+91 98 999 407 04
editor@aqlamalhind.com

القائمة‎

الخطاب الصوفي بين لطف الإشارة ورمزية العبارة
*د. عبدالقادر حمراني

الملخص:

 تعدّ إشكالية القراءة وتحليل الخطاب من أعقد الإشكالات التي واجهت العقل البشري وجعلته يسعى باستمرار إلى إيجاد آليات علمية لفهم النص  والوقوف على أبعاده الدلالية وتمثلاته المعرفية ومرد ذلك إلى عبقرية هذه اللغة التي تنطوي على قوة دلالية تجعلها قابلة لتعدد التفسيرات وانفتاحها على جملة من التأويلات، هذا من  جهة وبعد غور الذات المنتجة للخطاب من جهة أخرى. ويزداد الأمر خطورة حينما يتعلق بالخطاب الصوفي الموغل في التجريد كونه يتعاطى مع مسائل عقدية ومعرفية تزلّ فيها أقدام الفحول ويخشى أن يتحاماها أرباب العقول. ومن هذا المنطلق جاءت هذه المداخلة لتكشف النقاب عن معالم الخطاب الصوفي القائم على رمزية العبارة ولطف الإشارة  وهو خطاب تؤطره روحانية المشهد وبُعد غور المعتقد. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا الصدد هو هل من سبيل لفك شفرات الخطاب الصوفي الغارق في الرمزية الموغلة في التجريد وفلسفة التوحيد أم أنّ هذا المجال سيظلّ حكرا على أهله في إدراك مراميه وتأويل متشابهه؟ إذ لا مجال للعقل في الوقوف على أبعاده وتحقيق مقاصده كونه يتناول الماورائيات التي يعجز الفكر عن إدراكها. وبهذا سيكون التعاطي مع الإرث الصوفي في أبعاده الدلالية وحقائقه المعرفية ضربا من الترف الفكري ليس إلاّ؟ وهذا مانسعى للوقوف عليه وتحقيقه بإذن الله من خلال هذه الورقة.

المقال:

إنّ الناظر في الخطاب الصوفي نظرة واع متبصر يقف على حقيقة مفادها أنّ الصوفية قد تركوا من الإرث الفكري والأدبي ما يؤهلهم لأن يكونوا أساطين الفكر والبيان وجهابذة الرمز والوجدان لهم من فنون القول وأفنانه ما يسحر الألباب ويعطّر مقامات الخطاب ويتجلى ذلك بشكل سافر في مناجاتهم للباري جلّ علاه، والشوق إلى الذات العلية، والحنين إلى الخطاب القديم في عالم الأرواح، عالم “ألست بربكم قالوا بلى” حيث طرقوا أبوابا تدقّ فيها ساحة الفكر ويقصر عن الإحاطة بحقيقة معانيها مألوف الذّكر. ولمّا كان الأمر كذلك فإنّه ليس غريبا أن نقول إنّ الشعر الصوفي قد شقّ لنفسه لغة خاصة في عالم الحبّ الإلهي مستقلّة كل الاستقلال عن لغة الحب الحسي التي اتخذ منها متكأ لصياغة تجربته الشعرية والتعبير عن مكنوناته الفكرية والوجدانية التي شيّد صرحها في عالم التجريد المطلق الذي تضيق عنه العبارة ولا يسعه إلا لطف الإشارة الذي تؤطّره لغة رمزية راقية موغلة في التجريد. لقد وجدوا في هذا الأسلوب من التعبير مقيلا فسيحا لأفكارهم ومرتعا خصبا لخيالهم ومتنفسا لآرائهم ومواجيدهم فأعربوا عن أدق ما يضمرون وأسمى ما يعتقدون وما يتطلعون إليه من نوازع القلب الساجد في محراب الحبّ بحضرة الاتصال ضمن لغة فنية خاصة لها من المصطلحات ما يؤهلها لقيد الأوابد من المعاني اللطيفة والتجليات الشريفة التي تتراءى  لهم في حال السكر والمحو حين يصفو لهم الشراب فيتمتعون بلذيذ الخطاب وما يتجلى على طور قلوبهم في نسمات الأسحار بعيدا عن المكدّرات والأغيار. وذلك هو مقام الأنس بالله سبحانه وتعالى الذي يفيض عليهم من لطائف المنن مما لا يقدّر بثمن نتيجة الجدّ والمجاهدة في الله امتثالا لقوله جل في علاه :” وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.”[1] إنّ المعية الإلهية التي تخصّهم والعناية الربانية التي تغمرهم تدرّ عليهم من المواهب والفتوحات التي تفجّر كوامن بواطنهم وعوالم أرواحهم إذ على قدر الاستعداد يكون الإمداد. وهذا قرره ابن خلدون بقوله:” إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعهاغالباً كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليسل صاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس، وقويت أحوال الروح ،وغلب سلطانه وتجدد نشؤه، وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزايد، إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً. ويكشف حجاب الحس، ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك. فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم المدنية والفتح الإلهي، وتقر بذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى، أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لايدرك سواهم. وكذلك يدركون كثيراً من الواقع اتقبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم.  فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون، ولايخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه، بل يعدّون ما يقعلهم من ذلك محنة، ويتعوّذون منه إذا هاجمهم. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، لكنهم لم يقع لهم بهاعناية.”[2] لوما ذاك إلاّ لأنّ الله سبحانه وتعالى لا نهاية لكماله والوقوف عند مرحلة من مراحل السير إلى الله هو تعطيل عند أكابر المحققين منهم وهو ما أشار إليه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في قوله:

قال لي حسن كلّ شيء تجلّى ***بي تملّى قلت قصدي وراكا

ومما لاشك فيه أنّ هذه المنزلة لا تنال إلاّ على جسر من التعب قوامه الجدّ والمجاهدة حيث تصقل مرآة العقل ويسمو الذوق ويرقّ الطبع وذلك هو الرافد الأساس الذي يغذّي التجربة الشعرية عند الصوفية الذين عبّروا عن أذواقهم وأشواقهم تعبيرا مميزا يضيق به الرسم ويدق فيه الفهم نظرا للطافة الفكرة وبعد منتهاها وخصوصية اللغة التي تؤطر خطاباتهم الرمزية المترعة بمصطلحات خاصة بهم تتوجب معرفتها على كلّ من رام الخوض في بحر علومهم.

وكان أبو القاسم القشيري قد ذكر طرفا لا بأس به من اصطلاحات الصوفية الموظفة في خطاباتهم المتوارية عن سلطان العقل ومدارك الحسّ نظرا لشفافية الفكرة ولطف المشهد ورمزية العبارة وما تحمله من إثارة مثلما يفهم من مدلول قائلهم:

رق الزجاج ورقت الخمر***فتشابها و تشاكل الأمر

فكأنما خمر ولا قدح *** وكأنما قدح ولا خمر

فالأقداح أشباح والخمور أرواح فإذا انكسرت الأواني سطعت المعاني.

يقول  الإمام أبو القاسم عبد الكريم القشيري : “اعلم أنّ من المعلوم أنّ لكلّ طائفة من العلماء ألفاظا يستعملونها انفردوا بها عمّن سواهم تواطأوا عليها لأغراض لهم فيها من تقريب الفهم على المخاطبين بها أو تسهيل على أهل تلك الصنعة في الوقوف على معانيهم بإطلاقها وهذه الطائفة مستعملون ألفاظا فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم والإجماع والستر على ما بينهم في طريقتهم لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلّف أو مجلوبة بضرب تصرف بل هي معان أودعها الله تعالى قلوب قوم واستخلص لحقائقها أسرار قوم.”[3] وهذا ما نلحظه في ميمية ابن الفارض والتي مطلعها:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة  ***  سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم

فالحبيب الخالق تبارك وتعالى الذي لهجوا بذكره كثيرا أمّا المدامة فهي المعرفة الإلهية أين سُمِع الخطاب الرباني في عالم الأرواح أين خوطبت بقوله تعالى: “ألست بربّكم”[4] وذلك قبل خلق الوجود الذي رمز له بالكرم، والفكرة هذه هي التي عبّر عنها فخر الدين الرازي بقوله:

شربنا على الصوت القديم قديمة  ***  لكلّ قديم أوّل هي أوّل

فلو لم تكن في حيّز قلت إنّها ***  هي العلّة الأولى التي لا تعلّل[5]

