتحق بقسم اللغة الإنجليزية في جامعة القاهرة، وعرف الشعر الإنجليزي والشعر الحر. و حدثت حادثة في الجامعة دفعته إلى إيجاد الشعر المرسل في الشعر العربي، وذلك أن أحد مدرسيه تحدث عن الشعر المرسل، وكان يفضل اللغة الإنجليزية على سائر لغات العالم، وقال إنه لا وجود له في اللغة العربية، فشعر باكثير بأن عليه أن يتحدى هذا الزعم، فترجم مشهدا من مسرحية “روميو و جوليت” لـ شكسبير في الشعر المرسل الحر. وكان ذلك مدخله إلى التجديد في شكل الشعر العربي. عندئذ، ولم يكمل هذه المسرحية ذالك الوقت، ولما انتهى من كتابة مسرحيته الهامة “إخناتون و نفرتيتي” فإنه عاد إلى مسرحية “روميو وجولييت” وترجمها كاملة بمزيج من النظم المرسل المنطلق والنظم الحر، فهو مرسل من القافية، وهو مطلق لانسيابه بين السطور، فالبيت هنا ليس وحدة، وإنما الوحدة هي الجملة الثابتة المعنى، التي قد تستغرق بيتين أو ثلاثة أو أكثر دون أن يقف القارئ إلا عند نهايتها، وهو حر كذلك لعدم التزام عدد معين من التفعيلات في البيت الواحد.
وأما مسرحيته “قصر هودج” فقد كتبها في شعر غنائي واهتم فيها بأن تكون المسرحية صالحة للتلحين والغناء، كما يقول “ولم أتقيد فيها ببحر واحد بل استعملت مختلف البحور حسبما يقتضى المقام، مراعيا في ذلك مطابقتها لحالات التعبير المختلفة ومتحاشيا اطراد البحر الواحد والقافية الواحدة ما أمكن حتى لا تكون المسرحية مجموعة من القصائد مضمونا بعضها إلى بعض كما حرصت على التنويع في القوافي ليكون ذلك أبلغ في التنغيم الموسيقي.
قد أخرج باكثير ثلاث مسرحيات شعرية، وقدم تجارب مختلفة فيها، وفتح للمسرحية العربية بابا جديدا. وأما مسرحيته “روميو وجوليت” فهي مترجمة، لذلك لا اذكرها، ولكن هذه المسرحية لها أهمية كبيرة لدارسي فن المسرحية، لأن باكثير أخرجها بعد التحدي وكتبها في الشعر المرسل الحر. ولا ننسى أن باكثير يتناول النصوص القديمة لمسرحياته، ويقدم عليها القضايا الاجتماعية والسياسية التي تعانيها الأمة المسلمة في البلدان العربية خاصة، وخارجها عامة.
مسرحيات شعرية لباكثير
 همام في بلادالأحقاف:
يقدم علي أحمد باكثير في مسرحية “همام في بلاد الأحقاف” أوضاع مجتمعه في ثلاثة فصول، ويتناول في الفصل الأول حالة بلده وسيطرة الأفكار التقليدية المتخلفة التي تتمثل وراء ستار الدين والعلم التقليدي والحكم المسيطر. يصور صورة واقع بلاده “حضرموت” وهي بلاد “الأحقاف” التي جعلت العقل جاهلا، والمرأة جاهلة، ويسير التعليم على طريقة تقليدية الذي يعتمد على الحفظ والاسترجاع، ولذلك ينتشر كثير من الأمراض الاجتماعية بما فيها حب المال وتفضيله على كل شيئ، والامتناع عن الأعمال والتوكل على الله تبارك وتعالى فقط، واحتقار العمل اليدوي. وفي الفصل الثاني يصور باكثير أمراضا أخرى مثل الرشوة وتقبيل يد الشيخ وزيارة المكانة التي تقام فيها بطقوس باطلة لا علاقة لها بالدين.
يستفيد “همام” من أفكار “محمد عبده” و “جمال الدين الأفغاني” للخلاص من هذه الأعمال الباطلة، ويريد تعليم المرأة وتمكينها من وسائل التربية. يدعو الناس إلى دعوته فتتقدم أخته لتساعده في مهمته، وتخطب في مجالس النساء، ويخاطب “همام” مجالس الرجال، ويجد له أنصارا من الرجال والنساء. وهنا تنشأ قصة حب بين همام وحسن، فيغضب الناس على همام وحبيبته، فلا يكون له سبيل إلا الهجرة ويصاحبه صديقه عامر في السفر.
