+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

مسرحية “الباب” لغسان كنفاني: دراسة
د. محسن عتيق خان

مسرحية “الباب” تجربة أولى لغسان كنفاني في مجال المسرح، و تم إنتاجها في عام 1964، في نفس الوقت الذي كتب فيه روايته الأولى الشهيرة “رجال في الشمس”. وهذه المسرحية مستوحاة من أسطورة عربية قديمة معروفة بأسطورة “إرم وعاد”.

أبطال المسرحية:

بما أن هذه المسرحية مستوحاة من مسرحية عاد، فالأشخاص الذين ظهروا في هذه المسرحية من الأشخاص المعروفين في الأسطورة، و لكن وظائفهم قد تغيرت قليلا، وهم كما بالتالي:

قيل: رئيس وفد عاد إلى مكة

رعد: صديق قيل و عضو في الوفد

لقمان: كاهن و عضو في الوفد

عاد: ملك القبيلة

شداد: ابن عاد و وريث مملكته

الأم: أم شداد

مرثد: ولد شداد و وريثه

رسول: من البلاط

الرجل الأول:

الرجل الثاني:

هبا: إله من آلهة عاد الثلاثة، صدا، هبا و صمود

تلخيص المسرحية:

تاتي هذه المسرحية في خمسة فصول. في الفصل الأول نرى أمامنا صحراء قاحلة و وفدا تائها في الطريق إلى مكة. بعث هذا الوفد الملك عاد لاستسقاء آلهة مكة، فقد رفض ان يخضع خضوع الذل لإله قبيلته هبا، انه هجر المعبد و و دعى الناس أن يهجروه، “انه يعتقد بأن الإله يجب ان يسقي شعبه…أية خطيئة يجب أن لا تدفع الإله –عفوا هبا-إلى الانتقام بأن يقتل البنات و الضروع و يزرع الجوع”.  قبيلة عاد يعاني من المجاعة و القحط، فقد احترقت المزارع بالشمس، و تهاوت الأشجار و تشققت البيوت، و تساقطت المواشي، وذاب الأطفال و جفت أثداء الأمهات(صـ4). و عاد يعتقد بأنه لو استطاع مرة واحدة أن يحمل إلى الأحقاف الماء رغم أنف هبا لجعل الناس يفقدون إيمانهم به و ارتباطهم بتمثاله الأبيض القائم بين بيوتهم.

ولكن هذا الوفد يستغرق وقتا طويلا في الطريق و يشتغل عن الهدف في اللهو بغناء الجرادتين لمعاوية بن بكر، و عندما تذكره هاتان الجرادتان عن هدفه، فلا يستسقي آلهة مكة كما أمره ملكه، بل يستسقي آلهة قبيلته صدا، و صمود، و هبا خلافا لأمر ملكه عاد. عند ذلك يلحق بالوفد لقمان الذي كان راهب معبد هبا، فيلعن الوفد لتأخيره و شغله عن الهدف، و يبدأ يستسقي هبا و يتضرع إليه، و خلال دعاءه يظهر ثلاثة غيوم، واحدة صفراء و واحدة حمراء، و واحدة سوداء، و في نفس اللحظة يدخل عاد فيقف مدهوشا عندما يرى الغيوم، و كذلك يقف لقمان، و قيل، و رعد مدهوشين. و بعد قليل يسمعون صوتا عريضا ياتي من الغيوم يقول “يا قيل! اختر لنفسك و قومك من هذا السحاب.” قيل يقول صائحا “لقد استجيب الدعاء.” ولكن عندما أدرك عاد بأن قيل قد رجع إلى هبا لاستسقاء الماء، قال “الموت أفضل من ذله” ورفض أن يخضع لـ”هبا”. وهكذا ينتهي الفصل الأول من المسرحية برفض عاد الخضوع لهبا في اي حال من الأحوال و موته نهائيا في سبيل الحرية والكرامة، و الرفض للذل و الخنوع.

