+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

آراء الشيخ عبد الحميد الفراهي في مسائل دقيقة في تفسير القرآن الكريم-الحلقة الأولى
الأستاذ خالد باندوي الندوي

المطلب الأول: رأيه في الذبيح.

تصدى الإمام الفراهي – رحمه الله – لإبطال ما زعم اليهود من أن الذبيح إسحاق عليه السلام والكشف عن تحريفاتهم لإثبات ذلك في التوراة، وقد يظن بعض الناس أن هذه المسئلة مسئلة فرعية جزئية من التاريخ، وسواء إسماعيل كان الذبيح أم إسحاق، فكل نبي من أنبياء الله ورسله، فليست لذلك أهمية شرعية تستوجب اهتماماً كبيراً كهذا، ولكنه ظن لا نصيب له من الصحة.

نظرا إلى أهمية قضية الذبيح الشرعية والتاريخية نهض العلامة الفراهي لحسم الخلاف والإتيان بفصل الخطاب وإيضاح الحق، وألف كتاباً قيماً حافلا بالحجج والبراهين الساطعة، وسماه “الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح” حاول فيه إثبات كون إسماعيل هو الذبيح لا غير، مستنداً رأيه أولاً على التوراة واعترافات علماء أهل الكتاب أنفسهم، وثانياً على الاستدلال بالقرآن المجيد، وثالثاً بالروايات وأقوال علماء الإسلام.

وقد أثنى على هذا الكتاب القيم رجال العلم والأدب يقول الشيخ العلامة السيد سليمان الندوي- رحمه الله – :”لا مانع من أن أقول: ما رأيت في تاريخ الإسلام رسالة أحسن منها”.[1]

قصة الكتاب

وقد أشار العلامة السيد سليمان الندوي إلى خلفية تأليف الكتاب “سيرة النبي” [2] فقال: “ساعدنا العلامة الفراهي مساعدة غالية في جمع المواد العلمية للباب الذي يتحدث عن مولد سيدنا إسمعيل ومسكنه وتقربه، وهوالباب القيم من السيرة النبوية، ثم قام بجمع هذه المواد العلمية وتهذيبه وتنسيقه، وبالغ في البحث والاستقصاء وأفرد لها رسالة أسماها” الرأي الصحيح في من هو الذبيح”.[3]

يتبادر مما كتبه العلامة الندوي هناك أن هذا السفر النفيس جاء عن اقتراح العلامة شبلي النعماني.

وأما الأستاذ أمين أحسن الإصلاحي فإنه يرى أن  تأليف الفراهي مصدر أصيل لكل ما ذكره العلامة النعماني في سيرته: في الباب الذي يشتمل على ذكر إبراهيم وولده إسمعيل عليهما السلام.[4]

وقد يبدو هذان القولان متناقضين بادي ذي بدء إلا أن المتأمل فيهما  يجد طريق التقارب بسهولة.

دوافع تأليف الكتاب

هذا الكتاب مستخرج من تفسير المؤلف الشهير “نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان” وقد شرح العلامة الفراهي – رحمه الله – في مقدمة كتابه الأسباب الداعية إلى إفراده، وهي ثلاثة أمور:

أولها:

هو مكانتها العظمى في ملتنا، وتكلم على خطر هذه المسئلة في تاريخ الإسلام وأهميتها لفهم حقيقة الإسلام نفسه كلاماً في غاية النفاسة يقول في آخر مقدمته:

“فمن زعم أن هذا الابتلاء وقع على جبل أرشليم، وقرب عليه إسحاق عليه السلام كان في غطاء كثيف عن حقيقة هذه البعثة العظمى وحقيقة هذا الذبح ومكانته في ملتنا”.

والأمر الثاني:

“أن في القرآن آيات كثيرة يتوقف فهم تأويلها ونظامها على معرفة هذه المسألة وما يتعلق بهذا الذبح، واستيفاء البيان في كتابنا “نظام القرآن” تحت كل آية تشتمل على ذلك الأمر، يقضي إلى تكرار وإطناب، فأفردت له كتابنا هذا، وجعلنا من مقدمة تفسيرنا لكي نحول إليه عند الحاجة.

والأمر الثالث:

“أن اليهود لم يبالغوا في كتمان أمر مثل مبالغتهم في ذلك، فإنهم قد ارتكبوا تحريفات وأكاذيب صريحة في أمر إسماعيل والكعبة، وقد بين الله قصة هذا الذبح في التوراة، ولكن اليهود قد دسوا فيها أهواءهم، فأصلحها القرآن، ……..ومع أن الناقدين من علماء المسلمين من أهل العلم والنظر – كما ستعلم قد استدلوا بنصوص التوراة أنفسها على كون إسماعيل عليه السلام هو الذبيح، فإن اختلاف كلمتنا جعل هذا الأمر العظيم من الأمور التي لا يعتد بها، بل عدم اعتدادهم به أمكن اختلافهم فيه، فإنهم لو علموا ما لهذا الذبح من المكانة في ملتنا، لتحذروا عن الغفلة في أمره، فلهذه الأمور الثلاثة التي كلها على غاية الأهمية احتجنا على كشف القناع عن هذه المسئلة”.[5]

وقدم المؤلف – رحمه الله – الاستدلال بالتوراة لأنه أراد إقامة الحجة على أهل الكتاب من كتابهم، وجاء في هذا الفصل بثلاثة عشر دليلاً من التوراة التي عند اليهود على أن الذبيح إسماعيل عليه السلام ومعظم هذه الدلائل – كما نظن – جديدة لم يسبق إليها. وسعى – رحمه الله – إلى كشف القناع عن تحريفات اليهود المغضوب عليهم في كتابهم وفسر بعض نصوص التوراة مما استغلق عليهم، أو تجنبوا بيانه كتمانا للحق وظنا أنه سيخفى على الباحثين والدارسين.

ونلخص هنا بعض الأدلة التي ساقها العلامة الفراهي من التوراة على كون إسماعيل هوالذبيح.

يقول الفراهي:

“قصة الذبح حسب ما جاءت في صحف اليهود

نذكر أولاً قصة الذبح حسب روايات اليهود في صحفهم، ثم ننظر فيها حسب الأصول التي قدمناها في الفصل السابق[6].

يبتدئ الإصحاح الثاني والعشرون من سفر التكوين بهذه القصة، ولكنها متصلة بالأصحاح السابق الذي يذكر مسكن إبراهيم الذي رحل منه مع ابنه ليقربه، وفيه أنه تغرب في بئر سبع، وجاء إليه ملك هذه الديار، وعاهد إبراهيم عليه السلام، ثم رجع إلى مستقره في فلسطين، وفي آخر قصة الذبح إشارة إلى مسكنه الذي ذهب منه إلى المكان الذي قرب فيه، فاحفظ هذه الأمور، والآن فانظر في القصة، جاء في سفر التكوين (22: 1-18):

(1) وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم عليه السلام فقال له: يا إبراهيم، فقال: ها أناذا، (2) فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك، (3) فبكر إبراهيم صباحاً وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق ابنه وشق حطباً لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله، (4) وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد.

بعد ذلك ذكر مجيئه وتقديمه القربان حتى ناداه الرب:

“(12) فقال: لا تم يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني، (13) فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكاً في الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضاً عن ابنه، (14) فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع يهوه يرأه حتى إنه يقال اليوم في جبل الرب يري، (15) ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء، (16) وقال بذاتي أقسمت، يقول الرب: إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، (17) أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر، ويرث نسلك باب أعدائه، (18) ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي، ثم رجع إبراهيم إلى غلاميه فقالموا وذهبوا معاً إلى بئر سبع وسكن إبراهيم في بئر سبع”.

