+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

الدعوة الإسلامية ومناهجها في الهند للأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي: دراسة تحليلية
*محمد كهف الورى

المدخل

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن بتع هداه إلى يوم الدين، وسلك في الحياة سبيله الواضح المستقيم.

أما بعد!

لقد أنجبت الهند في العصور المختلفة شخصيات كانت لا تزال مكانة عالية بما قاموا به من أعمال، وما أضافوه إلى التراث العلمي والفكري، وقد دخل الإسلام في الهند مع غزوات القائد محمد بن قاسم الثقفي، وانتشر في أنحائها بجهود العلماء الربانيين الذين رافقوا الغزاة المسلمين، وبعد ذلك بذل المسلمون الجهد في الهند لتكفلهم العلمي الديني، وحافظوا على عقيدتهم وشريعتهم، وأقاموا لأنفسهم دولة علمية ودعوية داخل دولة سياسية حكومية، ويدل على ذلك تاريخهم المجيد الذي يبتدئ منذ مئات من السنين.

وقد شارك في بناء هذا الكيان الإسلامي عشرات من العلماء والمفكرين والدعاة الإسلاميين، وتلك الشخصيات العظيمة الذين قادوا العمل الإسلامي في عصورهم، وتركوا نماذج قيمة لمن يأتي بعدهم، وعلى رأسهم الإمام الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي المتوفى 1034هـــ، والإمام الشيخ أحمد بن عبد الرحيم ولي الله الدهلوي المتوفى 1176هــ، والإمام أحمد بن عرفان الشهيد الرائي بريلوي المتوفى 1246هـــ، وهؤلاء الدعاة والمفكرين الثلاث الذين ذكرهم مؤلف هذا الكتاب خاصة مع مناهجهم للدعوة الإسلامية في هذا الوطن العزيز.

نبذة عن الكتاب:

وهذا الكتاب الموسوم بــ”الدعوة الإسلامية ومناهجها في الهند”[1] من مؤلفات الأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله، وكان المؤلف صحافيا وكاتبا وأديبا ومترجما، ذا اطلاع واسع على أحوال العالم الإسلامي ومستجداته الحديثة، وكان من ولاية أترا براديش، بمديرية رائي بريلي، تكية كلان، الهند.

وفي الواقع هذا الكتاب هو مقال قدمه الكاتب في المؤتمر التعليمي لندوة العلماء لكناؤ الهند في عام 1975م، بمناسبة الاحتفال بمرور 85 سنة على تأسيسها، واستعرض الكاتب فيه جهود علماء الهند منذ العصر الأول إلى العصر الحديث في الدعوة الإسلامية، وتربية النفوس والتزكية، ومنهجهم في نصح الأمراء والسلاطين الذي كان يتسم بالتحفظ والاستغناء عن رجال الحكم، ورجال الثروة والنفوذ، واختيارهم السبل اللائقة حسب الظروف والأحوال السياسية والاجتماعية المتغيرة، سواء كان ذلك في عهد الحكم الإسلامي، أم كان في عهد الحكم البريطاني، وبعد استقلال الهند، وقيام حكومة الأغلبية غير الإسلامية.

وأعد الكاتب هذا الاستعراض بتوجيه الشيخ أبي الحسن على الحسني الندوي لتعريف المندوبين العرب الذين بلغ عددهم في هذا المؤتمر أكثر من ستين مندوبا، وكان فيهم نخبة مختارة من العلماء والدعاة، ورجال التربية والتعليم، والإعلام، ثم طبع هذا المقال في مجلة البعث الإسلامي، ولقي قبولا لدى العرب، ثم طبع في صورة كتاب أفاد بمقدمته فضيلة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي، ويتكون هذا الكتاب من قرابة مأة وعشرين صفحة، ويلمح الكتاب إلى العناوين التالية بعد “بين يدي الكتاب، وتقديم”:

  • منهج علماء الهند في الدعوة والتربية

كان أول من دخل الهند من الفاتحين من غير العرب، والذين دخلوا بطريق الجبال الغربية محمود الغزنوي (388-421هـ)، وكان يحب العلماء، ويكرم رجال الدين، ويحترم العلم، فكانت حملاته فاتحة لأبواب الهند للإسلام، كان الفاتحون الأولون للهند حديثي العهد بالإسلام، ولم تتح لهم ولجيوشهم فرصة التربية الإسلامية، ولكنهم رغم ذلك كانوا متصلين بالعلماء والمصلحين، الذين كانوا يكرسون جهودهم على التربية والدعوة، وإصلاح الباطن، ونشر العلوم الإسلامية، ولا يتركون أي فرصة تتاح لهم لإسداء النصيحة للحكام، وكانوا مصدر إلهام وتغذية لكل حركة، وكل جهد لخدمة الإسلام ورفع كلمته، فكان مثلهم مثل القناديل التي تنير الطريق وترشد الناس.[2]

  • دور الشيخ معين الدين السجزي في دعم الحكم، والدعوة الإسلامية

كان الشيخ أبو محمد الششتي يرافق جيش السلطان محمود الغزنوي في غزو الهند، واستشهد في الطريق، وصحب جيش السلطان شهاب الدين الغوري في غزو أجمير، فانهزم برتهوي راج الملك الهندي في المعركة، وفتحت الهند روحانيا باستيطان الشيخ معين الدين لأجمير عاصمة حكومة برتهوي راج.

يتفق المؤرخون ورجال التراجم الذين عاصروا الشيخ معين الدين الششتي على تسخيره للقلوب وتوبة ألوف من الناس على يده، ودخول المشركين والكفار في الإسلام، وكانت كل جولة يقوم بها في أرجاء الهند تسفر عن اعتناق ألوف من المشركين للإسلام وإنابتهم إلى الله.[3]

  • موقف العلماء الربانيين أمام الحكام

لقد كان موقف العلماء الربانيين المخلصين في الهند موقفا شائكا أمام الحكام الذين كانوا حديثي العهد بالإسلام، وكانوا يفضلون المصلحة السياسية على مصلحة الدعوة، وبهذا السبب قد آثر العلماء طريق التضحية، وإنكار الذات، والحب والعطف، فأثمرت جهودهم، وصانوا الإسلام  والدعوة الإسلامية من عمليات التحريف، والاضطراب الفكري بالمنهج المتزن والوعي، والالتزام بالحق، فسارت الدعوة الإسلامية جنبا بجنب مع الحركة العلمية، والنظم السياسية بالتزامل والتضامن غير متعمد.[4]

  • حركتان تلتقيان وتفترقان

كانت الحركة الأولى تقودها طبقة الحكام والأمراء لإقرار النظام، أو الحكم، وكانت تسيطر على الأجساد، وتحتل الأراضي، وتوسع نفوذها وحدودها الجغرافية، وأما الحركة الثانية للدعوة الإسلامة كانت يقودها العلماء الربانيون، وكانت تسخر القلوب وتفتحها بالحب، والإنسانية والمؤاساة، والتعليم والتربية، وتثقيف الأذهان، ومكافحة الظلم.

إن الدعوة الإسلامية في الهند لم تزل مرتبطة كليا بالدعاة المخلصين الذين أنشأوا نظاما خاصا متطورا للدعوة والتربية، فإذا وجدوا معارضة من الحكم استغنوا عنه، مكبين على طريقتهم مضحين في سبيلها بكل غال ونفيس، وإذا وجدوا دعما من الحكومة وتعاونا استفادوا منه.[5]

وبعد بيان العناوين المذكورة بالتفصيل قد قسم المؤلف هذا الكتاب إلى أربعة فصول كما يلي: الفصل الأول: عناصر تربية العلماء وخصائصهم الذاتية

  1. تسخير القلوب بالمحبة:

كان العلماء الربانيون متصفين بعنصر المحبة والتعفف، والتورع من الدنيا يحملون تأثير العقول في الشعب، ورجال البلاط، كما كان الشيخ معين الدين السجزي يحمله من تأثير تسخير للقلوب، وقد أدى هذا التأثير إلى شعبية هائلة كان يتمتع بها الربانيون في كثير من الأحيان. وكذلك كان يأكل على مائدة السيد آدم البنوري وهو من رجال القرن الحادي عشر للهجرة ومن خلفاء الشيخ أحمد السرهندي كل يوم ألف شخص، ويمشي في ركابه ألوف من الرجال ومئات من العلماء. أيضا تاب على يد الشيخ محمد معصوم بن الشيخ الكبير أحمد السرهندي تسعمائة ألف رجل، واستخلف في دعاء الخلق إلى الله وإرشاد الناس وتربيتهم الدينية سبعة آلاف من الرجال. وأقام المصلح الكبير للقرن الثالث عشر، الشيخ الإمام أحمد بن عرفان الشهيد في كلكتا مع أصحابه من العلماء كالمصلح الشيخ إسماعيل الشهيد للوعظ والتذكير، وتقاطر الناس على السيد للبيعة والتوبة عن المعاصي.

  1. اتباع الشريعة والتزامها والتمسك بالسنة النبوية:

والعنصر الثاني من عناصر التأثير لأصحاب هذه الحركات التي غيرت مجرى التاريخ، وبهذا الصدد قد كتب مجدد ألف الثاني، وقال في رسالة بعث بها إلى الشيخ محمد هاشم: “إن صلاح وتفوق هذه الطريقة وعلو شأنها وشأن مشايخها يرجع إلى سببين اثنين، اتباع السنة النبوية والتزامها واجتناب البدع”. وقال الشيخ نظام الدين الأولياء: “لا بد من التمسك بالشريعة الإسلامية، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بثبات ودقة، وأن لا يترك أي عمل من سنته سواء كان مستحبا أم كان من الآداب”. وكان يقول الشيخ بدر الدين السمرقندي:”لا ينفع العلم إلا بالعمل، ولا ينفع العمل إلا بالإخلاص وحسن النية”. وأيضا قال الشيخ شرف الدين يحيى المنيري: “خير الأخلاق وجوهرها اتباع الأوامر والنواهي، وطاعة الله وطاعة رسوله، واتباع شريعته، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في الأخلاق والأعمال للجميع، فمن أحب الله ورسوله وادعى أنه يتبعه، ينبغي أن يقضي حياته مقتديا به”. وكان يقول الشيخ جلال الدين البخاري: “من تهاون في اتباع السنة فاتته الحقيقة”.

وقد بلغ الشغف والحرص للدعاة والمربين والمصلحين من المجدد ألف الثاني، والشيخ علم الله الحسني الرائي بريلوي، والشيخ فضل الرحمن الكنج مرادابادي، على اتباع الشريعة، والاهتمام بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول وعمل وأدب، وهم كانوا متمسكين بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله في سائر أعماله، وكان لهم الشغف بتلاوة القرآن الكريم، وقراءة الحديث الشريف.[6]

  1. أسوة في الحياة الخاصة والعامة:

وكان هذا الحرص والالتزام الشديد بالشريعة، والسنة، عنصرا كبيرا في الاحتفاظ بأصالة الإسلام، والشخصية الإسلامية، فلو لم يكن هذا التمسك الشديد والتثبت بأهداب الدين واتباع السنة، لما بقيت الشخصية الإسلامية، ولما صمدت في وجه أعاصير الانقلابات، والحركات الثقافية والعقائدية. وكان هؤلاء المربون الذين نشروا الإسلام، وقاموا بتربية سائر طبقات الناس، ومن بينهم أصحاب المهن والحرف، ورجال البلاط، وكذلك المذنبون التائبون، والمجرمون، كانوا قدوة وأسوة، في المأكل، والمشرب، وفي المعيشة، وفي السلوك مع الناس والأخلاق، وكانوا نماذجة متنقلة.[7]

