+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

الصورة الفنية في رحلات الشيخ العبودي
*محمد افضل صديقي

تعتبر الصورة الفنية من أهم عناصر فنون الشعر والنثر لأنها تعكس قدرة الأديب على الربط بين الأشياء بشكل فني يجذب القلوب، وتنوعت دلالات استخدام الصورة ويرى بعض الباحثين أن النثر لا يحتاج إلى التصوير الفني كالشعر لأن الأول قائم على الوصف التحليلي، بالرغم من ذلك هناك عديد من الأعمال النثرية وكتب الرحلات غني بالصور الفنية، نحن نجد الصورة الفنية في مجهودات الشيخ محمد بن ناصر العبودي الأدبية واضحة، وهو يقدم في أسلوب بليغ كأن يظهر الأحوال أمام عيون القارئ.

يعتبر الشيخ العبودي من أشهر رحالة العرب لكثرة رحلاته وجولاته فأصبح له ميراث ضخم في أدب الرحلة، وهذا الأدب كما يقول أحد الباحثين “لون أدبي ذو خصوصية تميزه عن غيره من الألوان الأدبية النثرية الأخرى، فهو يتفق مع الرواية في الإفادة من معطياتها الفنية ومشاكلتها للسرد والوصف إلا أنه يحمل سمة مميزة، إذ يجمع إلى جانب ما سبق العناية برصد الواقع كما هو، دون للجوء إلى الخيال إلا في محاولة اختيار الأسلوب، وتقديم الواقع في ثوب أدبي، فضلا عن تقديم المعلومة في ثوب أدبي”[1].

قد اختلف بعض الرحالين في قدرتهم على توظيف الصورة الفنية من حيث مدى تركيزها والقدرة على الربط بين تفاصليها وإبراز المشاعر والعواطف من خلالها، وقد تميز هؤلاء الكتاب بتقديم صورة تفصيلية وشديدة الوضوح عن المواقف المحزنة والمؤلمة، وربما كانت عواطفهم الجياشة ومشاعرهم الصادقة سببا في وقوفهم أمام تلك اللحظات وتأملها وتفصيليها في كتبهم، على سبيل المثال يقول ادريس عبد الله الدريس في كتابه “مدن تمطر دما”: “في البوسنة والهرسك ينظر الطفل إلى وجه أمه فيحزن أو تنظر الأم إلى وجه طفلها الحزين فتبكي! وينظر الأب إلى وجه طفله الحزين وبكاء زوجته، فتتشقق نفسه جروحا ودواخله قروحا، فيلتهم القهر والعلقم، لم يعد لهم من سلوة بعد أن سجلوا الحزن في هوياتهم، وحفائظ نفوسهم، لم يعد في وسعهم أن يفروا منه وعنه، بعدما صار يطاردهم في كل زمان وفي كل مكان، في الليل، وفي النهار، في الصحو، وفي المنام.”[2]

استخدم الدريس الصورة الفنية للتعبير عن الحزن والألم، لكننا نجد الشيخ العبودي يستخدمها لتجسيد معاني أخرى متمثلة في الأسف والندم والعظة، وذلك عندما يتحدث الشيخ العبودي عن أديس بابا وحسرته على تحول الأوضاع قائلا: “وكانت زهرة حديثة عندما زرتها زيارة ممتدة في عام 1384 هـ 1946 م ولكنها الآن زهرة ذابلة يابسة إن صح أنها لا تزال زهرة.”[3] ويظهر في هذا المثال أن الشيخ العبودي نقل صورة حقيقية للواقع الذي شاهده أثناء رحلاته، لكنه استخدم أسلوبا فنيا لتوصيل هذا الواقع وتوضيحه.

في الوقت نفسه نجد الشيخ العبودي يستخدم الصورة الفنية للتعبير عن عاطفة الإعجاب والاستحسان إما بالاستعانة ببعض أبيات الشعر أو استحضار فترة من التاريخ أو أنه يقر بعجزه عن وصف أو رصد ما شاهده، على سبيل المثال حينما ذهب الشيخ العبودي لزيارة اندونيسيا ورجع إلى جاكرتا من المؤتمر قال عنها في كتابه “في اندونيسيا أكبر بلاد المسلمين” مستخدما هذه الكلمات: “وكان الجو يغري بالبقاء، بل كان شاعريا، جعلنا نأخذ صورا تذكارية بين أحضان السحاب، ونحن نمشي على أقدامنا في حقول الشاي الممتدة إذ كانت الغيوم منخفضة تأتي من المنخفضات فتلامس هذه الأرض في المرتفعات، وقد غابت الشمس الإستوائية في سحاب أعلى من ذلك، حين غام الجو، كان مجرد الوقوف بين شجرات الشاي الملتفة المنسقة المتقاربة الإرتفاع باعثا على البهجة في مثل هذا الجو، إلا أن الصورة الشعرية اكتملت بوجود جداول صغيرة من المياه الجارية تأتي من الجبال المرتفعة، فتمر بين شجرات الشاي في مرور خفيف لا يسمع من صوته غير الحفيف، وهي في طريقها إلى مجرى مائي أكبر يذهب ماؤه إلى الأماكن المنخفضة.!”.[4]