وبعد هذه العبارة: “وحدث بعد هذه الأمور”، وليس فيه شئ من قصة الذبح فتركناه.

ولهذه هجرة إبراهيم روايتان أخريان سنذكرهما في طي الكلام، فإنما المقصود في هذا الفصل الاقتصار على نص هذه القصة وعلى ما تتضمن من الأمور التي يستدل بها على حقيقة الواقعة، فنوجهك إليها، وهي هذه:

  1. كان إبراهيم عليه السلام قد اتخذ برية بئر سبع مسكناً قبل التضحية وبعدها.
  2. أرض المريا على مسير ثلاثة أيام من بئر سبع.
  3. أرض المريا هي التي قرب فيها.
  4. ذلك الموضع كان يرى من بعيد.
  5. إنما قرب إبرهيم عليه السلام ابنه الوحيد.
  6. وكان هذا الابن محبوباً له.
  7. كان بقرب ذلك المذبح غابة.
  8. بارك الله إبراهيم عليه السلام لأجل أنه قرب ابنه الوحيد.
  9. ووعد أن يبارك في نسله جميع أمم الأرض.
  10. يرث نسله باب أعدائه.

ولم يتفطن المحرف بوجه الاستدلال بهذه الأمور، فبقيت، ولله الحمد. وأما التصريح باسم إسحاق فلا يعتمد عليه، لأنه موافق بأهواء اليهود، فأدخلوه، وقد دلت عليه دلائل كثيرة بعضها من بيان هذه القصة، وبعضها من غيرها من نفس صحفهم، كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى.[7]

الاستدلال الأول

بمسكن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام

“لما بكر إبراهيم عليه السلام لأن يقرب ابنه لم يكن معه إسحاق عليه السلام، وإنما كان إسماعيل عليه السلام هو ساكناً معه، والذي أدخل اسم إسحاق لم يتفطن بهذا الأمر، فبقي دليلاً على إدخاله.

وتفصيل ذلك أن القصة تصرح بأن إبراهيم عليه السلام رجع بعد ما قرب ابنه إلى بئر سبع، وسكن فيها، والرجوع إلى بئر سبع يدل على أنها كانت مسكنه من قبل، وقد صرح بذلك في الأصحاح السابق.

وإذا علمت ذلك، فاعلم أن بئر سبع هي الموضع الذي سكن فيه إسماعيل عليه السلام مع أمه، فإنهم قد ذكروا ذلك في قصة إبعاد إسماعيل وأمه عن إسحاق وأمه، ولاشك أنهم أدخلوا في هذه القصة أكاذيب، وقد اعترف به علماؤهم لما فيها من الأمور التي تكذبها التوراة، ولكن بقي فيها الحق، فنأخذهم بما اعترفوا به، جاء في سفر التكوين (21: 14):

“فبكر إبراهيم صباحاً وأخذ خبزاً وقربة ماء وأعطاهما لهاجر واضعاً إياهما على كتفها والولد، فمضت وتاهت في برية بئر سبع”.[8]

الاستدلال الثاني

بأن إسماعيل عليه السلام كان هو وحيد أبيه

قد مر في القصة أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه الوحيد، ولاشك أن إسماعيل عليه السلام ولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة، فإنه جاء في سفر التكوين (16: 16):

“وكان أبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام”.

وفيه أيضاً (21: 5): “وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه”.

فثبت من ذلك أمران:

  • لم يكن لإبراهيم عليه السلام وحيد إلا إسماعيل عليه السلام حتى ولد له إسحاق عليه السلام.
  • قرب هذا الابن الوحيد قبل ولادة إسحاق عليه السلام، فإنه لم يبق وحيداً بعد ولادة أخيه، وفي كلا الأمرين دليل مستقل على أن المقرب هو إسماعيل عليه السلام.[9]

الاستدلال الثالث

بأن إسماعيل عليه السلام كان هو أحب إلى أبيه

قوله: “الذي تحب” إنما يعرف به إسماعيل عليه السلام، لأن في صحفهم ما يبين أن إبراهيم عليه السلام كان أشد حباً لإسماعيل عليه السلام، وذلك من وجوه:

  • أن إبراهيم عليه السلام كان قد دعا للولد، كما جاء في سفر التكوين (15: 2-4).

فلما رزقه الله هذا الولد سماه (إسماعيل) أي سمع الله دعاءه، فإنه جاء في سفر التكوين (16: 15):

“فولدت هاجر لأبرام ودعا أبرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل”.

والآن فتصور شيخاً كبيراً أواهاً صبوراً قد ضاق صدره من عقمه، فدعا ربه، فأجابه الرب تعالى، حتى إذا رزق الولد جعل تلك الإجابة اسمه، يدعوه به، ولا يفارقه، حتى إنه يبلغ ثلاث عشرة سنة وحيداً لأبيه الكبير الذي لا رجاء له لابن آخر، فإذا تصورت ذلك فاقض ما أنت قاض في شدة محبته لابنه هذا.[10]

الاستدلال الرابع بأن موضع الذبح هوالمروة التي عند الكعبة

ومن أهم التحقيقات العلمية التي تضمنها هذا الباب تحقيقه لموضع الذبح، وقد تعرض اسمه في صحف اليهود لتحريف شديد في قراءته وتفسيره، فجاء في سفر التكوين (22: 2) حسب الترجمة السبعينية “إلى الأرض العالية” وحسب النسخة العبرانية “إلى أرض موره” وفي ترجمة أقيلا “الأرض المستعلنة” وترجمة سماخوس “أرض الرؤيا”، وفي السفر نفسه في مكان آخر (12: 6) في السبعينية “البلوطة العالية” وفي العبرانية “ميدان موره”، أما في القراءة فقرأوا “مرياه” و”مورياه” و”موره”.[11]

وقد أفاض المؤلف في ذكر هذه التحريفات، ثم أورد أقوال بعض علمائهم في الاعتراف بالتحريف في هذه الكلمة والرد على زعم اليهود بأن هذا الموضع هو مكان هيكل سليمان في أورشليم وزعم النصارى بأنه موضع صلب المسيح حسب معتقدهم، وأشار إلى اقتراح بعضهم أن هذا الموضع على جبل جريزيم، ورد عليه، ثم نبه المؤلف على مداخل التوهم والتحريف في الكلمة مستدلاً بقواعد اللغة العبرانية ووجود التشابه الشديد بين الحروف في الخط العبراني مما يسهل عمل التحريف لمن يتعمده.[12]

ثم أثبت المؤلف رحمه الله أن الصواب في اسم موضع الذبح هو “المروة” فقال: “إن ذلك الموضع هو الذي في مساكن بني إسماعيل ولم يزل مشوراً باسم المروة، ويؤيد ذلك ما في صحفهم، فإنه قد جاء في سفر القضاة (7: 1): “وكان جيش المديانيين شماليهم عند تل موره في الوادي، فتبين أن هذا التل موره كان معسكراً للمديانيين، ولاشك أن المديانيين هم العرب، واسم مديان يطلق عليهم وعلى أرضهم، وقد جاء التصريح في صحفهم بأن مديان هم الإسماعيليون”.[13]

ثم أورد نصوصاً من التوراة وقال: “فبعد ذلك أي شئ يبقى من دعواهم بأنه على جبل أورشليم؟ أم أي شئ يدفع ما لم يزل الإسماعيليون يعرفونه بالمروة؟ وكانت عندهم أشهر من نار على علم، وكانوا يطوفون بها في حجهم، وحين خاطبهم القرآن في أمر الطواف لم يحتج إلى تعريفها، ولكن بين أنها من شعائر الله، وهناك أشار إلى تحريف أهل الكتاب في أمرها وسوء صنيعهم فيما يكتمون من آيات الله تعالى في كتابهم”.[14]

الاستدلال الخامس

بأن إسماعيل عليه السلام كان هو الأولى بأن يقرب

قد صرحت التوراة بأن إسماعيل عليه السلام كان هو بكر أبيه والشريعة من لدن عهد آدم عليه السلام إلى موسى عليه السلام مؤكدة بأن البكر هو الذي يقرب، ولا يبطل فضيلة البكورية شئ، راجع الفصل الثاني (د) و(هـ).[15]

هذا ما استدله المؤلف من التوراة على إثبات التقرب في حق سيدنا إسماعيل عليه السلام ثم أخذ يستدل بالقرآن المجيد وحده وساق هناك ثلاثة عشر دليلا على صحة رأيه.