و في الفصل الثاني نرى شداد ابن عاد يواصل المقاومة ضد هبا في أشد صورة. قد كانوا يقولون له لو أطاع هبا لأدخله في الجنة، فالجنة كل شيئ يعطي هبا لمن يطيعه، لذلك وضع شداد في ذهنه أن يبني جنته فيجعل من نفسه هبا لا يريد أن يطاع ولا يريد أن يطيع. فنراه يحرق شبابه في بناء جنة على الأرض يسميها “إرم” لأنه يريد أن يثبت نفسه أقوى من هبا.

يوجه شداد عملائه في الأرض ليجمعوا ما في البلاد من أموال و أحجار كريمة، و اختار فضاء في فلاة من أرض اليمن و جعل طول المدينة اثني عشر فرسخا و عرضها كذلك، أحطها بسور عال مشرف و ابتنى فيها ثلاثمئة ألف قصر، جعل لها غرفا فوقها غرف معمدة بأساطين الزبرجد والجزع والياقوت، و اجرى تحت المدينة واديا سيق إليها تحت الأرض أربعين فرسخا، و في شوارعها المتضوعة بالمسك والزعفران سواق مطلية بالذهب، حصاها أنواع الجواهر..وهي تجري بالماء الصافي. و في وسط المدينة قصر شداد، قصر مشرف على كل القصور الضاربة في السماء ثلاثمئة ذراع..و خارج المدينة و سورها الشاهق بنى أكما محدقة ينزل فيها الجنود، و جعل فيها من كل فاكهة في الأرض بستانا، و من كل جميل في الكون مكانا.

و عندما ينتهي شداد من بناء جنته إرم نرى أن الكاهن قد أخرج فتوى من بين أسنان هبا الحجرية و يتنبأ أنه إذا خرج شداد إلى إرم فسيلاقي حتفه في الطريق، وستنبصق من السماء أصوات تفت عظام الجيوش الجرارة و تذروها في الرياح. و رغم هذا الفتوى والتنبأ، يواصل شداد مقاومة هبا، فيقول لأمه “مهما يكن، هذا المحك الأخير! ليس في الأمر ما يخيف، لقد فكرت به شهورا طويلة مريرة، و قد نمت الفكرة داخلي كما تنمو شجرة الزيتون، أ تعرفين كيف تنمو شجرة الزيتون؟ غصنا ضخما في الهواء مقابل شرس ضخم في الأرض، عميقا في الأرض، إن هبا نفسه لا يستطيع اقتلاع شجرة الزيتون.” والفكرة التي تنمو داخل شداد هي فكرة الموت، كما يقول “فكرة أن أقاتل هبا و أصواته في الصحراء، وحيدا إلا من سيفي و ذراعي، أن أخطو إلى موتي خطوة باسلة وراء خطوة باسلة، أن لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي أو اقتلع  من السماء جنته أو أموت أو نموت معا.” و شداد رغم مخالفة أمه و ابنه مرثد يخرج إلى إرم فيلاقي مصيره في الطريق.