  1. العلم والتفقة في الدين:

كان العلم الحقيقي، والتفقة في الدين، والإخلاص في العمل عنصرا آخر من عناصر الدعوة والاسترشاد في الهند في سائر العصور، وقد كان العلماء الربانيون مهتمين أشد الاهتمام بهذه الناحية، فكانوا لا يسندون مهمة التربية إلا إلى من تفقه في الدين، ومن أمثالهم: الشيخ نظام الدين أولياء، والشيخ حميد الدين الناجوري، والشيخ بير محمد اللكهنوي، والشيخ عبد الأحد السرهندي، هم كانوا من المشايخ المشهورين بالعلم والفضل والكمال.[8]

  1. اهتمام الربانيين بتربية الحكام وحثهم على الدعوة والجهاد:

إن رجال التربية لم يكونوا منقطعين عن تربية الخاصة، والحكام والأمراء، وخوض معارك الحياة، والاشتراك العملي في الجهاد. وكانت رسائل الإمام أحمد السرهندي المبعوثة إلى أمراء البلاط وأصحاب النفوذ في عصرة دالة على اهتمامه بإصلاح أحوالهم وتربيتهم تربية دينية. وفي ضمن هذا قد ذكر المؤلف مراقبة الحكام عن كثب وتسديد خطاهم وإرشادهم وعدم الانتفاع بهم ماديا، والعلاقة بين فيروز شاه تغلق والشيخ نصير الدين جراع دهلي، ودور الحكام والسلاطين الذين نشأوا في تربية الربانيين.[9]

وأما الفصل الثاني ففي هذا الفصل قدم المؤلف المناهج الرئيسية للدعوة الإسلامية في الهند، بذكر الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي (971-1034هــــ الموافق 1563-1624م)، وأنه واجه أكبر فتنة، في تاريخ الهند بانحراف الإمبراطور أكبر، وعدائه السافر للإسلام ومخالفته، وقضى الشيخ شبابه في عهد الإمبراطور أكبر في السجن على قول كلمة الحق، ومعارضته لسياسة الإلحاد، واحتمل الأذى، فلما توفي أكبر، وخلفه جهانكير في عام 1014هــ، وكان أقل شراسة وتصلبا من والده أكبر، بل كان متساهلا متنعما كالملوك الآخرين، فاغتنم الشيخ السرهندي هذه الفرصة ليوسع مجال عمله، ويؤثر على ذهن الإمبراطور جهانكير، ورجال حاشيته، فآثر بحكمته وفراسته الطريق الإيجابي، والطريق الفكري بدلا من طريق الانعزال، أو طريق التصدي، والمواجهة السافرة، ورجح الإمالة على الإزالة. وقد اختار الشيخ السرهندي هذا الطريق لا يوجد له نظير في التاريخ، وخاطب هؤلاء العظماء من رجال البلاط الملكي في لقاءاته ورسائله، ثم اتخذ سجنه مركزا لدعوته، وكان يخاطب فيه السجناء، فكان يغرس في قلوبهم الإيمان والتفاني في سبيله، فكانت حياتهم تتغير وهم في السجون، وخرجون منها كدعاة إلى الله، وعاملون بالشريعة الإسلامية، وأثمرت جهود الشيخ أحمد السرهندي في تغيير القلوب، فكان الانقلاب الذي أحدثه انقلابا للتاريخ، وانقلابا للعهد، سخر قلوب الحكام والأمراء، وغيّر جو البلاط الملكي، وأنشأ جيلا من رجال التربية الذين يراعون هذا التغير بنفس الحكمة والأسلوب الذي اختاره الشيخ السرهندي، فواصل أتباعه ومسترشدوه جهاده، ودعوته، ويرجع اتصال الإمبراطور أورنج زيب بخلفاء الإمام السرهندي إلى عهد ولايته.[10]