من هنا ندرك كيف استخدم الشيخ العبودي الصورة الفنية في نقل مشاعره سواء كانت مشاعر حزن أو أسى أو مشاعر إعجاب وتقدير، ولكن هناك شيئ آخر تميز الشيخ العبودي فيه وهو استخدام الصورة الفنية من خلال معالم الطبيعة وجمالها، ذلك كما جاء في وصف الطبيعة “كانت الشمس تميل للغروب ونحن نعود إلى الفندق الجميل الذي زانه جمال أخلاق أهله أكثر مما زانه جمال شكله، وقد أحسسنا بالجو هنا وكأنما برد فجأة بعد أن كان يميل إلى الحرارة قليلا ولا يتحمل المرء فيه أكثر من لباس قميص من السروال. والغريب أن الجو في الصباح يختلف عنه في الظهيرة اختلافا كبيرا وكذلك في المساء المتأخر يختلف عنه في العصر.”[5]

أكثر ما يميز الشيخ العبودي هو البحث عن الحب والصفاء والبحث في الطبيعة عن روابط الألفة والمحبة فنجد العبودي يصف مدينة “هوبارت” قائلا: وكان منظر شاطئ المدينة بل شواطئها جميلا، فهي ذات رمال نقية صفراء إلا أنه يلاحظ من الطائرة أن نسبة الملوحة مرتفعة في منطقتها لنقص الأمطار التي كانت كثيرة في الأعوام المعتادة، وكانت تغسل رمال الشاطئ وأشجاره مما قد يعلق بها من الملوحة.[6] يصف الشيخ العبودي التقاء المحيطين: الأطلسي الهندي في جنوب أفريقيا حينما يقول “هنا يلتقي المحيط الأطلسي القادم من الشمال يلامس شواطئ أوروبا البيضاء في اصطلاح القوم في هذه البلاد، وهو الاصطلاح الذي يقسم الناس على حسب ألوانهم، وليس على حسب أعمالهم.”[7]

وقد امتاز الشيخ العبودي لبحثه عن أحوال المسلمين في العالم، وما كانت رحلاته لتسلية النفس والإستراحة بل كانت استطلاء على أحوال المسلمين. وإذا نحدق النظر إلى مجهوداته فنجد أنها محشوة بمعلومات أحوال المسلمين، وأنه يبدأ كلامه عن التاريخ و ويوصل إلى حاضره، حتى يذكر عدد السكان، على سبيل المثال هو يذكر في “إطلالة على نهاية العالم الجنوبي” تحت عنوان “المسلمون في تسمانيا”، يبلغ عدد السكان المسلمين في الجزيرة ثلث مائة شخص نصفهم تقريبا من المقيمين في تسمانيا المتجنسين بالجنسية الاسترالية ونصفهم من الطلاب الذين قدموا من بلاد إسلامية بخاصة ماليزيا وباكستان.[8]

وبدا أن الشيخ العبودي يستخدم الطبيعة وظواهرها في التعبير عن اللقاء والحب والألفة التي ربما افتقدها في مجتمعه وتمنى أن تسوده مرة أخرى، ولعل السبب الآخر لذلك شوقه لأحبته وتمني رؤيته بعد أن أبعده السفر والترحال عنه.

وإذا نرى أدب الرحلات فنجد أن الرحالين لجؤوا إلى الشعر لوصف مشاعرهم تجاه ما يشاهدونه، حيث وجدوا في ذلك تكثيفا وتركيزا لوصفهم دون الحاجة إلى الإطناب. فهم يبحثون عن الأسلوب الأدبي الذي يمكن أن ينقل شعورهم بالمشهد للقارئ وأدركوا أن الشعر هو خير سبيل، لأن الشعر قادر على وصف المشاعر وتجسيد الصور، فيستخدمه الرحالة للتعبير عن حالته عندما تتشابه مع بيت، كما يقول المعلمي في كتابه “رحلة علمية” واصفا رحلته بالطائرة ناظرا إلى الأشياء من أعلى قائلا: “وقلت في نفسي هكذا الإنسان إذا ارتفع بنفسه، وارتقى بها فإن صغائر الأمور تختفي عن ناظريه ولا يرى إلا ما هو كبير وعظيم وقد صور هذا المعنى أو تقريبا منه شاعر العربية الأكبر أبو الطيب المتنبي بقوله:

وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم.[9]

أي تكبر الأشياء الصغيرة عند قليل الهمة وقصر النظر وعظامها صغيرة في عين عظيم القدر.