وقد نهج المؤلف – رحمه الله – منهجه في  الباب السابق، فقد بدأه بذكر أصول ومبادئ للتدبر في قصص القرآن وحججه ، وهي أمور مهمة لفهم منهج القرآن الكريم في إيراد القصص والاحتجاج في المعقول والمنقول،والوجوه التب استدل بها المؤلف في هذا الباب جلها منثور في كتب السابقين ولكنها جاءت في هذا الكتاب على أحسن وجه من التحرير والتلخيص والتشييد.

نذكر فيما يلي أهم أدلته المستمدة من القرآن المجيد

الاستدلال الأول

بكون ذكر الذبيح موصولاً بالدعاء

دعاء إبراهيم: “رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ”[16] إنما هي كان حين لم يكن له ولد، وإلا لقيل له: قد وهبنا لك من الصالحين، وقد صرح التوراة بذلك كما مر في الفصل السادس والسابع، فههنا ذكر الله الإجابة في عقب الدعاء، ووصلهما بالفاء، فقال: “فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ”[17] فدل على أن ذلك ذكر الولد الذي أعطاه الله إجابة لدعائه حين لم يكن له ولد، فلابد أن يكون هذا الغلام الحليم أول مولود لإبراهيم عليه السلام، وصرح بكونه ذبيحاً، فلابد أن يكون إسماعيل عليه السلام الذي هو أول مولود لإبراهيم عليه السلام ذبيحاً.

وليس الاستدلال بأن دعاءه لم يكن إلا لولد واحد كما زعم الرازي رحمه الله – وسيأتيك ذكره في الفصل السادس والثلاثين – فإنه كان دعاء عاماً محولاً إلى فضل الرب تعالى، سواء أعطاه واحداً من الصالحين أم أكثر، مع إشارة خفية إلى الكثرة، وهذا هو الأولى في موضع الدعاء، كما ترى في دعائه في موضع آخر: “رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي”[18] أي عدداً محولاً إلى فضلك.

وبالجملة فنقول: إن الدعاء، وإن اشتمل على كل من يعطيه الله من الصالحين من ابن وابن ابن، فإنما المذكور في قوله تعالى: “فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ” [الصافات:101] هو الابن الذي ولد له قبل سائر ذريته إجابة لدعائه، وهو إسماعيل عليه السلام، فإن ذكره وصل بالدعاء، وفرع عليه، فهو الذي وقعت به الإجابة، ثم من وهبه الله بعد ذلك كان فضلاً ونافلة.

وقد صرح القرآن بذلك حيث قال تعالى: “وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً” [الأنبياء:72] أي نحلة نافلة من عندنا، ولذلك سمى إبراهيم عليه السلام أول أولاده (إسماعيل) أي سمع الله، فإسحاق ويعقوب عليهما السلام، وإن كانا داخلين في عموم الدعاء والهبة، فإن المذكور في قوله تعالى: “فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ” [الصافات:101] لا يكون إلا من وهبه الله تعالى حين لم يكن له ولد، ولا فرق بين إسحاق ويعقوب في أن الله وهبهما نافلة، بل ذلك أظهر في إسحاق عليه السلام، فإنه ولد من غير دعاء ولا انتظار، كما سيأتيك في الفصل الثالث والعشرين.

وأما ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن المراد بالنافلة هو يعقوب عليه السلام خاصة، لما توهم أن إسحاق عليه السلام كان إجابة لدعاء أبيه دون يعقوب عليه السلام، فإنما هو لما تلقى من أخبار اليهود، وبناء على هذا التأويل توهم بعضهم أن (النافلة) يقال لولد الولد، وأدخل المقلدون ذلك في كتب اللغة من غير سند من كلام العرب، وأئمة اللغة منكرون لهذا المعنى للنافلة، فلا يغرنك هذه الأقاويل.

الاستدلال الثاني

بنظير هذا الدعاء من جهة النظم

كما أن الله تعالى ذكر الذبيح في هذه القصة متصلاً بالدعاء، وذكر إسحاق عليه السلام بعده، فكذلك ذكرهما في موضع آخر حيث ذكر شكر إبراهيم على إجابة دعائه، وهو:

“الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ”[إبراهيم:39].

فالدعاء المذكور ههنا يشير إلى دعائه المذكور في قصة الذبح وهو: “رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ” [الصافات:100].

وإذ قد تبين تطابق الموضعين في ذكر الدعاء والإجابة، فلا يخفى أن الله تعالى ههنا أيضاً ذكر الموهوب له أولاً بقوله: “فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ” [الصافات:101] والموهوب له ثانياً بقوله: “وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ” [الصافات:112].

الاستدلال الثالث

بتطبيق النظيرين من جهة أخرى

في الآية التي تلوناها آنفاً لم يكتف بتقديم إسماعيل في مقام الشكر، بل دل أيضاً على أنه إنما سمي (إسماعيل) لكونه هو إجابة دعائه، فقال: “إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ” [إبراهيم:39] واسم (إسماعيل) معناه: سمع الله، كما مر، فكأنه قال: الحمد لله الذي وهب لي إسماعيل إجابة لدعائي، ثم وهب لي إسحاق نافلة، كما مر.

وهكذا في قصة الذبح دل بوصل الموهوب له أولاً بالدعاء على أنه إجابة لدعائه، فتطابق الموضعان في ذكر الدعاء والموهوب إجابة، ودل في الأول على أنه إسماعيل، وفي الثاني على أنه هو الذبيح، فدل بذلك على أن المراد في قوله: “رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ” [الصافات:100-101] لا يكون إلا إسماعيل عليه السلام.

الاستدلال الرابع

باستقراء النظائر في بشارة إسحاق عليه السلام

لاشك في أن ههنا ذكر بشارتين: بشارة بغلام حليم موصولة بالدعاء، وبشارة بإسحاق غير موصولة بالدعاء، وقد جاء ذكر البشارة بإسحاق في مواضع من القرآن، وليس في أحد منها أنها كانت من انتظار أو دعاء فضلاً أن تذكر متعاقبة للدعاء وموصولة به بالفاء.

وهكذا في التوراة، فإنها تذكر بشارة إسحاق عليه السلام حين لم يكن إبراهيم عليه السلام ليستشرف إليها ولا يرجوها بل تعجب منها لما سمعها، ففي سفر التكوين (17: 17): “ألا بن مائة سنة يولد أو سارة ابنة تسعين سنة تلد”.

وقد وعد الله إبراهيم أن يرزقه ولداً، فلو كان إسحاق عليه السلام هو الموعود لم يتعجب إبراهيم عليه السلام من بشارته، فهذه البشارة التي وصلت بالدعاء إجابة له لا تكون في إسحاق عليه السلام، وهذا دليل مستقل بنفسه.