يرجع همام من سفره بعد سنتين، ويتم زواجه من حسن في احتفال من الغناء والفرح والبهجة، ويصور فيه باكثير صورة مراسم الزفاف في بلاده. لا تنتهي المسرحية في هذا المشهد السعيد، بل يأتي الكاتب بقصة حب آخر بين محمد صديق همام وعلوية، حيث لا يتم الزواج بينهما لأن أهل محمد لا يزوجون أبناءهم خارج آله، ولا يعرض الناس خطبتهم على علوية لأنها فقيرة. ثم يمرض محمد، وتمرض علوية، ويسافر همام ذلك الوقت إلى مكة لقضاء مناسك الحج و دون أن يأخذ زوجته معه، لأنها كانت مريضة. وفي مكة يتسلم برقية يجد فيها نبأ وفاة زوجته حسن، وصديقه محمد وحبيبته علوية، فيقوم أمام البيت وينشد هذه الأبيات:
وأنظر إلى (الأحقاف) بالرعاية
وأولها بفضلك العناية
بالعلم والاخلاق والهداية
فجل عنها الجهل والعماية
وبعد ذلك لا نجد في المسرحية موضوعا خاصا، بل تقوم على الإخبار والوصف فقط، و شخصيات المسرحية يتحدثون فيما بينهم ويجري حوارهم في مقطوعات شعرية طويلة ويغني المغني فيها.
 إخناتون ونفرتيتي:
مسرحية “إخناتون ونفرتيتي” هي من أهم مسرحيات علي أحمد، التي أطلقت المسرحية العربية لآفاق جديدة وكتبها بالشعر الحر. نالت هذه المسرحية جائزة المبارات الأدبية للفرقة القومية سنة 1940م. تناول باكثير في هذه المسرحية تاريخ مصر القديم، واستخدم موضوعا فرعونيا، وأراد أن يتحدث فيها عن القومية العربية، التي لها جذور مختلفة وحضارات متعددة في الأقطار العربية المختلفة، كما أشار إليه في مقدمة مسرحيته ببيت من قصيدة نظمها على لسان أبي الطيب المتنبي، يقول فيها مخاطبا المصريين:
أبوكم أبي يوم التفاخر يعرب
وجدكمو فرعون أضحى بكم جدي
ونالت هذه المسرحية أهمية كبيرة، لأنها ارتبطت بقضية التجديد في الأسلوب الشعري حيث وصفها باكثير في مقدمتها على أنها “نقطة الانقلاب في تاريخ الشعر العربي الحديث كله، فقد قدر لها أن تكون التجربة الأم فيها شاع اليوم تسمية بالشعر الحر”.
قد وضع الكاتب الآية الكريمة “ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك”و في مقدمة المسرحية يستلهم قصتها من التاريخ الفرعوني وحياة إخناتون، الذي كان رجلا عادلا، يحب السلام والحب، الموحد الأول للآلهة. نلاحظ في مقدمتها، أن كبير الكهنة يحذر مَن حوله مِن الأمير الشاب، ابن الملكة “تي” (إخناتون)، وقد بذرت ملكة “تي” فيه بغض الإله (آمون) وحب آتون الحق (قرص الشمس) منذ صغره. ويعلم كبير الكهنة صفات الأمير الذهنية والروحية وإرادته لتأسيس ديانة جديدة، للقضاء على كهنة آمون الذي يهدد عرش زوجة فرعون (أمنحتب الثالث)، الذي ينغمس في اللهو واللذة والخمر، تاركا لزوجته تصريف الأمور وإدارة شئون البلاد.
جابي: إن تي أصبحت فرعون
فما في مصر سواها تدني من تشاء إليه
وتبعد عن عطفه من تشاء
يا لضيعة مصر
غدا أمرها في أيدي النساء
سقيا لزمان الفراعنة السابقين
ولذلك فكر كبير الكهنة أن يقتل “إخناتون” بالسم، وشبهه “بالصل” وابن ”الحية”. وكذلك نلاحظ في المقدمة صراعا يجري بين عصرين ومذهبين وسلطتين.
وفي الفصل الأول نشاهد أم إخناتون تطلب منه أن يصبر وتحرضه على نسيان زوجته التي فارقت الدنيا، يعتبر بالآخرة، ولكن الابن يظهر حزنه وقسوة قلب الرب “آتون” إله الشمس. وكان إخناتون قويا في إيمانه بآتون ولكن يصبح قويا في كفره به حين تموت زوجته “تادو” التي كان يحبها حبا جما ويحمد الرب آتون كلما ظهرت له وابتسمت ثناياها.
“الأمير : ما أقسى قلب الرب آتون
تي: بني تعقل وزن من كلامك لا تنطق من جنب إلهك كفرا
الأمير: أماه. أأملك إلا هذا لمن أشقاني هذا الشقاء و طوى كل آمالي في الحياة بغير رثاء؟ أنه استلها عنوة من بين ذراعي أعظم ما كنت حبا لها وحنانا عليها”.