هنا نجد أن الشيخ العبودي يستخدم أبيات الشعر أيضا إذا أراد أن يصف شيئا جديدا أو مختلفا أو يقارنه بآخر، على سبيل المثال هو يصف الفروقات التي لاحظها بين المملكة العربية السعودية وبروناي في كتابه “زيارة إلى سلطنة بروناي الإسلامية” قائلا:” سألت أحد الإخوة (البروناويين) عما إذا كانوا يتوقعون مطرا؟ فأجاب: لا ليس هناك مطر والحمد لله، فقلت له: إنكم تحمدون الله على عدم نزول المطر. قال: نعم لأنه كثير عندنا فقلت: سبحان الله العظيم

عجبا للناس في أرزاقهم ذاك عطشان وهذا قد غرق[10]

حينما رأى الشيخ العبودي إحترام الناس لـ “الشيخ يحيى بن إبراهيم” و استعمال الألقاب الطويلة له (فيهين توان إمام داتو سري سيتا حاج يحيى بن إبراهيم) فيقول

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لغظما[11]

استخدم العبودي الأشعار المختلفة للصورة الفنية، فعندما رأى رجلا في بورما صبغ شفتيه بصباغ غير محبب قال عنه في كتابه “بورما، الخبر والعيان”: “فكان كلامه بالعربية جيدا، غير أن منظره وهو يتلفظ بها غير جيد، مما جعلني أن أذكر قول ابن الرومي في مغن قبيح المنظر أظنه جحظة البرمكي:

يا رحمتا لمنادميه تحملوا ألم العيون للذة الآذان[12]

وفق الشيخ العبودي في تحويل النص الرحلي إلى صورة فنية بديعة ونجح في نقل مشاعره المتنوعة ومشاهده الرائعة باستخدام الصور الشعرية دون تكلف أو تصنع، فهو يبحث عن البيت الذي يلخص له كل ما يريد قوله بأفضل طريقة.

مع هذا نجد أن الشيخ العبودي يميل إلى سرد المعلومات في كتبه دون تفصيل أو تصوير للمشاهد، ولعل هذا الأسلوب يناسب للرحلات السريعة التي يكون فيها الكاتب حريصا على الرصد والتدوين، ولعل السبب أيضا هو الافتقار إلى العاطفة المرتبطة بالمشهد مما لا يعطي مساحة للتفصيل والتصوير، فنجد على سبيل المثال أنه استخدم هذا النوع من التقرير في كتابه “مدغشقر، بلاد المسلمين الضائعين” عندما رأى ملكة إحدى القبائل وزوجها وابنتهما في قوله: ” وجعلت أرقب الملكة وزوجها وابنتهما وحفيدتهما بالنسبة إلى من يشابهون من العرب، فإن الملكة تشبه عجوزا بدوية سمراء، والبنت تشبه إمرأة مريضة من أهل نجد، والطفل يشبه أحد صبيان تهامة، والأمير يشبه أحد الحضارمة البديني الذين يسكنون بين الساحل والداخل في حضرموت.”[13]

بالرغم من قلة الصور البلاغية والتفصيل في هذا الأسلوب، لم يخلو كتابه من الإبداع والطرفة أحيانا، فعلى سبيل المثال يتحدث الشيخ العبودي في كتابه “كنت في بلغاريا” عن مسجد قرية سوكولوه قائلا:” قصدنا جانبا من القرية ريفيا ذا بيوت متطامنة، لذلك كان المسجد فيها أعلى بناء وأرفعه، وقد شمخت مئذنته إلى السماء كأنها الأصبع السبابة التي رفعها صاحبها إلى السماء وهو ينطق بشهادة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

قصدنا رؤية المسجد، وقد مالت الشمس إلى المغيب وفي هذه الساعة يشعر المرء المسلم بجلال منظر المسجد شامخا شموخ الأنفس المسلمة الأبية على الضيم الذي أريد لها أن يفتنها عن دينها”[14].