في الفصل الثالث نرى مرثد ابن شداد و حفيد عاد -الذي كان خالف خروج أبيه إلى إرم وقيامه ضد عاد- يستعد ليرث مملكة أبيه، و يظهر من كلامه أنه سيسلك نفس الطريق الذي سلكه جده و أبوه في مقاومة هبا. فقد لم يعد يؤمن بهبا لأن هبا لم يترك والده أن يصل إلى إرم، لأن هبا قتله بسبب تحديه، فلا يجد فرقا بين هبا و بين أي رجل آخر. و يقول مرثد لجدته “حين كان أبي هنا يحكي لنا عن جنته كنت أقول لنفسي إن جنة هبا لا بد أن تكون أروع، و إذا كانت أروع، فمن الطبيعي أن يتركه يكتشف ذلك بنفسه، يتركه يرى كم هي سخيفة الجنة التي بناها هبا..ولكنه لم يتركه يكتشف ذلك..لم يتركه ..لماذا؟…لأنه لا توجد ثمة جنة ..و إذا كانت هناك واحدة فهي لن تعطي التعويض الجدير بعذاب الحياة ..لقد خاف هبا أن يكتشف شداد ذلك.” يعتبر مرثد أسلافه شجعان و حكماء و يريد أن يكون مثلهم شجاعا و حكيما و يمضي في سبيل المقاومة ولكن هناك مشكلة، هي مشكلة الاعتراف بمجد و كرامة و ألوهية هبا في حفلة التتويج، فالكاهن الذي على استعداد لإعلان ملك جديد يريد أن يلقي مرثد الخطاب بنفسه، و يريد أن يكون الخطاب حول تمجيد هبا و جبروته و صرعه والد مرثد بسبب خطاياه و تعاليه. نجد مرثد مستعدا لتمجيد هبا رغم أنه لم يعد يؤمن بها، و ذلك ليرث المملكة التي فقدت ملكها العاصي المقاوم و يحصل السلطة التي تعطيه القدرة، و ليجد الفرصة للقيام ضد هبا من جديد، ولكن الجدة هناك تأتي بفكرة جديدة، و تعرض تجربتها و مشاهدتها، فتقول “إنني أشهد البداية دائما، و أعيش لأشهد النهاية.. و دائما ينتصر هبا، و دائما تنهزمون..ولكنني بدأت أفكر الآن بشكل جديد، إنه من العار أن يبدأ المرء بالتفكير بعد السبعين من عمره…..إنكم تخسرون دائما لأنكم تبدأون دائما من البداية ..إنكم تعطون هبا بملء إرادتكم حياته و قوته و سلطانه، و تحسبون أن ذلك جدير بإعطائكم فرصة بناء جناتكم على الأرض..دون أن تعرفوا بأنكم إنما تحكمون على هذه الجنات بالدمار منذ البدء.. و ها أنت تبدأ من حيث بدأ شداد تماما..بل إنك تبدأ بنفس الكذبة التي بدأ بها ..و لقد بدأ هو الآخر من حيث بدأ عاد..و بنفس الكذبة أيضا.. من المعبد الذي يتربع هبا فوقه!”

فالأم تدرك و تشير إلى أمر مهم وهو البداية من الاعتراف بتمجيد هبا، واعتباره إلها، والنهاية بانكار ألوهيته، و عصيانه والمقاومة ضده. و الجدة لا تريد الآن ان تكون البداية كما كانت في السابق، بل هي لا تريد أن يبدأ مرثد حكمه مثل ما بدأه جده عاد، و أبوه شداد بإظهار الخصوع لهبا أمام الناس، و من معبده، و يبدو كأنها تريد أن تكون المقاومة من البداية برفض إطاعة هبا، و يبدو كأنها قفدت إيمانها بهبا و هي تتجاوز  السبعين من عمره.

وفي الفصل الرابع نرى شداد في عالم مختلف، نجده قد دخل مرحلة تبدأ بعد الموت، و حياة تختلف تماما عن الحياة الدنيوية، و عالما لا توجد فيه مشاكل الأرض بما فيها الوقت فلا شمس ولا قمر، و لا ليل و لا نهار، لا تطلع الشمس ولا القمر، و هذا العالم ليس الجنة ولا جهنم بل عالم يعرف بـ”البين بين” . نجده يجلس على كرسي في غرفة بابها مغلق يظهر على وجهه علامات التعب و الإجهاد، و يشي طريق جلوسه على الكرسي بتراخ على التعب والإرهاق، و فيها رجلان يشتغلان بعمل الخياطة. يسأل الرجل الأول شدادا عن الرحلة  إلى هناك و كيفية موته، فيجيب شداد بأن الرحلة إلى هنا كان متعبا و لكن موته كان خاصا و غريبا و هما لا يستطيع فهمه، و يقول عند استفسارهما إن الموت لم يأته بل هو الذي جاء الموت، و لم ينتحر بل صارع.

و خلال الحوار عندما علم شداد بأن هبا يزور هذه الغرفة دائما ليناقش معهما لأنه يحب النقاش، فنجد شدادا مبتسما وهو يقول لهما “إنما أتيت من أجل هذا فقط..لدى في رأسي ألف ألف سؤال أود لو استطيع تذكرها كلها”. و عندما يدخل هبا هذه الغرفة يجده شداد مختلفا تماما عن التمثال الحجري المنصوب بين بيوت الناس في عاصمته، فهبا هذا شاب وجيه، بدون اللحية البيضاء، ثم يدور بينهما حوار و نقاش حول فلسفة الموت و الحياة، و الجنة والنار، والسلطة، و الخيار، و القدرة.