ثم هي لا تكون في إسحاق لكونها خلاف سائر البشائر الإسحاقية التي لم تذكر متفرعة على الدعاء، وذلك حملاً للنظير على النظير، فلابد أن تكون هذه في إسماعيل الذي جاء إجابة لدعاء أبيه، وقد صرح القرآن بكون صاحب هذه البشارة ذبيحاً، فإسماعيل عليه السلام هو الذبيح.

الاستدلال الخامس

بأن البشارة الأولى غير الثانية

لا يخفى أن ظاهر العطف بين البشارتين يدل على كون المبشر بهما اثنين، والاعتذار بأن البشارة الأولى كانت من جهة كون إسحاق عليه السلام غلاماً حليماً والثانية من جهة كونه نبياً مخالف لظاهر القرآن من غير دليل.

وهذا يتضح من النظر إلى الجملتين معاً، مثلاً تقول: “قال إبراهيم عليه السلام: رب هب لي من الصالحين، فبشره الله بغلام حليم، وكان من أمره كذا وكذا، وبشره الله بإسحاق نبياً من الصالحين”، وقد علمنا من غير خلاف بين أهل الكتاب والمسلمين أن غلاماً حليماً قد ولد لإبراهيم عليه السلام قبل إسحاق، فما المحوج إلى جعل المعطوفين واحداً خلافاً لظاهر الكلام؟

وعلى هذا فالمذكور في البشارة الأولى (وهو الذبيح) غير المذكور في البشارة الثانية (وهو إسحاق).

ومن عجيب ما استدل به المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدم تسمية الذبيح في القرآن الكريم، فقد جعل ذلك حجة على كون إسماعيل هو الذبيح، فقال: “ليس لقائل أن يقول: إن كان إسماعيل عليه السلام هو الذبيح فلم لم يصرح القرآن به؟ فإن هذا السؤال عائد عليه في أمر إسحاق عليه السلام على سواء، مع أنه لم يكن مانع لذكره، وأما إسماعيل عليه السلام فلعدم التصريح باسمه وجوه من الحكمة”.

ثم فصل القول في هذه الوجوه، وهي أربعة أولها: “أنه من عادة القرآن الصفح والإعراض عن اللجاج الذي لا ينفصم لكيلا يشتغل الخصم به، ويترك ما يلقى إليه من الحجة الدامغة، وقد أدخلت اليهود اسم إسحاق عليه السلام في قصة الذبح، فلو صرح القرآن بخلاف ذلك لتمسكوا بما في قصة الذبح، فلو صرح القرآن بخلاف ذلك لتسكوا بما في كتبهم، وجادلوا بباطلهم، وأنكروا بما جاء به النبي لخلافه الصريح بما عندهم، فالقرآن يلزمهم ما كان موجوداً في صحفهم أو كان ظاهراً بينا عند العقل لكيلا يترك لهم متمسكاً وعذراً، وقد أشار إلى ذلك في غير ما آية تارة يخاطب النبي ويأمره بالصفح عنهم، وتارة يخاطب المسلمين بترك جدالهم إلا بحسن القول، وتارة يخاطب أهل الكتاب ويدعوهم إلى مسلماتهم”.

ثم أورد أمثلة على ذلك وقال: “وبالجملة فإن القرآن قد اجتنب مجادلتهم فيما تمسكوا بظاهر الكتاب، وفي ذلك حكمة بينة لعدم التصريح باسم الذبيح، فلو كان هو إسحاق عليه السلام لم يكن مانع من تسميته ههنا”.

ومن أروع فصول هذا الباب الفصلان الأخيران اللذان استدل فيهما المؤلف رحمه الله بما صرح به القرآن من أحوال إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وبما جاء في القرآن على سبيل إبطال ما افترت اليهود في أمر إسماعيل عليه السلام، وكلاهما من جوامع الأدلة، وسترى فيهما كلاماً بديعاً في تفسير معاني الآيات وحسن نظامها ومحكم ترتيبها وبعيد مراميها ولطيف أسلوبها.

وختم المؤلف رحمه الله هذا الباب بقوله: “ولو فصلناها – يعني الأدلة – لصارت أكثر عدداً ولكنا اخترنا الثلاثة عشر كما اخترنا في القسط الأول رعاية لسني عمر إسماعيل عليه السلام حين قدمه الخليل عليه السلام قرباناً لربه”.[19]

أما الباب الثالث الأخير من هذا الكتاب فأورد فيه المؤلف أولاً ما روي عن الصحابة والتابعين والسلف الأقدمين في هذه المسألة، ثم ذكر ما قاله ابن جرير رحمه الله وهو القائل بأن الذبيح إسحاق عليه السلام، ورد على احتجاجه، ثم ذكر في فصل مستقل ما قاله الرازي (ت606هـ) في تفسيره تبعاً للزمخشري (ت538هـ)، ونبه على بعض مواضع الوهم في كلامهما، ولخص في فصل تال كلام ابن كثير من تفسيره وقال: “لا يخفى أن ابن كثير رحمه الله أتى بأكثر الأدلة الظاهرة، ولم نجد في المتأخرين من زاد عليها، فلا حاجة إلى استقصاء أقوالهم، ولكن نذكر في الفصل التالي من أقوال المشهورين منهم من يكفي للدلالة على مذاهبهم في هذه المسألة”، فذكر أقوال البغوي (ت510هـ) والبيضاوي (ت685هـ) والنسفي (ت701هـ) والخازن (ت741هـ) والجلال المحلي (ت864هـ) وأشار إلى رسالة السيوطي (ت911هـ)، والظاهر أن المؤلف رحمه الله لم يقف عند تأليف كتابه على كلام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، مع شغفه بمصنفاته، ومصنفات شيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله.

وللمؤلف رحمه الله كلام جميل في هذا الفصل في الدفاع عن العلماء الذين لم يتخذوا موقفاً قوياً في هذه المسألة، فاكتفوا بذكر القولين دون الجزم بأحدهما أو بمجرد الترجيح، وقد أحسن كل الإحسان إذ صير ذلك من مناقبهم فقال: “والسبب في ذلك – والله أعلم – أن علماءنا رحمهم الله تعالى براء من التعصب لنبي من الأنبياء، ثم إنهم لا يجترئون على القطع في تأويل القرآن ما لم يكونوا على بصيرة فيه، ثم إن المتأخرين منا على غاية مراعاة الأدب للسلف، فإذا وجد أحدهم اختلافاً من السلف في تأويل أمسك عن القطع بأحد وجوهه، واكتفى بالإشارة إلى ما هو المرجح عنده، ومع ذلك من كان على بينة من أمره جاء بقول فصل، وفي اختيار ابن جرير رحمه الله أن إسحاق عليه السلام هو الذبيح لأكبر شهادة على أن المسلمين لم ينظروا في هذه المسألة نظر المتعصب المعاند، وكذلك الشهادة في عدم القطع من بعضهم بأحد الجانبين”.

وآخر فصول هذا الباب في الاستدلال بأحوال العرب قبل الإسلام وأقوالهم تكملة للقرائن التاريخية التي وردت في البابين السابقين، وتفصيلاً للإشارات التي تضمنها قوله تعالى في سورة آل عمران في أمر بيت الله: “فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا” [الآية:97].

والكتاب كله من أوله إلى آخره نمط عال من التحقيق والتأليف، ومثل خليق بالاحتذاء في أدب الخلاف والمجادلة الحسنة، في أسلوب علمي يتميز ببراعة التحليل ودقة الاستنباط، وقوة الاستدلال، وحسن التأتي للمعضلات، ونقد الآراء في تواضع جم واحترام تام لأصحابها، مع إحكام النسج، ونهاية الإيجاز، ونصاعة البيان.