ذلك هو المدام الذي أسكرهم  والخمرة الروحية التي دارت حولها أحاديث الصوفية في مواجيدهم التي تضمنتها خطاباتهم وإذا كانت المدامة { الخمرة} تشارك المكنى عنها في الاسم فهي مباينة لها في الكنه لأن الاشتراك اللفظي لا يستلزم الاشتراك المعنوي والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم كان قد عبّر بهذا اللفظ في قوله تعالى:” وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ.”[6] وهي مباينة تماما لخمر الدنيا بناء على أن ماذكر من متاع الجنة هو من باب تقريب الفهم. لأنّ فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وعلى هذا الأساس كان التعبير رمزيا عن هذه الخمرة ومن يديرها حين قال:

لها البدر كأس وهي شمس يديرها  *** هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم

وهذا بيت عجيب في بابه تضمّن حقلا دلاليا فلكيا مطالعه البدر والشمس والهلال والنجم وآخر حانيا تمثّل في الكأس والإدارة والمزج وهنا يدق المسلك ويعزّ المطلب مطلب الظفر بالفكرة على حقيقتها ويظل هذا الخطاب حكرا على أهله الذين تملّكوا آلية فكّ شفراته. وعلى الرغم من أنّ إدراكها متعذّر فإنّ أثرها في النفس متجذّر إذ بمجرّد ذكرها تتبدّد الغيوم وتنجلي الهموم ويتحقق كمال السرور ونهاية الحبور. والحال كما قال ابن الفارض:

وإن خطرت يوما على خاطر امرئ  ***  أقامت بها الأفراح وارتحل الهمّ

ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت  ***  لعادت إليه الروح وانتعش الجسم

ولوا قرّبوا من حانها مُقعدا مشى  ***  وينطق عن ذكرى مذاقتها البكم

ولو عبقت في الشرق أنفاس طيبها  ***  وفي الغرب مزكوم لعاد له الشمّ

إنّ هذه الخمرة التي انتشى منها العارفون وخنع لسلطانها العابدون لاتتصورها العقول ولا تنالها الظنون وإن شئت أدق من هذا الوصف فقف مليا مع سلطان العاشقين وهو يقول:

يقولون لي صفها فأنت بوصفها  ***  خبير أجل عندي بأوصافها علم

صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا  ***  ونور ولا نار وروح ولا جسم

ولطف الأواني في الحقيقة تابع  ***  للطف المعاني والمعاني بها تسمو[7]

أجمل بها من تعابير فنية غارقة في الرمز والإشارة إلى ما لا يحيطه به وصف ولا يسعه رسم من عبارة عبّرت عنه مواجيد قلوب فاضت بالمحبة الإلهية المعبّر عنها بالخمرة المفضية بشاربها إلى الحيرة. ولله درّ القائل:

أماطت عن محاسنها الخمار *** فغادرت العقول بها حيارى

وبثت في صميم شـوقا ***  توقّد منه كلّ الجسم نـارا

إذا يبدو امرؤ من حيّ ليلى *** يذلّ له وينكسر انكسارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي *** ولكن حبّ من سكن الديارا

إنّها معان لا يدرك كنه مدلولها ذو عقل إلاّ إذا فنى عن الخلق واتصل بالحق اتصالا يفنيه عن المحسوسات بغيبته في مبدع الكائنات، وذلك هو وطر الصوفي ومبتغاه إذ لايشغله إلاّ حبّ الإله ولا يملأ قلبه ويروي ظمأه إلاّ الارتشاف من معين المعرفة الإلهية المفهوم إشارة من قوله تعالى: “وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا.”[8] ماء من شرب منه ازداد ظمأ وصار به أشدّ كلفا وأقوى شغفا والواردون لهذا الحوض صنفان اثنان كما وصفهم الششتري بقوله:

أهل الهوى قسمان قسم منهم كتموا وقسم بالمحبّة باحوا

فالكاتمون لسرّهم شربوا الهوى ممزوجة فحمتهم الأقداح

والبائحون لسرّهم شربوا الهوى صرفا فهزّهم الغرام فباحوا

وليس من المبالغة في شيء القول بأنّ البوح سيظلّ مشفّرا على غير أهله لا تفكّ رموزه ولا تدرك أسراره كون العارف بالله في خطابه يشير لغيرها ولها قد أشار. إنّه خطاب يستبعد القارئ السطحي الذي يطلب المعنى من ظاهر التركيب، أو يستخفّ بما جادت به قرائح القوم وبخاصة في باب النسيب الذي تغذّيه نزعة وجدانية سعّر لهيبها الشوق إلى الحبيب.