عند شداد الحياة بلا مقابل سخيفة و قميئة، حينما يقول هبا لشداد “أنت تريد أن تحكي عن المقابل الآن! من هو الذي رتب لكم عالمكم على أساس أن السعادة تقف مقابل الشقاء، و أن الجزاء يقف مقابل العمل؟ من هو هذا؟ إن كل شيئ في العالم يقف في صف واحد، لا شيئ مطلقا يقف مقابل الشيئ الآخر..هل تفهم؟ إن اليوم، بكل ما فيه، هو التعويض الوحيد لذاته…..ثم إنني تعبت من هذه القصة، قصة الموت! أنت تعرف أن الموت يحدث، بل إن الحياة لا تعني ما هي، لا تعني ما تعرفه عنها و ما تحسه معها، إلا إذا وضعتها جنبا إلى جنب مع الموت، فكيف تريد أن تفسر الموت دون أن تكلف نفسك عناء تفسير الحياة دونه؟ إنهم يموتون منذ تكورت الأرض، و حتى الآن تنظرون إلى الموت على أنه شيئ غامض و عجيب.” و يقول هبا لشداد “فكرة المقابل هي فكرتك الرهيبة! كل شيئ تقوم به تريد أن تحصل على تعويضه، إنني سأقترح أن تعطى كرة كبيرة من المطاط تواظب على قذفها إلى الحائط كى ترتد إليك و لسوف تبقى تقوم بهذا العمل حتى تقتنع نهائيا بأن أسخف شيئ في الوجود هو أن ترتد إليك أعمالك بالمقابل..” تسقط من السقف كرة مطاة و تنط على الأرض عدة نطات، و لكن شداد يرفض أن يقوم بهذا العمل السخيف فيقول له هبا “أنا اقترحت اقتراحا ..لكنك ستجد أنه إذا ما وقعت كرة مطاط بين يديك فليس بوسعك أن تمنع نفسك من ضربها إلى الحائط والإمساك بها من جديد.” فنرى هبا قد إتجه إلى الباب ، و الستار يسدل و شداد ممسك بالكرة شاردا.

في الفصل الخامس لأخير، نرى نفس الغرفة و نسمع أصوات عالية لنقاش على وشك الانتهاء عندما يرتفع الستار. نسمع شداد يقول للرجلان في الغرفة “كلا لن أكون غبيا! لن أكون مثلكما..كلا..ليأخذني إلى جهنم، ليتركني طعاما هنيا للضجر والتردد، ولكنني سوف أعصي أمره.” و يقول “لقد حاربته على الأرض و سأحاربه هنا…أريد أن أهزمه. تلك رسالتي هنا، و هناك. و يقول “فأنا لن أستسلم قط…إنني اعرف أن البذرة التي زرعتها هناك في إرم لا بد أن تنمو يوما، لا بد أن تشرق من بين الحطام الذي أحرقه و ذرا رماده في الهواء..لقد مت في سبيل جنة أردت أن ابنيها تحت جنة هبا، أحسن من جنته و أصدق لمسا و بصرا..لقد اقتحمت عليه غيوم أصواته الراعبة من أجل هذا الشيئ الذي جعلني أفهم ثمن الموت..و لقد أرتضيه لأنه قدري الذي صنعته بنفسي.” و نجد شداد على ثقة بأنه سيزور يوما ما إلى إرم الحروقة و ستنمو الفكرة، فكرة مقاومة من جديد و يقول مشيرا إلى باب الغرفة “و لسوف أنهد على هذا الباب حتى أحطمه أو يحطمني..و لسوف ينهدون هم عليه من الخارج..هم الأحياء، مرثد و ابن مرثد و حفيد مرثد، و لسوف نجعله يشف بين أكتافنا حتى يذوب!..ولو كلف ذلك أن أبقى واقفا تحت مصراعه كل ما تبقى من الدهر.” و قبل أن يسدل الستار نجد شداد يتجه في الغرفة و يرفس بالكرة بعنف عندما يتعثر بها. و في هذا الفصل يبلغ المقاومة أوجها، فشداد رغم موته و رغم عدم قدرته على هبا لا يرضى أن يخضع لهبا، ولا يريد أن يخضع أولاده، و يتمنى أن تستمر المقاومة عبر الأجيال القادمة إلى ان ينهزم هبا.