المطلب الثاني: رأيه في حجج القرآن.

إن من أسمى العلوم وأغزر الهبات ما يمن الله به على من يشاء من عباده هو فقه حججه وبيناته، ما ينصرون به الحق، ويعلون رايته، ويكبتون به أهل الباطل، وينكسون غايته، كما قال تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام:83]، فسماها حجتَه ونسبها إليه تعالى ذكره، وتلك الإضافة الشريفة تقتضي ما تقتضيه من علو شأنها، وثبات أركانها، وإحكام بيانها، وشرفها وفضلها. وفي هذا الصدد كتب الأستاذ الفراهي كتابه “حجج القرآن: الحكمة البازغة والحجة البالغة”،   وقد ذكر المؤلف رحمه الله في المقدمة عن أهمية هذا الموضوع بأن له أهمية من جهات كثيرة، منها:

  1. من جهة كونه أساسًا ومفتاحًا.
  2. من جهة أنه خطاب إلى أعلى ما فطرة الإنسان من العلم والرشد.
  3. من جهة أنه الفارق بين الدين الحق الذي بني على الحكمة والهدى والذي بني على محذ التقليد والعمي.[20]

أما الأسباب التي دعت المؤلف إلى تأليف هذا الكتاب فهي سبعة أسباب:

  1. الزعم أن طريق العقل مباين للتعليم الإلهي.
  2. ابتلاء كثير من الناس بعقليات سافلة زائغة عن طريق الفطرة والهدى مفضية إلى محض الحيرة وصريح العمي.
  3. أباطيل المنطق التي منعت الناس عن معرفة ما في دلائل القرآن من الرسوخ.
  4. الوهم بأن مسائل التوحيد والربوبية إنما يبرهن عليها بطريق الفلسفة، وأما الأنبياء فلم يأتوا إلا بالإقناعيات.
  5. الغفلة عما هو فوق الحياة الدنيا لشدة انهماك الناس في مشاغل المحسوسة الحاضرة.
  6. الظن بان القرآن إنما خوطب به الأميون البسطاء فلا يكون موضعًا للتدبر وإمعان النظر.
  7. الظن بأن القرآن كثير الاقتضاب والانتقال من معنى إلى معنى من غير مناسبة بينهما.[21]

والكتاب منقسم إلى  مقدمة وثلاث مقالات. أما المقدمة فقد ذكر فيها أهمية الموضوع والحاجة إليه. ثم في المقالة الألى انتقد المنطق والفلسفة والكلام في ثلاثة أبواب. والمقالة الثانية في تأسيس العلم وهي أيضًا منقسمة على ثلاثة أبواب:

  1. الميزان، وقد سماه المنطق الأعلى.
  2. الحكمة البازغة.
  3. الطريق احتجاج القرآن.

أما المقالة الثالثة فهي في حجج القرآن، وهي أيضًا تشتمل على ثلاثة أبواب. باب في أدلة الربوبية، وباب في الأدلة المعاد، وباب في أدلة الرسالة.

رأيه في الحجج

الحجة عند الأستاذ ما يثبت به دعوى على خصم.[22] ولا يلزمها أن يضطر المخاطب إلى التسليم، ولا كل ما أورث المخاطب إيقانًا بصحة دعواه[23]

أكثر الحجج في القرآن عند الأستاذ تتعلق بما يزيل  أوهام مشركي العرب ومبتدعي اليهود والنصارى، وما كانوا ينكرون الرب ولا بكونه متصفًا بصفات الكمال، ولكن ذهلوا عما يلزمه، ولهذا يوجد أكثر حجج القرآن مبنية على صفات الله تعالى المسلمة عندهم، فهي كما قال الأستاذ الأصول الموضوعة في الاحتجاج بهم. وهي كلها قاطعة[24] فالخطاب في هذه الحجج موجه إلى ثلاثة أنواع من الناس:

  1. المنكر البحث، فيستدل فيها على وجود الإله الحق.
  2. المقر بالإله، فيستدل فيه على اتصافه بصفات الكمال.
  3. المقر بالإله المتصف بصفات الكمال، فيستدل فيه على بطلان معتقداتهم المناقضة لما أقروا به.[25]

فالأستاذ يقرق بين الاستدلال الخاص والعام المطلق، بسبب كون الحجج بحسب المخاطب بها. والدليل على هذا قول الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) فهذا قد أقروا به، ثم نبه على ما يلزمهم من هذا الاقرار فقال: (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:٦٤) أي إن لم يقروا بذلك فقولوا لهم إنا نقر به، فنجن مسلمون بالاتفاق.[26]

الحجج الآفاقية التي تستدل بها على الإله الخالق وصفاته الكاملة:

 المراد يالحجج الآفاقية عند الأستاذ، ما يشاهد الإنسان في الخارج من الأمور التي لا يشك فيها. وتضطر فطرة العقل أن تنسب هذه الأمور إلى ذات تكون مصدرًا لها. وهي على سبعة وجوه:

  1. الحسن الرائق في المخلوقات التي تحف الإنسان من كل جانب.
  2. المرافقة والموافقة الدالة على الحكمة والرحمة والربوبية والقدرة والعلم.
  3. وجود الضد من الضد.
  4. وجود المختلفات من المتحدات.
  5. مظاهر العظمة والجلال في المسخر المقهور التي تدل على أن الألوهية لا تنتسب إلى هؤلاء وإنما المتصف بها من يكون أعلى وأجل.
  6. التدبير القاهر المحيط.
  7. كون الحق والعدل والخير غالبًا على أضدادها.[27]

ثلاثة أصول في إقامة الحجة

وقد استنبط الأستاذ ثلاثة أصول من القرآن الكريم:

  1. الحق لا يبطل بباطل ولا العلم بجهل. وأصله في قوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان:١٥)
  2. لا يبطل الفرع الأصل. وأصله في قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان:١4)
  3. لا يبطل الحق من الباطل إلا بقدر ما هو باطل فلا عدوان. وأصله في قوله تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (لقمان:١٥)

العقل والعلم والعمل الصالح للحجة

يقر الأستاذ مكانة العقل في خلقة الإنسان وعده الأصل الأول للاحتجاج ولكن بشرط أن تتبع العقل إلى آخر ما يهدي إليه العلم الحق والعمل الصالح. فهي إذن ثلاثة أمور، العقل:

  1. العقل الذي هو نور إلهي رفع الله به الإنسان على البهائم.
  2. العلم الحق الذي أنزله الله تعالى.
  3. العمل الصالح

فطريق الفطرة للاحتجاج هو استعمال العقل وطلب العلم وتسديد العمل.[28]

آرائه في بعض المصطلحات المستخدمة في كتابه “حجج القرآن” وأصحابها

الاستدلال الفطري

يقول: “في القرآن أصول للاستدلال والنظر أقرب إلى العقل وأرسخ في القلب من أصول منطق اليونانيين ودلائل أصح وأثبت من أدلة الفلاسفة والمتكلمين.”[29]

ويقول: “الاستدلال الفطري عند الأستاذ مبني على اليقين بما لا سبيل إلى إنكاره، و ذلك بأن الإنسان مجبول على تسليم ما غرر في طبعه.”[30]

ويقول: “الحجج الفطرية مبنية على المبادئ الحاكمة على النفوس، وأن التسليم لها ليست بالاختيار حتى ينكر به منكر، وإنما هو مضطر إلى الإيقان بها بحكم فطرته التي ليست باختياره.” [31]