ولو رحنا ننقب في أعطاف الخطاب الصوفي لأمكننا الوقوف على معالم خاصة تؤطّره ضمن جملة من الخصوصيات التي تجعله أدبا متميّزا من حيث اللغة والمعجم والدلالة وكذا الباعث الذي يقدح له زناد العقل ويرسم له معالم الفكر الذي يوجّهه والجمال الفنّي الروحي الذي يسري فيه. إذا كان هذا هو حال الخطاب الصوفي الجامع بين جماليات المبنى وإشراقات المعنى فإنّه لامناص من القول بأنّ هذه المكوّنات اللغوية الممزوجة بنشوة روحية عالية تستدعي قارئا متميّزا ذا قدم راسخة في علوم القوم لا يحجبه ظاهر العبارة عن لطف الإشارة من منظور أنّ المنجز في التعبير الصوفي ليس أدبا إبداعيا فحسب بل هو ثمرة تجربة روحية تمخّضت عن معاناة نفسية سائرة في درب البحث عن الحقيقة الحقة الكامنة في أبعاد دلالات قول الحق تبارك وتعالى: ” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.”[9]  أي إلاّ ليعرفوني والعبادة لا تكون إلاّ عن معرفة وذلك مما لاسبيل إليه إلاّ بالجد والمجاهدة لبلوغ مقام الإحسان مصداقا لقوله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.”[10] هذه المعية التي خصّ بها أهل الإحسان هي التي حققت لهم مقام الأنس بالله عزّ وجلّ وأفاضت عليهم من العلوم والمعارف ما لا يقع تحت حصر العبارة ولا تسعه إلاّ الإشارة وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنّ الكتابة الصوفية لاتبوح بسرّها إلاّ لمن كان من أهلها فلابدّ للشمس من سحاب وللحسناء من نقاب كما يقولون. وهم يرون أنّ إفشاء تلك الأسرار أمر محظور لا يحقّ للعارف البوح به مطلقا وفي هذا يقول أبو مدين الغوث:

وفي السّرّ أسرار دقاق لطيفة  ***  تراق دمانا جهرة لو بها بحنا

ولا يدلون بشيء ممّا يجدون إلاّ على سبيل الرمز والإشارة في حال المحو والسكر وهم يعتبون على كل من لامهم وهو لا يدري حقيقة أحوالهم ولا علم له بمدلولات أقوالهم، وهو ما عبّر عنه قائلهم:

أيا لائمي دعني فلو ذقت ما ذقت لصرت بمن هويت مثلي والع

فسلّم ولا تلم فقد أخذ الحِبّ فؤادي وروحي والقوى والمجامع

وأشهدني أسرارا تهت في حسنها بها غنّت الأطيار وهي سواجع

والذي لا مرية فيه أنّ اللغة الرمزية حاضرة بقوة في خطاب القوم فهي حلية أسلوبهم في نثرهم، وسلك عقدهم في أشعارهم على نحو ما عبّر به ابن عربي عن الواردات الإلهية واللطائف النورانية المحجوبة بأحوال نفسية وعوارض بشرية حيث يقول:

ومن عجب الأشياء ظبي مبرقع  ***  يشير بعنّاب ويوحي بأجفان

ومرعاه ما بين الترائب والحشا  ***  ويا عجبا من روضة وسط نيران[11]

ولمّا كان الخطاب الصّوفي على هذه الدرجة من الإبهام المفضي بقارئه إلى الحيرة وسط هذا الركام من المعارف التي تدقّ عن الأفهام اقتضى منّا الأمر إتيان البيوت من أبوابها إذ لا مناص من التأويل المؤسس على ما ارتضاه أولئك القوم سبيلا لبناء أفكارهم أو تفكيكها بلغة صوفية تكون هي الأخرى من جنس خطابهم ونسج رموزهم خاصّة إذا علمنا بأنّ الصوفية كانوا قد ساروا في ركاب القائلين بالتأويل في النص القرآني.