فترة كتابة هذه المسرحية:

كتب غسان كنفاني هذه المسرحية في نفس الفترة التي كتب فيها روايته الشهيرة “رجال في الشمس”، فلا بد أن نلاحظ بينهما اوجه التشابه والخلاف في الأفكار والعرض و الذروة. أما من ناحية التشابه فنرى الموت الذي يشكل أكبر مظاهر القضية الفلسطينية يظهر فيهما في أشد صورة مأساوية، و أما من ناحية الخلاف فنجد بينهما فارقا كبيرا، و هو وجود الخضوع والاستسلام في رواية “رجال في الشمس”، و عكس ذلك، وجود عاطفة المقاومة و الصمود في سبيل الحرية في مسرحية “الباب” كما يقول يحيى عيسى “جاءت مسرحية الباب في الفترة التي كتب فيها كنفاني روايته رجال في الشمس حيث حملت أفكارا مقاربة لأفكار الرواية إذ تناولت قضية مهمة في حياة الفلسطينيين و العرب هي قضية الموت بوصفه أساسا في تحقيق التحرر والاستقلال، و إذا كان الموت هاجسا أسايا للإنسان فلا يجوز أن يكون مجانيا، لقد مثل في الرواية قوة طاردة عن المركز، بحث الأبطال عنه بحثا عبثيا، و ماتوا مستسلمين في قعر الخزان الملتهب، حتى أنهم لم يقوموا بدق جدرانه، و نزع بمواطنهم الحل الفردي عندما تقطعت الأسباب كلها، إلى أن ألقي بهم في مكب النفايات بعد تجريدهم من كل متاعهم، أما في مسرحية الباب فيصر كنفاني على مجابهة الموت و تحديه بدلا من انتظاره في استكانة و خنوع[1].”

عنونة المسرحية بـ”الباب”:

العنوان يعتبر بمثابة الرأس للجسد لإنتاج أدبي بما فيه الرواية و المسرحية و القصة والمقال و كذلك للقصيدة، و هو يشير إلى طبيعة النص و يرمز إلى ما يحمل من دلالات و مرسلات كما يقول أحمد شعث “قد برز العنوان عنصرا من عناصر و مكونات النص الأدبي، وتنبع قيمته الدلالية بوصفه سلطة النص و واجهته الإعلامية التي تمارس على المتلقي سطوة أدبية. و بهذا المفهوم يكون العنوان إعلانا عن طبيعة النص الذي يسميه و يشير إلى مقاصده، إما عن طريق وصفه لماهية النص، و إما بكشفه بعض حقائق النص، لأن العنوان-في وجه من وجوهه- هو المحور الذي يتوالد و يتنامى و يعيد إنتاج نفسه.[2]