ويقول: “لما كان المقصود إتمام الحجة على كافة الناس أكثر القرآن من الحجج الفطرية التي بنيت على شهادة الفطرة الإنسانية.”[32]

ويقول: “جعل القرآن بناء الحجة على اليقين الضروري الفطري الذي لا يسع العقل أ يعصيه. وهو ينبوع جميع علومه وأعماله، ونظره واستدلاله. وهو مودع في غور فطرة النفس، مكنون كاللب وراء القشور.”[33]

رأيه في الإلهام:

يقول: “نوقن بنوع من الإلهام الذي أعطي للنفوس كما أعطي له جميع الحواس وقوى أخرى.”[34]

ويقول: “لليقين الفطري مجاري إلى المدركات وذلك الهامات. لولاها لم يكن لنا علم ولا بداهة ولا نظر.”[35]

رأيه الإيمان:

يقول فيه: “الإيمان بالله تعالى حسبما يلزم مفهوم هذا الاسم وهو كونه على غاية الرحمة هو الأصل الذي بني عليه جميع الفنون. فمن حرم هذا الإيمان أظلم عليه السماء والأرض…… فبهذا الإيمان يحصل العلم ويصلح العمل، فإن العمل الصالح متفرع على العلم الحق.”[36]

ويقول: “إيمان بالله الواحد وتصديقنا بالأنبياء إنما هو لأجل أنا أحببنا العلم الحق، ولم نجد إليه سبيلًا إلا بهذا الإيمان.”[37]

الإيمان بالغيب

يقول: “رسوخ العقل، فيستدل من المشهود على الغيب ويوقن به”.[38]

ويقول: ” إبطال ما فهموه من الإيمان بالغيب ومن بنائه على محض المعجزات دون الآيات البينات المشهودة في الأنفس والآفاق المنشورة في تمام القرآن المستعملة خاصة لدعوة الناس من طريق الحكمة والاستدلال دون التقليد ومحض الاعتقاد.”[39]

رأيه في الباطنية:

يقول: ” مذهبهم الجمع بين حكمة الإسلام والفلسفة، ولذلك اضطروا نبذ صريح النصوص وتحريف الكلم عن مواضعه.”[40]

رأيه في التصادم والتناقض:

يقول: “طور من أطوار الوجود، فإن المتضادين كالمتزوجين، فالأرض والسماء، والمرض والشفاء، والظلمة والنور، والظل والحرور، والشك والعلم، والحرب والسلم، والموت والحياة، بل هذا العالم بأسره والعلم الأخروي كل ذلك مثل الزوجين.”[41]

رأيه في التضاد:

يقول: “هو الباعث على بروز القوى الكامنة كما أن النار والبرق والصوت بل كل حركة بل كل علم وشعور وتمييز بناؤه على وجود الضدين.”[42]

رأيه في التقليد:

يقول: ” لو كان الإيمان جائزا بمحض التقليد لكان الوثنيون معذورين.”[43]

رأيه في الحكمة:

يقول: “مرادنا بالحكمة هي معرفة العلم الفطري الذي يهتدي إلى السعادة الأبدية والعمل به.”[44]

ويقول: ” فالحكمة عبارة عن (الف) أصول العلم الثابتة التي عليها بناء جميع العلوم. (ب) أصول العمل التي عليها بناء الأعمال الصالحة كلها. (ج) القوة التي بها يعرف الحق من الباطل، والحسن من السيء. (د) الكلمات متضمنة لأصول العلم والعمل، ومن هنا سمى القرآن “الحكمة”.[45]

رأيه في الخير والشر:

يقول: ” الشر مقدمة وتوطئة للخير كما أن كوكب الصبح طليعة الفجر.”[46]

رأيه في الدين الأخلاق:

يقول: ” الديانات ليست محض الاعتقاد بل جلها الأخلاق…….. فإن الدين الحق مداره على إحساس البر والإثم.”[47]

رأيه في الدين والفطرة:

يقول: ” إن القرآن صرح كثيرًا بأن دين الله هو الفطرة والإنسان مسؤول حسبما أودع فطرته، فيناديه من جانب فطرته ويخاطب من مركز وجوده.”[48]

رأيه في الربوبية:

يقول: ” علم الربوبية أول المعارف ورأسها، وأصل العلوم وأساسها، ومشكاة الحكمة ونبراسها، ومقياس الحجة وقسطاسها……. فهو مركز العلوم ومحيطها، فمنه البداية وإليه النهاية.”[49]

ويقول: ” مفهوم الرب يتضمن الرحمة والحكمة والتوحيد في كمال القدرة والعلم.”[50]

رأيه في العرب ولسانهم:

يقول: ” العرب كانوا في أعلى درجة الذكاء لاسيما في بلاغة الكلام وإيجاز الخطاب، بل قد بنى لسانهم على ذلك، ولذلك كانوا مولعين بجوامع الكلم والخطاب المحكم…..فأنزل الله تعالى القرآن على أسلوب كلامهم كما أنزل على أفصح لسانهم.”[51]

رأيه في العقل:

يقول: ” بناء العقل على التمييز بين الأشياء والحكم بالحق وبالباطل،  والحسن والقبيح على ما ألقى إليه من الخارج. فليس في مفهوم العقل الابتداء وإبداع الموضوع بل الحكم عليه.”[52]

ويقول: ” الإنسان بفطرته  يهتدي بالعقل وإليه يطمئن وبه يحتج على من خالفه. ومنه يأتيه العلوم كلها إما بالبداهة أو بالنظر والاستدال.”[53]

ويقول: “العقل المحض إذا لم يمده القلب السليم يتقلب بالظنون وينسلك مع الشهوات، ومن هنا كل حزب بما لديهم فرحون.”[54]

رأيه في العقل والفؤاد:

يقول: “النفس ما سويت ولا استكملت بمحض العقل وإدراكه بل بما هو فوقه وهو الفؤاد الذي هو مصدر الحكم والإرادة والأمر والنهي.”[55]

ويقول: ” أوليات العقل مبنية على أوليات القلب.”[56]

رأيه للغزالي:

يقول: ” بين تهافت ما في إلهيات اليونانيين ولكنه هو الذي أدخل منطقهم في الإسلام.”[57]

ويقول: ” مع حميته للحق وحمايته للصدق اتخذ المنطق على علاته معيارًا للعلم ومحكًا للنظر. ثم لم يكتف بذلك بل ادعى إنه أخذه من القرآن، وإنما أخذه من اليونان.”[58]

ويقول: “أحس بداء الشك المطلق الذي أوقعه فيه النظر المنطقي…..”[59]

ويقول: “أقبل بشرح الصدر من علوم اليونان على ما ظنه غير مخالف للإسلام وكذلك على آراء الباطنية……. وهذا سبب خطئه في كثير من تأويل القرآن.”[60]

رأيه في الفارابي:

يقول: “مع إيمانه بالنبوات يزعم أن الوحي إنما جاءت بالإقناعيات وأن البراهين الحقيقية إنما هي مع الفلاسفة.”[61]

رأيه في ابن سينا:

يقول عن ابن سيناء: “دع عنك ما تكلم به ابن سينا في تفسير سورة الإخلاص، فإنه رجل لم يمسه نور القرآن لتغلغله في فلسفة البطلان.”[62]

رأيه في ابن تيمية:

يقول الأستاذ: “رد على المنطقيين ردا طويلا ودل على زيغ المتكلمين، ولكنه اقتنع بالهدم ولم يبن قصرًا يأوون إليه”.[63]

رأيه ابن مسكويه والطوسي:

يقول: “أمثلهما مجاهرون بتقليد اليونان في الأخلاقيات”.[64]


المطلب الثالث: رأيه في حكمة القرآن.