وهناك برع الشيخ العبودي في وصف حال المئذنة بين البيوت ومزج بين المقام والسياق لإبراز جلال البناء وشموخه، ولكن في مواضع أخرى نجد أن الشيخ العبودي قد خان التعبير عن الصورة، فعندما كان مسافرا بالطائرة في أمريكا الوسطى وصف المنظر من الطائرة في كتابه “رحلات في أمريكا الوسطى” قائلا: “فكان المنظر من الطائرة عند القيام هو المنظر الذي لا غيره في هذه البلاد، وهو خضرة الأرض المزروعة بالزراعة الحقلية ذات العناية الجيدة، إلا ما كان من منظر نهر صغير كان يتلوى بين هذه الحقول الخضراء بمياهه الحمراء الباهتة كأنه الحية تنساب في الصحراء في وقت الربيع”.[15]

يبدو في تلك الصورة أن هناك تنافر بين المشاعر التي تريد أن يعبر عنها الكاتب وبين الوصف المستخدم، فما علاقة الجمال والأمن والراحة بأرض مزروعة يخترقها نهر يتلوى من أثر الفزع والخوف!

إن الشيخ العبودي أيضا يقدم تاريخ البلاد أو الأقوام في رحلاته مختصرا بدون التطويل، وهو يقدم التاريخ البسيط عن هونغ كونغ عندما تحدث عنها في كتابه “رحلة هونغ كونغ وماكو” قائلا: “إن الجيش الصيني لم يدخل أثناء عودة هونغ كونغ إلى الصين في الأول من تموز (يوليو) 1997م إلا فجرا إلى المستعمرة البريطانية السابقة، أي بعد ساعات قليلة عن رحيل آخر ممثلى بريطانيا.”[16] هنا قدم الشيخ العبودي تاريخ دخول الجيش الصيني مختصرا لأنه ظن أن القول مهما استرسل وأطنب لن يوف المكان حقه أو لم يصل روعته وجماله، وترك المجال أمام القارئ للوصول إلى تاريخ تلك المنطقة.

وأخيرا نؤكد مرة أخرى على مدى توفيق الشيخ العبودي في استخدام الصور الفنية والأبيات الشعرية في التعبير عن مشاعره وعواطفه ورسم المشهد الذي عاشه خارج بلاده، واعتمد على التفصيل ورصد الأشياء بأسلوب أدبي ممتع للقارئ مما يدل على مهارته الفنية ورفعة أسلوبه، ومما يؤكد أيضا على أهمية الصور الشعرية في أدب الرحلة في مساعدة الرحالة على توصيل مشاعره ومشاهدته.

***

المراجع

[1] قنديل، فؤاد أدب الرحلة في التراث العربي، مكتبة دار العربية للكتاب 2002م ص 174

[2] الدريس، ادريس بن عبد الله، مدن تمطر دما: مشاهدات حية من البوسنة والهرسك، مكتبة الملك فهد الوطنية ط 1 1995م  ص 77-78

[3] العبودي، محمد بن ناصر، نظرة في وسط إفريقية، رحلة وأحاديث عن أحوال المسلمين، مطابع الفرزدق التجارية الرياض 1411 ص 12

[4] العبودي، محمد بن ناصر، في اندونيشيا أكبر بلاد المسلمين، مطابع النرجس في الرياض 1420 ص 180

[5] العبودي، محمد بن ناصر، رحلات في أمريكا الوسطى، مطابع الأهلية للأفست 1985م / 1405هـ ص 236

[6] العبودي، محمد بن ناصر، إطلالة على نهاية العالم الجنوبي، مكة المكرمة، نادي مكة الثقافي 1404 هـ ص 151

[7] العبودي، محمد بن ناصر، مشاهدات في بلاد العنصريين، رحلة إلى جنوب أفريقية وحديث في شئون المسلمين، دار الثلوثية للنشر والتوزيع 2009م ص 298

[8] العبودي، محمد بن ناصر، إطلالة على نهاية العالم الجنوبي، مكة المكرمة، نادي مكة الثقافي 1404 هـ ص 162

[9] المعلمي، يحيى بن عبد الله، رحلة علمية ورحلات أخرى، دار المعلمي للنشر الرياض 1414هـ ص 109

[10] العبودي، محمد بن ناصر زيارة لسنطنة بروناي الإسلامية، مطابع الأهلية للأفست 1403هـ ص 173

[11][11] المرجع السابق ص 71

[12] العبودي، محمد بن ناصر بورما الخبر والعيان، طبع بيروت عام 1412 هـ ص 159

[13] العبودي، محمد بن ناصر مدغشقر. بلاد المسلمين الضائعين، النادي الأدبي الرياض 1401هـ ص 173

[14] العبودي، محمد بن ناصر كنت في بلغاريا، مطابع الفرزدق التجارية الرياض 1414 هـ ص 127

[15] العبودي، محمد بن ناصر رحلات في أمريكا الوسطى، مطابع الأهلية للأفست 1985م / 1405هـ ص 137

[16] العبودي، محمد بن ناصر رحلة هونغ كونغ وماكو، مطابع النرجس التجارية بالرياض 1422 هـ ص 118

*الباحث بقسم اللغة العربية و آدابها، جامعة دلهي، نيودلهي، الهند

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of