الشيخ ولي الله الدهلوي: الشخصية الجامعة

كان القرن الثاني عشر للهجرة عهد انقراض الدولة المغولية الذي ثارت فيه الفتن من كل جانب، وسادت الطقوس والعادات الوثنية الهندوكية، وواجه الإسلام حربا فكرية، وسياسية، واجتماعية، من الفرق التي كانت تدعي الإسلام، فكان العهد يقتضي شخصية فذة، تتصف بصفات عالم، وقائد سياسي، وداع ومصلح رباني، ومفكر حكيم، يدافع عن الإسلام، ويهاجم أعداءه بحكمة. وقد جمع الله هذه الصفات التي قلما تجتمع في شخص واحد، في شخصية الشيخ أحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشيخ ولي الله الدهلوي (1114-1174هــ) الذي وضع أسسا للعلم والتربية، والدعوة، والجهاد، ولا تزال تلمس آثارها في الهند، وكان أنجاله وأحفاده في مقدمة العلماء الربانيين والدعاة الخلصين، وتزخر المكتبات الإسلامية في العالم بمؤلفات أسرة الشيخ الدهلوي، والمنتسبين إليها، في التفسير، والحديث، والفقه، والتربية الإسلامية، ويتجمل بذكر جهودهم.

لقد كان من نعم الله وفضله أن أنجبت الهند في أوائل الألف الثاني من الهجرة، شخصيتين عظيمتين للدفاع عن الإسلام، وتربية المسلمين، ووضع قاعدة متينة لحماية الدين الحنيف، إحداهما شخصية المجدد الألف الثاني الشيخ أحمد السرهندي، وثانيتهما الشيخ ولي الله الدهلوي، كما يرجع فضل إعادة الإسلام إلى مكانته اللائقة في الهند، واستئصال جذور الفساد، والانحلال والإلحاد، ومكافحة البدع، والخرافات، بتصحيح مسار نظام الحكم، وتعزيز جهود العلماء والدعوة ورجال التربية إلى الإمبراطور أورنج زيب عالمكير، فلو لم تكن هذه الشخصيات لكان الإسلام في الهند قد تحول إلى طبع جديد، وصار طقوسا وعادات، وابتعد عن ينابيعه الأصلية، واصطبغ بالصبغة المحلية.

وقد أدرك الشيخ ولي الله الدهلوي بفراسته الإيمانية ووعيه الثاقب الأخطار المحدقة بنظام الحكم الإسلامي، وأدرك ما يهدد الإسلام من نظريات ومعتقدات، وفلسفات باطلة، وسوء تأويل لنصوصه، فوضع منهجا جديدا للتعليم، واهتم بتربية العلماء، وعرض الإسلام في ضوء المشكلات الجديدة، وشرح الدين وتعاليمه حسب العقلية المتغيرة، والوضع الجديد، ونقي الإسلام من الشوائب، وخاطب العقل والقلب، ورجال الدين، والدولة معا.[11]

الإمام الشيخ أحمد بن عرفان الشهيد والجمع بين الدعوة والتربية والجهاد:

شهد القرن الثالث عشر للهجرة زوال حكم المسلمين، ونشأة دويلات للسيخ، والمراهتة، والفرق المنحرفة عن السنة في مختلف أنحاء الهند، وترك المسلمون شعائر الإسلام وآدابه، فهبت ريح الإيمان والتجديد والجهاد في سبيل الله بحركة الإمام المجاهد أحمد بن عرفان الشهيد (1201-1246هــ)، ودعوته وتربيته، وتجددت ذكريات القرن الأول.

كان الإمام المجاهد الكبير أكبر مصلح رباني لعصره، وتلميذا ومسترشدا للشيخ عبد العزيز بن الشيخ أحمد بن عبد الرحيم المعروف بالشيخ ولي الله الدهلوي، وكان في حركته كبار المشايخ والعلماء، كالشيخ إسماعيل بن عبد الغني، والشيخ عبد الرحيم الفاطمي، والشيخ ولايت علي العظيم آبادي، والشيخ كرامت علي، وقام جميع هؤلاء الخلفاء في مختلف أنحاء الهند بمكافحة البدع، والوثنية، والعادات الجاهلية.