للأستاذ الفراهي كتاب في هذا الموضوع، وله ثلاث مسودات. وقد سمى المسودة الأولى” الحكمة البالغة في الحكمة الإسلامية يعلمها القرآن ويتقبلها أولو الألباب بما أنها تبلغ قلوبهم وتخاطب عقولهم” وفي المسودة الثانية كتب عنوان الكتاب “حكمة القرآن”، وأبقى هذا العنوان في المسودة الثالثة.

الحكمة عند الفراهي: هي “إعمال الفكر ثم العمل بمقتضى الفكر، فيزداد علمًا وعملًا.”[65] وقد عرفها بمعناها المعروف كما عرفها جماعة من السلف، وكما وردت في القرآن والحديث في موضع متعددة.

يقول في كتابه “مفردات القرآن: “الحِكْمَة” اسم للقوة التي منها ينشأ القضاء بالحق. قال تعالى في نعت داود عليه السلام: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (سورة ص:20)، فذكَر الأثر بعد القوة التي هي مصدر ذلك  الأثر.  وكما أن القول الفصل من آثار الحكمة، فكذلك طهارة الخلق وحسن الأدب من آثارها. ولذلك كانت العربُ تطلِق اسمَ الحكمة على قوة جامعة لرَزانةِ العقل والرأي، وشَرافةِ الخلق الناشئة منها. فسَمَّوا الرجلَ العاقلَ المهذبَ “حكيما”. وكذلك يطلقون اسم الحكمة على فصل الخطاب، وهو: القول الحق الواضح عند العقل والقلب[66] وكل هذه الوجوه من معاني الحكمة جاء فى كلام العرب. فاستعملها القرآن والنبي – صلى الله عليه وسلم – بما عرفوه. قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إن مِنَ الشَعْرِ لَحِكْمَة” [67] أي ليس كل شعر غواية، بل منه ما يتضمن على الحق[68] والحث على الخير. هذا. ثم استعملها الله تعالى في أكمل أفرادها، فسمى الوحي “حكمةً” كما سماه “نوراً”، و “برهاناً”، و “ذِكراً” و “رحمةً”. ومن هذه الجهة سَمَّى القرآنَ “حكيماً” أي ذا حكمة، كما سمَّى نفسه حكيماً وعليماً. فهذه وجوه. فإذا سمّى القرآن “كتاباً” و “حكمة” معاً، فذلك من جهتين: سمى “كتاباً” من [جهة] كونه مشتملاً على الأحكام المكتوبة، و “حكمة” من جهة اشتماله على حكمة الشرائع من العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة. واستدللنا على هذا الفرق من تتبع استعمال الكلمتين معاً، ومما علمنا من استعمال “الكتاب” للأحكام و “الحكمة” لأصولها.”[69]

وقال في تأول قول الله تعالى: { … ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. في حاشية الكتاب:

“فاعلم أن المخاطب على ثلاث مدارج: خالي الذهن، ومعترف، ومنكر. وبعبارة أخرى: تخاطب أولاً، أو بعد اعتراف، أو بعد إنكار. فأولاً تخاطبه بما يتقبل عقله من الحق الواضح والخير المعروف. فهذا هو الدعوة بالحكمة. فإذا رأيت أنه مقِرّ بحسن ما تدعو إليه، ولكنه لا يوافق عمله علمه، فتحثّه على (2) العمل بالموعظة الحسنة. وإذا رأيت أنه يخالف (3) دعوتك فتجادله بالطريق التي هي أحسن.

فالأول: إلقاء العلم، وهذا يكفي للسابقين.

والثاني: جذب إلى العمل. وهذا ينفع الصالحين الذين جاء فيهم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].

والثالث: إزالة العوائق، وبهذا هُدِي خلقٌ، وتمت الحجة على الآخرين. كما جاء في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]. وبعبارة أخرى: الدعوة بالحكمة عامة للناس، ثم هم يفترقون: فمنهم من يستمع ويميل، ومنهم من يجادل. فللأول “الموعظة”، وللثاني “حسن المجادلة”[70]

وهو يقول بأنه تسامح بعض أهل العلم في هذا المقام، وتبعه الإمام الشافعي رحمه الله، وتبعه أكثر المحدثين، فظنوا أن “الحكمة” أريد بها الحديث[71]، فإنّ الكتاب كتاب الله. نقل المؤلف رحمه الله كلام الإمام الشافعي في كتابه (حِكمة القرآن) ثم عقّب عليه بقوله: “فهذا كلامه فيما يتعلق بمعنى الحكمة في الآيات التي زوجت فيها بالكتاب أو الآيات. وهذا الذي ذهب إليه الإمام رحمه الله مذهب في التأويل، فإن العام ربما يستعمل في بعض أفراده. ولما كان “الحكمة” بمعنى الفهم، وقد خصَّها بفهم الكتاب من تقدمه من علماء التأويل، كما روي عن مجاهد وغيره، وقد رأى الإمام في عهده من مدعي فهم الكتاب من كان يؤوّله إلى العقليات الزائفة ويظن أنها هي الحكمة – نبه الإمام على أن فهم الكتاب إنما يكون بالسنة، واستدل على ذلك: (1) بما بينه من كون السنة مبينة للكتاب و (2) من أن الله لم يفرض علينا اتباع قول أحد غير السنة، ومَنّ علينا بتعليم الكتاب والحكمة، فلا نجد شيئاً يكون جديراً بأن يقون بكتاب الله غير سنة نبيه. فلم يذهب الإمام إلى ما ذهب إليه إلا على حسن نية ونصيحة للمسلمين فجزاه الله عنا خير جزاء. وأما في غير هذه المواضع فهو على ما هو المعنى المشهور كما قال في خطبة كتابه هذا ما نصّه”.[72]

ثم نقل كلام الإمام مع تفسير بعضه بين القوسين. ومما نقله:

“فكل ما أنزل الله جل ثناؤه في كتابه رحمة وحجة، علمه من علِمه وجهِله مَن جهِله، لا يعلم مَن جهله ولا يجهل مَن علمه. والناس في العلم طبقات، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به. فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه: نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه. فإنّ من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً. ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه. وانتفت عنه الريب. وَنوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة”.[73]  ثم قال: “هذا الكلام يشتمل على فوائد عظيمة. ولمتانته يستدعي شرحاً وتنبيهاً، وقد دل فيه على أصل عظيم في الحكمة فنذكر بعض ما يستفاد منه: … “[74]

وقد بين سبب الخطأ فقال: “ومثار الخطأ أنهم أخطأوا معنى “الكتاب” حيث جاء مع الحكمة. والدليل على ما قلنا آيات: فمنها قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (سورة النساء، الآية: 113). وهكذا قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (سورة الأحزاب، الآية: 34). وكلمة (يتلى) و (أنزل) لم يستعملها القرآن للحديث.”[75]

وهو لا ينكر أن يكون معنى الحديث الحكمة، بل هو يخالف لتخصيصه بالحديث. فقال: “نعم إن الحديث ربما يتضمن الحكمةَ، ولا شك أن الحديث ربما يبيّن ما في القرآن من الحكمة. ولعل مراد الذين تبعهم الإمام رحمه الله كان هذا. ولكن الحديث يشتمل على الأحكام، كما أنه يشتمل على الحكمة، فلا وجه لتخصيصه باسم (الحكمة).”[76]

 ووضح الأمر وقال: “وجاء أوضح من ذلك حيث قال تعالى بعد ذكر ما قضى من أصول الدين: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (سورة الإسراء، الآية: 39). وقال تعالى في صفة عيسى عليه السلام: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (سورة المائدة، الآية: 115).[77] فسمى التوراة “كتاباً”، لأن معظمها الأحكام، والإنجيلَ “حكمة” لما كثر فيه الدلائل والمواعظ، كما قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (سورة المائدة، الآية: 46). فكان الإنجيل مشتملاً على هدى ونور، وهدى وموعظة، وعلى قليل من الأحكام وتصديق التوراة. ولغلبة الأمر الأول سمي “حكمة”. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} (سورة الزخرف، الآية: 63).”[78]

ثم يبين رأيه في الحكمة في القرآن فقال: “فاتضح أن تأويل “الحكمة” إلى الأَحاديث غير صحيح، وأن اسمَ “الكتاب” إذا يُتبَع بالحكمةِ  فالمراد منه الأحكام.”[79]

[1]

[2]  الإحالة ……..بيانات الكتاب

[3] ( ياد رفتكان:140)

[4] ( مجموعه تفاسير فراهي :43).