للإشارة فإنّ هذا الأخير ( التأويل) كان قد نشأ مع الرأي القائل بأنّ للقرآن ظاهرا وباطنا حيث اختصّ التفسير بالمعنى الظاهر والتأويل بالمعنى الباطن ويتأكّد هذا الأخير عندما يتعلّق الأمر بالمتشابه من القرآن ويمثّل هذا الاتجاه طائفة من أهل الباطن الذين يرون أنّ المعرفة الحقة سبيلها التجربة الروحية وقد ذهبوا في هذا الباب مذهبا عجيبا  حيث اتخذوا من الدلالة الإشارية شرعة ومنهاجا في تأليف الخطاب أو تفكيكه وقد ساعد على ذلك توظيف جملة من المصطلحات المتعارف عليها بين القوم وهو أمر يبيح للصوفي التحلل من ربقة القرائن اللغوية والنحوية. “فيسمّون ما يرونه في نفوسهم إشارات ليأنس الفقيه صاحب الرسوم إلى ذلك ولا يقولون في ذلك إنّه تفسير وقاية لشرّهم وتشنيعهم في ذلك بالكفر عليهم وذلك لجهلهم بمواطن الخطاب الحق.”[12] وهذا نصّ صريح عن مذهب القوم من أحد عمالقة التصوف الإسلامي، إنّه محي الدين بن عربي الطائي الأندلسي الملقّب بالشيخ الأكبر، والذي تفيض أشعاره بالنعومة والمعنى الرمزي والإشاري والوجد الكئيب الملتهب حيث احتفظ من العربية بوصف الطلل والظعن والناقة وهو مولع بالجمال المادي والمعنوي الذي يرى فيه إبداع الخالق جلّ في علاه ففي مقدّمة كتابه “ترجمان الأشواق” يعرب عن ذلك قائلا: “الحمد لله الحسن الفعال، الذي يحبّ الجمال ، خلق العالم في أكمل صورة وزيّنه، وفصّل للعارفين مجمله منه وبيّنه، جعل ما على أرض الأجسام زينة لها وأفنى العارفين في مشاهدة تلك الزينة وجدا وولها.”[13] وقد ضمّن ديوانه” ترجمان الأشواق “مجموعة من القصائد الرمزية المنحوتة بطريقة غزلية مفعمة بالنسيب الرقيق والمعنى العميق الذي تضيق عن حمله العبارة ولا تسعه إلاّ الإشارة وقدنبّه إلى ذلك قائلا: “ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية ، والتنزلات الروحانية، والمناسبات العلوية، جريا على طريقتنا المثلى…. والله يعصم قارئ هذا الديوان من سبق خاطره إلى ما لايليق بالنفوس الأبية والهمم العلية المتعلّقة بالأمور السماوية.”[14]  ويوضّح علّة نهجه لهذا المسلك التعبيري الذي يشير فيه إلى معارف ربانية وأسرار روحانية وتنبيهات شرعية فيقول:” وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب لتعشق النفوس بهذه العبارات فتتوفّر الدواعي على الإصغاء إليها، وهو لسان كلّ أديب ظريف.”[15] وقد عبّر عن ذلك شعرا فقال:

كلما أذكره من طلل  ***  أو ربوع أو مغان كلّما

كلّما أذكره ممّا جرى  ***  ذكره أو مثله أن تفهما

منه أسرار وأنوار جلت  ***  أو علت جاء بها ربّ السّما

لفؤادي أو لفؤاد من له  ***  مثل ما لي من شروط العلما

صفة قدسية علوية  ***   أعلمت أنّ لصدقي قِدما

فاصرف الخاطر عن ظاهرها  ***  واطلب الباطن حتى تعلما[16]

وكثيرا ما يستعمل ابن عربي آلية المماثلة وهو بارع في توظيفها براعة عجيبة كونه يجمع بين الأشباه والنظائر معتمدا حيثيات التوازي والتناظر وكذا وجوه التقابل والتنافر على نحو ما عبّر به عن علاقة الروح بالجسد وكيف هي حالّة فيه من غير أن نراها أو نقف على حقيقتها حيث قال:

إذا ما التقينا للوداع حسبتنا  ***  لدى الضّمّ والتعنيق حرفا مشدّدا

فنحن وإن كنّا مثنى شخوصنا  ***  فما تنظر الأبصار إلاّ موحّدا

وما ذاك إلاّ من نحولي ونوره  ***  فلولا أنيني ما رأت لي مشهدا[17]

إنّ الصوفي مثلما تدلّ عليه هذه الأبيات مستسلم لوجده مستغرق في حبّه غائب عن نفسه وعن كلّ من هم من حوله.وهو في كلّ ذلك يعبّر عن رؤية عميقة للكون تؤطّرها تجربة ذوقية خاصّة، ولغة فنية راقية آسرة ساحرة، وهي وإن كانت قاصرة عن احتواء المشهد والاستجابة لكل متطلبات الفكر والروح فهي كفيلة بالتنبيه إلى وعورة المسلك  وجلال الحدث.