منهج الإمام أحمد بن عرفان:

قام الإمام الشهيد بجولات الدعوة في المدن المجاورة لدهلي، وبايعه ألوف من الناس، وتابوا عن الشرك والبدع، وكان كل من يقضي ساعات في صحبته تتغير أحواله، وكان يقوم بإحياء السنة، والسلوك الإسلامي، والحمية الإسلامية. كما كتب الأمير صديق حسن القنوجي: “كان الإمام الشهيد آية من آيات الله في إرشاد الخلق وتربيته، وصل خلق كبير بتربيته الروحانية إلى منزلة الولاية، وقد طهرت مواعظ أتباعه من العلماء والمشايخ أرض الهند من الشرك والبدعة… ولا تزال بركات مواعظهم تلمس في الهند”[12].

ويصف الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي أحد قوافل الإمام أحمد بن عرفان الشهيد: “كانت هذه القافلة مدرسة سيارة، ومجتمعا دينيا متنقلا، تلقى فيه المواعظ والخطب، ويتعلم الناس الدين وأحكام الشرع، وآداب الإسلام، ويخدم بعضهم بعضا، ويتعاونون على البر والتقوى… وكانوا كأعضاء جسد واحد، وأبناء أسرة واحدة، وكان يغشاهم سحاب من سكينة ووقار، وهدوء وسلام، وإخاء ووئام قد تناسوا أوطانهم وبيوتهم”[13]

وأما الفصل الثالث فأتى فيه المؤلف بذكر عهد الاحتلال البريطاني، وبيّن فيه إن كل حركة ونشاط في حياة المسلمين في الوقت الحاضر، في مجال التعليم، والثقافة، والسياسة، والاجتماع مدين للمشايخ والعلماء الربانيين الذين تأثروا بحركة ودعوة السيد أحمد بن عرفان الشهيد، إنهم كانوا قوام المقاومة والصمود ضد الغزو الفكري والسياسي الذي رافق غزو الإنجليز للهند. وتوجهت عناية العلماء إلى مكافحة خطر التنصير والغريب، فأنشأوا مدارس التعليم الديني، كان في مقدمتهم الشيخ محمد قاسم النانوتوي مؤسس دار العلوم بديوبند، والشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، والشيخ أشرف علي التهانوي، والشيخ خليل أحمد، والشيخ عبد الله الغزنوي وغيرهم، وقد مثلت دار العلوم بديوبند، ومظاهر العلوم بسهارنفور بصفة خاصة دورا رائدا في نشر العلوم الإسلامية، وصيانة  العقيدة من التحريف، وبعد فشل الثورة في سنة 1857م، لم ير العلماء أمامهم طريقا إلا فتح المدارس العربية والمعاهد الدينية، فأسس الشيخ محمد قاسم النانوتوي مدرسة ديوبند سنة 1283هــ، وأسس الشيخ سعادت علي مدرسة سهارنفور في نفس ذلك العام، ثم أسس ندوة العلماء الشيخ محمد علي المونجيري، ونخبة من العلماء في 1894م-1312هـ، وهي كانت المدرسة الثلاثة الكبرى في ذلك الوقت.

حركة تحرير البلاد من الاستعمار البريطاني: قاد العلماء حركة تحرير البلاد من الاستعمار البريطاني كشيخ الهند محمود الحسن، وشيخ الإسلام حسين أحمد المدني، والشيخ عطاء الله البخاري، ومولانا أبو الكلام آزاد، والشيخ عبد الباري الفرنجي محلي، وقد أدى هذا الجمع بين العلوم الظاهرة والباطنة، وبين الربانية والطريقة إلى خلود هذه السلسلة الذهبية. ثم أسس الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي الحركة الإصلاحية المعروفة بجماعة الدعوة والتبليغ من أسرة عميقة الصلة بخلفاء الإمام الشهيد، وكان منهجه في الدعوة يقوم على الاتصال الشخصي بالمسلمين، ودعوتهم إلى الخروج في سبيل الله، وتعليمهم وتربيتهم أثناء جولات الدعوة.[14]