[5] عبد الحميد الفراهي، الرأي الصحيح في من هو الذبيح، دار القلم، دمشق، ط1، 1999م، ص31-35.

[6] الإحالة………………

[7] عبد الحميد الفراهي، الرأي الصحيح في من هو الذبيح، دار القلم، دمشق، ط1، 1999م، ص46-47.

[8] المصدر السابق: ص48-49

[9]

[10]

[11] ص54

[12] ص58

[13] ص59

[14] ص61

[15] ص62

[16] القرآن، الصافات37: 100.

[17] القرآن، الصافات37: 101.

[18] القرآن، إبراهيم14: 40.

[19]

[20] الفراهي، عبد الحميد، حجج القرآن: الحكمة البازغة والحجة البالغة، ص18

[21] المصدر السابق: 19-28

[22] المصدر السابق: ص195.

[23] المصدر السابق: ص167.

[24] المصدر السابق: ص 145

[25] المصدر السابق: ص 146 وانظر: ص 167-170.

[26] المصدر السابق: ص 147

[27] المصدر السابق: ص148-152

[28] المصدر السابق: ص174-175

[29] المصدر السابق: ص21

[30] المصدر السابق: ص72

[31] المصدر السابق: ص 72

[32] المصدر السابق: ص72

[33] المصدر السابق: ص93

[34] المصدر السابق: ص94

[35] المصدر السابق: ص93

[36] المصدر السابق: ص159.

[37] المصدر السابق: ص121.

[38] المصدر السابق: ص193

[39] المصدر السابق: ص20

[40] المصدر السابق: ص158

[41] المصدر السابق: ص116

[42] المصدر السابق: ص116-117

[43] المصدر السابق: ص211

[44] المصدر السابق: ص226

[45] المصدر السابق: ص123-124

[46] المصدر السابق: ص116

[47] المصدر السابق: ص59

[48] المصدر السابق: ص79

[49] المصدر السابق: ص145

[50] المصدر السابق: ص113

[51] المصدر السابق: ص26-27

[52] المصدر السابق: ص120

[53] المصدر السابق: ص174

[54] المصدر السابق: ص236

[55] المصدر السابق: ص58

[56] المصدر السابق: ص59

[57] المصدر السابق: ص20-21

[58] المصدر السابق: ص22

[59] المصدر السابق: ص83

[60] المصدر السابق: ص157-158

[61] المصدر السابق: ص23-25

[62] المصدر السابق: ص158

[63] المصدر السابق: ص21.

[64] المصدر السابق: ص21

[65] الفراهي، عبد الحميد، “حكمة القرآن” ، ص13.

[66] انظر في تعريف “الحكمة” وأسمائها كتاب حكمة القرآن للفراهي، ص25-29.

[67]  أخرج البخاري عن أبي بن كعب في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه. افظر فتح الباري 10: 537. وفيه “حكمة” بدون اللام. أما باللام “لحكمة” فانظره في حديث أبي أيضاً في سنن ابن ماجه: 1235. وانظر النهاية 1: 419.

[68] (1) انظر ما قلنا في ص: 98 الحاشية 3.

[69] الفراهي، عبد الحميد، مفردات القرآن، ص172-173

[70] المصدر السابق، ص174.

[71] روي تفسير “الحكمة” بالسنة عن قتادة. انظر الطبري 3: 87 والتصاريف: 201. وفسرها الإمام مالك فيما رواه الطبري عن ابن وهب عنه بالمعرفة بالدين والفقه في الدين والاتباع له. وقال الإمام الشافعي رحمه الله في رسالته (76 – 79) بعد نقل الآيات التي قرن الكتاب فيها بالحكمة: “فذكر الله الكتاب -وهو القرآن- وذكر الحكمة، فسمعتُ مَن أرضى مِن أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال، والله أعلم. لأن القرآن ذُكِرَ وأُتبِعتْه الحكمة، وذكر الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجُز -والله أعلَم- أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله. وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله وحتّم على الناس اتباع أمره. فلا يجوز أن يقال لقول: فرض إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله، لِما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به. وسنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد: دليلاً على خاصّه وعامّه، ثم قرن الحكمة بها بكتاب فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله”.

[72] الفراهي، حكمة القرآن، 58. وعلق الفراهي كذلك على كلام الإمام في حاشية نسخته من الرسالة: 13 فقال: “كل ما ذكر الإمام من مكانة الإيمان بالرسول واتباعه، فلا شك فيه. وأما قوله رحمه الله في تفسير الحكمة فضعيف -والله أعلم-. وإنما أراد الإمام رحمه الله أن يجعل السنة حيث يسوغ بها تخصيص الكتاب وصرفه عن ظاهر معناه لكي يوفق بين الكتاب والسنة والآثار. والمجتهد قد يخطئ، وإنما الأعمال بالنيات. فاعلم أن قوله تعالى: {وَأَنزَلَ اَللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} وقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}، وأمثال ذلك يبين أن الحكمة شيء نزل على النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان يتلوه، ويعلمه الناس، فلا يكون أحكاماً جاءت بها السنة. وقد ذُكِر معنى الحكمة مجملاً على صفحة 7”.يعني تعليقه في حاشية الصفحة المشار إليها: “الحكمة لها معنيان: الأول ما أنزل الله، والثاني ما آتاه الله عباده. كما أن العلم والمعرفة والذكر وأمثالها يراد بها ما يعبّر عنها، وما هو صفة العقول. والقرآن يستعمل هذه الألفاظ في كلا المعنيين”.وقال في حاشية الصفحة نفسها تعقيباً على قول الإمام الشافعي في (البيان الرابع): “أفاد الإمام رحمه الله تعالى: كل ما سنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس فيه كتاب فهو المراد من الحكمة في قوله تعالى {ويعلمهم الكتاب والحكمة}. قال الفراهي: “الكتاب”: ما شرع لهم، و “الحكمة”: ما أودع صدورهم من العلم وذكر في القرآن وكتبه”. وانظر تعليق المؤلف على كلام الإمام ابن تيمية في حاشية “معارج الأصول” (مجموعة مقالات ندوة الفراهي: 210). الفراهي، مفردات القرآن، ص176-177

[73] المصدر السابق: ص58-59. انظر الرسالة: 19 – 20

[74] المصدر السابق: ص60

[75] الفراهي، مفردات القرآن، ص177.

[76] المصدر السابق.

[77] وكتب المؤلف رقم 1 تحت الكتاب والتوراة ورقم 2 تحت الحكمة والإنجيل.

[78] المصدر السابق: ص178.

[79] المصدر السابق: ص178

*أستاذ الأدب العربي بدار العلوم ندوة العلماء بلكناؤ

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of