إنّ معضلة القصد/النص/ الفهم التي يطرحها الخطاب الصوفي وليدة فكرة مفادها أنّ للّغة قوّة دلالية تجعلها قابلة لتعدّد التفسيرات على مستوى الدلالة الوضعية للظّاهرة اللغوية التي يتفاوت الناس في إدراكها. ويزداد الأمر خطورة وتشعّبا وتعقيدا إذا ما تعلق الأمر بالخطاب الصوفي بحكم توتّر العلاقة بين الدّالّ والمدلول من جهة وتوترها بين المسند والمسند إليه على المستوى التركيبي من جهة أخرى. وهذا ما عناه صاحب الفتوحات المكية وهو يقول:” وإياك أنت توهم تكرارهذه الحروف في المقامات أنها شيء واحد له وجوه….فكما يفرّق البصر بينهما والعلم كذلك يفرّق العلم بينهما في الحروف عند أهلا لكشف من جهة الكشف وعند النازلين عن هذه الدرجة من جهة المقام التي هي بدل عن حروفه ويزيد صاحب الكشف على العالم من جهة المقام بأمر آخر لايعرفه صاحب علم المقام المذكور وهو مثلاً قلت إذا كرّرته بدلاً من اسم بعينه فتقول لشخص بعينه قلت كذا وقلت كذا فالتاء عند صاحب الكشف التي في قلت الأوّل غير التاء التي في قلت الثاني لأن عين المخاطب تتجدد في كل نفس بل هم في لبس من خلق جديد فهذا شأن الحق في العالم مع أحدية الجوهر وكذلك الحركة الروحانية التي عنها أوجد الحق تعالى التاء الأولى غير الحركة التي أوجد عنها التاء الأخرى بالغاً ما بلغت فيختلف معناها بالضرورة فصاحب علم المقام يتفطن لاختلاف علم المعنى ولا يتفطن لاختلاف التاء أو أيّ حرف ضميرا كان أو غير ضمير فإنه صاحب رقم ولفظ لاغير”[18]

إنّ هذه النظرة الممعنة في استقراء الموجودات تدلّ على أنّ الوجود الخارجي يعدّ نصّا تجب قراءته وفهمه وهو ما ترشد إليه النصوص القرآنية الدالة على النظر في هذا الوجود والاعتبار منه لترسيخ الإيمان بخالقه جلّ في علاه وقد أولى الصوفية لهذا الأمر عناية خاصة فتحدّثوا عن ضرورة الربط بين النص القرآني الذي يؤطّره النظام اللغوي وبين الكلام الوجودي الماثل في رقّ الوجود الذي يمثّله عالم الشهادة  وذلك هو صُنع الله الذي أتقن كلّ شيء. وهو أحد الأدلة التي يستند إليها الصوفية في إدراك الحقائق وإحكام المعرفة فالأدلّة نوعان كما يقول الحارث بن أسد المحاسبي: ” عيان ظاهر ، أو خبر قاهر . والعقل مضمن بالدليل والدليل مضمّن بالعقل والعقل هو المستدلّ. والعيان والخبر هما علّة الاستدلال وأصله. ومحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل. فالعيان شاهد يدلّ على الغيب. والخبر يدلّ على صدق، فمن تناول الفرع قبل إحكام الأصل سفه.”[19] فالمراد بعالم العيان الظاهر هو عالم الشهادة الدال على عالم الغيب والمراد بالخبر القاهر الشريعة من قرآن كريم وسنة شريفة.

إنّ مثل هذه النظرة الموغلة في تمثّل حقائق الوجود تدفع إلى الإقرار بوجود فرق شاسع بين العلم بالمعنى اللغوي الوضعي وبين العلم الكشفي الذي يقرأ اللغة قراءة وجودية في مستواها الباطني. فإذا كان الدّالّ في المستوى اللغوي الوضعي يشير إلى مدلول قارّ متعارف عليه فهو في القراءة الوجودية في تخلق مستمرّ يسفر تسانده مع غيره عن معان جديدة لا تحدّ بمقياس العقل. وعلى هذا الأساس فإنّ النص اللغوي في تجدّد دائم كون المدلول في حالة تغيّر دائم انسجاما مع تغيّر حركة الوجود الدّائبة. واستنادا إلى هذه المرجعية الفكرية والنظرة العقدية تكون المعرفة سائرة في خلق جديد هذه الحركية الدؤوبة أوحت لابن عربي طرح مفاهيم جديدة في فهم النص وجعلت التأويل أمرا لازما ووردا مشروعا تجاوبا مع النص الوجودي الذي لا يعرف الثبات.