وأما الفصل الرابع الأخير من هذا الكتاب قد أضاف إليه المؤلف جهود العلماء بعد الاستقلال، ويقول إن الاستقلال قد نالته الهند وانقسمت البلاد إلى بلدين في عام 1947م، فمرت البلاد بثورة عصبية، فكان دور عظيم لمعاقل التربية الدينية المذكورة في بقاء المسلمين في الهند وتربيتهم تربية دينية، وكان في مقدمة الربانيين الذين قاموا بتوجيه المسلمين في هذه الفترة العصبية شيخ الإسلام حسين أحمد المدني، والشيخ عبد القادر الرائبوري، والشيخ زكريا الكاندهلوي. قد قام هؤلاء العلماء بجولات واسعة مضنية في الهند، وأقاموا اتصالات شخصية بسكان المناطق النائية والمنعزلة، وبحثوا مشاكلهم التعليمية والاجتماعية، وأنشأوا حركات ومنظمات لمعالجة المشاكل الجديدة، وللتوعية الإسلامية، كمجلس الأحوال الشخصية الإسلامية، والمجلس الاستشاري للمسلمين، لتوحيد صفوف المسلمين، وتهيئة منبر لبحث المشاكل الإسلامية السياسية، ومجالس إقليمية للتعليم الديني، وجمعيات طوعية أخرى.

والإضافة إلى هذه الجهود توجهت عناية بعض العلماء حسب ذوقهم إلى عرض الفكر الإسلامي، وحل القضايا المعاصرة بأسلوب عصري، وتأليف أحزاب وجماعات للعمل من إجل العودة إلى ذاتية الإسلام، وقد كان لمولانا أبي الكلام آزاد قيادي فيه، فقد نفخت صحفه التي كان يصدرها كالهلال والبلاغ، وروح العمل والاجتهاد في المسلمين، ونفورا من الاستعمار وثقافته. وكذلك الشيخ أبو الأعلى المودودي قد أسس الجماعة الإسلامية وبذل جهودا مشكورة في عرض الإسلام وحل مشكلات العصر، والتوعية الفكرية للمسلمين بغض النظر عن مؤاخذة العلماء على بعض توجيهاته، فقد كانت له مساهمة كبيرة في عرض الإسلام علميا، وفي تأليف جماعة للعمل الإسلامي. ويذكر المؤلف في صدد جهود العلماء في عرض الفكر الإسلامي مجمع “دار المصنفين” الذي أنشأه العلامة شبلي النعماني، و”مجمع ندوة المصنفين” بدلهي للمفتي عتيق الرحمن العثماني، و”المجمع الإسلامي العلمي” الذي أنشأه الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي بندوة العلماء، والشيخ الندوي قد اتخذ طريقا جديدا للدعوة والإرشاد والتربية، وجذب قلوب غير المسلمين بحركته “حركة رسالة الإنسانية”.