وينتقل المشهد ونرى فيه الأمير يكاد أن يجن من موت زوجته، فتفكر الملكة في حيلة وتلتمس من إحدى بنات الأمراء لزواجه وتقول لها أن تغير اسمها إلى اسم حبيبته الأميرة التي توفيت، فرضيت الفتاة بهذه الفكرة، وتلتمس الملكة من كاهن “آتون” ليجري تمثيلية البعث أمام الأمير حتى يصدق، وتقوم الفتاة بدورها جيدا وينتهي الفصل الأول بهذا البعث واللقاء بين الأمير والحبيبة. و استفاد فيها باكثير من طقس الشعب الفرعوني فأقام الغناء احتفالا بعودة الروح.
ثم يبدأ الفصل الثاني ويبدأ إخناتون رحلته الإيمانية والانغماس في السعادة الروحية ويريد أن يترك عاصمة “آمون” و “كهنة”، ويذهب إلى الصحراء حيث يبني معبدا وعاصمة جديدة لآلهة “آتون” إله الشمس كما يصور باكثير في هذا الحوار:
“إخناتون: كيف يا أماه وجدت مدينتنا؟ هل راقك منظرها؟ أو ليست أجمل من طيبة؟
تي: ما أجملها يا بني وأعظمها من مدينة
كل ما فيها سحر وجمال ونور
إخناتون: لما تبصرتي إلا جانبا منها
سترين محاسنها بعد يا أماه
فتدرين أن أخيتاتون الجديدة دورة مصر
وأجمل عاصمة في المشرق و المغرب
سترين حدائقها الغناء تحيط بأقطارها….
سترين بها دار الفن يا أماه تحط
رسوم الطبيعة و الإنسان بلا كذب أو رياء
و ينطق فيها الصخر الأصم دمى و تماثيل
سترين المعابد حالية بالعمد الرفيعة
والجدران البديعة و الرحب الواسعة
وترين بها عباد آتون يصلون في صدق وسكون
ويدعون مولاهم فيما يخشون وما يرجون”
وكما يقدم باكثير الغناء في لسان نفرتيتي لتسلية إخناتون الذي قد تعب كثيرا ويعرض مشاهد الحب، والحديث عنه، ثم يرسل القاريين و المشاهدين للمسرحية إلى الفصل الثالث و يقدم رسالة إخناتون و رسالته هي التوحيد و المساواة بين الناس، و كما يواجه كهنة آمون أصحاب النفوذ و السلطة و يبلغ رسالته إلى المحيطة حتى يصبح كثير من أصحابه الذين يتبعون رسالته و يبلغونها، ولكن يصل إليه أصحاب آمون ويفكرون في أن يردوه عن مواقفه ولكن تجري المحادثة بين كهنة آمون وإخناتون وينتهي الفصل الثالث ببيان قوة إخناتون وسيطرته على من حوله بقوة حجته.
و أما الفصل الرابع والأخير، فيصور فيه باكثير سيطرة دين آتون وانتصاره، ويعرض خيالات الأموات وذكرى حبيبته بمناجاة إخناتون لربه وهو مصاب بالحمى الشديد وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة:
“إخناتون: بجمالك تحيا العيون
و بنورك تشفي القلوب
أيما قلب تعمر فهناك الحياة الحق
لا حيلة للفقر في قلب أنت في
رب اسمعني صوتك العذب حتى في أرواح الشمال
و أعد يا رب لأعضائي بهواك سبيبتها و الجمال
مد لي كفيك القابضتين على الأرواح أقبلهما فإذا أنا
مبعوث حي
نادني بإسمي في تيه الأبد
يعل من جوفه صوتي لبيك (يموت)
ولا شك فيه أن على أحمد باكثير قد استعرض في هذه المسرحية، التي تشتمل على أربعة فصول، قدرة الشعر الحر على التشكيل الدرامي، وتناول فيها بحرا شعريا سهلا وفتح للمسرحية العربية بابا جديدا لمن ياتي بعده.