والجدير بالذّكر في هذا الشأن أنّ إشكالية فهم النصّ كانت قد أخذت أبعادا خطيرة نجم عنها تأجّج الصراع بين الفرق الكلامية بخصوص السبيل الأمثل لتحقيق العلوم والوقوف على يقينيات المعرفة ويمكن تفريع الخلاف بخصوص إشكالية فهم النص إلى فرعين اثنين، الأوّل منهما يرى أنّ الدين نصّ تفسّره أسباب النزول، واللغة، والرواية. وثانيهما يرى أنّ الدين نصّ يفسّره العقل ويوضّحه وهو مذهب المعتزلة. وعلى هذا الأساس يكون طالب المعرفة من النصوص الدينية إمّا نصيا وإمّا عقليا إلاّ أنّ الصوفية وعلى رأسهم الحارث المحاسبي هاجم المعتزلة هجوما عنيفا وألّف كتابا في الردّ عليهم سماه “العقل وفهم القرآن” بيّن فيه أنّ في نزعتهم العقلية طغيانا لا يتناسب مقام العبودية إذ لو كان الأمر كذلك لكان العقل مستغنيا عن الكتب السماوية في إدراك الحقيقة الحقة كون أنّ العقل لايمكنه التسلل إلى عالم الماورائيات فيفسّر لنا مبهماته ويطّلع على غيبياته. وكان يرى أنّ السبيل الأمثل للعلم والمعرفة بما يقصر عن إدراكه العقل إنّما هي  تقوى الله لاغير تحقيقا لقوله تعالى:” واتقوا الله ويعلّمكم الله.”[20] فالتقوى عنده هي الركن الركين لاكتساب المعارف السنية والوقوف على دلالة النص القرآني وبخاصة في المتشابه منه. هذه نزعات ثلاث غذتها مشارب مختلفة واستمرت إلى يومنا هذا وهي الاتجاه النصي، والعقلي، والنص الذوقي الملهم وهو الذي أقام عليه الصوفية خطابهم ورأوا أنّ ضرب الخيام حوله أمر واجب وهو كلام لا يقدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه ولأنّ هذا الباطن لا ينكشف إلا لمن كان أهلا له. ذلك أنّ الظفر بالمقصود والوقوف على ذلك الحوض المورود أمر عسير المنال عصيّ النوال وأنّ محاولة تفكيكه للوقوف على حقائقه هو ضرب من الوهم. وسيظلّ الخطاب الصوفي بآفاقه الوجدانية والروحية الرحبة وعالمه المترع بالدلالات والمعاني العذبة الخصبة وبأنماطه المختلفة شعرا ونثرا يدفع إلى القراءة ويغري بالدراسة تحليلا وتأويلا كيف لا وهو المنهل العذب الذي تهيبته العقول فقد انقادت إليه النفوس التي أسرها بيانه وشجتها ألحانه.

مراجع البحث:

[1]  سورة العنكبوت الآية:29

[2]  المقدمة، عبد الرحمن ابن خلدون

[3]  القشيري، أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن، الرسالة القشيرية في علم التصوف، دار الكتاب العربي، بيروت ، لبنان ، ص: 31

[4]  سورة الأعراف: 172

[5]  مفاتيح الغيب، ج:03 ص:110 الرازي

[6]  القرآن الكريم، سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) الآية رقم: 15

[7]  ديوان ابن الفارض، دار الكتب العلمية،بيروت لبنان،ص:77.

[8]  سورة الجن، الآية:16

[9]  سورة الذاريات، الآية رقم: 56

[10]  سورة العنكبوت، الآية رقم:69

[11]  ترجمان الأشواق ابن عربي، دار بيروت للطباعة والنشر، 1981، ص: 42.

[12]  م س ص:35

[13]  م س ص:07

[14]  م س ص:09.

[15]  م س:10.

[16]  م سص:11

[17]  م س، ص: 182.

[18]  الفتوحات المكية، محي الدين ابن عربي، دار صادر ، بيروت.  01/78-79.

[19]  المرجع مطلوب

[20]  سورة البقرة: 282

* جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف، الجزائر

Leave a Reply

avatar
  Subscribe  
Notify of