وفي الأخير ضم المؤلف العنوان الجديد “الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي ومنهجه للدعوة ودوره في حل القضايا والمشاكل” ، وكان للشيخ الندوي منهج يختلف  عن منهج العلماء الآخرين في عصره، فقد جمع في منهجه خصائص مدرسة الشيخ السرهندي، والشيخ ولي الله الدهلوي، والإمام أحمد بن عرفان الشهيد، بدأ حياته بعد الفراغ من مرحلة التعليم، كمدرس، لكنه ترك الوظيفة، وأطلق نفسه من قيدها، ليقوم بأعباء الدعوة والإصلاح بحرية، واختار منهجا خاصا للعمل، ووسع دائرة نشاطاته من إطار المسلمين إلى الإنسانية كلها بأسلوب يميل القلوب، ويحذب النفوس بالكتب والخطب، والرسائل واللقاءات، والحوارات، ويخاطب الحكام، والقادة، والمثقفين، وعامة الناس، لكل طبقة أسلوب، ولكل بيئة طريقة خاصة. وقد أوضح مسلكه في كتابه “الصراع بين الفكرة الإسلامية الشرقية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية” إنه كان يخاطب طلاب المدارس الدينية، ويطالبهم بتجديد المناهج، ويخاطب طلاب المدارس العصرية، ويطالبهم بالرجوع إلى منابع الإيمان واليقين، وتربية النفس، والخلق الحسن، فكان مجال عمله مجالا واسعا، ويخاطب العلماء والعاملين في مجالات العمل الإسلامي، فيدعوهم إلى البحث والنقد البناء، والاقتباس من العلم الجديد، والمناهج الجديدة، والنهوض لمواجهة الأخطار والتحديات الجديدة، وأضاف المؤلف أيضا جهود الشيخ الندوي لإصلاح المجتمع الإنساني، ومنهجه لإصلاح المجتمع المسلم.[15]

وخلاصة القول إن هذا الكتاب صغير في حجمه وكبير في موضوعه، وقدم المؤلف فيه صورة لمآثر الدعاة والمفكرين المسلمين في الهند، وعرضا للمنهج الدعوي والتربوي السديد المفيد في هذا الوطن العزيز المزدوج من الكيانين الإسلامي وغير الإسلامي بشيء من الاختصار، أسأل الله تعالى أن يتقبل خدمة المؤلف الجليلة، ويجعلها معلما من معالم طريق الدعوة والتربية الإسلامية، والله من وراء القصد ويهدي إلى الصراط المستقيم.

الهوامش:

[1]  قد ظهرت الطبعة الأولى من مطبعة دار عرفات في عام 1408هــ، وبعد الإضافة في الطبعة الثانية التي اعتنت بنشرها مكتبة أبي الحسن على بدلهي، والطبعة الثالثة أصدرتها دار الرشيد، لكناؤ، الهند بعام 2009م.

[2]  انظر: أ. واضح رشيد الحسني الندوي”الدعدوة الإسلامية ومناهجها في الهند” ص: 18-21

[3] المصدر السابق، ص: 21-23

[4]  الندوي، محمد واضح رشيد الحسني ،الدعوة الإسلامية ومناهجها في الهند، دار الرشيد، لكناؤ، ص: 23-25

[5]  الندوي، محمد واضح رشيد الحسني ،الدعوة الإسلامية ومناهجها في الهند، دار الرشيد، لكناؤ، ص: 25-27

[6] الندوي، محمد واضح رشيد الحسني ،الدعوة الإسلامية ومناهجها في الهند، دار الرشيد، لكناؤ، ص: 28-39

[7]  الندوي، محمد واضح رشيد الحسني ،الدعوة الإسلامية ومناهجها في الهند، دار الرشيد، لكناؤ، ص: 39-41

[8]  الندوي، محمد واضح رشيد الحسني ،الدعوة الإسلامية ومناهجها في الهند، دار الرشيد، لكناؤ، ص: 42-43

[9]  نفس المصدر، ص: 44-55

[10]  انظر: في كتاب” الدعدوة الإسلامية ومناهجها في الهند” ص: 56-66

[11]  نفس المصدر، ص: 67-79

[12]   الشيخ أبي الحسن علي الحسني، تاريخ دعوت وعزيمت، ج 4، صـ

[13]   الندوي، محمد واضح رشيد الحسني ،الدعوة الإسلامية ومناهجها في الهند، دار الرشيد، لكناؤ، ص: 80-89

[14]  المصدر السابق، ص: 90-96

[15]   المصدر السابق، ص: 102-117

*الباحث في الدكتوراه، قسم اللغة العربية، الجامعة الملية الإسلامية، نيودلهي، الهند.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of