 قصر الهودج:
أما مسرحية باكثير الشعرية الأخيرة فهي “قصر الهودج”، وقد استلهم لها باكثير التاريخ الفاطمي، واختار منه قصة حب بين سلمى وابن عمها مياح، و كانت تشتعل نار الحب بينهما، ولكن الكاتب المسرحي يقدم الصراع عندما يشب الحب بينهما، وهو أن الخليفة الفاطمية “الآمر بأحكام الله” يأتي إليها ويظهر حبه لسلمى في لباس رسوله، فترفض سلمى حبه لأنها تحب ابن عمها. و حينما لم يستطيع الرسول إقناعها فيغازل لنفسه كأنه رسول للخليفة مع أنه كان الخليفة نفسه:
القادم : عشت يا سلمى طليقة لست للمدن صديقة
لاتحبين مغانيها ولا الدور الأنيقة
سلمى: لطف الله بحالك قد فهمت الآن قصدي
القادم: كيف لا أفهم ذلك والذي عندك عندي
أنا من رأيك يا سلمى و ميلي مثل ميلك
آه لو تسمح لي الأيام يا سلمى بنيلك
أنت لي لست لغيرك و أنا لست لغيرك
إن لي قلبا كقلبك
سلمى: عجبا … هل أنت مجنون؟
القادم: نعم يا نور عيني
أنا مجنون بحبك
قسما بالدر في ثغرك والورد بخدك
إنني عبدك يا سلمى حنانيك بعبدك
سلمى: (غاضبة): حسبك أخرس قطع الله لسانك
القادم: يا حياتي حفظ الله زمانك
أتسبين لسانا يتغنى بعبيرك وجمالك و شعاعك
سلمى: بل لسانا كاذبا خنت به عهــ د أميرك باحتيالك و خداعك
القادم: المليك انسيه لا تجريه يا سلمى ببالك أو خيالك
أنا خير منه يا سلمى و أولى بجمالك و دلالك
سلمى: آه لو يسمع ما قلت الملك لمحاك السيف من هذا الوجود
القادم: كيف يمحو السيف صبا هام بك حبك الخالد أولاه الخلود
سلمى: سيف مولانا الخليفة سيعافيك غدا من جنونك
القادم: ليس بي للقتل خيفة فلقد ذقت الردى من عيونك
يتقدم الرسول ويحاول تقبيلها، فتصرخ سلمى ويأتي ابن عمها وأبوها، فتقص لهما ما جرى. يعرف مياح وأبو سلمى بأن من قدم في لباس الرسول لم يكن رسولا بل كان الخليفة نفسه، ويخرج ابن مياح من هناك ويندم أبوها على ما حدث مع الخليفة ويعتذر إليه. ثم يذهب إلى ابنته ويشاور معها في الأمر. وأما ابن مياح، فهو يرحل عن البلاد ويترك سلمى للخليفة. ولكن الخليفة يعلم حبها مع ابن عمها مياح، وتحزن سلمى حزنا شديدا على الحبيب الغائب.
نجد في الفصل الثاني أن سلمى تصل إلى قصر الخليفة وتسكن فيه، ويأتي ابن مياح لزيارة سلمى ليلا، فيراه الخليفة من وراء الباب، ولا يراه ابن مياح ويظهر حبه لسلمى ويقول لها: إنه فر من بلده لكي تعيش حياة سعيدة، ويظهر الخليفة فجأة ويأمر بحبسه خمسة أشهر، وتكون سلمى وحيدة وتحزن وتبكي وينتهي الفصل الثاني. يبدأ الفصل الثالث بمجيئ والد سلمى بأمر من الخليفة، ويعلم أن الخليفة قد طلق سلمى وقضت سلمى عدتها، ويؤتى بابن مياح من السجن ويعطي الخليفة مهر سلمى عشرين ألف دينار ويطلب من الشيخ أن يزوجهما.و هكذا يتم الزواج بين ابن مياح وسلمى وتعود سلمى إلي بلدها في الصعيد، وتقام مجالس الأفراح وتنتهي المسرحية هنا وتغني سلمى والفتيات الأغاني والأناشيد ويدعون للخليفة العادل.
كانت هذه تجربة مسرحيات علي أحمد باكثير الشعرية التي تعطي لنا صورة متعددة لتشكيل النص المسرحي، فنجد فيها الشعر التقليدي والشعر المرسل والشعر الحر. وقد أثرت مسرحيات باكثيرعلى كثير من الكتاب العرب، فكتبوا مسرحياتهم بعد أن استفادوا من مسرحيات شعرية لـ باكثير.

المصادر والمراجع:
1:علي أحمد باكثير،إخناتون ونفرتيتي،(مسرحية شعرية) دارمصر للطباعة،القاهرة.
2:علي أحمد باكثير،قصرالهودج، (مسرحية شعرية) مكتبة مصر،القاهرة.
3:علي أحمد باكثير،همام في بلاد الأحقاف،(مسرحية شعرية) مكتبة مصر، القاهرة.
4:علي أحمد باكثير، روميو جوليت،مكتبة مصر،( مسرحية مترجمة)القاهرة.
5:علي أحمد باكثير،فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية، مكتبة مصر، القاهرة.
6:د.صوفيا عباس،توظيف الحضارة المصرية القديمة في مسرح علي أحمد باكثير،مقال في كتاب”أبحاث مؤتمرباكثير” علي أحمد باكثير و مكانته الأدبية،الجزءالأول، الهيئة العامة لقصورالثقافة،القاهرة 2010.
7:د. مدحت الجيار،البحث عن النص في المسرح العربي، دارالنشر للجامعات المصرية،1995.

*أستاذ ضيف في قسم اللغة العربية، الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of