و تظهر أهمية العنونة عند غسان في أجمل صورة، فنجد أن عناوينه مربوطة دائما بما يحمل النص في أغواره و لا يدرك ذلك الدارس العابر، بل الدارس الذي يغوص عميقا في النص، و في فكرة غسان، فرغم أن هذه المسرحية مستوحاة من أسطورة “إرم و عاد”، لم يسلك غسان كنفاني في تسميته الطريقة التي يتبعها الكتاب عامة، على سبيل المثال سمى توفيق الحكميم مسرحيته المستوحاة من أسطورة بجماليون اليونانية بـ”بجماليون “، و كذلك سمى علي أحمد باكثير مسرحيته المستوحاة من أسطورة يونانية أخرى بـ”مأساة أوديب”، و سمى خليل هنداوي روايته المستوحاة من اسطورة إرم بـ”إرم ذات العماد”، ولكن غسان كنفاني لم يتبعهم بل سلك مسلكا آخر فلم يسم مسرحيته بـ”إرم” أو “إرم ذات العماد” أو “عاد” بل سماه بـ”الباب” لأنه أراد أن لا يدل العنوان على القصة بل يدل على الغرض الذي كتب من أجله هذه المسرحية، فعنوان “الباب” لهذه المسرحية إن لا يرمز إلى القصة التي تعتمد إليها و لا يبدو للوهلة الأولى حاملا في أغواره معاني دقيقة أو رموزا خفية لكنه ذو مغرى قوي فيشير إلى السجن، و القهر، والحرية، والمقاومة، و التمرد ضد القيود و الاستعمار، لتحقيق الحرية، والعدالة. و الباب أكبر دليل على تفاؤل غسان بأنه سيأتي الفرج يوما، و سوف تتحقق الحرية يوما ما مهما طال الزمان، و لذلك نجد أن غسان مصر على استمرارية المقاومة بدلا من الخنوع والاستكانة. و كل ذلك يبدو جليا من الاقتباسات التالية.

يقول شداد (يلتفت إليها-الستارة ترتفع نهائيا الآن) “ألا تريان أنه يخدعنا ؟ إنه يعطينا فرصة واحدة، لاخيار واحد و يغلق أمام وجوهنا كل الأبواب؟ إننا ضحية هذه الخدعة القذرة، يضعنا في الغرفة مع المستحيل و يقول لنا!! و هو يعلم تماما أننا أمام الضجر والعبث.”

“ينهض، يهز شداد بعنف، و هو يشير إلى الباب، أترى هذا الباب، أنظر إليه جيدا! لقد تآكلت أظافري، و أنا أخشمه كالقط المجنون، لقد ذابت عظامي من فرط ما انهمرت فوقه…لقد حطمت جمجمتي كي أشق ثغرة تتسع ليطران كلمة حقيقية واحدة…ثم ماذا؟ كنت أتهاوى كالقطن، هنا، نعم!”

“هبا هذه مملكتي! هذا الباب فقط مملكة صغيرة، و لكنها منيعة، العرش المجهول هو سر منعتها. والصولجان غير المرئي هو حارسها الأبدي.”

و بعد ذكر هذه الفقرة الأخيرة يقول أحمد شعث “يستدعي تحليل هذا المقام الخاص بالإله هبا و مملكته و علاقة ذلك بالباب و رمزيته و أبعاده، أن نتجاوز، مؤقتا، أسطورية هبا بوصفه رمزا أسطوريا قديما يحمل عبق الأساطير، إلى محاولة ‘إعادة إنتاج رمزيته مرة أخرى، أو بتعبير أدق شحنه بدلالات جديدة وفقا للحالة الشعورية والنفسية والسياقية التي تحتمل أن يكون تمثيلا لقوى الشر و قوى الظلام و التسلط والبطش والهيمنة باسم الدين، و هو ما جعل هذا الرمز حقلا إنسانيا و أيديولوجيا دون أن يفقد الطابع الدرامي و علاقته بالأدلة في أتون الصراع في المسرحية. و هنا لا يجوز لنا أن نختصر الصورة الدالة من الرمز في إشارة سياسية أو أيديولوجية أحادية المعنى، بل إن الرمز هنا يتمتع بثراء واسع يضم أشتاتا من الحالات و يرتبط بوجود ذاتي و أصالة غريبة، و لا يخضع لمفهومات خارجية. و من هنا ينتفي عنه كل ما يتعلق بتقرير فكرة واحدة أو نصف كيان محدد.[3]

استخدام الرمز:

هذه المسرحية التي عبارة عن إرادة الحياة، و فلسفة التحدي، و الواقع الفلسطيني المعاش، تخفي في داخلها رموزا كثيرة، و حقائق متعددة فالإله “هبا” رمز للقوى الاستعمارية و الاستغلالية التي تعطي الإنسان الحياة على شروط غير إنسانية، و تعد بالعطاء السخيف مقابل الإذلال و الخضوع المذل، و قد ذهب بسام سفر إلى أن هبا رمز للقانون التقليدي الذي يسود العالم و يسيطر على البشر منذ أمد الآمدين فيقول “إذا كان هبا رمز القانون التقليدي المستمر في سيطرته على البشرية منذ أمد الآمدين، فإن القانون الوضعي البشري الذي ساد في العمل المسرحي هو محاولات الخروج على القانون التقليدي في قدر كل من عاد، و شداد، و مرثد، و ما عملية رفس الكرة بعنف التي قام بها شداد في آخر فعل مسرحي قبل إسدال الستار بقليل إلا عملية رفض للقانون التقليدي، و احتجاج على اسمتراره في حكم الطبيعة البشرية[4].” و لعل بسام يرى هذه المسرحية في إطار غسان الفكري الماركسي وليس في إطار القضية الفلسطينية، فـ”هبا” ليس هناك إلا رمز للاستعمار الإسرائيلي كما أشار إلى ذلك الأديب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا في مقدمته. و مدينة إرم رمز لفلسطين كما يقول يحيى عيسى “يتشكل الصراع منذ البداية حول مدينة إرم التي تعد رمزا أسطوريا ارتبط بالتراث و قد أراد المؤلف من خلاله التعبير عن فلسطين التي سلبها المحتل[5].” و قد رمز غسان بآلهة مكة التي لجأ إليها عاد للاستسقاء بدون جدوى إلى القوى أو الدول العربية[6] التي لجأ إليها الفلسطينيون خلال النكبة، و لكن ظنهم خاب بها إذ هي لم تقدم أي معونة بل عكس ذلك تآمرت -ولا تزال- مع إسرائيل لأغراضها الخاصة. أما الأجيال الثلاثة المتعاقبة (عاد،  و شداد، و مرثد) فهي رمز للمقاومة الفلسطينية[7] المستمرة ضد إسرائيل، للمقاومة التي تسمتمر على مرور الأجيال، فتهدأ حينا وتثور حينا آخر.

المقاومة و استمراريتها عبر الأجيال:

تقص هذه المسرحية علينا قصة مقاومة تمتد على ثلاثة أجيال متتابعة، و يقول بسام سفر عن استمرارية المقاومة “تتجلى المعركة لمصلحة الإله هبا و تأخذ مقاومة سلطة هبا بعدها الزماني عبر تتابع الأجيال كما يحصل في الثورة والمقاومة. و إذا جاز الحدث عن تسليم راية المقاومة من عاد إلى ابنه شداد، و يقاوم شداد مواقع الإله هبا في محاولة للوصول إلى مدينة الجنة إرم.[8]” و عندما يؤول الأمر إلى السليل الثالث تبلغ المسرحية نهايتها و لكنها تترك خلفها دلالات على استمرار المقاومة عبر الأجيال القادمة للوصول إلى الحرية نهائيا، فنجد أن مرثد الذي كان يؤمن بهبا قبل مصرع أبيه لم يعد يؤمن به لأنه لم يدع أباه أن يصل إلى إرم، فلم يعد يؤمن بالجنة، و كذلك نجد أن ذلك يظهر من كلام شداد و هو يحاور هبا في عالم “البين بين” فيقول و هو يشير إلى باب الغرفة “لسوف أنهد على الباب حتى أحطمه أو يحطمني، و لسوف ينهدون هم عليه من الخارج..هم، الأحياء، مرثد، و بن مرثد، و حفيد مرثف، و لسوف نجعله يشف بين أكتافنا حتى يذوب…هل فهمت؟ حتى يذوب و لو كلف ذلك أن أبقي وافقا تحت مصراعيه كل ما تبقى من الدهر[9].”

و يجب هنا الإشارة إلى تفاوت مستوى المواجهة بين هؤلاء الأبطال الثلاثة، فالمقاومة لا تسمتمر فقط، بل تزيد في الشدة كل مرة، فإذا وجدنا عاد يعبر ثورته في صورة العصيان، و التمرد، والرفض المطلق، رأينا ابنه و خلفه شداد في صورة أشد منه فهو لا يكتفي بالرفض و التمرد فقط، بل يتسلح بسلاحه و يخرج لمواجته هبا رغم أن لديه علم بقوة هبا و يعرف أنه سيموت لا محالة. أما مرثد فما أشار المؤلف إلى طريقته في المقاومة، و لكن كلامه مع جدته و تغير موقف جدته  في الفكر و الإيمان بهبا يدل أنه سيبدأ بوعي أفضل و يختار طريقة أشد منهما. و قد أشار إلى ذلك يحيى عيسى فيقول “المواجهة هنا متفاوتة في مستواها، فالأول يعلن رفضه لعطية الإله (هبا) و للخير الذي يأتي من عنده، و يبقى الأمر كذلك حتى يرسل إليه (هبا) عاصفة هوجاء فتقتله، فهذا البطل هو بطل ثائر يعبر عن ثورته بالتمرد، و الرفض المطلق، لكن حالة المجابهة عنده جاءت أقل منها عند البطل الثاني شداد الذي يأخذ سلاحه و يتجه إلى هبا لمواجهته، و رغم إيمانه بقوة هبا و أنه ميت لا محالة، فإن موقفه يأتي نتيجة لقناعاته بأن الموت في ساحة المعركة يبعث الفخر و الاعتزاز أكثر من البقاء في صمت و خنوع و الموت موتا مجانيا…أما الحفيد (مرثد) فلم يختر طريقة بعد، و على الأغلب أنه سيبدأ بوعي أفضل من سابقيه، إذ سيختار الخيار النضالي الثوري و قد أراد المؤلف من خلال اختياره لشخصية مرثد أن يؤكد استمرارية المقاومة من خلال الأجيال المتعاقبة[10]

توظيف التراث:

الأسطورة تشكل عنصرا مهما من عناصر التراث الشعبي لأمة ما، و توظيفها في مسرحية أو رواية أو قصة أو شعر يعتبر من أهم تجليات الإبداع و مظاهر التراث، لأنها تلقي الضوء على العقائد، و الأقدار، والديانة، و طريقة العيش، و تظهر من خلالها المكونات الاجتماعية السائدة في عصر من عصور تاريخ قوم.

و من خلال هذه الأسطورة التي تتعلق بإحدى أهم القبائل العربية، ظهرت بعض ميزات التراث العربي على وجه عام و بعض مكونات التراث الفلسطيني على وجه الخصوص.

خلاصة القول:
وهكذا تمثل هذه المسرحية النضال والرفض والاستقامة والمقاومة ضد الذي يحاول خضوع الآخرين ويطلب منهم الذل والمهانة.

مراجع البحث: 

[1]  يحيى عيسى و عمر نقرش، توظيف التراث في النص المسرحي الفلسطيني، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، المجلد 27(3)،صـ 554.

[2]  أحمد شعث، الأسطورة والخطاب الأيديولوجي في مسرحية الباب لغسان كنفاني، مجلة جامعةالخليل للبحوث ، المجلد5، العدد 1،سنة 2010، صـ166.

[3]  أحمد شعث، الأسطورة والخطاب الأيديولوجي في مسرحية الباب لغسان كنفاني، مجلة جامعةالخليل للبحوث ، المجلد5، العدد 1،سنة 2010، ص169.

[4]  بسام سفر، قراءة في مسرح غسان كنفاني، صـ4

[5]  يحيى عيسى و عمر نقرش، توظيف التراث في النص المسرحي الفلسطيني، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، المجلد 27(3)، صـ554.

[6]  يحيى عيسى و عمر نقرش، توظيف التراث في النص المسرحي الفلسطيني، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، المجلد 27(3)، صـ554

[7]  يحيى عيسى و عمر نقرش، توظيف التراث في النص المسرحي الفلسطيني، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، المجلد 27(3)، صـ554

[8]  بسام سفر، قراءة في مسرح غسان كنفاني، صـ 8

[9]  كنفاني، غسان، مسرحية الباب، صـ 34.

[10]  يحيى عيسى و عمر نقرش، توظيف التراث في النص المسرحي الفلسطيني، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، المجلد 27(3)، صـ557.

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of